المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قانون الجمعيات الأردني يحقق حلم الخيال العلمي في العودة عبر الزمن!



alaa
03-19-2009, 11:40 AM
منذ الأزل حتى الأبد، تبقى ثقافة وتاريخ الإنسان متعلقتان برغبة لم تتراجع في إختراق حاجز الزمن. المئات من الروايات والتجارب العلمية والأفلام السينمائية حاولت إستكشاف كيف يمكن للإنسان العودة إلى الماضي. علماء كبار تحدثوا عن البعد الرابع الذي يجمع ما بين الزمان والمكان وتحدثوا عن الثقب الأسود في المجرات والذي يمكن أن يجعل الإنسان يعود إلى الزمن الغابر ويحقق أحد أهم أولويات الخيال العلمي.

كل هذا ما عاد حلما بعد الآن، لأن الأردن كان كالعادة سباقا في تحقيق هذا الإنجاز في العودة في الزمن. مع إقرار قانون الجمعيات في مجلس النواب والذي قدمته حكومة ووزيرة متهمتان بأنهما من "الليبراليين" عاد الأردن في يوم واحد أكثر من 40 سنة إلى الوراء إلى زمن الستينات من القرن الماضي وقبل قانون الجمعيات الخيرية التقدمي والحداثي والليبرالي الذي تم إقراره في العام 1966 ونجح في تمكين الأردن من التطور نحو بناء أحد أهم وأفضل المجتمعات المدنية في العالم العربي.

أعذروني على هذه المقدمة الساخرة لأنني لم أجد أفضل منها لبدء مقال كل كلمة فيه تجعلني أشعر بألم عميق. لقد تعودنا على أن نمشي خطوة في طريق التحديث ونعود خطوتين، ولكن هذه هي المرة الأولى التي نعود فيها 45 سنة إلى الوراء على الأقل في يوم واحد. لقد تعودنا على تبخر وضياع تدريجي لكل أحلامنا التي عشناها منذ عشرين سنة حول التطور نحو الحداثة والديمقراطية والإصلاح في الأردن ولكن هذه صدمة غير معهودة في القضاء التام على واحد من أهم القطاعات المعنية بالتنمية في الأردن.

بطريقة تعاكس تماما ومطلقا كل الخطاب الحداثي للدولة الأردنية سلمت وزارة التنمية الاجتماعية لمجلس النواب نصا دكتاتوريا قمعيا لقانون الجمعيات يضيق على منظمات المجتمع المدني عملها ويمنح مجلس الوزراء صلاحية الموافقة أوعدم الموافقة على مشاريع هذه الجمعيات المرتبطة بتمويل أجنبي. مجلس النواب بكل تأكيد ليس بحاجة إلى توصية بضرورة الحد من توجهات الحداثة في الأردن لأنها تهدف إلى "تفكيك الدولة الأردنية واختراق هوية المجتمع" والمطلوب من المجلس الحريص على الهوية والوطنية القضاء على كل فرص التمكين للمجتمع المدني للقيام بدوره في الإصلاح. وهكذا جاء إقرار القانون بصيغته التي جاءت من الحكومة مضافا إليها بعض التعديلات التي زادت من التضييق مجرد مثال آخر على كيفية إجهاض اي تشريع يمكن أن يساهم في تحقيق الإصلاح ليضاف قانون الجمعيات إلى قانون الاجتماعات العامة كعقبات أساسية أمام التنمية في هذا البلد.

لا نلوم مجلس النواب لأن تركيبته الاجتماعية والثقافية المبنية على قانون الإنتخاب تجعل إقرار أي قانون إصلاحي وتحديثي من عاشر المستحيلات. ولكن اللوم يقع على الحكومة والتي يفترض أن تكون قادرة على تفهم توجهات الملك الإصلاحية والخطاب الباهر للدولة الأردنية في مجالات التنمية المستدامة، ويقع اللوم على وزيرة هي من الخيارات النادرة لوزير محترف وخبير في مجاله وهي التي صرحت عدة مرات بأهمية تمكين المجتمع المدني ليكون شريكا للحكومة ولكن القانون الذي اقره مجلس النواب يناقض ما قالت تماما. ولا أستطيع أن أجزم أن معاليها، في السنوات القادمة بعد خروجها من الوزارة ستكون فخورة بأن هذا القانون قد تم "إنجازه" في عهدها.

اللوم ايضا يقع على من يطلقون على أنفسهم لقب "إصلاحيين" في هذا البلد والذين سكتوا ولم يعترضوا على القانون لا في مجلس النواب ولا في الإعلام ولا في الساحة السياسية. شهدنا جدالات عقيمة حول المحافظين والليبراليين ولكن القضايا المهمة مثل قانون الاجتماعات والجمعيات مرت بسلاسة نحو الرجعية في مجلس النواب ولم يتحدث أحد حتى اشد الليبراليين تعصبا. نلوم المجتمع المدني نفسه الذي فشل في إيجاد كتلة حرجة من الرفض والمعارضة ولم يستطع حتى تنظيم مظاهرة أو إعتصام واحد ضد قانون سيقيد عمله تماما بدلا من ضياع الوقت في مظاهرات ضد مهرجان الأردن.

لم يأخذ القانون حقه في النقاش العام ولم تسنح الفرصة لمؤسسات المجتمع المدني المعنية في النقاش، وساد مجلس النواب جو من الإرتياب بكل التمويل الأجنبي وكأنه جريمة وكانت هناك توجهات واضحة لتقييد القدرة المالية والمؤسسية للمجتمع المدني وجعله يخضع تماما لسيطرة الحكومة بعد عقود من التطور والعمل الإيجابي والذي صنع هوية خاصة وفعالة للمجتمع المدني الأردني أصبحت نموذجا في المنطقة كما تفيد كل الدراسات التقييمية حول أداء المجتمع المدني في العالم العربي حيث كان الأردن دائما في المقدمة، ولكن هذه القيمة المضافة سوف تنتهي مع القانون الجديد.

منح وزير التنمية الاجتماعية صلاحية الموافقة على المشاريع الممولة خارجيا وتحديد فيما إذا كانت تتماشى مع أهداف الجمعية يعتبر تركيزا غير معقول للسلطة والقوة بيد شخص واحد، والسلطة في كل مكان هي مفسدة، وعندما يتعلق الأمر بمنح دولية ومشاريع مولة من جهات مانحة وأموال تفيد المجتمع المحلي فإن صلاحية التقييم يجب أن تكون ديمقراطية وتشاركية وللجنة مشكلة من الحكومة والمجتمع المدني وليس لشخص واحد حتى لو كان وزيرا.

الأصل في عمل المجتمع المدني أن يكون مستقلا وبدون بيروقراطية في تحديد الموافقة على المشاريع. المهم هو الرقابة المالية الحازمة والتأكد من أن الإنفاق يتم على بنود المشاريع الحقيقية وليس للغثراء الشخصي أو لشراء الكماليات الخاصة بالجمعيات والأفراد القائمين عليها. ربما لا يكون من الصعب الحصول على موافقات من مجلس الوزراء على مشاريع بنية تحتية أو مياه أو طاقة أو زراعة أو تسويق منتجات محلية ولكن ستجد كل المنظمات العاملة في مجال حرية الإعلام وحقوق الإنسان وحقوق المرأة وحتى حماية البيئة صعوبة في الحصول على موافقة مجلس الوزراء والذي سوف يضع في ذهنه قناعات أخرى منها الثقافة السائدة ضد حركة حقوق المرأة والمساواة وحرية الإعلام وحقوق الإنسان، وأولوية الإستثمار على حماية البيئة وهكذا سيصبح مجلس الوزراء "مذبحا" للكثير من المشاريع التي تعتمد على قناعة وذهنية "مدنية" تختلف كثيرا عن قناعات مجلس الوزراء التي تنقسم ما بين الذهنية الرسمية المهتمة بالضبط وذهنية تشجيع البيزنس والإستثمار والتي لا تشجع جهود حماية البيئة والصحة وحقوق الإنسان والمساءلة.

قانون الجمعيات هو سبب آخر للإحباط والألم الذي ينتاب كل شخص يحلم بالوصول إلى حالة تشريعية وسياسية تحقق شروط التحديث والتنمية المستدامة على أرض الواقع وضياع لجهود سنوات طويلة وآلاف الأردنيين الذين تعبوا من أجل بناء مجتمع مدني متميز بات الآن مهددا بالجمود.