المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مدخل لثقافة حقوق الإنسان في ظل التطور الدولي



شيماء المومني
01-29-2011, 08:47 PM
د. عبد الحسين شعبان



** المقدمة
شهدت حركة حقوق الإنسان في الوطن العربي تطورات مهمة سواء على الصعيد النظري أو العملي. ومع ذلك فما تزال الفجوة كبيرة وعميقة بينها وبين حركة حقوق الإنسان على النطاق العالمي وخاصة في الدول الصناعية المتقدمة. ورغم أن بعض العوامل الخارجية حالت دون تحقيق واستكمال تطبيقات مبادىء حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، إلا أنها استخدمت كذريعة لوقف وتعطيل حركة الإصلاح الدستوري والقانوني الهادفة إلى تأكيد الالتزام بمبادىء حقوق الإنسان.
لم ينقطع الجدل والنقاش حول فكرة ومفاهيم حقوق الإنسان منذ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في العاشر من كانون الأول (ديسمبر) 1948، خصوصاً في فترة الصراع الأيديولوجي المحتدم والحرب الباردة. ومازال الحوار يرتفع ويثور حول الكثير من المفردات التي تدخل ضمن نطاق حقوق الإنسان. فحرية الفكر والعقيدة وحق التنظيم والإعدام خارج القضاء وحالات الاختفاء والعزل السياسي والحق في محاكمة عادلة والامتناع عن التعذيب، كلها مصطلحات لها دلالات مختلفة بالنسبة للحكومات والأيديولوجيات والسياسات.
ومشكلات مثل المجاعة والبطالة وتلوث البيئة ونتائج الحروب والوجود العسكري الأجنبي، تشغل حيزاً غير قليل من فكرة حقوق الإنسان، مثلما هي قضايا حق تقرير المصير والسيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، إضافة إلى قضايا حقوق المرأة والعنصرية والتطرف وحقوق الأقليات، يقابلها المشاركة والانتخابات، دون إهمال لحرمة المنازل وسرية الرسالة والهاتف والاتصالات والحقوق الفردية الأخرى.

وإذا كانت تلك المفردات قد وجدت طريقها إلى التقنين الدولي في إطار حقوق الإنسان، فإن عالمنا العربي ما زال يعاني الكثير من النقص والقصور إزاء تنأول هذه المشكلات بما يتناغم مع التطور الدولي الذي حصل في هذا الميدان وذلك بسبب مفاهيم مختلفة وأطروحات عتيقة منعته من السير في طريق تعزيز احترام حقوق الإنسان والالتحام والتفاعل مع الحركة العالمية في هذا الميدان.
وإذا كان هذا القصور والنقص فادحاً وكبيراً من الناحية النظرية والتشريعية والدستورية، فإننا نستطيع تلمس مدى الضرر الكبير في هذا المضمار على الصعيد العملي والممارسة الفعلية.

** التقنين الدولي
بعد مرور ثمانية عشر عاماً على صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 1966 عهدين دوليين لاستكمال وتعزيز الإعلان العالمي.
الأول: هو العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
والثاني: هو العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
وانعقد الحوار مجدداً في الامم المتحدة وخارجها حول تفعيل الاحترام العالمي لحقوق الإنسان ساهمت فيه المنظمات غير الحكومية إضافة إلى العاملين في ميدان حقوق الإنسان والهيئات الحقوقية الدولية والبرلمانات وغيرها، حتى التأم »مؤتمر طهران« في العام 1968 أي بعد عشرين عاماً على صدور الإعلان العالمي وكان مؤتمر طهران خطوة هامة على طريق تعزيز حركة الإنسان، ولفت النظر للتجأوزات السافرة التي ما تزال الحكومات ترتكبها حيال الإنسان، سواء كان ذلك على صعيد الحقوق الجماعية كحق الشعوب في تقرير مصيرها واحترام السيادة واختيار النظام السياسي والاجتماعي وعدم التدخل في الشؤون الداخلية. أو على صعيد الحقوق الفردية التي تتعلق بكرامة الفرد وحريته.

وإذا كانت حركة حقوق الإنسان قد تقدمت كثيراً على المستوى الدولي كما أشرنا، فإن هذه الحركة ما تزال بعيدة عن معيار الحد الأدنى النظري على أقل تقدير، ناهيكم عن الطموح المنشود في البلدان العربية. فرغم مضي ما يزيد عن ثلاثة عقود ونيف على صدور العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، فإن ثلاث عشرة دولة عربية فقط انضمت إليه واثنتى عشرة دولة عربية فقط انضمت إلى العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، كذا الحال بالنسبة للمواثيق والمعاهدات الدولية الأخرى، فاتفاقية منع التعذيب مثلاً لم ينضم إليها سوى سبعة دول عربية، اثنتان منها لم تصدقا عليها. أما اتفاقية منع التمييز ضد المرأة فلم تنضم إليها سوى خمس دول عربية، واحدة لم تصدق عليها لحد الآن!
وخلال عقد السبعينات حدث تطور مهم بخصوص موضوع حقوق الإنسان، حيث جرى تقديمه كمبدأ مستقل ضمن وثيقة مؤتمر هلسنكي الختامية للأمن والتعاون الأوروبي المنعقد في الفترة من نهاية تموز إلى أوائل آب (يوليو إلى أغسطس) 1975، والتي توجت مرحلة جديدة من مراحل »الوفاق الدولي« حيث حضر المؤتمر ثلاثة وثلاثين دولة أوروبية، إلى الولايات المتحدة وكندا.

ويعتبر إقرار مبدأ حقوق الإنسان كمبدأ آمر ملزم من مبادىء القانون الدولي (jus cogens) مسلطاً الأضواء على انتهاكات حقوق الإنسان المدنية والسياسية وبخاصة الحقوق الفردية في الاتحاد السوفيتي ودول أوروبا الشرقية في حين ظل الاتحاد السوفيتي يتشبث بالحقوق الجماعية وبخاصة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
وكانت تلك إحدى أكبر المعارك الأيديولوجية على المستوى الدولي، تلخصت في نجاح تروست الأدمغة الذي عمل بمعية كنيدي وجونسون من بعده تحت نظرية »بناء الجسور «بإيجاد فرص جديدة لشن هجومه، خصوصا من الثغرات والعيوب الكبيرة في ميدان حقوق الإنسان.
ومع انهيار المعسكر الاشتراكي وتكريس النظام العالمي الجديد ضمن ترتيباته الراهنة للولايات المتحدة زعيمه بلا منازع، فقد أخذ موضوع حقوق الإنسان يطرح من زأوية جديدة وضمن أطر جديدة مختلفة، خصوصاً بانتهاء عهد الحرب الباردة ومعها نظام القطبية الثنائية.
وكان انهيار جدار برلين إيذاناً بتداعي أركان النظام الدولي الذي نشأ في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وبداية لمرحلة جديدة من النظام الدولي الجديد، التي جرى تكريس أسسها نظرياً في مؤتمر باريس الذي انعقد في تشرين الثاني (نوفمبر) 1990 (بعد اجتياح القوات العراقية للكويت وقبيل حرب الخليج الثانية) الذي وضع آليات جديدة لمراقبة انتهاكات حقوق الإنسان، منها إيجاد مكتب أوروبي خاص للإشراف على شرعية الانتخابات وتحديد معالم النظام الديمقراطي التعددي لاحترام حقوق الإنسان.

وفي اتفاقية برلين الموقعة في حزيران (يونيو) 1991 وقبل إسدال الستار على مسرحية الخليج ووضع اللمسات الأخيرة على تفكيك الاتحاد السوفيتي وإنهاء الإمبراطورية الاشتراكية، جرى إقرار المبادئ الجديدة في إطار ميزان جديد للقوى الدولية، حيث تم هدم مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية الذي أقره ميثاق الامم المتحدة في مادته الثانية- الفقرة السابقة حين أكد المؤتمر على "أحقية الدول الأعضاء في التدخل لوضع حد لانتهاكات حقوق الإنسان والقوانين الدولية" وذهبت الاتفاقية إلى أبعد من ذلك حين أكدت على أهمية وضرورة وضع خطة للطوارىء لمنع حدوث الصدام المسلح، متجأوزة مبدأ السيادة التقليدي الذي نظمته المادة الثانية من ميثاق الامم المتحدة.ولم يكن ذلك ممكناً لولا الاختلال الذي حصل في ميزان القوى العالمي لصالح المعسكر الغربي، ولولا الحاجة المتزايدة لوضع حد للخروقات السافرة لحقوق الإنسان التي أدت إلى اختناقات شديدة في العديد من البلدان والمجتمعات.

وهكذا لم تعد قضية حقوق الإنسان ضمن التطور الدولي الراهن، وضمن معايير القانون الدولي والتجديدات التي أدخلت عليه وبخاصة في ظل هيمنة الولايات المتحدة وتوجيهها للنظام العالمي الجديد، قضية داخلية تحجم الدول والحكومات والمنظمات الدولية عن التدخل فيها خصوصاً وأنها قد أصبحت جزءاً لا يتجزأ من المبادىء الآمرة الملزمة وضمن الاتفاقات الشارعة (الاشتراعية) أي المنشئة لقواعد جديدة في القانون الدولي المعاصر.

ضمن هذا التطور المليودرامي بما فيه من عناصر مختلفة ومتناقضة سلبية وإيجابية، انعقد المؤتمر العالمي الثاني لحقوق الإنسان في فينيا في الرابع عشر من حزيران (يونيو) 1993، أي بعد ربع قرن على المؤتمر الأول، وبعد مرور خمسة وأربعين عاماً على صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وفي ظرف دولي مختلف تماماً، حيث غاب المعسكر الاشتراكي الذي شكل مع جبهة البلدان النامية قوة مقابلة للفريق الثاني »المعسكر الغربي«. خصوصاً في ظل مفاهيم متناقضة كان التوازن أساسها.

ثمة قاسم مشترك أصبح اليوم أكثر وثوقاً وأشد صرامة، رغم تناقض المفاهيم واختلال موازين القوى، وهو ازدياد الحاجة والشعور لتأكيد احترام حقوق الإنسان واتساع نطاق العاملين في هذا الميدان والمهتمين به. ورغم المرارات والاحباطات واستمرار المعايير المزدوجة، وفيما يخص حق الشعوب والبلدان النامية، فإن حركة حقوق الإنسان أخذت في التطور، وانعكس ذلك في اهتمام الحكومات بتشريعات حقوق الإنسان والسعي لامتصاص النقمة وتخفيف بعض الإجراءات التعسفية والإعلان عن إصلاحات دستورية، كما تجسد ذلك في عقد أربعة مؤتمرات دولية تمهيدية للمؤتمر العالمي الذي انعقد في فينيا.

الأول: المؤتمر الآسيوي الخاص بالمجموعة الآسيوية الذي انعقد في بانكوك.
الثاني: مؤتمر سان خوزيه الخاص بمجموعة دول أمريكا اللاتينية.
الثالث: المؤتمر الأفريقي الذي انعقد في تونس.
الرابع: المؤتمر العربي الذي انعقد في القاهرة في نيسان (أبريل) 1993.
** حقوق الإنسان بين الاختيار والاضطرار الخصوصية والعالمية

يستهدف الحوار بخصوص حقوق الإنسان أولاً تحديد المفاهيم وتعميق التوجهات وبالتالي فهو ليس نزوة عابرة بل حاجة وضرورة ماسة. وتزداد هذه الحاجة في البلدان العربية، إذ مازال البعض حتى الآن يعتقد أن حركة حقوق الإنسان هي ابتداع غربي واختراع مشبوه لتحقيق مآرب سياسية. وللأسف الشديد يتناسى هؤلاء أن مفاهيم حقوق الإنسان التي تعمقت على مر العصور هي نتاج تطور الفكر البشري الذي لا يقتصر على قارة أو أمة أو شعب أو جماعة، بل هي مزيج من التفاعل الحضاري وإن الإسلام بشر ببعض المفاهيم الخاصة بحقوق الإنسان، تلك التي كانت مفاهيم متقدمة في حين كان يسود أوروبا عصر الإقطاع والظلام.

فكما هو مدون في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، »يولد جميع الناس أحراراً متسأوون في الكرامة والحقوق وقد وهبوا عقلاً وضميراً وعليهم أن يعاملوا بعضهم بعضاً بروح الاخاء« المادة الأولى. وحول المساواة، ذهبت المادة السابعة من الإعلان العالمي للقول »كل الناس سواسية أمام القانون، ولهم الحق في التمتع بحماية متكافئة بدون تفرقة. كما أن لهم جميعاً الحق في حماية متسأوية ضد أي تمييز يخل بهذا الإعلان وضد أي تحريض على تمييز كهذا«.
مقابل ذلك وبفارق أربعة عشر قرناً، ومن خلال القراءة الارتجاعية، فقد وجد مبدأ المساواة تقنينه في القرآن الكريم حيث نص على (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) وفي الحديث النبوي الشريف »لا فضل لعربي على أعجمي ولا أبيض على أسود إلا بالتقوى« و »الناس سواسية كأسنان المشط« وكما قال عمر بن الخطاب » متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً«، وقد كتب الامام علي إلى عامله في مصر مشدداً على مبدأ المساواة في الحقوق يقول: » ولا تكونن عليهم (أي على الناس) سبعاً ضارياُ تغتنم أكلهم فإنهم صنفان، إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق« .

وتلكم لعمري مفاهيم متقدمة لم يجر تطبيقها أو تعميقها إلا في حدود ضيقة وفي ظروف تاريخية مختلفة وهو ما يذكرنا بالفيلسوف الفرنسي فولتير حين كان يردد »قد اختلف معك في الرأي ولكنني مستعد لتقديم حيأتي ثمناً للدفاع عن حريتك وحقك في التعبير«.
وإذا كان الماغنا – كارتا »العهد العظيم « ومبادىء الثورة الفرنسية عام 1789 »الحرية، الإخاء، المساواة« وميثاق حقوق الإنسان والمواطن، والدستور الأمريكي الصادر عام 1776، انتصاراً لحقوق الإنسان، فإن تعميق الوجهة الاجتماعية الذي أكدته ثورة أكتوبر الروسية عام 1917 والحقوق الجماعية يعتبر استكمالاً وتتمة للتقدم في ميدان حقوق الإنسان وبالتفاعل والتواصل أصبحت مفاهيم ذات صفة عالمية لا تخضع إلى أيديولوجية ما، رغم أن الدول والقوى الكبرى تحاول تمرير أيديولوجيتها وسياستها من خلالها.
وفي مقابل مفهوم العالمية هناك من يحاول الاستناد على الخصوصية القومية والثقافية كذريعة للتحفظ على بعض الالتزامات الدولية الأخرى.

وإذا كانت الخصوصية مسألة ينبغي مراعاتها، إلا انها لا ينبغي أن تسير باتجاه تقويض المبادئ العامة لحقوق الانسان بدعوى الخصوصية، وعلى العكس من ذلك فالخصوصية عليها أن تتوجه لتدعيم المعايير العالمية لا الانتقاص منها خصوصاً في القضايا الأكثر إلحاحاً وراهنية. إن الخصوصية تؤكد التنوع الاجتماعي والثقافي والديني والمذهبي والسياسي، في العقلية والتقاليد بين شعوب بلدان العالم وثقافتها المختلفة، لكنها لا ينبغي أن تكون عقبة في طريق المعايير العالمية أو أن تستخدم حجة للتحلل من الالتزامات الدولية التي يفرضها ميثاق الامم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان والقواعد العامة الآمرة – الملزمة في القانون الدولي المعاصر. وبالقدر الذي تجد فيه الخصوصية قابليتها على التناغم والتوافق والتكيف مع العالمية والشمولية والكونية لحركة ومبادئ ومعايير حقوق الإنسان تستطيع في الوقت نفسه التعبير عن خصائص أي شعب أو أية أمة وتفاعلها مع ركب التطور العالمي.
ورغم ان بعض الحكومات تتظاهر على النطاق الدولي بالالتزام بالمعايير الدولية لحقوق الإنسان وتوقع وتصدق على الاتفاقيات والمعاهدات الدولية وذلك بهدف صرف الأنظار فعلياً عن حقوق الإنسان على المستوى الداخلي ولغرض الاستهلاك المحلي وتجميل الصورة، خصوصاً وأن التوقيع على الاتفاقيات الدولية لا يلزمها بمواءمة تشريعاتها الوطنية مع العهود والمواثيق الدولية، أو أنها تمهل نفسها أطول فترة لتسويق هذه القضية والالتفاف عليها. وقد تجسد هذا الأمر على نحو أكثر إلحاحاً في التسعينات وفي ظل النظام الدولي الجديد واتساع المطالبة باحترام حقوق الإنسان واضطرار بعض البلدان إلى مسايرة الموجة العالمية بهذا الخصوص2.

شيماء المومني
01-29-2011, 08:51 PM
** السياسة وحقوق الإنسان
هناك من يدعو إلى تسييس حركة حقوق الإنسان، وحسب رايه أن مهمتها اذا اقتصرت على الرصد وتقديم الشكأوي وملاحقة بعض القضايا المتعلقة بالانتهاكات والتجاوزات، فلا فائدة ترجى منها، فهي حركة إصلاحية وما هو مطلوب تغيير المجتمع »ثورياً« وذلك لكونها تقف على مسافة من الانخراط في العمل السياسي الروتيني من خلال أسلوب عملها، فهي حركة توفيقية وغير مجدية حسب أصحاب هذا الاتجاه. بل أنه يدعو إلى إقحامها وانخراطها في مواقف سياسية ليست من اختصاصها بما يعد خروجاً على طابعها وطبيعتها.

وحركة حقوق الإنسان ضمن أسلوب عملها وتوجهاتها لا تتخذ مواقف مسبقة إزاء هذه الحكومة أو تلك، بل تقف مع حقوق الإنسان أينما وحيثما وكيفما خرقت أو انتهكت أو مست وهو واجبها وما ينبغي تحقيقه في إطار متوازن ودون تردد أو مجاملة.
مقابل ذلك هناك من يدعو لأبعاد حركة حقوق الإنسان عن السياسة دفعاً لرد فعل هذه الحكومة أو تلك أو العاملين على أرضها وعلاقاتهم، والاقتصار على لغة ناعمة بالنقد مصحوبة بكثير من البروتوكولية والدبلوماسية، دون تسمية الأشياء بمسمياتها وعدم التوسع في عملها والإبقاء على عمل »النخبة« بما يبعدها عن الوقوع في المشاكل وخاصة ذات الطابع السياسي ويساعد في الرقابة على العاملين في إطارها.

وبين هذا وذاك، لا بد للحركة كي تتقدم أن توازن حقاً وتتوازن أيضاً فلا تتحول إلى حزب سياسي أو منظمة معارضة، لكن عليها أن تصوغ خطابها على نحو صريح وواضح ومبدئي، لكي تؤثر في جمهور واسع، وبالتالي يمكن أن تتحول إلى حركة جماهيرية يلتف حولها أنصاراً ومؤيدون واعون، يستطيعون بثقلهم. وبما تعتمده الحركة من أساليب عمل ومرونة وحصانة، فرض الاعتراف بوجودها وبالتالي الاضطرار للتعامل معها.

** الشمولية والجزئية والانتقائية
وفي إطار الحوار والجدل هناك اختلاف بين النظرة الشمولية والنظرة الجزئية لحركة حقوق الإنسان. فتارة تقدم الحقوق الفردية والمدنية والسياسية وتهمل الحقوق الأخرى أو لا تعطي الاهتمام المطلوب، في حين يجري التركيز تارة أخرى على أولوية الحقوق الجماعية وبخاصة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، في حين أن حقوق الإنسان ينبغي معاينتها على أساس شمولي ومن زأوية كلية. فالمفهوم الذي ركز على الحقوق الفردية لم يكن بإمكانه تجاهل الحقوق الجماعية وخاصة خلال الأزمات، فاستعان بدور الدولة والقطاع العام، وهو ما يتطلب إيلاء اهتمام أكبر حالياً في ظل خطر تلوث البيئة وحماية السلام وتوظيف نتائج الاكتشافات العلمية والتكنولوجية الكبيرة التي تحتاج إلى طاقات هائلة وإمكانات ضخمة. أما المفهوم الثاني فهو الذي ركز على الحقوق الجماعية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

وقد أثبتت التجربة أن التخلي عن الحقوق الفردية والمدنية والسياسية أو إهمالها قاد إلى أنظمةً شمولية استبدادية (توتاليتارية وديكتاتورية) ولم يساعد في خلق التوازن المطلوب والتنمية المنشودة. وهكذا انهار الاتحاد السوفيتي بعد أكثر من سبعين عاماً على الثورة الاشتراكية التي ركزت منذ بداياتها الأولى على حقوق الإنسان الجماعية وبخاصة حق الشعوب والأمم في تقرير مصيرها، فضلاً عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية كحق العمل والتعليم والتطبيب والضمان الاجتماعي وتوفير الفرص الثقافية للمواطنين وغيرها. لكن تلك المفاهيم اصطدمت بالتجاوزات على حقوق الإنسان الفردية وحرياته الأساسية، وبالتالي لم تخلق التوازن المطلوب.
وحدث هذا في العديد من أنظمةً التحرر الوطني. إن أي محأولة لإهمال أي جزء من حقوق الإنسان تؤدي إلى نتائج وخيمة، فلا ينبغي بحجة عدم اكتمال المقدمات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية تأجيل إحلال الحقوق المدنية والسياسية والحقوق الفردية بشكل عام، وإذا كان الاقرار النظري بهذه الحقوق، فالعبرة بالتنفيذ، أما بالنسبة للحقوق الاقتصادية والثقافية، فالمسألة أكثر تعقيداً ولا يمكن بالطبع إهمال حق أصيل وأساسي من حقوق الإنسان كحق تقرير المصير، بالنسبة للشعوب والأمم التي ما تزال تعاني من التبعية وهضم حقها في تكوين كيان سياسي مستقل "دولة" مثلما هو الحال بالنسبة للشعب الفلسطيني، فمثل هذا الحق يتعلق بالجماعة والشعب والأمة. وهو حق أصيل لا يمكن تجاهله، بل بتجاهله لا يمكن الحديث عن الحقوق الفردية. كما لا يمكن إهمال حق التنمية الذي هو حق اصيل، ولا بد هنا من التنويه إلى ما صدر عن الامم المتحدة بهذا الخصوص (إعلان الحق في التنمية عام 1986)، وكذلك لا يمكن إهمال حق التصرف بالموارد الطبيعية وغيرها.

وضمن مفاهيم حقوق الإنسان وتطبيقاتها على الساحة الدولية، تندرج فكرة الازدواجية والانتقائية في المعايير. ففي الوقت الذي يتم فيه تطبيق المعايير الدولية بخصوص انتهاكات حقوق الإنسان والتجاوز على قواعد القانون الدولي المعاصر وميثاق الامم المتحدة، يتم فيه غض الطرف عن تجأوزات وانتهاكات أخرى، بينما يستخدم السلاح نفسه في بلدان ثانية. مما يعزز الاعتقاد بان التدخل "للدفاع عن حقوق الإنسان" استهدف الدفاع عن المصالح الخاصة بالدرجة الأولى، وهو ما يطلق عليه »الكيل بمكيالين« وبمعايير مزدوجة، وإلا لماذا لم تطبق الموازين ذاتها على حالات مماثلة؟

وإذا استخدمت »الشرعية الدولية« الوسائل المختلفة بما فيها العسكرية، لإجبار القوات العراقية على الانسحاب من الكويت واستعادة سيادته وأراضيه وإنهاء الاحتلال، إلا انها لم تكتف بذلك بل تمادت حين سمحت بتدمير العراق خصوصاً هياكله الارتكازية ومرافقه الاقتصادية الحيوية ومشاريعه العمرانية وما تزال تفرض عليه حصاراً دولياً جائراً يقترب من شكل حرب الإبادة الجماعية البطيئة، في حين ما تزال تقف مكتوفة الأيدي إزاء انتهاكات وتجأوزات إسرائيل واحتلالها للأراضي العربية والفلسطينية منذ عدوان الخامس من حزيران (يونيو) 1967، ورغم صدور العديد من القرارات الدولية وبخاصة قراري مجلس الأمن 242 و338 وكشف الموقف في عدوان إسرائيل في نيسان (أبريل) 1996 (عمليات عناقيد الغضب) على لبنان مدى الاستخفاف بالشرعية الدولية وبالقرار 425 (الذي اضطرت إسرائيل إلى تنفيذه على طريقتها بعد مماطلات وتسويفات طويلة).

إن الدعوة إلى اعتماد معايير دولية موحدة لا تلغي ولا تنتقص من الإجراءات الهادفة إلى فرض احترام قواعد القانون الدولي وحقوق الإنسان. إن عدم تعميم تلك المعايير هو الذي يلقى النقد ويثير التساؤل حول صدقية النظام الدولي الجديد.
ففي حين يتم عقد دورة طارئة للجنة حقوق الإنسان بخصوص البوسنة والهرسك رغم أنها لم تسفر عن شيء جدي لحماية المسلمين الذين تعرضوا إلى عمليات إبادة أمام مرأى ومسمع من العالم بمن فيهم من يرفعون يافطة حقوق الإنسان، ترفض الولايات المتحدة عقد جلسة طارئة لقضية حقوق الإنسان التي تنتهكها إسرائيل في الأراضي المحتلة.

إن مجرد عقد جلسة مرفوض من سيدة النظام الدولي الجديد في حين تستمر إسرائيل في قصف جنوب لبنان وإجلاء سكانه طيلة العقد الماضي.
لكنها في نهاية المطاف اضطرت إلى الانسحاب، وفي حين تتم إدانة الإرهاب الفردي، وهو عمل لا بد من إدانته بكل المعايير، إلا أن الولايات المتحدة تحاول إلصاق تهمة الإرهاب والتطرف بالعرب والمسلمين وغيرهم، متجاهلة أعمال إرهابية وتفجيرات تقوم بها جماعات إرهابية ومتطرفة في الولايات المتحدة وأوروبا وإسرائيل، كان أبرزها مقتل رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين في الرابع من تشرين الثاني (نوفمبر) 1995 على يد متطرف وإرهابي صهيوني.. وفي الوقت ذاته، صدرت الأوامر بقتل فتحي الشقاقي الزعيم الإسلامي قبل نحو أسبوع من مقتل رابين. ويتم أيضاً السكوت عن أو التعاون للقضاء على الإرهاب الدولي الجماعي وهو يضع قضية "الكيل بمكيالين" و »الازدواجية« في المعايير إحدى الإشكاليات التي برزت على نحو صارخ في ظل النظام الدولي الجديد.

إن حماية سكان العالم من خطر الإرهاب الفردية مسألة ضرورية وهامة من أي جهة كان ومن أي جماعة صدر ولأية أهداف ومبررات، لأنه يؤدي إلى ترويع السكان الآمنين ويغلب لغة العنف واستخدام السلاح، وهو أمر لا يمكن قبوله في عالم اليوم،ولكن حماية دولية ضرورة ملحة من خطر الإرهاب الجماعي الدولي، الذي تتعرض له الشعوب مسألة مطلوبة وراهنية أيضاً.
ومثل هذا التساؤل يثار دائما: إذا كان ما يسمى بـ »الإرهاب العربي« مرفوض ومدان وهو أمر فردي، فلماذا لا تتم حماية سكان الأراضي المحتلة وفقاً لاتفاقيات جنيف لعام 1949 وبخاصة الاتفاقية الرابعة الخاصة بحماية السكان المدنيين وكذا الحال بالنسبة لسكان الجنوب اللبناني الذي ظل يعاني من قصف مستمر، كذلك الإرهاب الجماعي في الجولان السورية، حيث تتم محاولات تغيير للطابع الديموغرافي ومحاولات فرض الجنسية الإسرائيلية على المواطنين العرب السوريين. ثم لماذا لم تتخذ الولايات المتحدة الإجراءات نفسها أو لم تحاول تطبيق قرارات مجلس الأمن بخصوص الإرهاب الإسرائيلي ومصادرة حق الشعب العربي الفلسطيني وبخاصة حقه في تقرير المصير الذي هو حق أساسي للإنسان؟ إن عدم تطبيق المعايير الدولية الموحدة، يؤدي بالضرورة إلى تفاوت وازدواجية تخل بمبدأ المساواة في الحقوق. لكن عدم تطبيق تلك المعايير بناء على اعتبارات سياسية مصلحية في هذه القضية أو تلك، لا يلغي العمل من أجل تطبيقها كلما كان ذلك ممكناً، كما هو مطلوب عدم حصرها بدولة دون أخرى وبانتهاك دون آخر.

وإذا أجاز مجلس الأمن لنفسه القيام بإجراءات المراقبة والتفتيش على الأسلحة واستخدام المطارات والطائرات دون الرجوع إلى ترخيص من الحكومة العراقية حسب القرار 687، وهو ما يعد إخلالاً بالسيادة، فلماذا لا يرغم مجلس الأمن الحكومة العراقية على الامتثال للقرار 688 القاضي بكفالة احترام حقوق الإنسان؟
في حين يستمر الحصار الدولي الجائر ملحقاً المزيد من الأضرار الصحية والنفسية والاجتماعية بالسكان، معرضا نحو أربعة ملايين مواطن لخطر المجاعة الحقيقي بعد أن تخطى العراق بعموم سكانه حدود الفقر، كذلك معرضا نحو 2.250.000 طفل للهلاك بسبب نقص الغذاء والدواء كما أشارت إلى ذلك منظمة الغذاء والزراعة الدولية ومنظمة اليونسيف وغيرها من المنظمات الدولية. في الوقت الذي أكدت فيه منظمة الصحة العالمية أن الحرب أعادت الوضع الصحي في العراق خمسين عاماً إلى الوراء.

ويحق التساؤل أيضاً لماذا لا يذهب مجلس الأمن والشرعية الدولية على حمل النظام الحاكم في بغداد على إجراء انتخابات حرة نزيهة بإشراف الامم المتحدة وهيئات دولية محايدة عربية أو إسلامية، وليس كما جرى في عملية الاستفتاء والانتخابات التشريعية للمجلس الوطني المعروفة النتائج سلفاً.
لقد سبق للأمم المتحدة أن توصلت إلى اتفاقات بشأن إجراء انتخابات في العديد من البلدان بعد أن وصلت أوضاع تلك البلدان إلى طريق مسدود خصوصاً بوجود طعون خطيرة في شرعية استمرار الحكم كما حدث في كمبوديا ونيكاراغوا والسلفادور وموزامبيق وأنغولا وجنوب افريقيا، خصوصاً وأن الحكم في العراق فقد الأهلية وهو حسب قرارات الامم المتحدة ذاتها يعتبر خارج الشرعية الدولية.
إن فكرة »الكيل بمكيالين« والازدواجية في التعامل تنسحب على قوى وجهات ودول مختلفة، إذ لا يمكن رفض الدكتاتورية في بلد واستهجان هدرها لحقوق الإنسان،في حين يتم قبولها أو السكوت عليها في بلد آخر، ولا يمكن رفض الدعوة الرامية إلى احترام حقوق الإنسان في بلد بحجة »رفض التدخل« ومحاولات »الهيمنة« والتذرع بفكرة »السيادة« خصوصاً وان حقوق الإنسان لم تعد قضية داخلية صرفة. ولكي يستبعد التدخل الخارجي وتصان السيادة لا بد من اعتماد المعايير الدولية المعترف بها لحقوق الإنسان، وبالتالي عدم إعطاء ذريعة التدخل وتحقيق المآرب السياسية والمصالح الخاصة.

شيماء المومني
01-29-2011, 08:59 PM
** السيادة وحقوق الإنسان 3
ينظر البعض إلى مبدأ السيادة باعتباره يمثل حق الدولة المطلق في التصرف في شؤونها الداخلية، وهذا المفهوم الذي كان سائداً في مرحلة القانون الدولي التقليدي أخذ بالانحسار خصوصاً في السنوات الأخيرة ومع صعود مبدأ "ضرورة التدخل" لفرض احترام حقوق الإنسان وحماية أرواح البشر وهو المبدأ الذي اعتمد كجزء من مسؤولية المجتمع الدولي ولغرض رقابته بشأن الانتهاكات والتجاوزات.

وقد بدأت هذه الإشكالية، أي التوازن بين مبدأ سيادة الدولة وحق التصرف في شؤونها الداخلية هو حق يمنحه إياها القانون الدولي وميثاق المم المتحدة "المادة الثانية" (الفقرة السابقة) وبين مبدأ احترام حقوق الإنسان وهو مبدأ آمر وملزم في القانون الدولي على الدول مراعاته والتقيد به طبقاً لالتزاماتها المثبتة في الميثاق وفي الإعلان العالي لحقوق الإنسان والاتفاقيات والمعاهدات الدولية الجماعية، بالاصطدام بالواقع القائم خصوصاً في ظل ما يسمى بالنظام الدولي الجديد الذي حمل معه مسألة احترام حقوق الإنسان باعتبارها مبادىء ملزمة وأساسية، وهو ما يطرح على بساط البحث النظري والعملي كيفية المواءمة بين مفهوم السيادة الوطنية والمصلحة القومية من جهة وبين الالتزام بمبادئ حقوق الإنسان باعتبارها معايير دولية آمرة.
إن نقطة التوازن بين حقوق الإنسان والسيادة الوطنية تنطلق من التطور الذي حصل في ميدان القانون الدولي خصوصاً المدى الذي يستطيع به فرض التدخل على الدول الأعضاء في الامم المتحدة وفقاً للميثاق وفي إطار القواعد الآمرة.

فالقانون الدولي لم يعد ينظم العلاقة بين الدول والمنظمات (والأفراد بدرجة أدنى) فحسب بل امتد تأثيره إلى داخل كل دولة خصوصاً بعد صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948 ثم العهدين الدوليين لعام 1966 ومجموعة كبيرة من المعاهدات والاتفاقيات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان، باعتبارها ركناً هاماً من أركان القانون الدولي جرى تأكيده على نحو مستقل وبارز في اتفاقية هلسنكي للأمن والتعاون الأوروبي عام 1975 وبين الالتزام بمعايير السيادة الوطنية.

إن صدور عدد من الاتفاقات الدولية بخصوص حقوق الإنسان جعلها لا تنحصر بولاية قضائية داخلية وحسب، بل وضعها بمصاف القضايا التي تعتبر من صميم وجوهر القانون الدولي، والدول بتوقيعها على تلك الاتفاقيات تكون قد سلمت جزء من سيادتها إلى المجتمع الدولي وسمحت بتداخله لمراقبة سجلها في ميدان احترام حقوق الإنسان وحرياته الاساسية، التي يضمنها الإعلان العالمي والاتفاقيات الدولية الأخرى. واستناداً إلى ذلك لم تعد فكرة السيادة المطلقة من الناحية العملية ممكنة أو واقعية، بل ثمة قيود دولية وافقت عليها الدول بانضمامها إلى المواثيق والعهود الدولية التي تحد من سيادتها مثل هذا التطور الفعلي في ميدان القانون الدولي وبخاصة في ظل ميدان القوى الجديد وانهيار نظام القطبية الثنائية وينبغي أخذه بعين الاعتبار في إطار ما يسمى بالنظام الدولي الجديد بما فيه من سلبيات وتأثيرات لابد من تكييف الظروف والأوضاع للتعاطي معها.

ولكي يتم تطبيق هذا المبدأ »الجديد« ضمن الترتيبات الدولية، فالحاجة تزداد لإيجاد آلية معينة وميزان عملي موحد لقياس نوعية وحجم انتهاكات حقوق الإنسان التي يجوز أو لا يجوز التذرع بها باعتبارات السيادة وذلك للحيلولة دون استخدام قضية حقوق الإنسان بطريقة انتقائية، ولا تسمح للتدخل الأجنبي باستثمارها لاعتبارات سياسية كفرض الهيمنة وإملاء الإرادة.

وفي الوقت ذاته وبالقدر نفسه لا تتيح للحكومات التي تنتهك حقوق الإنسان على نحو سافر الإفلات منها بحجة السيادة الوطنية ورفض التدخل وكمثال على ذلك تحاول الحكومة العراقية التملص من القرار 688 الصادر عن مجلس الأمن الدولي في الخامس من نيسان (أبريل) 1991 والخاص بكفالة احترام حقوق الإنسان في العراق بحجة رفض التدخل والتجاوز على السيادة، لكنها لا تستجيب للنداءات والمناشدات للعديد من المنظمات الدولية والحقوقية لاحترام حقوق الإنسان والتخلي عن ظاهرة التعذيب والإعدام خارج القضاء والاختفاء القسري والعشوائي والعقوبات الجماعية وغيرها. ويكاد القرار 688 يكون القرار الوحيد الذي انتصر للشعب العراقي مباشرة من بين جميع قرارات الاممم المتحدة إذا استثنينا القرارين 706،712 اللذين كانا التمهيد لصيغة القرار 986 المعروف ب(النفط مقابل الغذاء) والذي وافق عليه العراق بعد عام كامل من رفضه وكذلك القرار 1284 الذي لم يعلن العراق حتى الآن موافقته عليه رغم انه لا يرفضه رسمياً. ومن المفارقات أن القرار 688 هو القرار »الوحيد« الذي لم يكن ضمن الفصل السابع من الميثاق الخاص بالعقوبات كما انه القرار »الوحيد« الذي لم تلح الامم المتحدة ومن ورائها الولايات المتحدة على تطبيقه، أسوة ببقية القرارات الأخرى التي تعوم سيادته المجروحة أو تنتقص من استقلاله وترتهن مستقبل العراق لآجال طويلة. وتلكم إحدى المعايير الانتقائية في التعامل الدولي التي أفرزها النظام العالمي الجديد. وفي الوقت نفسه تفرض الحماية على جزء من كردستان بموجب قرار الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا (الملاذ الآمن) وفي سماء الجنوب (منطقة الحظر الجوي)، يهمل موضوع فرض الحماية لسكان العراق كله وتأكيد احترام حقوق الإنسان في العراق بأسره مثلما نص عليه القرار، في حين يستمر فرض الحصار الدولي المنافي لحقوق الإنسان على الشعب العراقي. لذلك فقد أطلقت على القرار 688 من الأسابيع الأولى اسم القرار »اليتيم« لأنه الوحيد الذي لم يصدر ضمن الفصل السابع كما أشرت ثم أضفت إليه صفة القرار »التائه« والمنسي لأنه لا أحد يسأل عنه أو يعنى بتنفيذه. فلا الامم المتحدة التي أصدرته ولا الولايات المتحدة التي فرضت على العراق قرارات مجحفة وجائرة وتصر على استمرار تجويع العراق وفرض الحصار على شعبه، ولا الحكومة العراقية توافق عليه مجبرة أسوة بالقرارات الأخرى وتقوم بإجراء إصلاحات دستورية تطال مجمل النظام السياسي والقانوني وتجري انتخابات حرة بإشراف الامم المتحدة، ولا المعارضة الوطنية العراقية قد أعملت الجهد وعبأت الطاقات باتجاه تفعيله وتقديم آليات وتصورات لكيفية التعامل معه بالارتباط مع الامم المتحدة… أقول أن هذا القرار ظل يتيماً وتائها ومنسياً وعرضة للمناورات والمساومات السياسية وتحاول الولايات المتحدة إخراجه من الإدراج للتوظيف السياسي حسب، في حين ان الشيء الواضح في سياستها إزاء العراق هو استمرار الحصار الذي يشكل اعظم هدر سافر لحقوق الإنسان ويقترب من جريمة الإبادة الجماعية بحق الإنسانية (راجع مقالتنا: في ضوء "النفط للغذاء" القرار 688 اليتيم والتائه، صحيفة الحياة،3 تموز/يوليو 1996).

إن تحديد الضوابط والمعايير وآليات الانتهاكات الخاصة بحقوق الإنسان تتطلب صياغة دقيقة من قبل الامم المتحدة وهيئاتها وهو ما دعت إليه منظمة العفو الدولية. فالسيادة الوطنية في ظل المتغيرات الدولية وميزان القوى الدولي الجديد تأخذ بعين الاعتبار القواعد القانونية الدولية والواقع السياسي بحيث تتحدد نوعية الانتهاكات الجسيمة وحجمها، فهذه المسألة لم تحدد لحد الآن كما ينبغي اخذ دور الرأي العام العالمي ومدى التقدم في إدراج مبادئ حقوق الإنسان المنصوص عليها في الاتفاقات الدولية وفي التشريعات الوطنية. وإذا كانت هناك حساسية في التدخل فان احترام حقوق الإنسان والمعايير الدولية تبعد شبح التدخل وتحقق مفهوم السيادة الوطنية على نحو كبير. كما أن رفض التدخل والاحتجاج على فكرة السيادة لم يعد كافياً للهروب من الرقابة الدولية بخصوص هدر حقوق الإنسان.

من المفيد الإشارة إلى أن الحكومة العراقية تعتبر تقارير السيد فان ديرشتويل المقرر الخاص للجنة حقوق الإنسان، الذي استقال في نوفمبر / تشرين الثاني 1999، تدخلاً في الشؤون الداخلية، ومثلها الحكومة السودانية التي تقف الموقف ذاته من السيد كاسبار بيرو المقرر الخاص للجنة حقوق الإنسان في السودان التابعة للأمم المتحدة.

ومن الكوموتراجيديا حقاً أن بعض الدول التي تلجأ إلى المادة الثانية – الفقرة السابعة من الميثاق التي تنص على (عدم التدخل في الشؤون الداخلية التي تعتبر من صميم السلطان الداخلي للدول الأعضاء) لا ترغب في مناقشة قضايا حقوق الإنسان وتعهداتها الدولية بهذا الخصوص سواء التي تضمنها الميثاق حين أكد في مادته الأولى والتي تتعلق بأهداف الامم المتحدة على »الإيمان بالحقوق الأساسية للإنسان وبكرامة الفرد وقدرته« مثلما أكد على (تعزيز احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للناس جميعاً بلا تمييز بسبب الجنس أو اللغة أو الدين، وبلا تفريق بين الرجال والنساء)، ولكن تلك الدول مستعدة لمناقشة قضايا حقوق الإنسان في الدول الأخرى وتأييد تقصي شؤون دول ثانية، بل وحتى التدخل فيها، في حين ترفض هي شكل التدخلات أو تسكت عنها لدول حليفة أو صديقة. وهذا ما دعا الأمين العام السابق للأمم المتحدة بطرس غالي إلى القول عام 1992 »إذا كانت هناك معايير وإجراءات لمواجهة الحالات العادية، فان الامم المتحدة لم تتمكن من التصرف على نحو فعال لوضع حد للانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وليس بوسع الامم المتحدة ان تقف مكتوفة الأيدي أو باللامبالاة بوجه ما تزخر به من أنباء وسائل الإعلام اليوم من مستلزمات وحشية، وسوف تعتمد موثوقية منظمتنا ككل في الأمد الطويل على نجاح استجابتنا لهذا التحدي«.

وبودي هنا ان انقل رأي الأمين العام الأسبق السيد بيريز دي كويلار الذي قال عام 1991 في تقريره السنوي: »لقد بات واضحاً الآن أن مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول يجب الا يستخدم كعازل واقٍ لبعض الحكومات التي تنتهك حقوق الإنسان. فمبدأ حماية حقوق الإنسان لا يجوز أن يتذرع به هنا ويغفل عنه هناك.
كما لا يجوز أن يصار إلى استخدامه أو إغفاله بشكل انتقائي. ثم أن تدخل الامم المتحدة من أجل حماية حقوق الإنسان يجب أن يتخذ بالانسجام التام مع ميثاق الامم المتحدة. وإذا كانت المنظمة الدولية ملتزمة بالحفاظ على سيادة الدول الأعضاء، فهي أيضاً ملتزمة بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان من جهة اخرى، وعليها أذن أن تحافظ على التوازن المفروض بين الإنسان ودولته«. وهو ما ذهب إليه الأمين العام الحالي السيد كوفي عنان إلى القول في تقريره (سبتمبر/ايلول 1999، الدورة الـ 54) بأولوية مبدأ التدخل الإنساني مقدماً إياه على غيره من الاعتبارات. (انظر كتابنا: السيادة وحدود التدخل الإنساني، جامعة صلاح الدين، اربيل، العراق، كذلك مقالنا: تضاريس الحزن العراقي واستحقاق العامل الإنساني، صحيفة الحياة، 4 أيار/ مايو 1998).

** العالم الثالث والتحدي
لم تعد قضية حقوق الإنسان قضية داخلية ولا تهم الدول الأوروبية والولايات المتحدة فقط، بل تشمل المجتمع الدولي بأسره. ولا يشذ العالم الثالث ومنه بلداننا العربية عن هذا التقسيم. وإذا أخذنا بأركان النظام الدولي الجديد بكل ما عليه من سلبيات وهي كثيرة، خصوصاً باختلال ميزان القوى العالمي وانحيازه لصالح الدول الغربية والصناعية المتقدمة وبخاصة الولايات المتحدة وانحساره بالضد من الطرف الآخر للموازنة الدولية، واعني به الاتحاد السوفيتي السابق ودول أوروبا الشرقية والبلدان النامية أو ما يسمى العالم الثالث عموماً، رغم أن العالم اقترب من التقسيم الذي يقول "دول الشمال ودول الجنوب" و"الدول الغنية والدول الفقيرة" و "المدينة العالمية والقرية العالمية". نقول بان أركان هذا التقسيم تستند على معايير حقوق الإنسان كمفاهيم ومبادىء وقوى قانونية (وإن استخدمت أحياناً لأغراض خاصة) وتأكيد المشاركة السياسية ممارسة للحقوق والواجبات والتعددية الفكرية والسياسية أي إطلاق حق تأسيس الأحزاب والنقابات والجمعيات المهنية والاجتماعية وتعزيز دور المجتمع المدني ومؤسساته.

وضمن تلك الأطر فان قضية حقوق الإنسان لم تعد اختياراً داخلياً وحسب، وإنما هي التزام دولي وضرورة لا غنى عنها للتكيف مع متطلبات التغير والمستجدات الدولية، وإذا كانت بلدان العالم الثالث تواجه تحديات من قبيل استمرار الإعدام خارج القضاء والتعذيب والاعتقال التعسفي والاختفاء وعدم الإقرار بحرية الفكر والعقيدة والتنظيم وممارسة العزل السياسي والتمييز ضد المرأة وهدر حقوق الأقليات والتدخل في الحياة الشخصية للمواطنين وهي سمة عامة تكاد تكون مشتركة لأنظمةً العالم الثالث، فإن غالبيتها ما يزال يعاني من العوز والحاجة التي تصل أحياناً إلى حد المجاعة، كما تعاني من الاستخدام غير الرشيد للموارد ومن التصحر فضلاً عن نمو بعض مظاهر التطرف وانفلات العنف والانتقام وغيرها.

بالمقابل فإنها تعاني من محاولات الهيمنة والتبعية الاقتصادية ومن بعض المظاهر الجديدة كاستخدام بعض الدول النامية كسلة للمهملات والنفايات النووية كما حدث في الصومال وغيرها. ويستخدم بعض أفراد العالم الثالث كفئران لتجارب البلدان المتقدمة صناعياً بالضد من حقوق الإنسان وحرياته الأساسية ويجري تسويق العديد من السلع الضارة بالصحة إلى بلدان العالم الثالث التي يساهم فيها بعض المتنفذين في حكوماتهم بهدف الحصول على الربح دون أي اعتبار للإنسان وحقوقه وصحته ومستقبله.

إن استخدام العالم الثالث سلة للمهملات بطريقة غير مشروعة أو إقامة بعض المنشآت الخطيرة على أرضه دون مراعاة قواعد السلامة والصحة وبالتالي تدمير موارده وبيئته وتلويث أرضه يعد جريمة ضد الإنسان من صنف الجرائم الدولية التي ينبغي إلزام الدول والشركات والأفراد بالتوقف عنها فوراً ودفع التعويضات والتعهد بالمحافظة والامتناع عن تصدير المواد التي تهددها والمحافظة على المواد المشتركة واعتبار أي هدر تفريطاً بالثروة على نحو يقتضي المساءلة والمقاضاة. ويأتي في هذا الصدد موضوع الانضمام إلى المعاهدات الخاصة بحماية البيئة والالتزام بالقواعد الدولية التي ترتبها. كما أن إدانة الإرهاب بجميع أشكاله والقضاء على أسباب العنف والتطرف والعنصرية تستوجب إعطاء المجتمع الدولي و الامم المتحدة أهمية خاصة لهذا الموضوع الخطير على أساس معايير دولية مشتركة سواء لإرهاب الأفراد أو الجماعات المتطرفة أو إرهاب الحكومات والدول. وظاهرة العنف والتطرف والعنصرية التي تصاعدت مؤخراً لدى الأفراد والجماعات والحكومات تتطلب إيجاد آلية معينة على المستوى الدولي لتمكين المجتمع الدولي من معالجة هذه الظواهر الخطيرة للحد من تأثيراتها وانعكاساتها السلبية وعواقبها الوخيمة.وبالتأكيد سيكون نصيب العالم الثالث كبيراً جداً،خصوصاً وانه يعاني من تبعات تلك السياسات.

أما على الصعيد الخارجي، فمواطنو العالم الثالث الذين يعيشون في الخارج- عموماً- يعانون من ظاهرة العنصرية الجديدة في العديد من البلدان الأوروبية حيث انفلتت هذه الموجة في ألمانيا وفرنسا ومؤخراً في السويد وغيرها وبدرجة اقل في بريطانيا، إضافة إلى الولايات المتحدة، واتسمت بالعداء للأجانب وبخاصة العرب والمسلمين والدعوة إلى وقف الهجرة والامتناع عن قبول اللاجئين وترحيل العمالة وغيرها.

إن التحدي الذي يتعرض له العالم الثالث يتلخص في قدرته على التكيف مع المستجدات والمتغيرات الدولية، وبالقدر الذي يحرص على حقه في التنمية وحقه في السيادة على موارده الطبيعية ورفض الامتثال لسياسات إملاء الإدارة فإن تحقيق المشاركة السياسية في إدارة شؤون الدولة وإلغاء احتكار العمل السياسي والمهني وتأكيد حق الأقلية في المعارضة الذي هو حق اصيل، كما هو حق الأغلبية في الحكم، الذي يتأتى عبر صندوق الاقتراع والانتخابات الحرة الدستورية والاستجابة لمتطلبات العصر باحترام حقوق الإنسان وإشاعة الحريات الديمقراطية وتامين مستلزمات نمو المجتمع المدني.

** الشرعية الدولية والمواءمة
ثمة إشكالات نظرية وعملية تتعلق بالمواءمة ما بين الشرعية الدولية والمعايير الخاصة بحقوق الإنسان. وتأتي هذه من ضعف الترابط بين الهياكل القانونية القائمة وبين الشرعية وهو ما يتطلب اتخاذ المجتمع الدولي تدابير وقائية سريعة ومبتكرة لحماية حقوق الإنسان.
فعلى المستوى الداخلي لا بد من التأكيد على ضرورة انسجام التشريعات الوطنية مع الاتفاقات الدولية بخصوص حقوق الإنسان وتعزيز الضمانات الدستورية والقانونية لحماية هذه الحقوق واستبعاد حالات الطوارئ وتعزيز دور الرقابة البرلمانية والإعلامية ومؤسسات المجتمع المدني بما ينسجم مع التطور الدولي الذي حصل في هذا الميدان، وهو ما يدعو الجهات العربية المعنية بحركة حقوق الإنسان والمنظمات غير الحكومية إلى إنجاز وثيقة عربية خاصة بحقوق الإنسان أو ميثاق عربي ينسجم مع الاتفاقيات والمعاهدات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان. فمازالت المسألة تدور في حلقة مفرغة منذ أوائل السبعينيات، رغم اعتماد مجلس الجامعة العربية لمشروع »الميثاق العربي لحقوق الإنسان« على نحو مفاجئ في شهر أيلول/سبتمبر) 1994 بعد مضي نحو ثلاثة وعشرين عاماً على إعداد أول مشروع للميثاق في العاشر من تموز (يوليو)1971، الذي تحفظت عليه سبعة دول عربية هي: الإمارات العربية المتحدة، البحرين، سلطنة عمان، الكويت، السعودية، السودان واليمن، وتراوحت تلك التحفظات بين الرفض والتأجيل وبين عدم المواءمة الكاملة بين الميثاق وبين إعلان القاهرة حول حقوق الإنسان في الإسلام.

وبغض النظر عن وزن الميثاق كالتزام قانوني، فان بعض المؤشرات الأولية مهمة خصوصاً في علاقته بالمعايير الدولية ورغم أن بعضها جاء عاماً ودون تحديد واضح، حتى أنه تم تجاهل بعض المعايير الأساسية بالكامل كالحق في التنظيم السياسي وحق المشاركة في إدارة الشؤون العامة وغيرها من الثغرات والنواقص، لكنه رغم العيوب والمثالب، يبقى أحد المحاولات على الحكومات العربية مراعاتها وعدم إطلاق يدها دون أية التزامات جماعية حتى وأن كانت ناقصة ولابد هنا من الإشارة إلى أن بعض أحكام هذا الميثاق لا ترق إلى القبول بما اعتمده المجتمع الدولي بخصوص حقوق الإنسان.

واستخدمت بعض الدول ذريعة الخصوصية للتملص من التزاماتها وبالتالي لتعطيل إصدار وثيقة عربية حقيقية خاصة بحقوق الإنسان، استجابة لنداءات الامم المتحدة. وقد يكون الميثاق محاولة للتخفيف من ضغط الأوساط الدولية، وقد عبر مندوب مصر عن ذلك بالقول ان الميثاق المقترح يعد بمثابة »سياج إقليمي واقي«. وعلى النطاق العالمي فإن تنصيب مفوض خاص لشؤون حقوق الإنسان في الامم المتحدة يتمتع بسلطة عملية جديدة رفيعة المستوى لها صلاحيات التحرك السريع الفعال والمستقبل، يضفي قدراً اكبر من الفاعلية والهيبة على حركة حقوق الإنسان. وهو ما أكده اقتراح منظمة العفو الدولية، حتى أنشأت »المفوضية السامية لحقوق الإنسان« التي تترأسها حالياً السيدة ماري روبنسون.

وذهب اقتراح آخر لاتحاد الحقوقيين الدولي بالدعوة إلى إنشاء محكمة جزائية دولية للنظر في الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وهو ما صدر عقب اجتماع روما عام 1998 لتأسيس المحكمة الجنائية الدولية، والذي تحفظ عليه ممثل الولايات المتحدة وإسرائيل. ويتطلب دخولها حيز التنفيذ مصادقة 60 بلداً عليها. ولا بد هنا من وضع متدرج لإصلاح وتدعيم آليات وإجراءات حقوق الإنسان على المستوى الدولي، كالإنذار المبكر ضد خطر وشيك الوقوع، أو أزمة على حافة الانفجار أو انتهاكات جسيمة.

ولابد هنا من تأكيد أهمية رفع الوعي الحقوقي بقضايا حقوق الإنسان من خلال تدريس مادة حقوق الإنسان والمعاهدات والاتفاقيات الدولية في الجامعات والمعاهد ومن خلال النشر والإعلام وتأكيد مسألة مشاركة المرأة مسأواتها مع الرجل.
إن الكثير من مفاهيم ما زالت تسبح في فضاء حركة حقوق الإنسان وتستضيء بأقمار متنوعة، وهو ما بحاجة إلى أعمال الفكر وإمعان النظر في زواياه المختلفة وتضاريس حقوق الإنسان على خارطة السياسة الدولية الواقعية تستوجب التدقيق في منعطفاتها، فالغذاء والتعليم وفرص العمل والخدمات الصحية والضمانات الاجتماعية لدى المواطنين، تقابل لدى النخبة والمثقفين إعلان حالة الطوارئ والأحكام العرفية وإغلاق صحيفة وتغييب مفكر وسجن أصحاب الرأي.
والنظر إلى حقوق الإنسان والوعي بأهميتها والإحساس بها بشكل يختلف عن رجل الشارع وأبن الشعب العادي إلى مناد في محكمة عسكرية أو كاتب ضبط في جهة قضائية إلى مفوض في الشرطة إلى محام وحقوقي. كما هي تختلف من وجهة المعارضة السياسية إلى وجهة نظر الحكومة والسلطات الفعلية، وتختلف أيضاً من قيادة هذا الحزب إلى قاعدته.
وبعد، ولكي تتقدم حركة حقوق الإنسان وتنتقل من النخبة إلى الجمهور لابد لها من الانفتاح والابتعاد عن العصبوية الضيقة والانحياز المسبق والموازنة بين الدفاع عن حقوق الإنسان المدنية والسياسية وبين حقوقه الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وبين الحقوق الفردية والجماعية وذلك على نحو صريح وواضح دون الوقوع في شراك الأيديولوجيا أو فخاخ التجريد والمجاملة والبروتوكولية. فالدفاع عن الضحايا لا يعني تبني أفكارهم أو اتجاهاتهم السياسية. (راجع: بحثنا، تضاريس حقوق الإنسان على خارطة السياسة الدولية، صحيفة الحياة، 5 حزيران/ يونيو 1993 وكذلك مجلة النور: بحثنا حقوق الإنسان بين »الشرعية الدولية والسيادة القومية«، العدد 36، أيار/ مايو 1994).إن جهداً حقيقياً ينتظر صياغة دور جديد حضاري لحقوق الإنسان وهو المعيار لتقدم أية أمة أو أي شعب أو أية جماعة متمدنة، فالتقدم الحقيقي والرقي والازدهار لن يتأتى بمعزل عن احترام وصيانة وتعزيز حقوق الإنسان وحرياته الأساسية."البرنامج العربي لنشطاء حقوق الإنسان"