المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : {سلسلة قصصية} في بيت التنين وبيوت اخرى - لـ عمر الداودية - (الحلقة الثامنة)



أحمد أبو زنط
11-01-2011, 08:23 PM
انا: متى يصل أخوك؟ فادي: قريباً .. قريباً تصل الطائرة يا عمر ..
انا: تخيل لو أنه نسي شيئاً من المواد ...أو أن الحقيبة – لسبب ما - لم تصل ...سأعيده من حيث أتى ...
فادي: لا تخف ...محمد معتاد على هذا النوع من التهريب ...




انا: هل أفطرت اليوم؟
فادي: لا ... أنت؟
انا (ضاحكاً): بالطبع لا !! ليس اليوم ...

ظهر محمد بعد برهة بين الجموع الواصلة الى مطار جزيرة هينان الدولي - قادما من مدينة قوانجو- فانطلقنا انا و فادي معانقين و مهنئين بالعودة السالمة.
محمد: يا له من استقبال !!... ما هو سر هذه الحفاوة الزائدة ؟!! ...لا تخافوا ... "الممنوعات" بخير في الحقيبة و لم أنس أياً منها ...
............
ما ندعوها "الممنوعات" هنا في جزيرة هينان، و نتوق شوقاً للحصول عليها مرة واحدة فقط كل بضعة أشهر و نتكبد عناء الذهاب الى المطار لاستقبال حاملها استقبال الأبطال، هي - عزيزي القارئ - "حاجات" و مواد بسيطة لن يخطر في بالك أن تحلم بها يوماً و تستطيع الآن بكل بساطة الذهاب الى "الدكان" أو "الحانوت" - كما يطلق عليه المغاربة - أسفل بيتكم للحصول عليها.
عاد محمد من قوانجو - المدينة التي تكثر فيها المطاعم العربية - بما لا نجده هنا في جزيرة هينان و لم نره منذ شهور ...
جبنة حلوم، لبنة، مرتديلا، زيتون، علبة حمص، خبز عربي، أرز بسمتي و نصف كيلو من القهوة !!
مواد التموين البسيطة التي احضرها محمد ادخلت سرورا الى قلوبنا يصعب وصفه، و يصعب استيعابه الا لمن مر بتجربة مماثلة.
نعود الى المنزل، و تبدأ "حفلة" تحضير المائدة. صوت فيروز يصدح في المكان، و انا و صديقاي فادي و محمد الحوامدة (الأردنيان و العربيان الوحيدان في مدينة هايكو*) نعمل بهمة و نشاط على اعداد الطعام ...
يمسك فادي قطعة خبز بكلتا يديه و يغيب في شرود طويل ... ينظر الى الخبز و كأنه على وشك إلقاء قصيدة غزلية بها.
انا: ما بك يا فادي ... تنظر الى الخبز كالأبله؟
فادي: حالنا مثير للسخرية و الشفقة... حاجات بسيطة كانت في الأمس في متناول اليد، و اليوم أصبحت حلماً، نعيش طقوساً خاصة عند الحصول عليها !!
............
خلال إقامتي لمدة عام و نصف في مدينة هايكو كان موضوع الطعام تحدياً بحد ذاته. الخبز مثلاً ليس وارداً على قائمة الطعام الصينية هنا، و ليس متوفراً في أسواق المدينة.
الشعوب العربية لا تبدأ يومها و لا تنهيه إلا بالخبز، حيث اعتدنا على "التغميس" صباحا و مساءا، الخبز مادة أساسية لا يمكن الاستغناء عنها او استبدالها، و لذلك كان الاعتياد على أكل التونة أو البيض المخفوق أو أية وجبات اخرى " حاف " بالملعقة أمراً تطلب بعض الوقت.
"كارفور" للتسوق يضع بعض الأحيان خبز "همبورغر"، فأحمله جميعاً و اضعه في سلة المشتريات، و امضي بالعربة الممتلئة على آخرها بهذا الخبز و عيون الصينيين تحدق بكثير من الدهشة الى الكميات المتكدسة. كان خبز الهمبورغر هو البديل الوحيد "للتغميس" حينها، و حيث انه ينقطع بعض الأحيان من كارفور، كنت أشتري كل الكميات المتوفرة.

الصينييون من جهتهم استبدلوا الخبز بالمعكرونة و الأرز. حيث لا تخلو المائدة الصينية من الخضروات المطهوة على البخار او المقلية و التي يصاحبها الأرز أو المعكرونة بالاضافة الى فول الصويا. و نوعية الأرز المستخدمة في الصين مختلفة عما اعتدنا عليه في بلادنا أو في الغرب. الأرز الصيني متماسك جدا "مخبص" و السبب يعود الى زيادة الماء المضاف اليه اثناء تحضيره و الى نوعية الصنف أيضاُ. الأرز المستخدم في الصين من صنف "الجابونيكا" (japonica) و هو ما يساعد على تماسك/تثاقل الأرز. من جهة أخرى فإن الأرز المستخدم في بلادنا يكون في العادة من صنف "الإنديكا" (indica) و هو أقل تماسكاً.
و المعروف أن الصينيين يستخدمون العيدان لإلتقاط الطعام و هي مصنوعة في الغالب من الخيزران، الخشب، البلاستيك و المعادن في بعض الأحيان. و يقال ان العيدان ظهرت لأول مرة خلال فترة حكم سلالة "شانغ" للصين في الفترة ما بين (1122-1766) قبل الميلاد. وتعاني الصين اليوم مشكلة بيئية متمثلة في كيفية التخلص من العيدان المستعملة. حيث تنتج البلاد سنويا ما يقارب من 45 مليار زوج من العيدان الصينية.
في بداية اقامتي في الصين كانت مهارتي في التقاط الطعام باستخدام العيدان الصينية سيئة للغاية، حيث من الصعب ايجاد ملعقة أو شوكة في أغلب المطاعم الصينية. حتى أنني كنت أترك الطعام قبل أن أكمل نصفه وأغادر المطعم ساخطاً في بعض الأحيان بعد أن تصاب يداي بالاعياء في محاولة لإلتقاط حبة فاصولياء، على مرأى من الزبائن الصينيين الذين لا يكفون عن تبادل الابتسامات و الهمسات..!!
و بالعودة الى المائدة الصينية فقد استبدل الصينييون المشروبات الغازية و العصائر و المرطبات التي تصاحب الطعام على الموائد، بالشاي. أكان فطوراً، غداءاً أم عشاءاً تكون أكواب الشاي الصيني متواجدة دوماً على الطاولة حتى في الصيف الحار.
في الفلسفة الصينية، يعد الشاي احد الضرورات السبع في الحياة الصينية بالاضافة الى: الحطب، الأرز، الزيت، الملح، فول الصويا و الخل. الشاي متجذر في الحضارة الصينية منذ القدم، و يقال أن أول كأس للشاي قد شربت في الصين، حيث اكتشف الامبراطور الصيني "شن نونغ" الشاي عام 2737 قبل الميلاد، حين سقطت ورقة شاي في المياه المغلية، فلاحظ تغيير لون الماء.
و تقديم الشاي في المجتمع الصيني له دلالات عدة يتصل أغلبها بإظهار الإحترام و الإمتنان. فمثلاً يعبر الابن عن اعتذاره لوالديه عن طريق تقديم كوب من الشاي و الانحناء بصمت. و في حفلات الزواج الصينية يقوم العروسان بتقديم أكواب الشاي الى والديهما و الانحناء كتعبير عن الإمتنان. و في العادة يقوم الصغار و الشباب بتقديم الشاي الى كبار السن كتعبير عن الإحترام، حتى في العمل يقدم الموظفون الأقل رتبة الشاي الى مدرائهم في العمل.
بشكل عام، فإن المنظومة الغذائية في الشرق الآسيوي و خاصة في الصين أكثر صحية من نظيراتها في الشرق الأوسط و الدول الغربية. الأكل في أوقات محددة يومياً، انتشار المأكولات البحرية على حساب اللحوم الحمراء، الطهي بالبخار، شرب الشاي الصحي (الخالي من السكر) بدلا من القهوة و المشروبات الغازية ... كلها عوامل ساعدت على الرشاقة الآسيوية التي يغار و يتعجب منها العالم أجمع.
و هنا يجب الإشارة الى الدور الذي تلعبه الرياضة في إكمال هذه المنظومة الصحية. في الصين، لن يسألك أحدهم إن كنت تمارس الرياضة، بل يكون السؤال: ما هي الرياضة التي تمارسها؟! و كأن موضوع ممارسة الرياضة أمر مفروغ منه!
في المساء و بعد نهاية أوقات الدوام في العمل، المدارس و الجامعات تمتلئ الحدائق و المرافق الرياضة عن بكرة أبيها بالصينيين . كرة السلة هي الرياضة الأكثر شعبية هنا في الجزيرة، حيث كان للعملاق "ياو مينغ" لاعب المنتخب الصيني السابق الذي احترف في دوري كرة السلة الأمريكي (NBA) دور كبير في انتشار هذه اللعبة على نطاق واسع بين أبناء شعبه.
و بما أني رأيت عن قرب مدى الاهتمام بلعبة كرة السلة في الصين و انتشارها الواسع، كنت في غاية الفخر و أنا اشاهد منتخبنا الأردني للسلة يقارع نظيره الصيني في نهائي كأس آسيا للسلة 2011 و يخسر اللقب في النهاية بفارق نصف سلة !! نصف سلة فقط كان الفارق بين بلد المليار صاحب الامكانات الكبيرة و المولع بكرة السلة و بين أردننا الصغير.
و بعيداً عن كرة السلة، تمتلئ الساحات بالممارسين لرياضات الدفاع عن النفس "الووشو" (Wushu) مثل "الكونغ فو" و "التاي تشي"، وتمتليء الصالات الرياضية بممارسي كرة الطاولة و الريشة.
............
في هذا المحيط المشبع بممارسة الرياضة، قررت يوماً أن ألبس السترة الرياضية و أنخرط بين الجموع الصينية في الساحات. و حيث أني لست ماهراً في كرة السلة، او كرة الطاولة أو الريشة، كان الخيار الوحيد هو كرة القدم.
ذهبت الى ملعب كرة القدم العشبي الخاص بجامعة هينان لتدريب المعلمين. وجدت بعض اللاعبين هناك يتدربون على التسديد على المرمى و حولهم العديد من الكرات المتناثرة... و حيث أن لغتي الصينية لم تكن لتسعفني – حينها- على محاورة اللاعبين و طلب المشاركة، تطفلت فالتقطت احدى الكرات ووقفت خلف اللاعبين في الطابور في انتظار دوري بالتسديد... نظر الي البعض ...لكن احداً لم يعترض على مشاركتي فجأة بالتدريب ...
بعد أن انتهت "فقرة" التسديد، أدركت أنهم على وشك البدء بمباراة تدريبية، حيث انقسم اللاعبون ...كل في مجموعة...فما كان مني إلا أن تطفلت مرة أخرى و اقحمت نفسي في احدى المجموعات...لم يعترضوا أيضاً ...جميل !!
بدأت المباراة ...و بعد بضعة نقلات ...مرر أحدهم الكرة إلي ...ركضت بضعة أمتار باتجاه مرمى الخصم ثم رفعت رأسي لأمرر الكرة ...لكن ...!!!
...تسمرت في مكاني ...في ذهول و صمت من وقع المفاجأة التي لم أحسب لها حساباً ...
لمن أمرر الكرة ؟!! كل الوجوه الصينية بدت لي متشابهة ...صرخات و أصوات هنا و هناك... تنادي ...لكن ...من معي ؟!!
..."انعجقت"...و انا انظر حولي تائهاً... ثم قلت "ياالله" و مررت الكرة "عشوائياً" الى أحدهم ... فارتد الهجوم على مرمى فريقي ...!!!
و بعد عدة تمريرات خاطئة مني و مع تكرار السيناريو ذاته ...أمسك احدهم الكرة بيديه ..أوقف اللعب... و مضى باتجاهي غاضباً يتبعه بعض اللاعبين (ادركت حينها أنهم من فريقي)...
أنا (بالعربية): أخيراً ...هذا أنتم؟! ...
الشاب (صارخاً): "ني تزوا شن ما" ..."ني تزوا شن ما" ؟؟!! (ماذا تفعل ...ماذا تفعل؟!) ...
أردت الإعتذار ... محاولاً شرح المعضلة "العرقية" و الحضارية التي واجهتي ...لكن لغتي الصينية الركيكة لم تساعدني البته ..!!
غادرت الملعب على وقع سيل من الشتائم ... ذهبت باتجاه حقيبتي و انا أتمتم : "بدك تلعب فطبول ...و مع صينيين ؟! أول و آخر مرة ... وين الدخان ... ؟ ...بلا رياضة ...بلا..." اشعلت سيجارة و اقفلت عائداً باتجاه شقتي ...
............
عمر محمد الداودية

Facebook: Omar Mohammad Daoudieh

*فادي و أخاه محمد الحوامدة، هما العربيان و الأردنيان الوحيدان الذين التقيت بهما في جزيرة هينان. قدموا الى الجزيرة عام 2007 لدراسة الطب العام، و الصيني بشكل خاص. ساعداني كثيرا على التأقلم و تلمس طريقي في بداية إقامتي في مدينة هايكو. لهم مني و لأهل جرش الكرام تحية محبة و احترام.