المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : التعويض عن تفويت منفعة



محمد سليمان الخوالده
08-13-2009, 11:56 AM
لتعويض عن تفويت منفعة
انعقد سبب وجودها


د. ناصر بن محمد الجوفان
23 / ربيع الثاني / 1427 هـ
المملكة العربية السعوديه
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد:
فإن لهذا الموضوع أهمية في حقل البحوث العلمية لما يأتي:
1 – الواقع العملي يؤكد أهمية الموضوع، فهو يدل على وجود حالات كثيرة ويتسبب فيها بعض الناس في تفويت مصالح الآخرين، تأكد وترجح وجودها، دون أي اعتبار لجانب الشخص الذي لحقه الضرر.
2 – الموضوع له علاقة وطيدة وصلة قوية بالقضاء، والأنظمة التي تتعلق به، والتي تدرس في المعهد العالي للقضاء، خاصة مادة المرافعات، فبحث الموضوع يثري الناحية العلمية، ويزيد في تأهيل الباحث في مجال التخصص.
3 – أن هناك أحكاماً قضائية في هذا الموضوع، وهي تُعد بحق سوابق قضائية جديرة بالدراسة، إضافة إلى أن القضاء من مصادر الأنظمة الاحتياطية فلعل دراستها وإبرازها يكون حافزاً على إدخال هذا الموضوع في بعض الأنظمة صراحة، لما يترتب عليه من تحقيق المصالح، ودفع المفاسد في هذا الباب، وحفظ حقوق الناس التي هي مقصد للشارع في شرعه للقضاء، وما يتعلق به من الدعوى والإثبات.
وستكون معالجةالبحث من خلال النقاط الآتية:
المبحث الأول: تعريف التعويضعن تفويت المنفعة التي انعقد سبب وجودها مع التمثيل.:من خلال ما سبقنستنتج تعريفاً للتعويض عن تفويت المنفعة التي انعقد سبب وجودها فنقول:
التعريفهو: المال الذي يُحكم به على من تسبب في عدم إدراك إنسان مصلحة أو فائدة مشروعة له،تأكد حصولها.

محترزات التعريف:
(المال) هذا قيد في التعريف يُبيِّن حقيقةالتعويض، وهو أنه مال يدفع للمضرور.
(على من تسبب) هذا قيد يُبيِّن أن التعويضعن تفويت المنفعة هنا أنه من قبيل التسبب وليس المباشرة، وهو موجب للتعويض كما فيالمباشرة؛ لأنه من صور التعدي.
(في عدم إدراك إنسان مصلحة أو فائدة) هذا يبينالضرر الموجب للتعويض هنا (مشروعةً له) قيد قُصد به إخراج تفويت المنفعة التي تخصالآخرين، فإن المطالبة بها تعد من قبيل دعوى الفضولي.
كما أنه قيد يُبين أنالاعتداد بكونها مصلحة في حقيقة الأمر إنما هو بالنظر إلى قصد الشارع لا إلى قصدالمكلف، وعليه تخرج الأمور التي لا يعدها الشارع مصلحة، وإن رأى المكلف أنها مصلحة،كما هو في الفوائد الربوية، وسائر المحرمات فيالشريعة.
كما أنه يُخرج مسألة مهمة، وهي التعويض عن تفويت منفعة النقد، فإنه لا يجوز لأنه يفضي إلى الربا، وهذا ما قرره مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي في جدة(1).
وهذا هو المترجح عندي الآن فهي تخرج من البحث، وإن كانت المسألة من المسائل التي اشتد حولها الخلاف وقد تحتاج إلى مزيد نظر وتأمل(2).
(تأكد حصولها) هذا قيد مهم في التعريف، قُصد به بيان أن المنفعة التي يجب التعويض عنها بسبب تفويتها إنما هي المنفعة التي تأكد حصولها، بمعنى أنه وجدت القرائن والدلائل على وجودها، والمعتبر هو ما يفيد اليقين، أو غلبة الظن.
وعليه تخرج المنفعة التي لم يتأكد وجودها فلا يجب التعويض عنها.
وتفويت المنفعة يقابله في القوانين الوضعية مسمى تفويت المصلحة، أو تفويت الفرصة(3).
ومن الأمثلة على تفويت المنفعة التي انعقد سبب وجودها:
1 – عندما يترك العامل العمل في المزارعة دون فسخ العقد فإنه يجب عليه التعويض عمّا تلف من نصيب المالك؛ لأنه استولى على الأرض وفوت نفعها.
2 – إذا اشترى شخص من آخر أقمشة صوفية على أن يسلمها في الموعد المحدد، وفوّت عليه أرباحاً هائلة وألحق به مفسدة.
3 – عندما يتفق مزارع مع تاجر على شراء رشاش محوري وتركيبه في أرضه خلال مدة محددة، بحيث يكون صالحاً للعمل قبل بداية موسم الزراعة من العام نفسه، ثم تأخر التاجر في تنفيذ ذلك، حتى فات المزارع الموسم، فهذا ضرر لحق بالمزارع يستحق التعويض عنه، وقد يضاف إلى ذلك التعويض عن الأضرار المتعلقة والتابعة لهذا الضرر الأساس، كفساد الأسمدة والبذور، أو مؤنة تخزينها، وكذا أجهزة العمالة المخصصة لهذه الزراعة بعينها.
4 – عدم قيام المتعهد بتوريد السلعة في الوقت المحدد، أو عدم الوفاء بشحن البضاعة وتصديرها في زمن معين.
والأمثلة لهذه المسألة كثيرة(4)، ونرى أن ما ذكرناه كافٍ في إيضاح المسألة وتجليتها خاصة إذا ضم ذلك إلى التعريف.
وننبه على أنه يلزم التأكد من تحقق شرط كون هذه المنفعة التي حصل لها تفويت، قد انعقد سبب وجودها، إن لم يكن ظاهراً؛ لأن هذا مما تختلف فيه الوقائع.
المبحث الثاني: تأصيل التعويض عن تفويت المنفعة التي انعقد سبب وجودها.:
يحسن التنبيه إلى أنه وقع خلاف بين الجمهور والحنفية في ضمان المنافع بالإتلاف، فذهب الجمهور(5) إلى ضمانها، وذهب الحنفية(6) إلى عدم ضمانها.
ومقصودنا من هذا التمهيد هو بيان أن هذا البحث إنما هو جارٍ على مذهب الجمهور، القاضي بالتعويض عن المنافع عندما يحصل لها إتلاف أو تفويت.
المطلب الأول: الأدلة من الكتاب والسنة وقواعد الشريعة على التعويض عن تفويت المنفعة التي انعقد سبب وجودها.:
أولاً: حقيقة تفويت المنفعة التي انعقد سبب وجودها هو أنه نوع من أنواع الإتلاف، إذ الإتلاف نوعان:
النوع الأول: إعدام موجود.
النوع الثاني: تفويت لمعدوم انعقد سبب وجوده. والإتلاف سبب من أسباب الضمان، سواء أكان عن طريق المباشرة أم عن طريق التسبب، وقد نص جمع من الفقهاء على ذلك(7).
وعليه فالتعويض عن المنفعة التي انعقد سبب وجودها تشملها أدلة مشروعية الضمان، ومن ذلك نذكر ما يأتي:
1 – قول الله _تعالى_: "وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا" (النساء: من الآية92).
ووجه الدلالة من الآية: أن الله جعل موجب قتل المؤمن عن طريق الخطأ الدية، وهذه الدية تمثل تعويضاً لولي المقتول، أما تحرير الرقبة فهي كفارة لهذا الفعل.
2 – قوله _صلى الله عليه وسلم_: "على اليد ما أخذت حتى تؤديه"(8).
3 – قوله _صلى الله عليه وسلم_: "إناء مثل إناء وطعام مثل طعام"(9).
4 – قوله _صلى الله عليه وسلم_: "من تطبب ولم يُعلم منه الطب قبل ذلك فهو ضامن"(10).
ثانياً: إنّ تفويت المنفعة التي انعقد سبب وجودها بحيث أصبحت في حكم المنفعة المتحققة يترتب عليه ضرر، وقواعد الشريعة تقضي أنه: "لا ضرر ولا ضرار"(11)، وأن "الضرر يزال"(12)، وضمان المتلفات يدخل تحت هذه القواعد دخولاً أولياً(13).
ودلالة هذه القواعد الشرعية والفقهية عامة، فيدخل فيها رفع الضرر الحاصل بسبب تفويت المنفعة التي انعقد سبب وجودها، ولا يتحقق رفع هذا الضرر إلا بالتعويض العادل عنه.
ويُشترط هنا أن يكون الإتلاف بالتسبب المكوِّن للفعل الموجب للتعويض صدر عن طريق التعدي، سواء أكان عن طريق العمد أم الخطأ، أم لإهمال أم التقصير، وسواء أوقع من مكلف أم غير مكلف(14).
كما يُشترط للتعويض هنا أن يكون هذا التفويت حصل نتيجة لهذا التعدي، أما إن انقطعت العلاقة بينهما فلا تعويض أيضاً، والمكلف بإثبات العلاقة هنا هو المضرور أو وليه، لقول النبي _صلى الله عليه وسلم_: "لو يُعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجالٍ وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه"(15).
ولأن المدعى عليه هنا متمسك بالأصل ومستصحب له، والأصل براءة الذمة(16).
كما أنّ التعدي وعلاقته بالضرر أمرٌ عارض والأصل من الأمور العارضة العدم(17).

المطلب الثاني: نصوص بعض الفقهاء التي تتعلق بالتعويض عن تفويت المنفعة التي انعقد سبب وجودها.1 – قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله –(18): "وإذا ترك العامل العمل حتى فسد الثمر فينبغي أن يجب عليه ضمان نصيب المالك ويُنظر كم يجيء لو عمل بطريق الاجتهاد كما يضمن لو يبس الشجر، وهذا لأن ترك العمل من غير فسخ العقد حرام وغرر، وهو سبب في عدم هذا الثمر فيكون كما لو تلفت الثمرة تحت اليد العادية، مثل أن يغصب الشجر غاصب ويعطلها عن السقي حتى يفسد ثمرها، إذ الضمان باليد العادية كالضمان بالتسبب بالإتلاف ولا سيما إذا انضم إليه اليد العادية. واستيلاؤه على الشجر مع عدم الوفاء بما شرطه هل هو يد عادية؟ فيه نظر، ولكنه سبب في الإتلاف، وهذا في الفوائد نظير المنافع، فإن المنافع لم توجد، وإنما الغاصب منع من استيفائها، وحاصله أن الإتلاف نوعان: إعدام موجود، وتفويت لمعدوم انعقد سبب وجوده، وهذا تفويتٌ، وعلى هذا فالعامل في المزارعة إذا ترك العمل فقد استولى على الأرض وفوت نفعها، فينبغي أن لا يضمن أيضاً ضمان إتلاف، أو ضمان إتلاف ويد. لكن هل يضمن أجرة المثل، أو يضمن ما جرت به العادة في مثل تلك الأرض، مثل أن يكون الزرع في مثلها معروفاً فيقاس بمثلها، أمّا ما ذكره أصحابنا فينبغي أن يضمن بأجرة المثل، والأصوب والأقيس بالمذهب أن يضمن بمثل ما يثبت، وعلى هذا فلا يكون ضمان يد وإنما ضمان تقدير"(19).
فهنا نجد أن شيخ الإسلام – رحمه الله – قرر بوضوح الضمان بسبب تفويت المنفعة التي انعقد سبب وجودها، ويبيّن أن تفويت المنفعة التي انعقد سبب وجودها يدخل ضمن الإتلاف الموجب للضمان، لأن الإتلاف نوعان:
النوع الأول: إتلاف موجود.
والنوع الثاني: إتلاف معدوم، انعقد سبب وجوده، وتفويت المنفعة التي انعقد سبب وجودها هي من النوع الثاني.
أما قوله: "فينبغي أن لا يضمن أيضاً ضمان إتلاف، أو ضمان إتلاف يد"، فهو يتعلق بالواقعة التي يتكلم عنها، وهي ترك العامل في المزارعة العمل دون فسخ العقد، وليس المقصود منه أن ذلك ليس من قبيل الإتلاف، بل هو يدخل في الإتلاف كما قرره في صدر كلامه عن هذه المسألة، لكن المقصود به كيفية تقدير الضمان في هذه المسألة، وقد بيّن أن الأصوب في هذه المسألة في أنه يضمن بمثل ما يثبت، وعليه فلا يكون من قبيل ضمان اليد بل هو من قبيل ضمان التقدير.
2 – وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – عن رجل استأجر أرضاً بجزء من زراعتها، وتسلمها، ولم يزرعها، فهل للمالك عليه أجرة المثل؟
فأجاب: "الحمد لله. هذه مختلف في صحتها. وظاهر المذهب عندنا صحتها، ثم سواء سُميت إجارة، أو مزارعة:
فأحمد يصححها في غالب نصوصه، وسماها إجارة.
وقال أبو الخطاب(20) وغيره: هي المزارعة ببذر العامل.
أما القاضي(21) وغيره فصححوها، وأبطلوا المزارعة ببذر من العامل. وإذا كانت صحيحة ضمنت بالمسمى الصحيح. وهنا ليس هو في الذمة، فينظر إلى المعدل المغل فيجب القسط المسمى فيه.
وإذا جعلنا مزارعة وصححناها فينبغي أن تضمن بمثل ذلك؛ لأن المعنى واحد، وإن أفسدناها وسميناها إجارة ففي الواجب قولان:
أحدهما: أجرة المثل، وهو ظاهر قول أصحابنا، وغيرهم.
والثاني: قسط المثل، وهذا هو التحقيق.
وأجاب بعض الناس: أن هذه إجارة فاسدة، فيجب بالقبض فيها أجرة المثل" اهـ(22). فهذه المسألة التي سئل عنها شيخ الإسلام – رحمه الله – هي إحدى الصور التي فيها تفويت لمنفعة انعقد سبب وجودها، وقد بيّن – رحمه الله – أنه يجب فيها التعويض في جميع الحالات، أي سواء كانت مزارعة أم إجارة، وسواء كانت صحيحة أم فاسدة، والاختلاف في الواجب فيها هل هو القسط المسمى، أو أجرة المثل، أو قسط المثل لا يعارض التعويض ولا ينافيه، بل إنه يصدقه عليه التعويض في جميع هذه الحالات.
3 – وقال جواباً لسؤال عن تفريط المزارع في نصف فدان فحلف رب الأرض ليأخذن عوضه من الزرع الطيب: "... وإذا كان العامل قد فرط حتى فات بعض المقصود، فأخذ المالك مثل ذلك من أرضٍ أخرى، وجعل ذلك له، بحيث لا يكون فيه عدوان لم يحنث في يمينه، ولا حنث عليه، والله أعلم" اهـ(23).
فهذه تمثل أيضاً صورة جلية قرر فيها ابن تيمية – رحمه الله – جواز التعويض عن تفويت المنفعة التي انعقد سبب وجودها. وبيان ذلك، أن هذا المزارع فرط في نصف فدان، وهذا التفريط يمثل التعدي الموجب للتعويض، وترتب على هذا التعدي ضرر على صاحب الأرض يتمثل في تفويت بعض المنفعة عليه، مما يقتضي تعويضه عن ذلك، وهو ما سعى إلى تحصيله من الزرع الطيب، وأكد ذلك بالحلف على أخذه، فأجاز ذلك ابن تيمية، وأقره عليه، ونفى وقوعه في الحنث عندما حلف على أخذ ذلك العوض.
4 – قال ابن رجب(24) – رحمه الله -: "... والثاني الحر المحض هل تثبت عليه اليد، فيترتب عليه الضمان أم لا؟ المعروف من المذهب أن الحر لا تثبت عليه اليد فلا يضمن بحالٍ، إذا كان تابعاً لمن تثبت عليه اليد، كمن غصب أمةً حاملاً بحر، وذكره القاضي في خلافه مما يُشعر أنه محل وفاقٍ. وحكى القاضي في خلافه أيضاً، وتابعه صاحب المحرر في ثبوت اليد على الحر الصغير، وضمانه بالتلف تحتها روايتين منصوصتين لشبهه بالعبد حيث يتمكن من دعوى نسبه مع جهالته، ودعوى رقه.
وقال القاضي في مواضع متعددة من خلافه تثبت اليد على الحر الكبير بالعقد دون اليد، وبنى على ذلك أن الأجير الخاص إذا سلّم نفسه إلى متسأجره فلم يستعمله استقرت له الأجرة لتلف منافعه تحت يده. وكذلك يجب المهر بالخلوة في النكاح الفاسد عندنا لدخول المنفعة تحت اليد بالتمكن من الاستيفاء" اهـ(25).
ففي النص السابق نجد مسألتين هما من قبيل تفويت المنفعة التي انعقد سبب وجودها:
المسألة الأولى: فوات منافع الأجير الخاص عندما يسلم نفسه إلى مستأجره فلم يستعمله، والتعويض عن هذه المنافع يكون بدفع أجرته.
المسألة الثانية: فوات منفعة البضع في الخلوة في النكاح الفاسد، لأن المنفعة أصبحت تحت اليد بالتمكن من الاستيفاء، والتعويض عن هذه المنفعة يتمثل في إيجاب المهر.
5 – ورد عن شريح(26): أنه قضى في الكسر إذا انجبر، قال: لا يزيده ذلك إلا شدة، يُعطى أجرة الطبيب وقدر ما شُغل عن صنعته(27).
فإعطاؤه قدر ما شُغل من صنعته، هذا يمثل التعويض عن المنفعة التي فاتت عليه بسبب هذا التعدي المتمثل في الكسر.
6 – جاء في المعيار المعربن أن من أخذ وثيقةً لرجلٍ فأحرقها، أو خرقها، وفي الوثيقة دين أو منفعة، فإنه يلزمه ما في الوثيقة من دين، على حسب ما أهلك من ذلك(28) فتحريق الوثيقة التي فيها دين أو منفعة أو تخريقها يعد صورة من صور تفويت المنفعة التي انعقد سبب وجودها، وقد قرر في هذه الصورة لزوم المعتدي عليها بالإحراق أو التخريق ما فيها من الدين، وهذا يمثل التعويض عنها، وهو المراد.
7 – جاء في شرح الدر المختار: "رجل جرح رجلاً فعجز المجروح عن الكسب، يجب على الجارح النفقة والمداواة"(29).
فهمنا المنفعة التي حصل لها التفويت هي الكسب، والسبب في تفويتها التعدي بالجرح، والتعويض عنها هو إيجاب النفقة على الجارح.
المطلب الثالث: النظائر والأشباه للتعويض عن تفويت المنفعة التي انعقد سبب وجودها.:

إنّ إلحاق المسائل بنظائرها وأشباهها من الفقه الذي لا يجوز العدول عنه، وهو من الأمور المتقررة عند الفقهاء – رحمهم الله – لأن التفريق بينها دون سبب مقبول يفضي إلى التناقض، والشريعة منزهة عنه، كما أنه مخالف لمقتضى العقل السليم، والشريعة لا تأتي بما يخالف العقول السليمة.
والتعويض عن المنفعة التي انعقد سبب وجودها، يوجد لها نظائر، وأشباه من المسائل الفقهية، التي قرر الفقهاء فيها وجوب الضمان، ويأتي في مقدمة هذه المسائل، ما ذكره الفقهاء من وجوب ضمان منافع المغصوب بالتفويت، وقد تقدم معنا في هذا البحث نصٌّ لشيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – صرّح فيه بأنه ضمان تفويت المنفعة التي انعقد سبب وجودها، نظيرٌ لتفويت منافع المغصوب، حيث قال – رحمه الله -: "وهذا في الفوائد نظير المنافع، فإن المنافع لم توجد، وإنما الغاصب منع من استيفائها، وحاصله أن الإتلاف نوعان، إعدام موجود، وتفويت لمعدوم..."(30).
إذاً وجه كون المنفعة أو الفائدة، التي انعقد سبب وجودها نظيرة لمنافع المغصوب، أن كلاً منها غير موجود، وأن الإتلاف الواقع عليها أحد نوعي الإتلاف، الذي هو تفويت المعدوم، وقد قرر الفقهاء ضمانه في مسألة الغصب، فيجب ضمانه أيضاً في مسألة تفويت المنفعة التي انعقد سبب وجودها.
وفيما يلي نذكر نصوص بعض الفقهاء بخصوص ضمان تفويت منافع المغصوب، وكذا المسائل النظيرة والشبيهة الأخرى:
1 – قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: "... ولو حبس المغصوب وقت حاجة مالكه إليه كمدة شبابه، ثم رده في مشيبه فتفويت تلك المنفعة ظلم يفتقر إلى جزاء" اهـ(31).
2 – وقال ابن رجب – رحمه الله -: "خروج البضع من الزوج هل هو متقوم أم لا؟ بمعنى أنه هل يلزم المخرج له قهراً ضمانه للزوج بالمهر؟ فيه قولان في المذهب ويذكر أنه روايتان عن أحمد. وأكثر الأصحاب كالقاضي ومن بعده يقولون ليس بمتقوم وخصوا هذا الخلاف بمن عدا الزوجة، فقالوا لا يضمن الزوج شيئاً بغير خلاف، واختار الشيخ تقي الدين أنه متقوم على الزوجة وغيرها، وحكاه قولاً في المذهب" اهـ(32).
والتفويت هنا ليس من قبيل الغصب(33).
3 – قال العز بن عبد السلام(34) – رحمه الله -: "... أن تكون المنفعة مباحة متقومة، فتجبر في العقود الفاسدة والصحيحة، والفوات تحت الأيدي المبطلة والتفويت بالانتفاع؛ لأن الشرع قد قوّمها ونزّلها منزلة الأموال، فلا فرق بين جبرها بالعقود وجبرها بالتفويت والإتلاف، لأنّ المنافع هي الغرض الأظهر من جميع الأموال، فمن غصب قرية أو داراً قيمتها في كل سنة ألف درهم، وبقيت في يده سبعين سنة، ينتفع بها منافع تساوي أضعاف قيمتها ولم تلزمه قيمتها، لكان ذلك بعيداً عن العدل والإنصاف الذي لم ترد الشريعة بمثله، ولا بما يقاربه، وهذا كله في منافع الأعيان المملوكة" اهـ(35).
4 – وقال البهوتي(36): "وإن كان للمغصوب منفعة تصح إجارتها، يعني إذا كان المغصوب مما يؤجر عادة، فعلى الغاصب أجرة مثله مدة مقامه في يده، سواء استوفى الغاصب أو غيره المنافع أو تركها تذهب؛ لأن كل ما ضمن بالإتلاف جاز أن يضمنه بمجرد التلف في يده كالأعيان... والأجرة في مقابلة ما يفوت من المنافع لا في مقابلة الأجزاء، وإن تلف المغصوب فعليه أي الغاصب أجرته إلى حين تلفه لأنه من حين التلف لم تبق له منفعة حتى توجب عليه ضمانها" اهـ(37).
5 – وجاء في الأشباه والنظائر: "منافع الأموال إذا فاتت في يد عادية غصباً، أو شراء فاسداً، أو غيرهما تجب فيها أجرة المثل سواء استوفيت أم لا" اهـ(38).
6 – وجاء في القواعد والأصول الجامعة: "ومن التقاسيد الصحيحة: الغرس والبناء في أرض الغير إذا رجعت الأرض إلى صاحبها أنه قسمان: محترم وغير محترم. فغير المحترم: غرس الغاصب وبناؤه. فخير صاحب الأرض بين إلزامه بقلعه وإزالة بنيانه مع تضمينه نقص الأرض وأجرتها مدة مقامها بيد الغاصب، وبين تملك الغرس والبناء بقيمته، وبين إبقائه للغاصب بأجرة المثل إلا أن يختار الغاصب القلع فله ذلك، لكنه يضمن كل نقصٍ، وكل تفويت" اهـ(39).
المبحث الثالث: كيفية تقدير التعويض.:
الأصل في تقدير التعويض هو: أن المثل يعوَّض عنه بالمثل، والمتقوَّم يعوض عنه بالقيمة.
وإذا كان هذا هو الأصل، فإن هناك صوراً تخرج عنه بحسب أنواع الأشياء التي يتقرر الحكم بالتعويض عنها(40).
وإذا أردنا التمثيل على ما ذكرنا، فإننا نقول: التعويض عن تفويت أجرة الأجير الخاص، يكون بالحكم له بالأجرة المتفق عليها، وإن لم يحصل اتفاق على أجرة معينة، فإن التعويض عنها يكون بالحكم له بأجرة المثل(41).
والتعويض عن تفويت منافع البضع يكون بالحكم بالمهر المسمى، فإن لم يكن ثم مهر مسمى، فيحكم له بمهر المثل(42).
وفي التعويض عن تفويت نفع الأرض في المزارعة يكون بالحكم بالمسمى، فإن لم يكن فبالحكم بأجرة المثل، أو بما جرت به العادة في مثل تلك الأرض(43).
وما ذكرناه لا يعدو كونه أمثلة، وإلا فالصور كثيرة. وإذا تعذر الحكم بالمثل، وتعذر الحكم بالقيمة، فإنه يُصار إلى الحكم بالتعويض المبني على التقدير والاجتهاد، - أي الخرص -.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله –: "وقدر المتلف إذا لم يمكن تحديده عُمل فيه بالاجتهاد، كما يُفعل في قدر قيمته بالاجتهاد، إذ الخرص والتقويم واحد، فإن الخرص هو الاجتهاد في معرفة مقدار الشيء، والتقويم هو الاجتهاد في معرفة مقدار ثمنه، بل يكون الخرص أسهل، وكلاهما يجوز مع الحاجة" اهـ(44).
ويجري على هذه المسألة الخلاف المشهور في تحديد الوقت الذي يقدر فيه مقدار قيمة الضرر، هل يُنظر في تقديره إلى قيمته وقت وقوع الضرر، أو قيمته وقت الحكم به؟
لأن القيمة قد تتفاوت تفاوتا كبيراً، بين وقت حدوث الفعل الضار، وبين الوقت الذي يُحكم فيه للمضرور، ويزيد احتمال وقوع هذا التفاوت في ظل طول مدة التقاضي في هذه الأزمات.
كما أن لهذه المسألة علاقة بتغيّر قيمة العملة.
وقد رأينا عدم بحث هاتين المسألتين هنا، حتى لا يخرج البحث عن موضوعه.
ولا ريب أن المقصد من التعويض، هو جبر الضرر الحائق بالمضرور، وعليه يجب مراعاة تحقيق ذلك قدر الإمكان.