المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : المدخل لدراسة العلوم القانونية-2



Hosam Hawamdeh
01-24-2009, 03:17 AM
ثانيا : الرقابة القضائية
تؤدي هذه الطريقة من الرقابة الدستورية إلى منح حق فحض توافق القوانين مع الدستور إلى هيئة قضائية، والمراقبة القضائية على نوعين، المراقبة عن طريق الدعوى، والمراقبة بطريقة الدفع.
أ - الرقابة عن طريق الدعوى
وتعنى أن الدستور سمح للمتضرر بأن يتقدم إلى المحاكم المختصة بدعوى إلغاء القانون الغير مطابق للدستور يطالب فيها بإصدار حكم ينص على عدم دستورية القانون موضوع النزاع.
وإذا صدر الحكم بعدم دستورية القانون موضوع الدعوى فإنه لا يهم المدعي وحده، بل يستفيد منه جميع المواطنين ويعتبر لاغيا، غير أن الرقابة عن طريق الدعوى قد تكون قبلية وقد تكون بعدية، قبل صدور القانون أو بعد صدروه .
وتأخذ فيدرالية سويسرا بهذا النوع من المراقبة بحيث يمكن لأي مواطن أن يرفع دعوى قضائية أمام المحكمة الفيدرالية للمطالبة بإبطال أي قانون غير مطابق لأحكام الدستور ويسبب له الضرر.
وفي ألمانيا الفيدرالية نظمت المراقبة بطريقة الدعوى بموجب الدستور الفيدرالي لسنة 1949، وقد أسندت تلك المهمة إلى محكمة دستورية مؤلفة من أعضاء منتخبين بمقدار النصف من قبل مجلس النواب والنصف الآخر من مجلس الشيوخ . وتنظر المحكمة في مطابقة القوانين الفيدرالية وقوانين الدويلات مع مقتضيات الدستور الاتحادي، وكذا في مطابقة قوانين الدويلات مع القوانين الاتحادية . وقد وجهت إلى هذا النمط من الرقابة مجموعة من الانتقادات منها أن فحص المحاكم لدستورية القوانين يشكل تعد على مبدأ سيادة الأمة، وتعارض نظر المحاكم في دستورية القوانين مع مقولة الفصل بين السلطات وخروج القاضي عن اختصاصه.
ب - الرقابة عن طريق الدفع
تعرف الرقابة بطريقة الدفع كذلك برقابة الامتناع، وهي رقابة تنصب على عدم دستورية نص قانوني يراد تطبيقه على نازلة معروضة على أنظار المحكمة، سواء كانت محكمة مدنية أو محكمة جزائية، والدفع بعدم الدستورية يمكن أن يصدر عن أحد المتقاضين كوسيلة دفاع عن نفسه يطلب فيه باستبعاد القانون المراد تطبيقه عليه لعدم دستوريته، ومخالفته لأحكام الدستور. وإذا ثبت للمحكمة أن القانون المراد تطبيقه غير دستوري تقضي بإهمال ذلك القانون واستبعاده من النازلة المعروضة عليها.
لذلك فإن رقابة الامتناع تختلف عن رقابة الإلغاء في كون المحكمة عند إثباتها عدم دستورية القانون لا تعترف لنفسها بالحق في إبطاله، بل تكتفي بعدم تطبيقه وإبعاده عن القضية المطروحة أمامها.
فالقانون يظل العمل به جاريا،وينبغي في نوازل مماثلة إثارة نفس الامتناع من طرف متقاضين آخرين .
وتعتبر الولايات المتحدة الأمريكية رائدة في هذا النوع من الرقابة الدستورية، بحيث يمكن لأي مواطن أن يدفع بعدم دستورية القانون المراد تطبيقه مع دستور الولاية أو الدستور الفيدرالي أمام جميع المحاكم.
المطلب الخامس : التقنين
التقنين نوع من التشريع لا يختلف عن سائر التشريعات إلا في سعة موضوعه ، وهو ظاهرة قانونية قديمة كان الهدف منها هو تجميع النصوص القانونية المبعثرةوالمشتتة في مجموعة قانونية واحدة اومدونة.
الفرع الأول : تعريف التقنين
التشريع هو إخراج القاعدة القانونية في صورة مكتوبة بواسطة السلطة المختصة، أما التقنين فهو عملية تجميع لكل القواعد القانونية الصادرة والمتعلقة بفرع من فروع القانون في كتاب واحد، ويتم التجميع في مجموعة واحدة بصورة مرتبة ومبوبة على نحو يتضمن التنسيق والملائمة بين القواعد الداخلة في التقنين كالقانون المدني والقانون التجاري...
الفرع الثاني : مزايا وعيوب التقنين
أولا : مزايا التقنين
1 – إن تجميع النصوص القانونية المنظمة لفرع من فروع القانون في كتاب واحد أو مدونة واحدة يسهل العمل على الباحث والقاضي والمهتم في الوصول إلى القواعد القانونية التي يريد الإطلاع عليها ومعرفتها.
2 – إنه يحقق التناسق والتناغم بين القواعد القانونية بإزالة الأحكام المتعارضة.
3 – التقنين وسيلة فعالة في توحيد النظام القانوني في الدولة
ثانيا : عيوب التقنين
لقد انتقد الفقيه سافيي التقنين بحجة أنه يؤدي إلى جمود القانون ويمنعه من التطور وفقا للمقتضيات الاجتماعية المتغيرة، لأنه يصب القواعد القانونية في صيغ ثابثة يصعب تغييرها.
الفرع الثالث : حركة التقنين في المغرب
إن حركة التقنين ليست وليدة العصر الحديث بل نجد جذور التقنين عند الرومان كالألواح الإثني عشر ثم مجموعة جو ستنيان في القرن السادس الميلادي.
وفي العصر الحديث نجد التقنين المدني الفرنسي المعروف بتقنين نابوليون سنة 1804.
أما في بلادنا فقد بدأت حركة التقنين مع الحماية الفرنسية حيث أن مدونة الإلتزامات والعقود وضعت سنة 1913 ووضعت في نفس السنة مدونة القانون التجاري والمسطرة المدنية...
واستمرت عملية التقنين بعد حصول المغرب على الاستقلال إلى وقتنا الحالي، بحيث أصبح المغرب اليوم يتوفر على مجموعة من التقنينات تأخذ شكل مدونة، كمدونة الشغل التي صدرت بتاريخ 11 شتنبر 2003، ومدونة التجارة التي صدرت سنة 1996 ومدونة الانتخابات التي صدرت سنة 1997 ومدونة الأسرة التي صدرت بتاريخ 3 فبراير 2004.
المبحث الثاني : العرف
يشكل العرف إلى جانب التشريع مصدرا من مصادر القانون، بحيث أن القاضي إذا لم يجد في التشريع المقتضيات والأحكام التي تنظم النازلة المعروضة عليه فعلية أن يبحث عنها في القاعدة العرفية.
فما المقصود بالعرف ؟ وما هي أركانه ؟ وما هي أنواعه ؟ وما هو الفراق القائم بين العرف والعادة الاتفاقية ومزايا وعيوب العرف ؟
المطلب الأول : تعريف العرف
يعتبر العرف المصدر الرسمي الأول من الناحية التاريخية، ذلك أن المجتمعات البدائية أمام الضرورات الاجتماعية والظروف المحيطة بها وجدت نفسها أمام قواعد تسير عليها وشاع الاعتقاد بضرورة العمل بها.
والأصل أن العرف كان هو المصدر الأول والوحيد للقاعدة القانونية، على اعتبار أن الجماعة في شكلها الأول لم تكن تتوفر على أجهزة توكل لها مهمة التشريع، بل أن تسيير أمور الجماعة في مختلف مظاهرها ونواحيها كان يتم طبقا للأعراف والتقاليد التي دأب الأفراد على اتباعها واحترامها لاعتقادهم بإلزاميتها.
ومع تقدم الجماعة وتمدنها تراجعت مكانة العرف كمصدر أول للقاعدة القانونية وترك مكانه للتشريع.
فالعرف هو اعتياد الناس على اتباع سلوك معين واستقرار الاعتقاد في نفوسهم بأن هذا السلوك قد صار ملزما. ولكي يوجد العرف لابد أن تتوفر فيه الشروط والعناصر التي ترتقي به إلى صفة القاعدة القانونية.
المطلب الثاني : أركان العرف
العرف، كما سبقت الإشارة، هو تواتر الناس على ابتاع سلوك أو نهج معين والإعتقاد بإلزامية هذا السلوك.
وانطلاقا من هذا التعريف، فإن العرف لا يقوم إلا إذا توفرت فيه ركنين أساسيين، الركن المادي الذي هو تواتر السلوك، والركن المعنوي الذي هو الاعتقاد بإلزامية السلوك.
الفرع الأول : الركن المادي : العادة
فالعادة أو الاعتياد، يعني أن العرف يبدأ من خلال العمل بقاعدة معينة، ينظم الأفراد تعاملهم وفقها بشكل عام، وثابت من قبل الجميع، فإذا توافرت هذه القاعدة واضطرد بها العمل في نطاق الجماعة شكلت عندئذ الأساس المادي أو الموضوعي لتكوين العرف نتيجة هذا الاعتياد المتكرر المستمر والثابت من قبل أفراد الجماعة.
ولكي يقوم الركن المادي لابد من توافر أربعة شروط أساسية هي : الاستقرار، العموم، القدم، وعدم مخالفة النظام العام والآداب العامة.
- الاستقرار : بمعنى أن تستقر سنة معينة في الجماعة لمدة طويلة، تسمح بالحكم عليها بأنها أصبحت عرفا متداولا بين الناس لا يختلفون بشأنه.
- القدم : لكي ينشأ العرف لابد من اضطراد العمل بأحكامه مدة من الزمن حتى يستقر في ضمير الجماعة، ومسألة تقدير المدة اللازمة للاستقرار وثبات العرف هي مسألة نسبية لأنها تختلف من قاعدة إلى أخرى ومن ظروف إلى أخرى، على أنه حتى تحديد تاريخ بداية القاعدة العرفية مسألة صعبة.
- العموم : إن القاعدة العرفية شأنها شأن التشريع يجب أن تتميز بالعمومية، بمعنى أن تخاطب القاعدة العرفية كافة الناس، إلا أن هذا لا يعني أن القاعدة العرفية تلزم عموم الأفراد أو يمتد نطاقها إلى كافة إقليم الدولة، بل أن العرف قد يكون خاصا بإقليم معين فيسمى حينئذ بالعرف المحلي، أو يخص طائفة معينة من الناس فيسمى حينئذ بالعرف الطائفي، كالأعراف التجارية أو أعراف الأطباء والصيادلة.
- مطابقة النظام العام وحسن الآداب : إن العرف لا يدخل إلى دائرة القانون ويكتسب وصف القاعدة القانونية إلا إذا كان منسجما ومتطابقا مع النظام العام والآداب العامة. أما الأعراف المخالفة للنظام العام والأخلاق فمهما تعمقت في المجتمع فلا تكتسب صفة القانون.
إلا أنه لا يكفي لنشوء العرف قيام الركن المادي بل لابد من توفر الركن المعنوي الذي يرفع القاعدة العرفية إلى مصاف القواعد الملزمة.
الفرع الثاني : الركن المعنوي : الاعتقاد بإلزامية القاعدة العرفية
يشكل الركن المعنوي العنصر الثاني الأساسي لقيام العرف بحيث لا يكفي لقيام القاعدة القانونية توفر الركن المادي فقط، إذ توجد العديد من قواعد الأخلاق والمجالات والتقاليد تتمتع بالثبات والعمومية والقدم ومع ذلك لا تعتبر قواعد قانونية، وبالتالي فإن الركن المعنوي هو الذي يضفي عليها هذه الصفة، أي اعتقاد الناس بإلزامية العرف وشعورهم بإجبارية الخضوع لأحكامه والامتثال لقواعده.
المطلب الثالث : أساس القوة الملزمة للعرف
إذا توفر في العرف الركن المادي والركن المعنوي يصبح قاعدة قانونية ملزمة، ولكن ما هو الأساس الذي يجعل العرف مصدرا رسميا للقانون.
لقد قيلت في هذا الشأن مجموعة من الآراء : الرضا الضمني للمشرع، الإرادة الصريحة للسلطة التشريعية، تطبيق القضاء لقواعده، قوة إلزام العرف الذاتية.
أولا : الرضا الضمني للمشرع
ومفاد ذلك أن سكوت المشرع حيال تطبيق العرف دون أن يعترض على اتباعه، وهو قادر على ذلك، لا يمكن أن يفسر إلا على أساس أن إرادته قد ارتدت تطبيقه وانصرفت ضمنا إلى إقراره.
إن هذه النظرية تعرضت للنقد، لأنها تخالف الواقع البديهي المتمثل في كون العرف أسبق في الوجود تاريخيا من التشريع مما يؤكد استقلاله عن هذا الأخير، فلا يتصور وجوده بإقرار المشرع له أو رضاه عنه لأنه سابق عليه ولا يمكن للسابق أن يستمد قوته من اللاحق، ثم كيف يمكن تبرير قوة العرف الملزمة في الجماعات البدائية التي لم تكن قد عرفت المشرع بعد .
ثانيا : الإرادة الصريحة للسلطة التشريعية
يؤسس الرأي الثاني فكرة الإلزام في العرف على فكرة الإرادة الصريحة للسلطة التشريعية، بحيث يستمد العرف أساسه من إحالة المشرع عليه.
هذه النظرية بدورها قد تعرضت للنقد، ذلك أن الدستور قد يكون ذاته عرفيا، وفي هذه الحالة لا يمكن القول أن العرف يستمد قوته الملزمة من الدستور بينما الدستور هو ذاته عرفيا .
ثالثا : تأسيس إلزام العرف على تطبيق القضاء له
يذهب أصحاب هذا الرأي إلى أن أساس قوة العرف الملزمة هو قيام المحاكم بتطبيقه، فيرى هذا الاتجاه أن الاعتقاد في إلزام العرف لا ينشأ من تلقاء نفسه، وإنما ينشئه القضاء إنشاء بتطبيقه له فيما يرفع إليه من منازعات، وبعبارة أخرى يرى أصحاب هذا الاتجاه أن اعتياد الناس على سلوك معين وشعورهم بإلزامه، ليس سوى المواد الأولية للقاعدة القانونية، وأن القاضي هو الذي يعطي المادة الأولية شكلها النهائي ويضفي عليها قوة إلزامية.
ولكن هذا الاتجاه مردود عليه، لأن القاضي إنما يطبق القاعدة العرفية لأنها ملزمة ولأنها استكملت كل عناصر القاعدة القانونية واجبة التطبيق، وبالتالي ليس صحيحا أن يقال أنها ملزمة لأنه طبقها.
رابعا : قوة إلزام العرف الذاتية
الواقع أن العرف لا يستمد قوته الإلزامية لا من المشرع الذي يرضى به ضمنيا أو صريحا ولا من تطبيق القضاء لقواعده، وإنما للعرف كما يرى أغلب الفقه الحديث كروبيه وجيني قوة إلزام نابعة من ذاتيته مستمدة من ضرورة فرضه والأخذ به عندما لا يوجد تشريع، كما في الجماعات البدائية أو عندما يكون التشريع ناقصا كما في الجماعات الحديثة. فالعرف يعتبر الوسيلة الطبيعية لكل مجتمع في حكم السلوك فيه وفي سد ثغرات التشريع وتنظيم ما يعجز التشريع أو يتأخر عن تنظيمه.
وعليه فإن العرف يستمد قوته الإلزامية من العناصر المكونة له أي من ركنيه المادي المتمثل في الثباث والاستقرار والعموم والقدم وعدم مخالفة النظام العام وحسن الآداب، والمعنوي الذي هو عبارة عن احترام الناس وامتثالهم للقواعد أو للقاعدة العرفية عن اقتناع وإيمان.
المطلب الرابع : وظائف العرف
على الرغم من أن التشريع يحتل مساحة شاسعة في تنظيم أنشطة الأفراد وتنظيم علاقاتهم ومعاملاتهم، إلا أنه لا يستطيع أن يغطيها كاملة، لذلك فإن القاضي حينما لا يجد نصا قانونيا يحكم النازلة المعروضة عليه، فإنه يلجأ إلى القواعد العرفية، في هذه الحالة فإن العرف يعد مصدرا احتياطيا بجانب التشريع، كما يلعب العرف من جهة ثانية دور المعاون للتشريع في تنظيم موضوعات معينة وتحديد مضمونها.
الفرع الأول : العرف المكمل للتشريع
المقصود بالعرف المكمل، أن العرف يعتبر مصدرا ثانيا من مصادر القاعدة القانونية، وأن على القاضي الالتجاء إليه كلما أعوزه الحل للنزاع المعروض عليه، وافتقده في النصوص التشريعية، ما لم يحدد له المشرع مرتبة أخرى، كما فعل في ديباجة مدونة الشغل الجديدة لسنة 2004 والذي أحل فيها العرف مرتبة تالية للتشريع والاتفاقيات الدولية والاتفاقيات الجماعية وعقود الشغل والقرارات التحكيمية والاجتهادات القضائية، وذلك في حل نزاعات الشغل الفردية أو الجماعية، فالعرف في هذه الحالة يكمل التشريع ويسد ما فيه من نقص في مختلف فروع القانون العام منها والخاص .
الفرع الثاني : العرف المساعد للتشريع
"العرف المساعد هو العرف الذي يحيل عليه التشريع إما للاستعانة به على تفسير إرادة المتعاقدين وإما لتكميل اتفاقهما في المسائل التفصيلية التي لم ير المتعاقدان إدراجها في الاتفاق، وإما لتكميل مضمون قاعدة شرعية مرنة تركت في جزء منها على بياض ليملأه القاضي فيما بعد بناء على سلطته التقديرية.
ومن الأمثلة على ذلك ما جاء في الفصل 500 من قانون الإلتزامات والعقود من أنه "تسلم الأشياء المنقولة بمناولتها من يد إلى يد أو بتسليم مفاتيح العمارة أو الصندوق الموضوعة فيه، أو بأي وجه أخرى جرى به العرف.
أو ما ورد في الفصل 549 من نفس القانون بنصه "يضمن البائع عيوب الشيء المعيب الذي تنقص من قيمته نقصا محسوسا، أو التي تجعله غير صالح لاستعماله فيما أعد له بحسب طبيعته أو بمقتضى العقد، أما العيوب التي تنقص نقصا يسيرا من القيمة أو من الانتفاع، والعيوب التي جرى العرف على التسامح فيها فلا تخول الضمان".
المطلب الخامس : التمييز بين العرف والعادة الاتفاقية
العادة الاتفاقية هي قاعدة عرفية ناقصة، حيث يتوافر فيها الركن المادي دون الركن المعنوي، ونظرا لتخلف الركن المعنوي، فإن هذه العادات لا ترقى إلى رتبة القواعد القانونية الملزمة في ذاتها، ولكنها قد ترقى إلى هذه المرتبة إذا اتفق الأفراد على اتباع حكمها سواء صراحة أو ضمنا.
بذلك تظهر أهمية العادة الاتفاقية في نطاق الروابط العقدية، فكثيرا ما يعتاد الأشخاص على شروط معينة لا يرد النص عليها صراحة في العقد، وإنما يجري بها العمل استنادا إلى إرادة المتعاقدين الضمنية التي انصرفت إلى الالتزام بها.
ومن الأمثلة على ذلك ما يجري به العمل في الفنادق والمطاعم والمقاهي من إضافة نسبة مئوية إلى الحساب كمكافئة لمن يقومون بالخدمة، أو ماهو متبع في بعض الجهات من أن يكون للشريك الذي يقدم الرأسمال ثلثي الأرباح والثلث الباقي للشريك الذي يقوم بالعمل.
الفرع الأول : معايير التمييز بين العرف والعادة الاتفاقية
أ – من ناحية التكوين، أن العرف يتوفر له الركنان المادي والمعنوي، في حين أن العادة يتوفر لها الركن المادي فقط.
ب – من حيث الأثر، إذا توافرت للعرف أركانه وشروطه نتجت عنه قاعدة قانونية ملزمة، أما العادة فلا تعتبر قانونا ولا تلزم الناس بها إلا إذا اتفق الأفراد على اتباعها صراحة أو ضمنا.
الفرع الثاني : نتائج التفرقة بين العرف والعادة الاتفاقية
يترتب على التفرقة بين العرف والعادة الاتفاقية مجموعة من النتائج القانونية نجملها فيما يلي:
1 – يفترض العلم بالقاعدة العرفيةكما يفترض العلم بأي قاعدة قانونية، إذ لا يقبل من أحد الاعتذار بجهله للقاعدة العرفية، أما العادة الاتفاقية فإن شرط تطبيقها أن تكون إرادة المتعاقدين قد اتجهت إليها صراحة أو ضمنا، ولذلك يمتنع تطبيقها إذا جهلها أحد المتعاقدان أو كلاهما إذا لا يمكن القول عندئد بأن الإرادة اتجهت ضمنا إلى تطبيقها.
2 – يكون على القاضي أن يطبق القواعد العرفية من تلقاء نفسه بحكم كونها قاعدة عرفية، حتى لو لم يطلب الخصوم ذلك، لهذا كان على القاضي أن يتثبت من وجود القاعدة العرفية من تلقاء نفسه، كما يفعل بصدد القواعد القانونية. أما العادة الاتفاقية فلا يطبقها القاضي إلا إذا تمسك بها صاحب المصلحة، وعلى صاحب المصلحة إثبات مضمون العادة الاتفاقية بأن يقيم الدليل على وجودها ويثبت حكمها.
3 – يخضع القاضي في تطبيق وتفسير القاعدة العرفية لرقابة محكمة النقض، لأنه يخضع لرقابة هذه المحكمة في تطبيقه وتفسيره للقانون، والقاعدة عرفية قاعدة قانونية، أما بالنسبة للعادة الاتفاقية فإن القاضي لا يخضع في إثبات وجودها أوفي تفسيرها وتطبيقها إلى رقابة محكمة النقض.
المطلب السادس : مزايا وعيوب العرف
أولا : مزايا العرف
1 – يعتبر الفقيه "سافيني" أن العرف أكمل المصادر القانونية لأنه يتولد تلقائيا في ضمير الجماعة، فهو يتماشى مع رغبات الأمة وحاجاتها ويساير تطورها.
2 – العرف يسد النقص في القانون المدون، ذلك أن التشريع لا يستطيع أن يلم بجميع القواعد التي تنظم الروابط الاجتماعية، وهنا يلعب العرف دوره فيولد القواعد القانونية التي أغفلها المشرع.
3 – إن العرف يتماشى مع ظروف الجماعة.

ثانيا : عيوب العرف
1 – إن العرف أداة بطيئة في إنتاج القواعد القانونية، لأنه يحتاج إلى فترة طويلة حتى يشعر الناس بإلزاميته.
2 – إن العرف لا يساعد على توحيد النظام في الدولة وتثبيت الوحدة القومية، الأمر الذي يؤدي إلى تعدد النظم الواحدة في الدولة مما يساعد على تفكيك وحدتها وتماسكها.
3 – إن العرف غير واضح ومحدد، مما يؤدي إلى عدم استقرار المعاملات.
المبحث الثالث : قواعد الشريعة الإسلامية
تعتبر الشريعية الإسلامية مصدرا رسميا من مصادر القانون في المملكة المغربية، فعلى القاضي أن يطبق أحكامها في كل واقعة لا يجد فيها نصا في التشريع أو عرفا يقضي بتنظيمها.
إلا أن احتلال قواعد الشريعة الإسلامية المرتبة الثالثة كمصدر من مصادر القانون في النظام القانوني المغربي، لا يعني ذلك المساس بمكانة مبادئ وقواعد الشريعة الإسلامية.
فالدستور المغربي ينص في تصديره على أن المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة، لغتها الرسمية هي اللغة العربية.
كما أن العقارات غير المحفظة في المغرب تخضع لقواعد الفقه الإسلامي المستمدة من المذهب المالكي.
كما أن مدونة الأسرة تستمد أحكامها من الشريعة الإسلامية،ونصت المادة 400 من مدونة الأسرة على أنه كل ما لم يرد به نص في المدونة، يرجع فيه إلى المذهب المالكي والاجتهاد الذي يراعى فيه تحقيق قيم الإسلام في العدل والمساواة والمعاشرة بالمعروف. بل حتى القانون الجنائي المغربي يأخذ في بعض مقتضياته بروح الشريعة الإسلامية حيث نص الفصل 222 على أنه كل من عرف باعتناقه الدين الإسلامي، وتجاهر بالإفطار في نهار رمضان في مكان عمومي، دون عذر شرعي، يعاقب بالحبس من شهر إلى ستة أشهر وغرامة من إثني عشر إلى مائتي درهم.

المبحث الرابع : مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة
يمكن النظر إلى مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة والإنصاف باعتبارين إثنين، باعتبارهما أساسا فلسفيا تبنى عليه قواعد القانون الوضعي، وباعتبارهما مصدرا من مصادر هذه القواعد في نفس الوقت.
أ – فالبنسبة لاعتبارهما أساسا فلسفيا، يلاحظ أن المشرع يستلهم من مبادئهما قواعده وأحكامه التي يتبناها في تشريعاته وقوانينه.باعتبار أن مبدأ العدل المطلق يمثل المقياس الذي يوجه المشرع عند وضع أحكام وصياغة نصوص القانون، بل أن الكثير من القواعد القانونية التشريعية مستمدة من مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة والإنصاف.
ب – أما من حيث اعتبارهما مصدرا من مصادر القانون، فذلك لأن أثر المبادئ لا يقتصر فقط على المشرع عندما يضع قواعده القانونية، بل أن هذا الأثر يمتد ليشمل القاضي بشكل مباشر، إذ عليه أن يستلهم من هذه المبادئ حكمه عندما لا تسعفه المصادر الأخرى في ذلك.
والقاضي عندما يستند إلى هذه المبادئ ليستلهم حكمه، يتمتع بسلطة تقديرية مقيدة ابتداءا من هذه المبادئ لا سلطة تقديرية مطلقة يستند بموجبها في إصدار حكه وفقا لهواه.
ومن مبادئ القانون الطبيعي التي يستند عليها القاضي حينما لا يجد نصا قانونيا يحكم به في النازلة المعروضة أمامه مبدأ المساواة ومبدأ حرية التعاقد ومبدأ سلطان الإرادة ومبدأ حرية الزواج، ومبدأ الحرية الخاصة ومبدأ حرية الاعتقاد ومن أمثلة المبادئ التي يستند إليها القضاء في أحكامه، مبدأ الخطأ الشائع يولد الحق ومبدأ الغش يفسد التصرفات...
المبحث الخامس : المصادر التفسيرية
توجد إلى جانب المصادر الرسمية التي يتعين على القاضي الرجوع إليها لكي يبني حكمه على واحدة من قواعدها حسب التسلسل الذي أشرنا إليه فيما سبق، مصادر غير رسمية – أو التفسيرية – يستطيع القاضي الرجوع إليها، وذلك للاستئناس بها في أحكامه دون أن يكون ملزما بذلك قانونا، وأهم هذه المصادر غير الرسمية القضاء والفقه.

المطلب الأول : القضاء
يقصد بلفظ القضاء مجموع المحاكم بمختلف أنواعها ودرجاتها التي توجد في الدولة أي السلطة القضائية.
أما القضاء الذي يعنينا كمصدر من مصادر القانون هو الأحكام التي تصدرها المحاكم، أو بمعنى آخر المبادئ القانونية التي تستشف من استقرار أحكام القضاء على العمل بها في موضوع أو موضوعات معينة.
فهل يعتبر القضاء مصدرا من مصادر القانون ؟
نجد في هذا الإطار إتجاهين :
- الاتجاه الأنجلوسكسوني وعلى رأسه النظام الإنجليزي.
- والاتجاه الثاني هو الاتجاه اللاتيني ويوجد على رأسه النظام الفرنسي.
فبالنسبة للنظام الأنجلوسكسوني يعتبر القضاء مصدرا رسميا من مصادر القانون، ففي إنجلترا يلعب الاجتهاد القضائي دورا أساسيا في إنشاء وخلق القواعد القانونية فكل حكم يصدره القضاء الإنجليزي يشكل سابقة قضائية، يلزم من جهة المحكمة الذي أصدرته في القضايا المماثلة، ويلزم في نفس الوقت المحاكم الادنى درجة.
أما بالنسبة للنظام اللاتيني : فإن القضاء يقتصر دوره على تطبيق القانون لا إنشاء وخلق القاعدة القانونية، لأن السلطة التشريعية هي التي تختص بوضع القانون.
وهو نفس النهج الذي سار عليه النظام القضائي المغربي، حيث أن الاجتهادات القضائية التي تقوم بها المحاكم في غياب نص قانوني أو غموض هذا النص لا تشكل سوابق قضائية تلزم المحكمة التي قامت بذلك الاجتهاد في القضايا المماثلة أو المحاكم الأقل درجة، بل حتى اجتهادات المجلس الأعلى كمحكمة قانون، وبصفته أعلى جهة قضائية في النظام القضائي المغربي لا يلزم المحاكم الأقل درجة.
"فالقضاء في النظام القانوني المغربي لا يعدو أن يكون سوى مصدرا تفسيريا استثنائيا يسترشد به القاضي في تفسير ما هو غامض من نصوص القانون، ولا يلزم المحاكم مهما بلغ من استقرارها أو أغلبيتها على حكم أوتفسير معين" .

المطلب الثاني : الفقه
عرف الأستاذ السنهوري الفقه بأنه استنباط الأحكام من مصادرها بالطرق العلمية مع مناقشة هذه الأحكام ليتبين ما في القانون من نقص أو عيب وذلك خلال تصديهم لشرح القانون سواء ذلك في مؤلفاتهم أو فتاويهم أو تعاليقهم.
والفقه شأنه في ذلك شأن القضاء لا يشكل مصدرا رسميا للقانون، فهو لا يلزم القاضي، ولكن يمكن أن يسترشد به لينير له الطريق في القضية المعروضة عليه.
لأن الفقه يلعب دورا أساسيا في تحليل وتفسير النصوص القانونية الغامضة وبيان معناها وشروط تطبيقها. كما يقوم كذلك بالتعليق على الأحكام القضائية وتحليلها وتبيان اتجاهاته...
الفصل الرابع : نطاق تطبيق القانون وتفسيره
المبحث الأول : نطاق تطبيق القانون
بمجرد ما يكتسب نصا قانونيا وصف قانون باستكماله للمسطرة التشريعية -وفقا لما شرحناه سابقا- تصبح قواعده وأحكامه واجبة التطبيق إزاء جميع الأشخاص المخاطبين بمقتضياته، تطبيقا لمبدأ عدم جواز الاعتذار بالقانون.
كما أن القاعدة القانونية توجد لتطبق في نطاق إقليمي معين بحيث يتم حل الإشكالات القانونية المرتبطة بهذا التطبيق باللجوء إلى مبدأ إقليمية القوانين ومبدأ شخصية القوانين. إضافة إلى ذلك فإن القانون يطبق في زمن معين، مما يؤدي أحيانا إلى تدخل كل من القاعدة القانونية السابقة والقاعدة القانونية اللاحقة التي تنظم نفس الموضوع.
فهذه الإشكالات سوف نتعرض لها في المحاور الآتية :
- نطاق تطبيق القانون من حيث الأشخاص المخاطبين بحكمه.
- نطاق تطبيق القانون من حيث المكان.
- نطاق تطبيق القانون في الزمان.
المطلب الأول : نطاق تطبيق القانون من حيث الأشخاص المخاطبين بحكمه
عندما تصدر القاعدة القانونية فإنها تكون خطابا موجها إلى سائر الناس المخاطبين بها تطبق على الجميع سواء علموا بها أو لم يعلموا بها لأنها قاعدة مجردة وعامة. ولا يجوز الاعتداد بجهل القانون كوسيلة للتهرب من حكم القانون، لأن الجهل بالقانون ليس عذرا حسب القاعدة القائلة "لا يعذر أحد بجهله للقانون" حتى لا تعم الفوضى وينتشر الاضطراب في نطاق المعاملات. فما هو مضمون هذه القاعدة ؟ وما هي الإستثناءات التي ترد عليها ؟
الفرع الأول : مبدأ عدم العذر بجهل القانون
متى نشر القانون في الجريدة الرسمية التزم الجميع باحترامه سواء من علم به فعلا أو لم يعلم به، ويعبر عن ذلك بأن الجهل بالقانون لا يعتبر عذرا، أي أنه لا يقبل ممن لا يعلم بصدور القانون أن يطلب عدم تطبيقه عليه بجحة عدم علمه. وقد يؤدي تطبيق هذا المبدأ إلى الإضرار بمصالح الأفراد وهم الذين لم يعلموا فعلا بصدور القانون ورتبوا أمورهم على أساس عدم وجوده، ولكن الأخذ بهذا المبدأ تقتضيه مصلحة الجماعة.
فمن الواضح أنه لو أبيح للفرد أن يطلب عدم تطبيق القانون عليه إستنادا إلى عدم علمه به، لامتلأت المحاكم بالدعاوى التي يطالب أصحابها عدم تطبيق القانون عليهم، ولشغل القضاة بسماع إدعاءات الجهل بالقانون، ومن شأن ذلك كله أن يؤدي إلى زعزعة المعملات والإخلال بالثقة الواجبة نحو القوانين، مما يترتب عليه إنهيار النظام الإجتماعي كله وحلول الفوضى محله.
الفرع الثاني : الإستثناءات الواردة على المبدأ
يتفق الفقه والقضاء على أن الإستثناء الوحيد الذي يرد على مبدأ لا يعذر أحد بجهله للقانون هو حالة القوة القاهرة التي يتعذر بسببها علم الناس بوجود القاعدة القانونية، كما هو الشأن بالنسبة للكوارث الطبيعية كالزلازل، والفيضانات، والإضطرابات الأمنية، والاحتلال الأجنبي، وكل سبب يؤدي إلى عزل منطقة معينة عن محيطها الخارجي، مما يؤدي إلى تعذر وصول الجريدة الرسمية إلى عموم الناس وبالتالي الجهل بوجودها.
"إلا أنه يجب أن نميز بين الجهل بالقانون والغلط في القانون، فالجهل بالقانون يعني عدم العلم بصدور القانون، أما الغلط في القانون فيعني أن يتوهم الشخص بوجود حكم معين في القانون أو عدم وجود حكم معين فيه ويتصرف على أساس هذا الوهم، بحيث لو علم الحكم الصحيح في القانون لما رضي بإتمام هذا التصرف في مثل هذه الحالة ليس هناك ما يمنع مثل هذا المتعاقد أن يبطل هذا العقد لغلط في القانون . وقد تعرض المشرع المغربي إلى جانب الغلط في القانون إلى الغلط في الواقع في الفصلين 40 و 41 من قانون الإلتزامات والعقود.
فالغلط في الواقع يكون منصبا على واقعة معينة كمن يشتري قلما على أنه من ذهب، ثم يتضح فيما بعد أنه قلم عادي، حيث نص الفصل 41 أعلاه على أنه يخول الغلط الإبطال، إذا وقع في ذات الشيء أو في نوعه أو في صفة فيه، كانت هي السبب الدافع إلى الرضا.
المطلب الثاني : تطبيق القانون من حيث المكان
الأصل أن قانون كل دولة يطبق على رعاياها وفي حدود إقليمها إلا أن الأمر من الناحية العملية ليس بهذه السهولة، فانتشار العلاقات الدولية وازدياد النشاط التجاري وتنقل الأفراد والأموال بين الدول يثير تساؤلات حول إمكان تطبيق القانون على الوطنيين المقيمين في الخارج وعلى الأجانب المقيمين في الداخل .
فهذه التساؤلات يتم حلها والإجابة عنها عن طريق مبدئين : مبدأ إقليمية القوانين ومبدأ شخصية القوانين.
الفرع الأول : مبدأ إقليمية القوانين
حسب هذا المبدأ فإن القانون في أية دولة يجري تطبيقه على جميع الأشخاص المقيمين على إقيلمها وعلى جميع الأفعال والوقائع التي تحدث في هذا الإقليم وعلى جميع الأشياء التي توجد فيه، سواء أكان الأمر متعلقا برعايا الدولة نفسها أو الأجانب الذين يقيمون على إقليمها،كما أن قوانين الدولة لا تسري خارج حدود إقليمها لا من حيث الأشخاص ولا من حيث الأفعال ولا من حيث الأشياء .
الفرع الثاني : مبدأ شخصية القوانين
حسب هذا المبدأ يسري قانون الدولة على أبناءها الذين ينتسبون إليها وتربطهم بها روابط واحدة وعقيدة وحضارة وعادات مشتركة، أما الإقليم فهو مجرد المكان الذي يقيم عليه هؤلاء الأشخاص، والدولة تسن القوانين للمواطنين لا للأقليم وهي تسعى أن تكون ملائمة لرغباتهم وتطلعاتهم، لذلك فمن الأفضل أن تطبق القوانين الصادرة عن الدولة على جميع المواطنين الذين ينتمون إليها، سواء كانوا يقطنون فوق أرضها وضمن حدودها، أم كانوا يقيمون ضمن حدود الأقاليم الأخرى التابعة لسيادة غيرها من الدول، أما غير المواطنين أي الأجانب فتطبق عليهم قوانين دولتهم التي ينتمون إليها لا قوانين الدولة التي يقيمون فوق أرضها. ومبدأ شخصية القوانين يعني سريان القاعدة القانونية في دولة معينة على الأشخاص التابعين لها حتى ولو كانوا خارج حدود إقليمها وعدم سريانها على الأجانب حتى ولو كانوا مقيمين في إقليمها.
الفرع الثالث : المبدأ المطبق في المغرب
يعتمد المغرب في الأصل على مبدأ إقليمية القوانين، بمعنى أن قواعد القانون المغربي تطبق على السواء بحق المواطنين والأجانب الموجودين داخل تراب المغرب دون المغاربة القاطنين خارج حدود المملكة، ولكن هناك استثناءات تحد من هذا المبدأ. ولذلك سنتطرق لهذه الاستثناءات التي تحول دون تطبيق القانون المغربي على جميع الموجودين داخل المغرب أو التي تجعله يشمل الوقائع أو الأشخاص الموجودين خارجه.
وهذه الاستثناءات تختلف باختلاف طبيعة القانون (القانون العام والقانون الخاص وفروعه).
- 1 - بالنسبة لفروع القانون العام :
أ – بالنسبة للقانون الدولي العام : تخرج عن مبدأ إقليمية القوانين قواعد الحصانة الدبلوماسية والقضائية التي تمنح لبعض الأجانب المقيمين في الدولة مثل رؤساء البعثات الدبلوماسية وأعضاء الهيئات السياسية والقناصل.
ب – بالنسبة للقانون الدستوري والقانون الإداري : فإن الحقوق السياسية التي ينص عليها الدستور المغربي، فهي تسري على المواطنين وحدهم دون الأجانب، كحق الانتخاب أو الترشيخ للمجالس الحضرية والقروية أو البرلمان فهي حكرا على المغاربة دون الأجانب. كما أن ولوج الوظائف العمومية في الدولة فهي كذلك من حق المغاربة دون الأجانب حيث لا يسمح للأجانب من ولوج هذه الوظائف إلا حسب شروط معينة.
ج – بالنسبة للقانون الجنائي : فالقاعدة أن القانون الجنائي يطبق في الأصل تطبيقا إقليميا، عملا بالمبادئ التالية :
- مبدأ إقليمية النص الجنائي : بمعنى سريان القانون الجنائي المغربي على كل الجرائم التي ترتكب بالإقليم المغربي دون اعتبار لجنسية الجاني وهو ما ينص عليه الفصل 10 من القانون الجنائي المغربي "يسري التشريع الجنائي المغربي على كل من يوجد بإقليم المملكة من وطنيين وأجانب وعديمي الجنسية"، مع مراعاة الاستثناءات المقررة في القانون العام الداخلي والقانون الدولي "حيث أن ملك المغرب يتمتع بالحصانة الجنائية، كما أن أعضاء البرلمان يتمتعون بالحصانة القضائية وأعضاء البعثات الدبلوماسية والقنصلية يتمتعون بالحصانة الدبلوماسية.
- مبدأ عينية النص الجنائي : ويفيد تطبيق القانون الجنائي المغربي على كل جريمة تمس المصالح العليا للبلاد وأهدافه الحيوية أينما ارتكبت تلك الجريمة داخل المغرب أو خارجه دون اعتبار لجنسية الجاني.
- مبدأ شخصية النص الجنائي : ويفيد تطبيق النص الجنائي على كل شخص يحمل الجنسية المغربية ولو ارتكب جريمته خارج المغرب. ويفرق الفقه بين وجهي مبدأ الشخصية: الوجه الإيجابي للمبدأ ويتجلى في تطبيق النص الجنائي على الشخص الذي يحمل جنسية الدولة ولو ارتكب الجريمة خارج إقليم بلاده. والوجه السلبي ويفيد تطبيق النص الجنائي المغربي حتى على الجناة الأجانب الذين يرتكبون جرائمهم ضد أحد المغاربة في الخارج.
- مبدأ عالمية النص الجنائي : ويفيد تطبيق النص الجنائي على كل جريمة يلقى فيها القبض على مرتكبيها مكان ارتكاب الجريمة. ويسمح هذا المبدأ بقضاء عالمي أوسع للنص الجنائي، وذلك من خلال التعاون فيما بين الدول لمحاربة أنواع خطيرة من الجرائم كالقرصنة والاتجار في المخدرات والإرهاب.
كما أن هناك نوع آخر من الجرائم يحاكم مرتكبوها أمام المحكمة الجنائية الدولية التي أحدثت بمقتضى معاهدة دولية هي معاهدة روما سنة 1998 وهذه الجرائم هي جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة، وجرائم العدوان.
- 2 - بالنسبة لفروع القانون الخاص : يطبق في هذا الشأن مبدأ إقليمية القوانين كلما كان أطراف العلاقة القانونية أو موضوعها داخل إقليم الدولة، وإلا تخضع لقانون هذه الدولة.
وعندما يكون في هذه العلاقة طرف أجنبي أو يوجد موضوع أو محل هذه العلاقة خارج الحدود الإقليمية للدولة، في هذه الحالة يقع تنازع بين القانون المغربي والقوانين الأجنبية، حيث يتدخل في هذا المجال القانون الدولي الخاص لحل مشكلة تنازع القوانين في المكان، وذلك بتحديده للقانون الواجب التطبيق في العلاقة ذات العنصر الأجنبي بإعماله لما يصطلح عليه بقواعد الإسناد أو قواعد تنازع القوانين، وقواعد الاختصاص القضائي.
وقد تم التنصيص على قواعد الإسناد في ظهير 12 غشت 1913 المتعلق بالوضعية المدنية للفرنسيين والأجانب بالمغرب، وأهمها القواعد التالية :
- تخضع حالة الأشخاص وأهليتهم (قانون الأسرة) لقانونهم الوطني أي لقانون البلد الذي يحملون جنسيته.
- تخضع العقود الدولية (المبرمة بين مغاربة وأجانب) للقانون الذي اختاره الأطراف صراحة أو ضمنيا لحكم عقدهم.
- تخصع الأموال سواء كانت منقولات أو عقارات لقانون محل وجودها.
- تخضع المسؤولية التقصيرية لقانون البلد الذي وقع فيه الفعل المسبب للضرر.
المطلب الثالث : نطاق تطبيق القانون من حيث الزمان
الفرع الأول : المدى الزمني لتطبيق القانون
يراد بالمدى الزمني لتطبيق القانون تعيين بداية العمل بالقاعدة القانونية ووقت انتهاء العمل بها. والقوانين تكون نافذة فور نشرها في الجريدة الرسمية، ما لم ينص المشرع على نفاذها بعد انصرام مدة معينة على نشره في الجريدة الرسمية. بناء عليه يكون القانون نافذا في الحالة الأولى، ويكون موجودا من غير نفاذ في الحالة الثانية إلا بعد مضي المدة التي نص عليها المشرع لبدء نفاذه كما كان الشأن بالنسبة لقانون المسطرة الجنائية الجديد الذي نشر في الجريدة الرسمية ولم يدخل حيز النفاذ إلا بعد انصرام أجل 18 شهرا على نشره.
أما بشأن تحديد وقت انتهاء سريان القانون، فيجب أن ننظر بحسب ما إذا كان المراد بالقانون الصادر أن يكون ساريا لمدة معينة منصوص عليها، أو أن يظل ساريا من غير مدة محددة. حيث في الحالة الأولى ينتهي العمل به بمجرد انقضاء المدة المعينة لسريانه وتزول كل فعاليته دون حاجة إلى الإلغاء، ومثل هذه القوانين تسمى بالقوانين ذات المدة المحددة، والتي عادت ما تصدر في أوقات الحروب أو الأزمات والإضطرابات الداخلية غير العادية، كقوانين الطوارئ، والأحكام العرفية.
أما في الحالة الثانية، فيستمر العمل بالقانون لمدة غير محددة، ويظل قائما نافذا ولا ينتهي العمل به إلا بصدور قانون لاحق ينص على إلغاء القانون السابق، وهذه الحالة هي الغالبة في التشريعات.
إن وقف سريان القانون وإلغاءه وحلول قانون جديد محله يطرح مجموعة من المشاكل على مستوى العلاقة بين القانون القديم والقانون الجديد والمراكز القانونية التي ينظمها القانونين.
الفرع الثاني : تنازع القوانين في الزمن
إن تنازع القوانين في الزمن ينتج عن تعاقب قانونين مختلفين ينظمان نفس المسألة. فأيهما يطبق القانون القديم أو القانون الجديد ؟
يجب أن نميز في هذا الإطار بين ثلاث فرضيات :
- 1 - الفرضية الأولى : روابط اجتماعية وعلاقات قانونية تحدث وتنتج كافة آثارها في ظل القانون القديم وحده، هنا لا إشكال فالقانون القديم هو الذي يحكمها.
- 2 - الفرضية الثانية : روابط اجتماعية وعلاقات قانونية تتكون بعد صدور القانون الجديد وتستنفذ كل آثارها في ظله وهنا أيضا لا يثور المشكل، فالقانون الجديد هو الذي يطبق عليها.
- 3 - الفرضية الثالثة : روباط اجتماعية وعلاقات قانونية تنشأ في ظل القانون القديم، ولا تستكمل كل شروطها وآثارها إلا بعد صدور قانون جديد يعدل أو يلغي كل أو بعض أحكام العلاقة القانونية. كشخص تزوج في ظل قانون يجعل الطلاق بيده هو ثم صدر قانون جديد يجعل الطلاق مقيد بإذن القاضي، فهل يحق له أن يطلق دون قيد أوشرط حسب القانون الذي تزوج في ضوئه ؟ أم يلزم عليه أن ينتظر إذن القاضي حسب القانون الجديد ؟ مثل هذه الفرضيات وغيرها هي التي تطرح مشكلة تنازع القوانين في الزمان.
والأساس الذي يقوم عليه حل هذا التنازع وتحديد المدى الزمني لسريان كل من القوانين المتنازعة، يقوم على مبدأين : مبدأ عدم رجعية القوانين، ومبدأ الأثر المباشر للقانون Effet immédiat.
أولا : مبدأ عدم رجعية القوانين
يستند حل مشاكل تنازع القوانين من حيث الزمن في الأصل على مبدأ قانوني مشهور تتبناه أغلب الشرائع والقوانين الحديثة وهو مبدأ عدم رجعية القوانين.
ومفاد ذلك أن القوانين الجديدة لا تنسحب على الماضي، بل يقتصر حكمها على الوقائع التي تقع ابتداءمن يوم نفاذها.
ومبدأ عدم رجعية القوانين هو أحد المبادئ التي ترسخت منذ القدم وعملت بها الشريعة الإسلامية من خلال العديد من الأحكام، كالآية القرآنية الكريمة : "وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا"، وهو ما سارت عليه العديد من التشريعات الحديثة في دساتيرها وقوانينها.
وقد تقرر هذا المبدأ في القانون المدني الفرنسي المعروف بقانون نابوليون الصادر سنة 1804 في المادةالثانية، حيث نصت على أنه "لا يسري القانون إلا بالنسبة للمستقبل، فليس له أثر رجعي مطلقا". كما أن الدستور المغربي نص في مادته الرابعة على أن القانون أسمى تعبير عن إرادة الأمة ويجب على الجميع الإمتثال له وليس للقانون أثر رجعي.
ثانيا : أسانيد ومبررات عدم رجعية القوانين
يعتبر مبدأ عدم رجعية القوانين من المبادء القانونية السامية، مما أدى ببعض الفقهاء بالقول بأنه ذا صلة بالقانون الطبيعي، مما يوجب على القانون الوضعي عدم مخالفته.
وإقرار هذا المبدأ يجد أساسه ومبرراته في الأسس التالية :
- أ - تحقيق العدالة : يهدف مبدأ عدم رجعية القوانين إلى تحقيق العدالة بين الأفراد، حيث أن القانون يحكم سلوك الأفراد داخل الجماعة، لذا فمن طبيعة الأمور أن يلتزم الأفراد بتكييف سلوكهم وتصرفاتهم وفقا للقانون القائم، ذلك القانون الذي هم على علم به أو الذي بإمكانهم العلم به. ويترتب على ذلك أنه ليس من العدالة بشيء أن يؤاخذ الأفراد علىوقائع صدرت منهم والتي تشكل خرقا للقانون الذي يشرع بعد إتمام تلك الوقائع. ولأنه إذا ما تغيرت قواعد القانون بعد ذلك منطق العدالة يقتضي ألا تتغير القواعد التي كانت تحكم سولكهم في الماضي في ظل قانون كان قائما.
- ب - ضمان استقرار المعاملات : يعتبر مبدأ عدم رجعية القوانين خير ضمان لاستقرار النظام الاجتماعي وبث الطمأنينة في النفس، فلو أجزنا انسحاب القانون إلى الماضي لأدى ذلك إلى هدم استقرار المراكز القانونية وحلول الاضطرابات محل الاستقرار ولا انعدمت ثقة الأفراد في القوانين.
- ج - الانسجام مع القاعدة القانونية : إذا كانت القاعدة القانونية لا تدخل حيز التنفيذ إل بعد قطعها للمراحل التي ينص عليها القانون، بدا من الاقتراح وصولا إلى النشر في الجريدة الرسمية، وهو ما يعني فسح المجال للمجتمع وإعطاء فرصة للأفراد على الإطلاع على القوانين المخاطبين بها، فليس من المنطق استمرار سريان القانون القديم بعد نشر القانون الجديد.
- د - احترام الحقوق والمراكز القانونية (الحقوق المكتسبة) : إن الحقوق والمراكز القانونية لا تتولد إلا وفقا لقوانين منشئة لها. فإذا ما ترتبت للأفراد حقوق ومراكز وأثار قانونية في ظل القواعد القانونية المعمول بها. فلا ينبغي أن يكون تعديل هذه القواعد أو إلغاؤها بقواعد قانونية جديدة، فرصة للمساس بهذه الحقوق والمراكز أو الانتقاص من تلك الآثر التي ترتبت صحيحة في ظل القواعد القانونية القديمة.
ثالثا : النظريات الفقهية المفسرة لمبدأ عدم رجعية القوانين
بينا فيما سبق على أن مبدأ عدم رجعية القوانين من المبادئ القانونية التي تحل مشكلة تطبيق القانون في الزمان وما يترتب عن ذلك من تنازع بين القوانين القديمة والقوانين الجديدة. إلا أنه رغم صلاحية هذا المبدأ فقد تضاربت النظريات الفقهية في هذا الشأن بين النظرية التقليدية التي تقوم على التمييز بين الحق المكتسب وبين مجرد الآمال والنظرية الحديثة التي تقوم على أساس التفرقة بين الأثر الرجعي للقانون وبين الأثر المباشر للقانون.
- 1 - النظرية التقليدية : التمييز بين الحق المكتسب ومجرد الأمل
- أ - مفهوم المبدأ : هي نظرية كلاسيكية أمن بها الفقه الفرنسي منذ القرن التاسع عشر، نشأت كتفسير للمادة الثانية من القانون المدني الفرنسي التي تنص على أن "لا يحكم القانون سوى المستقبل، وليس له أثر رجعي"، وتستند هذه النظرية في تفسيرها لمبدأ عدم رجعية القوانين من حيث الزمان على أساس التفرقة بين ما أسمته بالحق المكتسب ومجرد الأمل. فالقانون الجديد يعتبر ساريا بأثر رجعي إذا مس حقا مكتسبا، تقرر وفقا لقانون قديم، كان ساريا قبل نفاذ القانون الجديد. ولكن لا يعتبر القانون الجديد ذا أثر رجعي إذا أخل بمجرد الآمال الذي تولد قبل نفاذه، وبتعبير آخر يكون القانون ذا أثر رجعي إذا ما عدل في الحقوق المكتسبة، ولذا يطبق القانون القديم، ولا يكون كذلك، ويطبق التشريع الجديد، إذا اقتصر على تحطيم الآمال.
ولكن الملاحظ على هذه النظرية أنها تحتاج إلى تحديد تدقيق للحق المكتسب ومجرد الأمل، فأنصار هذه النظرية غير متفقين على إعطاء تعريف محدد لهذين المفهومين.
هكذا يعرف ميرلان Merlin الحق المكتسب بأنه "الحق الذي دخل في حوزتنا والذي لا يستطيع أحد أن ينزعه منا من آل إليه منا"، وهناك من عرفه بأنه "الحق الذي دخل ذمة الشخص نهائيا بحيث لا يمكن نقصه أو نزعه منه إلا برضاه"، وهو لدى البعض الآخر هو الحق الذي يمكن المطالبة به والدفاع عنه أمام القضاء.
أما مجرد الأمل فهو محض ترقب ورجاء في اكتساب حق من الحقوق مستقبلا وقد يتحقق ذلك أو لا يتحقق.
ولأجل التمييز بين الحق المكتسب ومجرد الأمل، نسوق بعض الأمثلة التي استند إليها أنصار النظرية التقليدية :
من ذلك حق الموصى له، حيث لا يعتبر حقا مكتسبا إلى بعد موت الموصي، أما قبل ذلك فيعتبر مجرد أمل.
بناء عليه إذا وصى الوصي بثلث تركته في ظل قانون يجيز الوصية بالثلث ثم صدر قانون جديد بعد ذلك يحرم الوصية بأكثر من الربع فعلينا هنا أن نفرق بين حالتين :
حالة إذا كان الوصي قد توفي قبل صدور القانون الجديد فإن الموصى له بمجرد تحقق وفاة الوصي يصبح صاحب حق مكتسب في الوصية، ويجوز له الثلث وعلى هذا لا يجوز أن يطبق القانون الجديد على هذه الوصية.
الحالة الثانية إذا لم يمت الوصي عند صدور القانون الجديد فإن هذا القانون هو الذي يطبق على الوصية المذكورة فلا يجوز إلا بربع التركة فقط، لأن تطبيق القانون الجديد في هذه الحالة لا يؤدي إلى المساس بحق مكتسب لأن الموصى له ليس له حق مكتسب في الوصية قبل موت الوصي، وإنما له مجرد الأمل لأن الوصي يستطيع أن يرجع عن وصيته في أي وقت شاء ولا مانع من تطبيق القانون الجديد.
- ب - الإستثناءات الواردة على مبدأ عدم رجعية القوانين :
بالرغم من قوة وأهمية مبدأ عدم رجعية القوانين، فإنه ترد عليه الإستثناءات التالية :
* النص صراحة في القانون على رجعيته : حسب هذه النظرية فإن مبدأ عدم الرجعية يقيد المحاكم ولا يقيد المشرع وعليه فإن هذا الأخير أن يصدر تشريعا جديدا ينسحب إلى الماضي إذا أراد، ولكن في هذه الحالة ينبغي النص صراحة على رجعية هذا التشريع.
* القانون الجنائي الأصلح للمتهم : يستثني من مبدأ عدم رجعية القوانين، القوانين الجنائية الجديدة الأرحم للمتهم، فإذا صدر قانون جديد يمحو الجريمة أو يخفق عقوبتها وجب تطبيق القانون الجديد واستبعاد القانون الذي وقعت في ظله الجريمة.
وقد نص الفصل 6 من القانون الجنائي المغربي في هذا المجال على "أنه في حالة وجود عدة قوانين سارية المفعول بين تاريخ ارتكاب الجريمة والحكم النهائي بشأنها يتعين تطبيق القانون الأصلح للمتهم". والسبب في هذا الإستثناء هو أن المشرع بإصداره عقوبة أقل قساوة أو عند إزالته لوصف الجريمة على سلوك معين، يكون قد غير موقفه من الجريمة وأصبح أكثر رحمة بالمتهم، لذا وجب تمكين المتهم الذي هو قيد المحاكمة أو المتابعة من الاستفادة من هذا الموقف الجديد والمتسامح للمشرع.
* القوانين المتعلقة بالنظام العام أو الآداب : إذا كان تطبيق القانون الجديد مشروط بعدم المساس بالحقوق المكتسبة في ظل القانون القديم، فيستثني من ذلك سريان القانون الجديد على الماضي ومساسه بالحقوق المكتسبة، إذا كان القانون الجديد يتعلق بالنظام العام وحسن الآداب، لأن قواعد النظام العام وحسن الآداب قواعد آمرة لا يجوز مخالفة مقتضياتها أو الوقوف أمام تطبيقها بدعوى عدم المساس بحق مكتسب.
ولذلك فإن القوانين المتعلقة بالنظام العام وحسن الآداب - حسب النظرية التقليدية - تعتبر قوانين تسري برجعية خروجا على مبدأ عدم الرجعية.
وتطبيقا على ذلك فالقوانين المتعلقة بسن الرشد القانوني أو بتعديل شروط الطلاق والمتعلقة بالأسرة هي قوانين ذات أثر رجعي.
* القوانين التفسيرية : ذلك أن القانون الجديد الذي يكون موضوعه تفسير قانون سابق غامض،يطبق بطريقة رجعية أي ابتداء من صدور القانون القديم المفسر.
والحقيقة أن القانون التفسيري ليس قانونا جديدا ولكنه مجرد توضيح وتأويل لقانون سالف، لهذا لا نكون في هذه الحالة أمام رجعية القانون بالمعنى الصحيح للكلمة.

- ج - الانتقادات التي وجهت للنظرية التقليدية :
لذا رعضنا للنظرية التقليدية التي تقوم على أساس احترام الحقوق المكتسبة وجدنا أنها تتصف بالبساطة وعدالة الأساس الذي تستند عليه، ولكن مع ذلك تعرضت هذه النظرية لعدد من الانتقادات نجملها فيما يلي :
* إنها نظرية مبهمة كل الإبهام، فإنصارها عجزوا عن التفرقة بدقة بين الحق المكتسب ومجرد الأمل، فمثلا إذا تزوج رجل في ظل قانون يجعل الطلاق بيده ثم صدر قانون جديد يجعل الطلاق بيد القاضي، فهل يصح أن يتمسك الزوج بأن له حقا مكتسبا وفقا للقانون القديم، أم اعتبار ذلك مجرد أمل في الطلاق وفقا للقانون الجديد ؟ وواضح أن الأمر يحتمل القانونين معا ومن الصعب الجزم بصحة أحدهما عن الآخر.
* أيلولة فكرة الحق المكتسب إلى نتائج غير مقبولة : حيث يفهم من النظرية التقليدية عدم أحقية القانون الجديد بالمس بالحقوق المكتسبة نهائيا. وهو ما قد لا يقبله المنطق والمصلحة العامة بتعديلها أو إلغاءها، وهو ما قد يربك العديد من المراكز القانونية، فمثلا رفع سن الرشد القانوني من 18 سنة إلى 21 سنة، كيف سيكون عليه الوضع القانوني للشاب الذي بلغ 20 سنة وكان يتعامل مع غيره على أنه راشد بينما القانون الجديد يمسه به ويجعله قاصرا.
* إن النظرية التقليدية قائمة أساسا على مفهوم خاطئ، فهي مرتبطة بالنزعة الفردية التي تقدس الفرد على حساب الجماعة وتدعوا إلى سيادة الحق وتسبيقه على القانون. فحماية الحقوق المكتسبة حسب هذه النزعة ما هو إلا مظهر من مظاهر حماية الحقوق الفردية المقدسة .
* وهذه النظرية تخلط بين الأثر المباشر للقانون الجديد والأثر الرجعي، والملاحظ في هذا الصدد أن سريان بعض القوانين الجديدة يعتبر في منطق النظرية سريانا رجعيا لها، في الوقت الذي لا توجد أية رجعية في الأمر إذ أن سريانها ما هو إلا تطبيق مباشر لها ابتداء من يوم نفادها.
- 2 - النظرية الحديثة :
ظهرت هذه النظرية على أساس الانتقادات التي وجهت للنظرية السابقة، ومن أبرز روادها في الفقه الفرنسي، الفقهاء بلانيول وكابيتان وروبيه.
وتفيد هذه النظرية أن المقتضى الطبيعي للقانون الجديد هو أن ينطبق من وقت بدء العمل به، على الوقائع التي تنشأ لأول مرة، بعد بدأ العمل به، وعلى الآثار الحالية والمستقبلية لوقائع قديمة نشأت في ظل قانون سابق، ولكن لا ينطبق على الآثرا الماضية لتلك الوقائع، وإلا كان تطبيقه بأثر رجعي وهذا غير جائز.
نستنتج مما سبق أن سريان القانون في الزمان له وجهان : وجه سلبي هو انعدام الأثر الرجعي، ووجه إيجابي هو الأثر المباشر، وللإحاطة بجوانب هذه النظرية يستلزم بيان مفهوم انعدام الأثر الرجعي للقانون الجديد ثم نبين الأثر المباشر للقانون الجديد.
- أ - مبدأ عدم رجعية القانون :
سبق شرح المبدأ أعلاه سابقا، وفي منظور النظرية الحديثة فإن القانون الجديد لا يحق له إعادة النظر فيما تم في ظل القانون القديم من تكون أو انقضاء "مركز قانوني" Situation juridique أو من توافر عناصر هذا التكوين أو الانقضاء، أو من ترتب آثار معينة على مركز قانوني، وتكون العبرة هي في معرفة تاريخ تكون أو انقضاء المركز القانوني أو توافر ما اجتمع من عناصر هذا التكوين أو الانقضاء أو تاريخ ترتب الآثار عليه وهكذا :
- المركز القانوني قديم تحت سلطان القانون القديم، مثل وصية حررت في شكل عرفي ثم صدر قانون جديد يتطلب التحرير بشكل رسمي، هذا لا يؤثر على الوصية العرفية.
- المركز القانوني بعض عناصره تمت في قانون قديم وأخرى في ظل قانون جديد، فالقانون الجديد لا يسري على العناصر القديمة بل ما تم في عهده فقط. مثل الوصية لها عنصران إثنان عنصر إبرام الوصية وعنصر وفاة الموصي، فإذا أبرمت وصية وفقا لقانون قديم توصي بنصف التركة وقبل وفاة الموصي صدر قانون جديد يحدد الوصية في الثلث فقط فإن القانون الجديد هو الذي يطبق كما توفي الموصي.
- وبالنسبة للآثار المترتبة على المراكز القانونية فإن ما يترتب منها قبل صدور القانون الجديد لا يخضع لأحكامه بل تبقى خاضعة للقانون القديم. مثلا كون الملكية تنتقل بمجرد العقد ثم صدر قانون يعلق انتقالها بعد تسجيل العقد، فكل من أبرم عقدا انتقلت إليه الملكية وفقا للقانون القديم .
والآثار التي تستغرق وقتا طويلا فما تم منها في ظل القانون القديم لا يتأثر بالقانون الجديد، لأنه لا يملك الرجوع فيما تم، وما لم يتم من آثر في ظل القانون القديم يبقى خاضعا لأثر المباشر للقانون الجديد. مثال الطلاق وما يترتب عنه من آثار تستغرق وقتا طويلا كالنفقة وحضانة الأطفال.
ومن بين الاستثناءات التي أوردتها النظرية الحديثة على مبدأ عدم الرجعية هي :
- النص الصريح على الرجعية، سبقت الإشارة إليه من قبل
- النصوص التفسيرية إسوة بالنظرية التقليدية أيضا
ولا تسلم النظرية الحديثة بالاستثنائين الآخرين الذين توردهما النظرية التقليدية على مبدأ الرجعية المتعلقين بعدم الإقرار برجعية القوانين المتعلقة بالنظام العام والآداب، وكذا بسريان القوانين الجنائية الأصلح للمتهم حيث سريانها ليس إلا تطبيقا للأثر المباشر لا الرجعي لهذه القوانين.
- ب - مبدأ الأثر المباشر للقانون :
بالإضافة إلى المفهوم الذي اعتمدته النظرية الحديثة لمبدأ عدم رجعية القوانين، فإنها اعتمدت وبشكل أساسي على مبدأ آخر هو مبدأ الأثر المباشر للقانون، ومضمون هذا المبدأ هو أن القانون الجديد يطبق على الوقائع المستقبلية وكذلك على الآثار المستقبلية للوقائع السابقة على صدوره، حيث أن الأصل في التشريع أن يسري مباشرة.
فإذا صدر قانون يعدل سن الرشد القانوني برفعه من 18 سنة إلى 21 سنة فإن هذا القانون يسري على كل من تنطبق عليه شروطه حتى ولو كان الشخص قد بلغ سن الرشد القانوني وفقا للقانون القديم.

المطلب الرابع : منظور الشريعة الإسلامية في تطبيق الأحكام الشرعية
الفرع الأول : تطبيقها من حيث الزمان
معلوم أن الشريعة الإسلامية رسخت من خلال مبادئها قواعدها الإنسانية مبدأ "أن الأصل في الأشياء الإباحة" وأن "لاحكم لأفعال العقلاء قبل ورود النص" امتثالا لقوله تعالى في سورة الإسراء : "وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا" وكذا "وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون" (القصص 59)، وهو ما يفيد سبق الشريعة للقوانين الوضعية في حسم مشكلة سريان الأحكام الشرعية في الزمان باحترام منطقية مبدأ رجعية الأحكام الشرعية والعمل بمبدأ الأثر الفوري لهذه الأحكام.
وإذ تعمل الشريعة الإسلامية بالمبدأ أعلاه فإنها تبقى دائما مراعية لظروف الجماعة وحامية لنظامها الإجتماعي وفقا لما تقتضيه قواعد العدالة ومقاصدها الغائية، مما جعلها تتراجع عن تلك القاعدة في استثنائين إثنين أحدها جوازي والثاني وجوبي، وفقا لسلطة الحاكم التقديرية ومراعاة الظروف.
أولا : الاستثناء الجوازي من القاعدة :
أ – حالة تهديد الأمن والكيان الإسلامي العام : حيث حفاظا على استقرار كيان الدولة الإسلامية وعقيدته يمكن الرجوع بالأحكام على الماضي،وهو ما حدث حينما طبق الرسول صلى الله عليه وسلم آية الحرابة على أولئك الذين اقترفوا حوادث وأعمال هددت أمن الأمة الإسلامية.
ب – حماية الأسرة الإسلامية ونظامها من التفكك والإنهيار بما من شأنه دعم تماسك أطرافها باعتبارها الخلية الأولى والأساس في تشكيل المجتمع الإسلامي العام.
ثانيا : الاستثناء الوجوبي من القاعدة العامة :
أ – مراعاة الظروف الإنسانية وخاصة بأن تطبيق الأحكام الجنائية الأصلح للمتهم شريطة ألا يكون الحكم الصادر على الجاني طبق النص القديم قد أصبح حكما نهائيا.
ب – الأحكام الشرعية ذات الصلة المباشرة بالنظام الاقتصادي وما يترتب عليه من علاقات إنسانية تقوم ابتداء على أساس عدالة الإسلام ، ومئال ذلك ما قررته الشريعة الإسلامية من أحكام بشأن تحريم الربا في العقود والمعاملات بناء على قوله تعالة : "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين، فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله، وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون" (البقرة 278 و 279).
الفرع الثاني : تطبيق الأحكام الشرعيةمن حيث المكان
معلوم أن الشريعة الإسلامية هي عالميةلا إقليمية أو محلية، إلا أن الواقع يفيد انحصار تطبيق الأحكام الشرعية في مجال مكاني محدد في أرجاء المعمور ولو أنها جاءت إلى الناس كافة، وبالتالي تطبيق أحكامها في الأقاليم التي ترفع فيها راية الإسلام، وهكذا يقسم الفقهاء المسلمون المعمور إلى دار سلام ودار حرب، وإذ يطبق الحكم الشرعي في الدار الأول فإنه يتعذر في الثانية إلى حين انتشار الإسلام فيها.

Essa Amawi
09-09-2009, 05:46 PM
UP

drame4
09-25-2010, 05:31 PM
مشكور الله يجزيك خير

المحامي حسن العتوم
05-25-2014, 04:29 AM
ثانيا : الرقابة القضائية
تؤدي هذه الطريقة من الرقابة الدستورية إلى منح حق فحض توافق القوانين مع الدستور إلى هيئة قضائية، والمراقبة القضائية على نوعين، المراقبة عن طريق الدعوى، والمراقبة بطريقة الدفع.
أ - الرقابة عن طريق الدعوى
وتعنى أن الدستور سمح للمتضرر بأن يتقدم إلى المحاكم المختصة بدعوى إلغاء القانون الغير مطابق للدستور يطالب فيها بإصدار حكم ينص على عدم دستورية القانون موضوع النزاع.
وإذا صدر الحكم بعدم دستورية القانون موضوع الدعوى فإنه لا يهم المدعي وحده، بل يستفيد منه جميع المواطنين ويعتبر لاغيا، غير أن الرقابة عن طريق الدعوى قد تكون قبلية وقد تكون بعدية، قبل صدور القانون أو بعد صدروه .
وتأخذ فيدرالية سويسرا بهذا النوع من المراقبة بحيث يمكن لأي مواطن أن يرفع دعوى قضائية أمام المحكمة الفيدرالية للمطالبة بإبطال أي قانون غير مطابق لأحكام الدستور ويسبب له الضرر.
وفي ألمانيا الفيدرالية نظمت المراقبة بطريقة الدعوى بموجب الدستور الفيدرالي لسنة 1949، وقد أسندت تلك المهمة إلى محكمة دستورية مؤلفة من أعضاء منتخبين بمقدار النصف من قبل مجلس النواب والنصف الآخر من مجلس الشيوخ . وتنظر المحكمة في مطابقة القوانين الفيدرالية وقوانين الدويلات مع مقتضيات الدستور الاتحادي، وكذا في مطابقة قوانين الدويلات مع القوانين الاتحادية . وقد وجهت إلى هذا النمط من الرقابة مجموعة من الانتقادات منها أن فحص المحاكم لدستورية القوانين يشكل تعد على مبدأ سيادة الأمة، وتعارض نظر المحاكم في دستورية القوانين مع مقولة الفصل بين السلطات وخروج القاضي عن اختصاصه.
ب - الرقابة عن طريق الدفع
تعرف الرقابة بطريقة الدفع كذلك برقابة الامتناع، وهي رقابة تنصب على عدم دستورية نص قانوني يراد تطبيقه على نازلة معروضة على أنظار المحكمة، سواء كانت محكمة مدنية أو محكمة جزائية، والدفع بعدم الدستورية يمكن أن يصدر عن أحد المتقاضين كوسيلة دفاع عن نفسه يطلب فيه باستبعاد القانون المراد تطبيقه عليه لعدم دستوريته، ومخالفته لأحكام الدستور. وإذا ثبت للمحكمة أن القانون المراد تطبيقه غير دستوري تقضي بإهمال ذلك القانون واستبعاده من النازلة المعروضة عليها.
لذلك فإن رقابة الامتناع تختلف عن رقابة الإلغاء في كون المحكمة عند إثباتها عدم دستورية القانون لا تعترف لنفسها بالحق في إبطاله، بل تكتفي بعدم تطبيقه وإبعاده عن القضية المطروحة أمامها.
فالقانون يظل العمل به جاريا،وينبغي في نوازل مماثلة إثارة نفس الامتناع من طرف متقاضين آخرين .
وتعتبر الولايات المتحدة الأمريكية رائدة في هذا النوع من الرقابة الدستورية، بحيث يمكن لأي مواطن أن يدفع بعدم دستورية القانون المراد تطبيقه مع دستور الولاية أو الدستور الفيدرالي أمام جميع المحاكم.
المطلب الخامس : التقنين
التقنين نوع من التشريع لا يختلف عن سائر التشريعات إلا في سعة موضوعه ، وهو ظاهرة قانونية قديمة كان الهدف منها هو تجميع النصوص القانونية المبعثرةوالمشتتة في مجموعة قانونية واحدة اومدونة.
الفرع الأول : تعريف التقنين
التشريع هو إخراج القاعدة القانونية في صورة مكتوبة بواسطة السلطة المختصة، أما التقنين فهو عملية تجميع لكل القواعد القانونية الصادرة والمتعلقة بفرع من فروع القانون في كتاب واحد، ويتم التجميع في مجموعة واحدة بصورة مرتبة ومبوبة على نحو يتضمن التنسيق والملائمة بين القواعد الداخلة في التقنين كالقانون المدني والقانون التجاري...
الفرع الثاني : مزايا وعيوب التقنين
أولا : مزايا التقنين
1 – إن تجميع النصوص القانونية المنظمة لفرع من فروع القانون في كتاب واحد أو مدونة واحدة يسهل العمل على الباحث والقاضي والمهتم في الوصول إلى القواعد القانونية التي يريد الإطلاع عليها ومعرفتها.
2 – إنه يحقق التناسق والتناغم بين القواعد القانونية بإزالة الأحكام المتعارضة.
3 – التقنين وسيلة فعالة في توحيد النظام القانوني في الدولة
ثانيا : عيوب التقنين
لقد انتقد الفقيه سافيي التقنين بحجة أنه يؤدي إلى جمود القانون ويمنعه من التطور وفقا للمقتضيات الاجتماعية المتغيرة، لأنه يصب القواعد القانونية في صيغ ثابثة يصعب تغييرها.
الفرع الثالث : حركة التقنين في المغرب
إن حركة التقنين ليست وليدة العصر الحديث بل نجد جذور التقنين عند الرومان كالألواح الإثني عشر ثم مجموعة جو ستنيان في القرن السادس الميلادي.
وفي العصر الحديث نجد التقنين المدني الفرنسي المعروف بتقنين نابوليون سنة 1804.
أما في بلادنا فقد بدأت حركة التقنين مع الحماية الفرنسية حيث أن مدونة الإلتزامات والعقود وضعت سنة 1913 ووضعت في نفس السنة مدونة القانون التجاري والمسطرة المدنية...
واستمرت عملية التقنين بعد حصول المغرب على الاستقلال إلى وقتنا الحالي، بحيث أصبح المغرب اليوم يتوفر على مجموعة من التقنينات تأخذ شكل مدونة، كمدونة الشغل التي صدرت بتاريخ 11 شتنبر 2003، ومدونة التجارة التي صدرت سنة 1996 ومدونة الانتخابات التي صدرت سنة 1997 ومدونة الأسرة التي صدرت بتاريخ 3 فبراير 2004.
المبحث الثاني : العرف
يشكل العرف إلى جانب التشريع مصدرا من مصادر القانون، بحيث أن القاضي إذا لم يجد في التشريع المقتضيات والأحكام التي تنظم النازلة المعروضة عليه فعلية أن يبحث عنها في القاعدة العرفية.
فما المقصود بالعرف ؟ وما هي أركانه ؟ وما هي أنواعه ؟ وما هو الفراق القائم بين العرف والعادة الاتفاقية ومزايا وعيوب العرف ؟
المطلب الأول : تعريف العرف
يعتبر العرف المصدر الرسمي الأول من الناحية التاريخية، ذلك أن المجتمعات البدائية أمام الضرورات الاجتماعية والظروف المحيطة بها وجدت نفسها أمام قواعد تسير عليها وشاع الاعتقاد بضرورة العمل بها.
والأصل أن العرف كان هو المصدر الأول والوحيد للقاعدة القانونية، على اعتبار أن الجماعة في شكلها الأول لم تكن تتوفر على أجهزة توكل لها مهمة التشريع، بل أن تسيير أمور الجماعة في مختلف مظاهرها ونواحيها كان يتم طبقا للأعراف والتقاليد التي دأب الأفراد على اتباعها واحترامها لاعتقادهم بإلزاميتها.
ومع تقدم الجماعة وتمدنها تراجعت مكانة العرف كمصدر أول للقاعدة القانونية وترك مكانه للتشريع.
فالعرف هو اعتياد الناس على اتباع سلوك معين واستقرار الاعتقاد في نفوسهم بأن هذا السلوك قد صار ملزما. ولكي يوجد العرف لابد أن تتوفر فيه الشروط والعناصر التي ترتقي به إلى صفة القاعدة القانونية.
المطلب الثاني : أركان العرف
العرف، كما سبقت الإشارة، هو تواتر الناس على ابتاع سلوك أو نهج معين والإعتقاد بإلزامية هذا السلوك.
وانطلاقا من هذا التعريف، فإن العرف لا يقوم إلا إذا توفرت فيه ركنين أساسيين، الركن المادي الذي هو تواتر السلوك، والركن المعنوي الذي هو الاعتقاد بإلزامية السلوك.
الفرع الأول : الركن المادي : العادة
فالعادة أو الاعتياد، يعني أن العرف يبدأ من خلال العمل بقاعدة معينة، ينظم الأفراد تعاملهم وفقها بشكل عام، وثابت من قبل الجميع، فإذا توافرت هذه القاعدة واضطرد بها العمل في نطاق الجماعة شكلت عندئذ الأساس المادي أو الموضوعي لتكوين العرف نتيجة هذا الاعتياد المتكرر المستمر والثابت من قبل أفراد الجماعة.
ولكي يقوم الركن المادي لابد من توافر أربعة شروط أساسية هي : الاستقرار، العموم، القدم، وعدم مخالفة النظام العام والآداب العامة.
- الاستقرار : بمعنى أن تستقر سنة معينة في الجماعة لمدة طويلة، تسمح بالحكم عليها بأنها أصبحت عرفا متداولا بين الناس لا يختلفون بشأنه.
- القدم : لكي ينشأ العرف لابد من اضطراد العمل بأحكامه مدة من الزمن حتى يستقر في ضمير الجماعة، ومسألة تقدير المدة اللازمة للاستقرار وثبات العرف هي مسألة نسبية لأنها تختلف من قاعدة إلى أخرى ومن ظروف إلى أخرى، على أنه حتى تحديد تاريخ بداية القاعدة العرفية مسألة صعبة.
- العموم : إن القاعدة العرفية شأنها شأن التشريع يجب أن تتميز بالعمومية، بمعنى أن تخاطب القاعدة العرفية كافة الناس، إلا أن هذا لا يعني أن القاعدة العرفية تلزم عموم الأفراد أو يمتد نطاقها إلى كافة إقليم الدولة، بل أن العرف قد يكون خاصا بإقليم معين فيسمى حينئذ بالعرف المحلي، أو يخص طائفة معينة من الناس فيسمى حينئذ بالعرف الطائفي، كالأعراف التجارية أو أعراف الأطباء والصيادلة.
- مطابقة النظام العام وحسن الآداب : إن العرف لا يدخل إلى دائرة القانون ويكتسب وصف القاعدة القانونية إلا إذا كان منسجما ومتطابقا مع النظام العام والآداب العامة. أما الأعراف المخالفة للنظام العام والأخلاق فمهما تعمقت في المجتمع فلا تكتسب صفة القانون.
إلا أنه لا يكفي لنشوء العرف قيام الركن المادي بل لابد من توفر الركن المعنوي الذي يرفع القاعدة العرفية إلى مصاف القواعد الملزمة.
الفرع الثاني : الركن المعنوي : الاعتقاد بإلزامية القاعدة العرفية
يشكل الركن المعنوي العنصر الثاني الأساسي لقيام العرف بحيث لا يكفي لقيام القاعدة القانونية توفر الركن المادي فقط، إذ توجد العديد من قواعد الأخلاق والمجالات والتقاليد تتمتع بالثبات والعمومية والقدم ومع ذلك لا تعتبر قواعد قانونية، وبالتالي فإن الركن المعنوي هو الذي يضفي عليها هذه الصفة، أي اعتقاد الناس بإلزامية العرف وشعورهم بإجبارية الخضوع لأحكامه والامتثال لقواعده.
المطلب الثالث : أساس القوة الملزمة للعرف
إذا توفر في العرف الركن المادي والركن المعنوي يصبح قاعدة قانونية ملزمة، ولكن ما هو الأساس الذي يجعل العرف مصدرا رسميا للقانون.
لقد قيلت في هذا الشأن مجموعة من الآراء : الرضا الضمني للمشرع، الإرادة الصريحة للسلطة التشريعية، تطبيق القضاء لقواعده، قوة إلزام العرف الذاتية.
أولا : الرضا الضمني للمشرع
ومفاد ذلك أن سكوت المشرع حيال تطبيق العرف دون أن يعترض على اتباعه، وهو قادر على ذلك، لا يمكن أن يفسر إلا على أساس أن إرادته قد ارتدت تطبيقه وانصرفت ضمنا إلى إقراره.
إن هذه النظرية تعرضت للنقد، لأنها تخالف الواقع البديهي المتمثل في كون العرف أسبق في الوجود تاريخيا من التشريع مما يؤكد استقلاله عن هذا الأخير، فلا يتصور وجوده بإقرار المشرع له أو رضاه عنه لأنه سابق عليه ولا يمكن للسابق أن يستمد قوته من اللاحق، ثم كيف يمكن تبرير قوة العرف الملزمة في الجماعات البدائية التي لم تكن قد عرفت المشرع بعد .
ثانيا : الإرادة الصريحة للسلطة التشريعية
يؤسس الرأي الثاني فكرة الإلزام في العرف على فكرة الإرادة الصريحة للسلطة التشريعية، بحيث يستمد العرف أساسه من إحالة المشرع عليه.
هذه النظرية بدورها قد تعرضت للنقد، ذلك أن الدستور قد يكون ذاته عرفيا، وفي هذه الحالة لا يمكن القول أن العرف يستمد قوته الملزمة من الدستور بينما الدستور هو ذاته عرفيا .
ثالثا : تأسيس إلزام العرف على تطبيق القضاء له
يذهب أصحاب هذا الرأي إلى أن أساس قوة العرف الملزمة هو قيام المحاكم بتطبيقه، فيرى هذا الاتجاه أن الاعتقاد في إلزام العرف لا ينشأ من تلقاء نفسه، وإنما ينشئه القضاء إنشاء بتطبيقه له فيما يرفع إليه من منازعات، وبعبارة أخرى يرى أصحاب هذا الاتجاه أن اعتياد الناس على سلوك معين وشعورهم بإلزامه، ليس سوى المواد الأولية للقاعدة القانونية، وأن القاضي هو الذي يعطي المادة الأولية شكلها النهائي ويضفي عليها قوة إلزامية.
ولكن هذا الاتجاه مردود عليه، لأن القاضي إنما يطبق القاعدة العرفية لأنها ملزمة ولأنها استكملت كل عناصر القاعدة القانونية واجبة التطبيق، وبالتالي ليس صحيحا أن يقال أنها ملزمة لأنه طبقها.
رابعا : قوة إلزام العرف الذاتية
الواقع أن العرف لا يستمد قوته الإلزامية لا من المشرع الذي يرضى به ضمنيا أو صريحا ولا من تطبيق القضاء لقواعده، وإنما للعرف كما يرى أغلب الفقه الحديث كروبيه وجيني قوة إلزام نابعة من ذاتيته مستمدة من ضرورة فرضه والأخذ به عندما لا يوجد تشريع، كما في الجماعات البدائية أو عندما يكون التشريع ناقصا كما في الجماعات الحديثة. فالعرف يعتبر الوسيلة الطبيعية لكل مجتمع في حكم السلوك فيه وفي سد ثغرات التشريع وتنظيم ما يعجز التشريع أو يتأخر عن تنظيمه.
وعليه فإن العرف يستمد قوته الإلزامية من العناصر المكونة له أي من ركنيه المادي المتمثل في الثباث والاستقرار والعموم والقدم وعدم مخالفة النظام العام وحسن الآداب، والمعنوي الذي هو عبارة عن احترام الناس وامتثالهم للقواعد أو للقاعدة العرفية عن اقتناع وإيمان.
المطلب الرابع : وظائف العرف
على الرغم من أن التشريع يحتل مساحة شاسعة في تنظيم أنشطة الأفراد وتنظيم علاقاتهم ومعاملاتهم، إلا أنه لا يستطيع أن يغطيها كاملة، لذلك فإن القاضي حينما لا يجد نصا قانونيا يحكم النازلة المعروضة عليه، فإنه يلجأ إلى القواعد العرفية، في هذه الحالة فإن العرف يعد مصدرا احتياطيا بجانب التشريع، كما يلعب العرف من جهة ثانية دور المعاون للتشريع في تنظيم موضوعات معينة وتحديد مضمونها.
الفرع الأول : العرف المكمل للتشريع
المقصود بالعرف المكمل، أن العرف يعتبر مصدرا ثانيا من مصادر القاعدة القانونية، وأن على القاضي الالتجاء إليه كلما أعوزه الحل للنزاع المعروض عليه، وافتقده في النصوص التشريعية، ما لم يحدد له المشرع مرتبة أخرى، كما فعل في ديباجة مدونة الشغل الجديدة لسنة 2004 والذي أحل فيها العرف مرتبة تالية للتشريع والاتفاقيات الدولية والاتفاقيات الجماعية وعقود الشغل والقرارات التحكيمية والاجتهادات القضائية، وذلك في حل نزاعات الشغل الفردية أو الجماعية، فالعرف في هذه الحالة يكمل التشريع ويسد ما فيه من نقص في مختلف فروع القانون العام منها والخاص .
الفرع الثاني : العرف المساعد للتشريع
"العرف المساعد هو العرف الذي يحيل عليه التشريع إما للاستعانة به على تفسير إرادة المتعاقدين وإما لتكميل اتفاقهما في المسائل التفصيلية التي لم ير المتعاقدان إدراجها في الاتفاق، وإما لتكميل مضمون قاعدة شرعية مرنة تركت في جزء منها على بياض ليملأه القاضي فيما بعد بناء على سلطته التقديرية.
ومن الأمثلة على ذلك ما جاء في الفصل 500 من قانون الإلتزامات والعقود من أنه "تسلم الأشياء المنقولة بمناولتها من يد إلى يد أو بتسليم مفاتيح العمارة أو الصندوق الموضوعة فيه، أو بأي وجه أخرى جرى به العرف.
أو ما ورد في الفصل 549 من نفس القانون بنصه "يضمن البائع عيوب الشيء المعيب الذي تنقص من قيمته نقصا محسوسا، أو التي تجعله غير صالح لاستعماله فيما أعد له بحسب طبيعته أو بمقتضى العقد، أما العيوب التي تنقص نقصا يسيرا من القيمة أو من الانتفاع، والعيوب التي جرى العرف على التسامح فيها فلا تخول الضمان".
المطلب الخامس : التمييز بين العرف والعادة الاتفاقية
العادة الاتفاقية هي قاعدة عرفية ناقصة، حيث يتوافر فيها الركن المادي دون الركن المعنوي، ونظرا لتخلف الركن المعنوي، فإن هذه العادات لا ترقى إلى رتبة القواعد القانونية الملزمة في ذاتها، ولكنها قد ترقى إلى هذه المرتبة إذا اتفق الأفراد على اتباع حكمها سواء صراحة أو ضمنا.
بذلك تظهر أهمية العادة الاتفاقية في نطاق الروابط العقدية، فكثيرا ما يعتاد الأشخاص على شروط معينة لا يرد النص عليها صراحة في العقد، وإنما يجري بها العمل استنادا إلى إرادة المتعاقدين الضمنية التي انصرفت إلى الالتزام بها.
ومن الأمثلة على ذلك ما يجري به العمل في الفنادق والمطاعم والمقاهي من إضافة نسبة مئوية إلى الحساب كمكافئة لمن يقومون بالخدمة، أو ماهو متبع في بعض الجهات من أن يكون للشريك الذي يقدم الرأسمال ثلثي الأرباح والثلث الباقي للشريك الذي يقوم بالعمل.
الفرع الأول : معايير التمييز بين العرف والعادة الاتفاقية
أ – من ناحية التكوين، أن العرف يتوفر له الركنان المادي والمعنوي، في حين أن العادة يتوفر لها الركن المادي فقط.
ب – من حيث الأثر، إذا توافرت للعرف أركانه وشروطه نتجت عنه قاعدة قانونية ملزمة، أما العادة فلا تعتبر قانونا ولا تلزم الناس بها إلا إذا اتفق الأفراد على اتباعها صراحة أو ضمنا.
الفرع الثاني : نتائج التفرقة بين العرف والعادة الاتفاقية
يترتب على التفرقة بين العرف والعادة الاتفاقية مجموعة من النتائج القانونية نجملها فيما يلي:
1 – يفترض العلم بالقاعدة العرفيةكما يفترض العلم بأي قاعدة قانونية، إذ لا يقبل من أحد الاعتذار بجهله للقاعدة العرفية، أما العادة الاتفاقية فإن شرط تطبيقها أن تكون إرادة المتعاقدين قد اتجهت إليها صراحة أو ضمنا، ولذلك يمتنع تطبيقها إذا جهلها أحد المتعاقدان أو كلاهما إذا لا يمكن القول عندئد بأن الإرادة اتجهت ضمنا إلى تطبيقها.
2 – يكون على القاضي أن يطبق القواعد العرفية من تلقاء نفسه بحكم كونها قاعدة عرفية، حتى لو لم يطلب الخصوم ذلك، لهذا كان على القاضي أن يتثبت من وجود القاعدة العرفية من تلقاء نفسه، كما يفعل بصدد القواعد القانونية. أما العادة الاتفاقية فلا يطبقها القاضي إلا إذا تمسك بها صاحب المصلحة، وعلى صاحب المصلحة إثبات مضمون العادة الاتفاقية بأن يقيم الدليل على وجودها ويثبت حكمها.
3 – يخضع القاضي في تطبيق وتفسير القاعدة العرفية لرقابة محكمة النقض، لأنه يخضع لرقابة هذه المحكمة في تطبيقه وتفسيره للقانون، والقاعدة عرفية قاعدة قانونية، أما بالنسبة للعادة الاتفاقية فإن القاضي لا يخضع في إثبات وجودها أوفي تفسيرها وتطبيقها إلى رقابة محكمة النقض.
المطلب السادس : مزايا وعيوب العرف
أولا : مزايا العرف
1 – يعتبر الفقيه "سافيني" أن العرف أكمل المصادر القانونية لأنه يتولد تلقائيا في ضمير الجماعة، فهو يتماشى مع رغبات الأمة وحاجاتها ويساير تطورها.
2 – العرف يسد النقص في القانون المدون، ذلك أن التشريع لا يستطيع أن يلم بجميع القواعد التي تنظم الروابط الاجتماعية، وهنا يلعب العرف دوره فيولد القواعد القانونية التي أغفلها المشرع.
3 – إن العرف يتماشى مع ظروف الجماعة.

ثانيا : عيوب العرف
1 – إن العرف أداة بطيئة في إنتاج القواعد القانونية، لأنه يحتاج إلى فترة طويلة حتى يشعر الناس بإلزاميته.
2 – إن العرف لا يساعد على توحيد النظام في الدولة وتثبيت الوحدة القومية، الأمر الذي يؤدي إلى تعدد النظم الواحدة في الدولة مما يساعد على تفكيك وحدتها وتماسكها.
3 – إن العرف غير واضح ومحدد، مما يؤدي إلى عدم استقرار المعاملات.
المبحث الثالث : قواعد الشريعة الإسلامية
تعتبر الشريعية الإسلامية مصدرا رسميا من مصادر القانون في المملكة المغربية، فعلى القاضي أن يطبق أحكامها في كل واقعة لا يجد فيها نصا في التشريع أو عرفا يقضي بتنظيمها.
إلا أن احتلال قواعد الشريعة الإسلامية المرتبة الثالثة كمصدر من مصادر القانون في النظام القانوني المغربي، لا يعني ذلك المساس بمكانة مبادئ وقواعد الشريعة الإسلامية.
فالدستور المغربي ينص في تصديره على أن المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة، لغتها الرسمية هي اللغة العربية.
كما أن العقارات غير المحفظة في المغرب تخضع لقواعد الفقه الإسلامي المستمدة من المذهب المالكي.
كما أن مدونة الأسرة تستمد أحكامها من الشريعة الإسلامية،ونصت المادة 400 من مدونة الأسرة على أنه كل ما لم يرد به نص في المدونة، يرجع فيه إلى المذهب المالكي والاجتهاد الذي يراعى فيه تحقيق قيم الإسلام في العدل والمساواة والمعاشرة بالمعروف. بل حتى القانون الجنائي المغربي يأخذ في بعض مقتضياته بروح الشريعة الإسلامية حيث نص الفصل 222 على أنه كل من عرف باعتناقه الدين الإسلامي، وتجاهر بالإفطار في نهار رمضان في مكان عمومي، دون عذر شرعي، يعاقب بالحبس من شهر إلى ستة أشهر وغرامة من إثني عشر إلى مائتي درهم.

المبحث الرابع : مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة
يمكن النظر إلى مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة والإنصاف باعتبارين إثنين، باعتبارهما أساسا فلسفيا تبنى عليه قواعد القانون الوضعي، وباعتبارهما مصدرا من مصادر هذه القواعد في نفس الوقت.
أ – فالبنسبة لاعتبارهما أساسا فلسفيا، يلاحظ أن المشرع يستلهم من مبادئهما قواعده وأحكامه التي يتبناها في تشريعاته وقوانينه.باعتبار أن مبدأ العدل المطلق يمثل المقياس الذي يوجه المشرع عند وضع أحكام وصياغة نصوص القانون، بل أن الكثير من القواعد القانونية التشريعية مستمدة من مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة والإنصاف.
ب – أما من حيث اعتبارهما مصدرا من مصادر القانون، فذلك لأن أثر المبادئ لا يقتصر فقط على المشرع عندما يضع قواعده القانونية، بل أن هذا الأثر يمتد ليشمل القاضي بشكل مباشر، إذ عليه أن يستلهم من هذه المبادئ حكمه عندما لا تسعفه المصادر الأخرى في ذلك.
والقاضي عندما يستند إلى هذه المبادئ ليستلهم حكمه، يتمتع بسلطة تقديرية مقيدة ابتداءا من هذه المبادئ لا سلطة تقديرية مطلقة يستند بموجبها في إصدار حكه وفقا لهواه.
ومن مبادئ القانون الطبيعي التي يستند عليها القاضي حينما لا يجد نصا قانونيا يحكم به في النازلة المعروضة أمامه مبدأ المساواة ومبدأ حرية التعاقد ومبدأ سلطان الإرادة ومبدأ حرية الزواج، ومبدأ الحرية الخاصة ومبدأ حرية الاعتقاد ومن أمثلة المبادئ التي يستند إليها القضاء في أحكامه، مبدأ الخطأ الشائع يولد الحق ومبدأ الغش يفسد التصرفات...
المبحث الخامس : المصادر التفسيرية
توجد إلى جانب المصادر الرسمية التي يتعين على القاضي الرجوع إليها لكي يبني حكمه على واحدة من قواعدها حسب التسلسل الذي أشرنا إليه فيما سبق، مصادر غير رسمية – أو التفسيرية – يستطيع القاضي الرجوع إليها، وذلك للاستئناس بها في أحكامه دون أن يكون ملزما بذلك قانونا، وأهم هذه المصادر غير الرسمية القضاء والفقه.

المطلب الأول : القضاء
يقصد بلفظ القضاء مجموع المحاكم بمختلف أنواعها ودرجاتها التي توجد في الدولة أي السلطة القضائية.
أما القضاء الذي يعنينا كمصدر من مصادر القانون هو الأحكام التي تصدرها المحاكم، أو بمعنى آخر المبادئ القانونية التي تستشف من استقرار أحكام القضاء على العمل بها في موضوع أو موضوعات معينة.
فهل يعتبر القضاء مصدرا من مصادر القانون ؟
نجد في هذا الإطار إتجاهين :
- الاتجاه الأنجلوسكسوني وعلى رأسه النظام الإنجليزي.
- والاتجاه الثاني هو الاتجاه اللاتيني ويوجد على رأسه النظام الفرنسي.
فبالنسبة للنظام الأنجلوسكسوني يعتبر القضاء مصدرا رسميا من مصادر القانون، ففي إنجلترا يلعب الاجتهاد القضائي دورا أساسيا في إنشاء وخلق القواعد القانونية فكل حكم يصدره القضاء الإنجليزي يشكل سابقة قضائية، يلزم من جهة المحكمة الذي أصدرته في القضايا المماثلة، ويلزم في نفس الوقت المحاكم الادنى درجة.
أما بالنسبة للنظام اللاتيني : فإن القضاء يقتصر دوره على تطبيق القانون لا إنشاء وخلق القاعدة القانونية، لأن السلطة التشريعية هي التي تختص بوضع القانون.
وهو نفس النهج الذي سار عليه النظام القضائي المغربي، حيث أن الاجتهادات القضائية التي تقوم بها المحاكم في غياب نص قانوني أو غموض هذا النص لا تشكل سوابق قضائية تلزم المحكمة التي قامت بذلك الاجتهاد في القضايا المماثلة أو المحاكم الأقل درجة، بل حتى اجتهادات المجلس الأعلى كمحكمة قانون، وبصفته أعلى جهة قضائية في النظام القضائي المغربي لا يلزم المحاكم الأقل درجة.
"فالقضاء في النظام القانوني المغربي لا يعدو أن يكون سوى مصدرا تفسيريا استثنائيا يسترشد به القاضي في تفسير ما هو غامض من نصوص القانون، ولا يلزم المحاكم مهما بلغ من استقرارها أو أغلبيتها على حكم أوتفسير معين" .

المطلب الثاني : الفقه
عرف الأستاذ السنهوري الفقه بأنه استنباط الأحكام من مصادرها بالطرق العلمية مع مناقشة هذه الأحكام ليتبين ما في القانون من نقص أو عيب وذلك خلال تصديهم لشرح القانون سواء ذلك في مؤلفاتهم أو فتاويهم أو تعاليقهم.
والفقه شأنه في ذلك شأن القضاء لا يشكل مصدرا رسميا للقانون، فهو لا يلزم القاضي، ولكن يمكن أن يسترشد به لينير له الطريق في القضية المعروضة عليه.
لأن الفقه يلعب دورا أساسيا في تحليل وتفسير النصوص القانونية الغامضة وبيان معناها وشروط تطبيقها. كما يقوم كذلك بالتعليق على الأحكام القضائية وتحليلها وتبيان اتجاهاته...
الفصل الرابع : نطاق تطبيق القانون وتفسيره
المبحث الأول : نطاق تطبيق القانون
بمجرد ما يكتسب نصا قانونيا وصف قانون باستكماله للمسطرة التشريعية -وفقا لما شرحناه سابقا- تصبح قواعده وأحكامه واجبة التطبيق إزاء جميع الأشخاص المخاطبين بمقتضياته، تطبيقا لمبدأ عدم جواز الاعتذار بالقانون.
كما أن القاعدة القانونية توجد لتطبق في نطاق إقليمي معين بحيث يتم حل الإشكالات القانونية المرتبطة بهذا التطبيق باللجوء إلى مبدأ إقليمية القوانين ومبدأ شخصية القوانين. إضافة إلى ذلك فإن القانون يطبق في زمن معين، مما يؤدي أحيانا إلى تدخل كل من القاعدة القانونية السابقة والقاعدة القانونية اللاحقة التي تنظم نفس الموضوع.
فهذه الإشكالات سوف نتعرض لها في المحاور الآتية :
- نطاق تطبيق القانون من حيث الأشخاص المخاطبين بحكمه.
- نطاق تطبيق القانون من حيث المكان.
- نطاق تطبيق القانون في الزمان.
المطلب الأول : نطاق تطبيق القانون من حيث الأشخاص المخاطبين بحكمه
عندما تصدر القاعدة القانونية فإنها تكون خطابا موجها إلى سائر الناس المخاطبين بها تطبق على الجميع سواء علموا بها أو لم يعلموا بها لأنها قاعدة مجردة وعامة. ولا يجوز الاعتداد بجهل القانون كوسيلة للتهرب من حكم القانون، لأن الجهل بالقانون ليس عذرا حسب القاعدة القائلة "لا يعذر أحد بجهله للقانون" حتى لا تعم الفوضى وينتشر الاضطراب في نطاق المعاملات. فما هو مضمون هذه القاعدة ؟ وما هي الإستثناءات التي ترد عليها ؟
الفرع الأول : مبدأ عدم العذر بجهل القانون
متى نشر القانون في الجريدة الرسمية التزم الجميع باحترامه سواء من علم به فعلا أو لم يعلم به، ويعبر عن ذلك بأن الجهل بالقانون لا يعتبر عذرا، أي أنه لا يقبل ممن لا يعلم بصدور القانون أن يطلب عدم تطبيقه عليه بجحة عدم علمه. وقد يؤدي تطبيق هذا المبدأ إلى الإضرار بمصالح الأفراد وهم الذين لم يعلموا فعلا بصدور القانون ورتبوا أمورهم على أساس عدم وجوده، ولكن الأخذ بهذا المبدأ تقتضيه مصلحة الجماعة.
فمن الواضح أنه لو أبيح للفرد أن يطلب عدم تطبيق القانون عليه إستنادا إلى عدم علمه به، لامتلأت المحاكم بالدعاوى التي يطالب أصحابها عدم تطبيق القانون عليهم، ولشغل القضاة بسماع إدعاءات الجهل بالقانون، ومن شأن ذلك كله أن يؤدي إلى زعزعة المعملات والإخلال بالثقة الواجبة نحو القوانين، مما يترتب عليه إنهيار النظام الإجتماعي كله وحلول الفوضى محله.
الفرع الثاني : الإستثناءات الواردة على المبدأ
يتفق الفقه والقضاء على أن الإستثناء الوحيد الذي يرد على مبدأ لا يعذر أحد بجهله للقانون هو حالة القوة القاهرة التي يتعذر بسببها علم الناس بوجود القاعدة القانونية، كما هو الشأن بالنسبة للكوارث الطبيعية كالزلازل، والفيضانات، والإضطرابات الأمنية، والاحتلال الأجنبي، وكل سبب يؤدي إلى عزل منطقة معينة عن محيطها الخارجي، مما يؤدي إلى تعذر وصول الجريدة الرسمية إلى عموم الناس وبالتالي الجهل بوجودها.
"إلا أنه يجب أن نميز بين الجهل بالقانون والغلط في القانون، فالجهل بالقانون يعني عدم العلم بصدور القانون، أما الغلط في القانون فيعني أن يتوهم الشخص بوجود حكم معين في القانون أو عدم وجود حكم معين فيه ويتصرف على أساس هذا الوهم، بحيث لو علم الحكم الصحيح في القانون لما رضي بإتمام هذا التصرف في مثل هذه الحالة ليس هناك ما يمنع مثل هذا المتعاقد أن يبطل هذا العقد لغلط في القانون . وقد تعرض المشرع المغربي إلى جانب الغلط في القانون إلى الغلط في الواقع في الفصلين 40 و 41 من قانون الإلتزامات والعقود.
فالغلط في الواقع يكون منصبا على واقعة معينة كمن يشتري قلما على أنه من ذهب، ثم يتضح فيما بعد أنه قلم عادي، حيث نص الفصل 41 أعلاه على أنه يخول الغلط الإبطال، إذا وقع في ذات الشيء أو في نوعه أو في صفة فيه، كانت هي السبب الدافع إلى الرضا.
المطلب الثاني : تطبيق القانون من حيث المكان
الأصل أن قانون كل دولة يطبق على رعاياها وفي حدود إقليمها إلا أن الأمر من الناحية العملية ليس بهذه السهولة، فانتشار العلاقات الدولية وازدياد النشاط التجاري وتنقل الأفراد والأموال بين الدول يثير تساؤلات حول إمكان تطبيق القانون على الوطنيين المقيمين في الخارج وعلى الأجانب المقيمين في الداخل .
فهذه التساؤلات يتم حلها والإجابة عنها عن طريق مبدئين : مبدأ إقليمية القوانين ومبدأ شخصية القوانين.
الفرع الأول : مبدأ إقليمية القوانين
حسب هذا المبدأ فإن القانون في أية دولة يجري تطبيقه على جميع الأشخاص المقيمين على إقيلمها وعلى جميع الأفعال والوقائع التي تحدث في هذا الإقليم وعلى جميع الأشياء التي توجد فيه، سواء أكان الأمر متعلقا برعايا الدولة نفسها أو الأجانب الذين يقيمون على إقليمها،كما أن قوانين الدولة لا تسري خارج حدود إقليمها لا من حيث الأشخاص ولا من حيث الأفعال ولا من حيث الأشياء .
الفرع الثاني : مبدأ شخصية القوانين
حسب هذا المبدأ يسري قانون الدولة على أبناءها الذين ينتسبون إليها وتربطهم بها روابط واحدة وعقيدة وحضارة وعادات مشتركة، أما الإقليم فهو مجرد المكان الذي يقيم عليه هؤلاء الأشخاص، والدولة تسن القوانين للمواطنين لا للأقليم وهي تسعى أن تكون ملائمة لرغباتهم وتطلعاتهم، لذلك فمن الأفضل أن تطبق القوانين الصادرة عن الدولة على جميع المواطنين الذين ينتمون إليها، سواء كانوا يقطنون فوق أرضها وضمن حدودها، أم كانوا يقيمون ضمن حدود الأقاليم الأخرى التابعة لسيادة غيرها من الدول، أما غير المواطنين أي الأجانب فتطبق عليهم قوانين دولتهم التي ينتمون إليها لا قوانين الدولة التي يقيمون فوق أرضها. ومبدأ شخصية القوانين يعني سريان القاعدة القانونية في دولة معينة على الأشخاص التابعين لها حتى ولو كانوا خارج حدود إقليمها وعدم سريانها على الأجانب حتى ولو كانوا مقيمين في إقليمها.
الفرع الثالث : المبدأ المطبق في المغرب
يعتمد المغرب في الأصل على مبدأ إقليمية القوانين، بمعنى أن قواعد القانون المغربي تطبق على السواء بحق المواطنين والأجانب الموجودين داخل تراب المغرب دون المغاربة القاطنين خارج حدود المملكة، ولكن هناك استثناءات تحد من هذا المبدأ. ولذلك سنتطرق لهذه الاستثناءات التي تحول دون تطبيق القانون المغربي على جميع الموجودين داخل المغرب أو التي تجعله يشمل الوقائع أو الأشخاص الموجودين خارجه.
وهذه الاستثناءات تختلف باختلاف طبيعة القانون (القانون العام والقانون الخاص وفروعه).
- 1 - بالنسبة لفروع القانون العام :
أ – بالنسبة للقانون الدولي العام : تخرج عن مبدأ إقليمية القوانين قواعد الحصانة الدبلوماسية والقضائية التي تمنح لبعض الأجانب المقيمين في الدولة مثل رؤساء البعثات الدبلوماسية وأعضاء الهيئات السياسية والقناصل.
ب – بالنسبة للقانون الدستوري والقانون الإداري : فإن الحقوق السياسية التي ينص عليها الدستور المغربي، فهي تسري على المواطنين وحدهم دون الأجانب، كحق الانتخاب أو الترشيخ للمجالس الحضرية والقروية أو البرلمان فهي حكرا على المغاربة دون الأجانب. كما أن ولوج الوظائف العمومية في الدولة فهي كذلك من حق المغاربة دون الأجانب حيث لا يسمح للأجانب من ولوج هذه الوظائف إلا حسب شروط معينة.
ج – بالنسبة للقانون الجنائي : فالقاعدة أن القانون الجنائي يطبق في الأصل تطبيقا إقليميا، عملا بالمبادئ التالية :
- مبدأ إقليمية النص الجنائي : بمعنى سريان القانون الجنائي المغربي على كل الجرائم التي ترتكب بالإقليم المغربي دون اعتبار لجنسية الجاني وهو ما ينص عليه الفصل 10 من القانون الجنائي المغربي "يسري التشريع الجنائي المغربي على كل من يوجد بإقليم المملكة من وطنيين وأجانب وعديمي الجنسية"، مع مراعاة الاستثناءات المقررة في القانون العام الداخلي والقانون الدولي "حيث أن ملك المغرب يتمتع بالحصانة الجنائية، كما أن أعضاء البرلمان يتمتعون بالحصانة القضائية وأعضاء البعثات الدبلوماسية والقنصلية يتمتعون بالحصانة الدبلوماسية.
- مبدأ عينية النص الجنائي : ويفيد تطبيق القانون الجنائي المغربي على كل جريمة تمس المصالح العليا للبلاد وأهدافه الحيوية أينما ارتكبت تلك الجريمة داخل المغرب أو خارجه دون اعتبار لجنسية الجاني.
- مبدأ شخصية النص الجنائي : ويفيد تطبيق النص الجنائي على كل شخص يحمل الجنسية المغربية ولو ارتكب جريمته خارج المغرب. ويفرق الفقه بين وجهي مبدأ الشخصية: الوجه الإيجابي للمبدأ ويتجلى في تطبيق النص الجنائي على الشخص الذي يحمل جنسية الدولة ولو ارتكب الجريمة خارج إقليم بلاده. والوجه السلبي ويفيد تطبيق النص الجنائي المغربي حتى على الجناة الأجانب الذين يرتكبون جرائمهم ضد أحد المغاربة في الخارج.
- مبدأ عالمية النص الجنائي : ويفيد تطبيق النص الجنائي على كل جريمة يلقى فيها القبض على مرتكبيها مكان ارتكاب الجريمة. ويسمح هذا المبدأ بقضاء عالمي أوسع للنص الجنائي، وذلك من خلال التعاون فيما بين الدول لمحاربة أنواع خطيرة من الجرائم كالقرصنة والاتجار في المخدرات والإرهاب.
كما أن هناك نوع آخر من الجرائم يحاكم مرتكبوها أمام المحكمة الجنائية الدولية التي أحدثت بمقتضى معاهدة دولية هي معاهدة روما سنة 1998 وهذه الجرائم هي جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة، وجرائم العدوان.
- 2 - بالنسبة لفروع القانون الخاص : يطبق في هذا الشأن مبدأ إقليمية القوانين كلما كان أطراف العلاقة القانونية أو موضوعها داخل إقليم الدولة، وإلا تخضع لقانون هذه الدولة.
وعندما يكون في هذه العلاقة طرف أجنبي أو يوجد موضوع أو محل هذه العلاقة خارج الحدود الإقليمية للدولة، في هذه الحالة يقع تنازع بين القانون المغربي والقوانين الأجنبية، حيث يتدخل في هذا المجال القانون الدولي الخاص لحل مشكلة تنازع القوانين في المكان، وذلك بتحديده للقانون الواجب التطبيق في العلاقة ذات العنصر الأجنبي بإعماله لما يصطلح عليه بقواعد الإسناد أو قواعد تنازع القوانين، وقواعد الاختصاص القضائي.
وقد تم التنصيص على قواعد الإسناد في ظهير 12 غشت 1913 المتعلق بالوضعية المدنية للفرنسيين والأجانب بالمغرب، وأهمها القواعد التالية :
- تخضع حالة الأشخاص وأهليتهم (قانون الأسرة) لقانونهم الوطني أي لقانون البلد الذي يحملون جنسيته.
- تخضع العقود الدولية (المبرمة بين مغاربة وأجانب) للقانون الذي اختاره الأطراف صراحة أو ضمنيا لحكم عقدهم.
- تخصع الأموال سواء كانت منقولات أو عقارات لقانون محل وجودها.
- تخضع المسؤولية التقصيرية لقانون البلد الذي وقع فيه الفعل المسبب للضرر.
المطلب الثالث : نطاق تطبيق القانون من حيث الزمان
الفرع الأول : المدى الزمني لتطبيق القانون
يراد بالمدى الزمني لتطبيق القانون تعيين بداية العمل بالقاعدة القانونية ووقت انتهاء العمل بها. والقوانين تكون نافذة فور نشرها في الجريدة الرسمية، ما لم ينص المشرع على نفاذها بعد انصرام مدة معينة على نشره في الجريدة الرسمية. بناء عليه يكون القانون نافذا في الحالة الأولى، ويكون موجودا من غير نفاذ في الحالة الثانية إلا بعد مضي المدة التي نص عليها المشرع لبدء نفاذه كما كان الشأن بالنسبة لقانون المسطرة الجنائية الجديد الذي نشر في الجريدة الرسمية ولم يدخل حيز النفاذ إلا بعد انصرام أجل 18 شهرا على نشره.
أما بشأن تحديد وقت انتهاء سريان القانون، فيجب أن ننظر بحسب ما إذا كان المراد بالقانون الصادر أن يكون ساريا لمدة معينة منصوص عليها، أو أن يظل ساريا من غير مدة محددة. حيث في الحالة الأولى ينتهي العمل به بمجرد انقضاء المدة المعينة لسريانه وتزول كل فعاليته دون حاجة إلى الإلغاء، ومثل هذه القوانين تسمى بالقوانين ذات المدة المحددة، والتي عادت ما تصدر في أوقات الحروب أو الأزمات والإضطرابات الداخلية غير العادية، كقوانين الطوارئ، والأحكام العرفية.
أما في الحالة الثانية، فيستمر العمل بالقانون لمدة غير محددة، ويظل قائما نافذا ولا ينتهي العمل به إلا بصدور قانون لاحق ينص على إلغاء القانون السابق، وهذه الحالة هي الغالبة في التشريعات.
إن وقف سريان القانون وإلغاءه وحلول قانون جديد محله يطرح مجموعة من المشاكل على مستوى العلاقة بين القانون القديم والقانون الجديد والمراكز القانونية التي ينظمها القانونين.
الفرع الثاني : تنازع القوانين في الزمن
إن تنازع القوانين في الزمن ينتج عن تعاقب قانونين مختلفين ينظمان نفس المسألة. فأيهما يطبق القانون القديم أو القانون الجديد ؟
يجب أن نميز في هذا الإطار بين ثلاث فرضيات :
- 1 - الفرضية الأولى : روابط اجتماعية وعلاقات قانونية تحدث وتنتج كافة آثارها في ظل القانون القديم وحده، هنا لا إشكال فالقانون القديم هو الذي يحكمها.
- 2 - الفرضية الثانية : روابط اجتماعية وعلاقات قانونية تتكون بعد صدور القانون الجديد وتستنفذ كل آثارها في ظله وهنا أيضا لا يثور المشكل، فالقانون الجديد هو الذي يطبق عليها.
- 3 - الفرضية الثالثة : روباط اجتماعية وعلاقات قانونية تنشأ في ظل القانون القديم، ولا تستكمل كل شروطها وآثارها إلا بعد صدور قانون جديد يعدل أو يلغي كل أو بعض أحكام العلاقة القانونية. كشخص تزوج في ظل قانون يجعل الطلاق بيده هو ثم صدر قانون جديد يجعل الطلاق مقيد بإذن القاضي، فهل يحق له أن يطلق دون قيد أوشرط حسب القانون الذي تزوج في ضوئه ؟ أم يلزم عليه أن ينتظر إذن القاضي حسب القانون الجديد ؟ مثل هذه الفرضيات وغيرها هي التي تطرح مشكلة تنازع القوانين في الزمان.
والأساس الذي يقوم عليه حل هذا التنازع وتحديد المدى الزمني لسريان كل من القوانين المتنازعة، يقوم على مبدأين : مبدأ عدم رجعية القوانين، ومبدأ الأثر المباشر للقانون Effet immédiat.
أولا : مبدأ عدم رجعية القوانين
يستند حل مشاكل تنازع القوانين من حيث الزمن في الأصل على مبدأ قانوني مشهور تتبناه أغلب الشرائع والقوانين الحديثة وهو مبدأ عدم رجعية القوانين.
ومفاد ذلك أن القوانين الجديدة لا تنسحب على الماضي، بل يقتصر حكمها على الوقائع التي تقع ابتداءمن يوم نفاذها.
ومبدأ عدم رجعية القوانين هو أحد المبادئ التي ترسخت منذ القدم وعملت بها الشريعة الإسلامية من خلال العديد من الأحكام، كالآية القرآنية الكريمة : "وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا"، وهو ما سارت عليه العديد من التشريعات الحديثة في دساتيرها وقوانينها.
وقد تقرر هذا المبدأ في القانون المدني الفرنسي المعروف بقانون نابوليون الصادر سنة 1804 في المادةالثانية، حيث نصت على أنه "لا يسري القانون إلا بالنسبة للمستقبل، فليس له أثر رجعي مطلقا". كما أن الدستور المغربي نص في مادته الرابعة على أن القانون أسمى تعبير عن إرادة الأمة ويجب على الجميع الإمتثال له وليس للقانون أثر رجعي.
ثانيا : أسانيد ومبررات عدم رجعية القوانين
يعتبر مبدأ عدم رجعية القوانين من المبادء القانونية السامية، مما أدى ببعض الفقهاء بالقول بأنه ذا صلة بالقانون الطبيعي، مما يوجب على القانون الوضعي عدم مخالفته.
وإقرار هذا المبدأ يجد أساسه ومبرراته في الأسس التالية :
- أ - تحقيق العدالة : يهدف مبدأ عدم رجعية القوانين إلى تحقيق العدالة بين الأفراد، حيث أن القانون يحكم سلوك الأفراد داخل الجماعة، لذا فمن طبيعة الأمور أن يلتزم الأفراد بتكييف سلوكهم وتصرفاتهم وفقا للقانون القائم، ذلك القانون الذي هم على علم به أو الذي بإمكانهم العلم به. ويترتب على ذلك أنه ليس من العدالة بشيء أن يؤاخذ الأفراد علىوقائع صدرت منهم والتي تشكل خرقا للقانون الذي يشرع بعد إتمام تلك الوقائع. ولأنه إذا ما تغيرت قواعد القانون بعد ذلك منطق العدالة يقتضي ألا تتغير القواعد التي كانت تحكم سولكهم في الماضي في ظل قانون كان قائما.
- ب - ضمان استقرار المعاملات : يعتبر مبدأ عدم رجعية القوانين خير ضمان لاستقرار النظام الاجتماعي وبث الطمأنينة في النفس، فلو أجزنا انسحاب القانون إلى الماضي لأدى ذلك إلى هدم استقرار المراكز القانونية وحلول الاضطرابات محل الاستقرار ولا انعدمت ثقة الأفراد في القوانين.
- ج - الانسجام مع القاعدة القانونية : إذا كانت القاعدة القانونية لا تدخل حيز التنفيذ إل بعد قطعها للمراحل التي ينص عليها القانون، بدا من الاقتراح وصولا إلى النشر في الجريدة الرسمية، وهو ما يعني فسح المجال للمجتمع وإعطاء فرصة للأفراد على الإطلاع على القوانين المخاطبين بها، فليس من المنطق استمرار سريان القانون القديم بعد نشر القانون الجديد.
- د - احترام الحقوق والمراكز القانونية (الحقوق المكتسبة) : إن الحقوق والمراكز القانونية لا تتولد إلا وفقا لقوانين منشئة لها. فإذا ما ترتبت للأفراد حقوق ومراكز وأثار قانونية في ظل القواعد القانونية المعمول بها. فلا ينبغي أن يكون تعديل هذه القواعد أو إلغاؤها بقواعد قانونية جديدة، فرصة للمساس بهذه الحقوق والمراكز أو الانتقاص من تلك الآثر التي ترتبت صحيحة في ظل القواعد القانونية القديمة.
ثالثا : النظريات الفقهية المفسرة لمبدأ عدم رجعية القوانين
بينا فيما سبق على أن مبدأ عدم رجعية القوانين من المبادئ القانونية التي تحل مشكلة تطبيق القانون في الزمان وما يترتب عن ذلك من تنازع بين القوانين القديمة والقوانين الجديدة. إلا أنه رغم صلاحية هذا المبدأ فقد تضاربت النظريات الفقهية في هذا الشأن بين النظرية التقليدية التي تقوم على التمييز بين الحق المكتسب وبين مجرد الآمال والنظرية الحديثة التي تقوم على أساس التفرقة بين الأثر الرجعي للقانون وبين الأثر المباشر للقانون.
- 1 - النظرية التقليدية : التمييز بين الحق المكتسب ومجرد الأمل
- أ - مفهوم المبدأ : هي نظرية كلاسيكية أمن بها الفقه الفرنسي منذ القرن التاسع عشر، نشأت كتفسير للمادة الثانية من القانون المدني الفرنسي التي تنص على أن "لا يحكم القانون سوى المستقبل، وليس له أثر رجعي"، وتستند هذه النظرية في تفسيرها لمبدأ عدم رجعية القوانين من حيث الزمان على أساس التفرقة بين ما أسمته بالحق المكتسب ومجرد الأمل. فالقانون الجديد يعتبر ساريا بأثر رجعي إذا مس حقا مكتسبا، تقرر وفقا لقانون قديم، كان ساريا قبل نفاذ القانون الجديد. ولكن لا يعتبر القانون الجديد ذا أثر رجعي إذا أخل بمجرد الآمال الذي تولد قبل نفاذه، وبتعبير آخر يكون القانون ذا أثر رجعي إذا ما عدل في الحقوق المكتسبة، ولذا يطبق القانون القديم، ولا يكون كذلك، ويطبق التشريع الجديد، إذا اقتصر على تحطيم الآمال.
ولكن الملاحظ على هذه النظرية أنها تحتاج إلى تحديد تدقيق للحق المكتسب ومجرد الأمل، فأنصار هذه النظرية غير متفقين على إعطاء تعريف محدد لهذين المفهومين.
هكذا يعرف ميرلان Merlin الحق المكتسب بأنه "الحق الذي دخل في حوزتنا والذي لا يستطيع أحد أن ينزعه منا من آل إليه منا"، وهناك من عرفه بأنه "الحق الذي دخل ذمة الشخص نهائيا بحيث لا يمكن نقصه أو نزعه منه إلا برضاه"، وهو لدى البعض الآخر هو الحق الذي يمكن المطالبة به والدفاع عنه أمام القضاء.
أما مجرد الأمل فهو محض ترقب ورجاء في اكتساب حق من الحقوق مستقبلا وقد يتحقق ذلك أو لا يتحقق.
ولأجل التمييز بين الحق المكتسب ومجرد الأمل، نسوق بعض الأمثلة التي استند إليها أنصار النظرية التقليدية :
من ذلك حق الموصى له، حيث لا يعتبر حقا مكتسبا إلى بعد موت الموصي، أما قبل ذلك فيعتبر مجرد أمل.
بناء عليه إذا وصى الوصي بثلث تركته في ظل قانون يجيز الوصية بالثلث ثم صدر قانون جديد بعد ذلك يحرم الوصية بأكثر من الربع فعلينا هنا أن نفرق بين حالتين :
حالة إذا كان الوصي قد توفي قبل صدور القانون الجديد فإن الموصى له بمجرد تحقق وفاة الوصي يصبح صاحب حق مكتسب في الوصية، ويجوز له الثلث وعلى هذا لا يجوز أن يطبق القانون الجديد على هذه الوصية.
الحالة الثانية إذا لم يمت الوصي عند صدور القانون الجديد فإن هذا القانون هو الذي يطبق على الوصية المذكورة فلا يجوز إلا بربع التركة فقط، لأن تطبيق القانون الجديد في هذه الحالة لا يؤدي إلى المساس بحق مكتسب لأن الموصى له ليس له حق مكتسب في الوصية قبل موت الوصي، وإنما له مجرد الأمل لأن الوصي يستطيع أن يرجع عن وصيته في أي وقت شاء ولا مانع من تطبيق القانون الجديد.
- ب - الإستثناءات الواردة على مبدأ عدم رجعية القوانين :
بالرغم من قوة وأهمية مبدأ عدم رجعية القوانين، فإنه ترد عليه الإستثناءات التالية :
* النص صراحة في القانون على رجعيته : حسب هذه النظرية فإن مبدأ عدم الرجعية يقيد المحاكم ولا يقيد المشرع وعليه فإن هذا الأخير أن يصدر تشريعا جديدا ينسحب إلى الماضي إذا أراد، ولكن في هذه الحالة ينبغي النص صراحة على رجعية هذا التشريع.
* القانون الجنائي الأصلح للمتهم : يستثني من مبدأ عدم رجعية القوانين، القوانين الجنائية الجديدة الأرحم للمتهم، فإذا صدر قانون جديد يمحو الجريمة أو يخفق عقوبتها وجب تطبيق القانون الجديد واستبعاد القانون الذي وقعت في ظله الجريمة.
وقد نص الفصل 6 من القانون الجنائي المغربي في هذا المجال على "أنه في حالة وجود عدة قوانين سارية المفعول بين تاريخ ارتكاب الجريمة والحكم النهائي بشأنها يتعين تطبيق القانون الأصلح للمتهم". والسبب في هذا الإستثناء هو أن المشرع بإصداره عقوبة أقل قساوة أو عند إزالته لوصف الجريمة على سلوك معين، يكون قد غير موقفه من الجريمة وأصبح أكثر رحمة بالمتهم، لذا وجب تمكين المتهم الذي هو قيد المحاكمة أو المتابعة من الاستفادة من هذا الموقف الجديد والمتسامح للمشرع.
* القوانين المتعلقة بالنظام العام أو الآداب : إذا كان تطبيق القانون الجديد مشروط بعدم المساس بالحقوق المكتسبة في ظل القانون القديم، فيستثني من ذلك سريان القانون الجديد على الماضي ومساسه بالحقوق المكتسبة، إذا كان القانون الجديد يتعلق بالنظام العام وحسن الآداب، لأن قواعد النظام العام وحسن الآداب قواعد آمرة لا يجوز مخالفة مقتضياتها أو الوقوف أمام تطبيقها بدعوى عدم المساس بحق مكتسب.
ولذلك فإن القوانين المتعلقة بالنظام العام وحسن الآداب - حسب النظرية التقليدية - تعتبر قوانين تسري برجعية خروجا على مبدأ عدم الرجعية.
وتطبيقا على ذلك فالقوانين المتعلقة بسن الرشد القانوني أو بتعديل شروط الطلاق والمتعلقة بالأسرة هي قوانين ذات أثر رجعي.
* القوانين التفسيرية : ذلك أن القانون الجديد الذي يكون موضوعه تفسير قانون سابق غامض،يطبق بطريقة رجعية أي ابتداء من صدور القانون القديم المفسر.
والحقيقة أن القانون التفسيري ليس قانونا جديدا ولكنه مجرد توضيح وتأويل لقانون سالف، لهذا لا نكون في هذه الحالة أمام رجعية القانون بالمعنى الصحيح للكلمة.

- ج - الانتقادات التي وجهت للنظرية التقليدية :
لذا رعضنا للنظرية التقليدية التي تقوم على أساس احترام الحقوق المكتسبة وجدنا أنها تتصف بالبساطة وعدالة الأساس الذي تستند عليه، ولكن مع ذلك تعرضت هذه النظرية لعدد من الانتقادات نجملها فيما يلي :
* إنها نظرية مبهمة كل الإبهام، فإنصارها عجزوا عن التفرقة بدقة بين الحق المكتسب ومجرد الأمل، فمثلا إذا تزوج رجل في ظل قانون يجعل الطلاق بيده ثم صدر قانون جديد يجعل الطلاق بيد القاضي، فهل يصح أن يتمسك الزوج بأن له حقا مكتسبا وفقا للقانون القديم، أم اعتبار ذلك مجرد أمل في الطلاق وفقا للقانون الجديد ؟ وواضح أن الأمر يحتمل القانونين معا ومن الصعب الجزم بصحة أحدهما عن الآخر.
* أيلولة فكرة الحق المكتسب إلى نتائج غير مقبولة : حيث يفهم من النظرية التقليدية عدم أحقية القانون الجديد بالمس بالحقوق المكتسبة نهائيا. وهو ما قد لا يقبله المنطق والمصلحة العامة بتعديلها أو إلغاءها، وهو ما قد يربك العديد من المراكز القانونية، فمثلا رفع سن الرشد القانوني من 18 سنة إلى 21 سنة، كيف سيكون عليه الوضع القانوني للشاب الذي بلغ 20 سنة وكان يتعامل مع غيره على أنه راشد بينما القانون الجديد يمسه به ويجعله قاصرا.
* إن النظرية التقليدية قائمة أساسا على مفهوم خاطئ، فهي مرتبطة بالنزعة الفردية التي تقدس الفرد على حساب الجماعة وتدعوا إلى سيادة الحق وتسبيقه على القانون. فحماية الحقوق المكتسبة حسب هذه النزعة ما هو إلا مظهر من مظاهر حماية الحقوق الفردية المقدسة .
* وهذه النظرية تخلط بين الأثر المباشر للقانون الجديد والأثر الرجعي، والملاحظ في هذا الصدد أن سريان بعض القوانين الجديدة يعتبر في منطق النظرية سريانا رجعيا لها، في الوقت الذي لا توجد أية رجعية في الأمر إذ أن سريانها ما هو إلا تطبيق مباشر لها ابتداء من يوم نفادها.
- 2 - النظرية الحديثة :
ظهرت هذه النظرية على أساس الانتقادات التي وجهت للنظرية السابقة، ومن أبرز روادها في الفقه الفرنسي، الفقهاء بلانيول وكابيتان وروبيه.
وتفيد هذه النظرية أن المقتضى الطبيعي للقانون الجديد هو أن ينطبق من وقت بدء العمل به، على الوقائع التي تنشأ لأول مرة، بعد بدأ العمل به، وعلى الآثار الحالية والمستقبلية لوقائع قديمة نشأت في ظل قانون سابق، ولكن لا ينطبق على الآثرا الماضية لتلك الوقائع، وإلا كان تطبيقه بأثر رجعي وهذا غير جائز.
نستنتج مما سبق أن سريان القانون في الزمان له وجهان : وجه سلبي هو انعدام الأثر الرجعي، ووجه إيجابي هو الأثر المباشر، وللإحاطة بجوانب هذه النظرية يستلزم بيان مفهوم انعدام الأثر الرجعي للقانون الجديد ثم نبين الأثر المباشر للقانون الجديد.
- أ - مبدأ عدم رجعية القانون :
سبق شرح المبدأ أعلاه سابقا، وفي منظور النظرية الحديثة فإن القانون الجديد لا يحق له إعادة النظر فيما تم في ظل القانون القديم من تكون أو انقضاء "مركز قانوني" Situation juridique أو من توافر عناصر هذا التكوين أو الانقضاء، أو من ترتب آثار معينة على مركز قانوني، وتكون العبرة هي في معرفة تاريخ تكون أو انقضاء المركز القانوني أو توافر ما اجتمع من عناصر هذا التكوين أو الانقضاء أو تاريخ ترتب الآثار عليه وهكذا :
- المركز القانوني قديم تحت سلطان القانون القديم، مثل وصية حررت في شكل عرفي ثم صدر قانون جديد يتطلب التحرير بشكل رسمي، هذا لا يؤثر على الوصية العرفية.
- المركز القانوني بعض عناصره تمت في قانون قديم وأخرى في ظل قانون جديد، فالقانون الجديد لا يسري على العناصر القديمة بل ما تم في عهده فقط. مثل الوصية لها عنصران إثنان عنصر إبرام الوصية وعنصر وفاة الموصي، فإذا أبرمت وصية وفقا لقانون قديم توصي بنصف التركة وقبل وفاة الموصي صدر قانون جديد يحدد الوصية في الثلث فقط فإن القانون الجديد هو الذي يطبق كما توفي الموصي.
- وبالنسبة للآثار المترتبة على المراكز القانونية فإن ما يترتب منها قبل صدور القانون الجديد لا يخضع لأحكامه بل تبقى خاضعة للقانون القديم. مثلا كون الملكية تنتقل بمجرد العقد ثم صدر قانون يعلق انتقالها بعد تسجيل العقد، فكل من أبرم عقدا انتقلت إليه الملكية وفقا للقانون القديم .
والآثار التي تستغرق وقتا طويلا فما تم منها في ظل القانون القديم لا يتأثر بالقانون الجديد، لأنه لا يملك الرجوع فيما تم، وما لم يتم من آثر في ظل القانون القديم يبقى خاضعا لأثر المباشر للقانون الجديد. مثال الطلاق وما يترتب عنه من آثار تستغرق وقتا طويلا كالنفقة وحضانة الأطفال.
ومن بين الاستثناءات التي أوردتها النظرية الحديثة على مبدأ عدم الرجعية هي :
- النص الصريح على الرجعية، سبقت الإشارة إليه من قبل
- النصوص التفسيرية إسوة بالنظرية التقليدية أيضا
ولا تسلم النظرية الحديثة بالاستثنائين الآخرين الذين توردهما النظرية التقليدية على مبدأ الرجعية المتعلقين بعدم الإقرار برجعية القوانين المتعلقة بالنظام العام والآداب، وكذا بسريان القوانين الجنائية الأصلح للمتهم حيث سريانها ليس إلا تطبيقا للأثر المباشر لا الرجعي لهذه القوانين.
- ب - مبدأ الأثر المباشر للقانون :
بالإضافة إلى المفهوم الذي اعتمدته النظرية الحديثة لمبدأ عدم رجعية القوانين، فإنها اعتمدت وبشكل أساسي على مبدأ آخر هو مبدأ الأثر المباشر للقانون، ومضمون هذا المبدأ هو أن القانون الجديد يطبق على الوقائع المستقبلية وكذلك على الآثار المستقبلية للوقائع السابقة على صدوره، حيث أن الأصل في التشريع أن يسري مباشرة.
فإذا صدر قانون يعدل سن الرشد القانوني برفعه من 18 سنة إلى 21 سنة فإن هذا القانون يسري على كل من تنطبق عليه شروطه حتى ولو كان الشخص قد بلغ سن الرشد القانوني وفقا للقانون القديم.

المطلب الرابع : منظور الشريعة الإسلامية في تطبيق الأحكام الشرعية
الفرع الأول : تطبيقها من حيث الزمان
معلوم أن الشريعة الإسلامية رسخت من خلال مبادئها قواعدها الإنسانية مبدأ "أن الأصل في الأشياء الإباحة" وأن "لاحكم لأفعال العقلاء قبل ورود النص" امتثالا لقوله تعالى في سورة الإسراء : "وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا" وكذا "وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون" (القصص 59)، وهو ما يفيد سبق الشريعة للقوانين الوضعية في حسم مشكلة سريان الأحكام الشرعية في الزمان باحترام منطقية مبدأ رجعية الأحكام الشرعية والعمل بمبدأ الأثر الفوري لهذه الأحكام.
وإذ تعمل الشريعة الإسلامية بالمبدأ أعلاه فإنها تبقى دائما مراعية لظروف الجماعة وحامية لنظامها الإجتماعي وفقا لما تقتضيه قواعد العدالة ومقاصدها الغائية، مما جعلها تتراجع عن تلك القاعدة في استثنائين إثنين أحدها جوازي والثاني وجوبي، وفقا لسلطة الحاكم التقديرية ومراعاة الظروف.
أولا : الاستثناء الجوازي من القاعدة :
أ – حالة تهديد الأمن والكيان الإسلامي العام : حيث حفاظا على استقرار كيان الدولة الإسلامية وعقيدته يمكن الرجوع بالأحكام على الماضي،وهو ما حدث حينما طبق الرسول صلى الله عليه وسلم آية الحرابة على أولئك الذين اقترفوا حوادث وأعمال هددت أمن الأمة الإسلامية.
ب – حماية الأسرة الإسلامية ونظامها من التفكك والإنهيار بما من شأنه دعم تماسك أطرافها باعتبارها الخلية الأولى والأساس في تشكيل المجتمع الإسلامي العام.
ثانيا : الاستثناء الوجوبي من القاعدة العامة :
أ – مراعاة الظروف الإنسانية وخاصة بأن تطبيق الأحكام الجنائية الأصلح للمتهم شريطة ألا يكون الحكم الصادر على الجاني طبق النص القديم قد أصبح حكما نهائيا.
ب – الأحكام الشرعية ذات الصلة المباشرة بالنظام الاقتصادي وما يترتب عليه من علاقات إنسانية تقوم ابتداء على أساس عدالة الإسلام ، ومئال ذلك ما قررته الشريعة الإسلامية من أحكام بشأن تحريم الربا في العقود والمعاملات بناء على قوله تعالة : "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين، فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله، وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون" (البقرة 278 و 279).
الفرع الثاني : تطبيق الأحكام الشرعيةمن حيث المكان
معلوم أن الشريعة الإسلامية هي عالميةلا إقليمية أو محلية، إلا أن الواقع يفيد انحصار تطبيق الأحكام الشرعية في مجال مكاني محدد في أرجاء المعمور ولو أنها جاءت إلى الناس كافة، وبالتالي تطبيق أحكامها في الأقاليم التي ترفع فيها راية الإسلام، وهكذا يقسم الفقهاء المسلمون المعمور إلى دار سلام ودار حرب، وإذ يطبق الحكم الشرعي في الدار الأول فإنه يتعذر في الثانية إلى حين انتشار الإسلام فيها.