المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قرينة البراءة الجنائية



أحمد أبو زنط
09-11-2009, 07:53 PM
بسم الله الرحمن الرحيم


قرينة البراءة الجنائية
د/ شهاب سليمان عبد الله
أستاذ القانون العام المساعد – جامعة شنــدي
1/ توطئة :
إذا كان من الثابت أن جميع الأنظمة والمؤسسات السياسية والقانونية في بلد ما وزمان ما ليست إلا التطبيق العملي لمذهب نوعي معين فيما يتعلق بفكرة أو مفهوم الدولة نفسها وطبيعة علاقاتها بالأفراد المكونين لها أو غيرهم (1) . فإن هذا المفهوم أو التصور المذهبي لدور الدولة ولوظائف أجهزتها ومؤسساتها . فإن هذه العقيدة – الأيديولوجية – في القانون الوضعي تنقسم إلي قسمين هما النظرية الاشتراكية ونظرية المذهب الفردي الحر .
فطبقا لأنصار النظرية الاشتراكية .. إن القوانين ليست إلا نتاجا من الدولة أساسا ، وتتطابق مع القوة والتي ليست هذه القوانين إلا مظهرا من مظاهرها ، كما تذهب النظرية إلي أن الأفراد إنما يساهمون في قوتها ، إلا أنه ومع ذلك ليس مسلما لهم بأن يطالبوا بأي حق شخصي في مواجهة السلطة المطلقة للدولة ، وبالتالي تظل الحرية الفردية غير مثارة ، لأن الدولة هي التي تملك كل الحقوق باعتبار أنها الأكثر قوة (2) . ومن نتائج ذلك فإن التسليم بهذه النظرية يؤدي إلي طغيان الدولة حيث أنها تظل هي الممسكة بزمام الأمور في المبتدأ والمنتهى وفي مقابلها إنسان ليس له حقوق ولا حريات إلا بقدر ما تنعطف عليه الدولة بها وهذا ما يهدر حقه كإنسان في وجوده وفي حياته .
أما النظرية الثانية فتميل إلي وضع كل الاعتبار للفرد وحقوقه حيث أنه هو الهدف الوحيد والمنشود للمجتمع المنظم ، أي أن كل سلطة صادرة أو منبثقة عن الجماعة ليس لها هدف غير حماية الكائن الآدمي وحقوقه ، على أن يبقى المجتمع وحقوقه في المقام الثاني . لأن المجتمع ليس إلا وسيلة أقيمت ووضعت لإسعاد الأفراد (3) حيث أن مصالح المجتمع لا تعدو أن تكون مجموع مصالح الأفراد .
وما يقال عن هذه النظرية ، أنها تؤدي إلي الفوضى والرجوع إلي الهمجية فإطلاق العنان للفرد ليفعل ما يشاء به من الأضرار لما لا يكفي سرده في هذا المقال ، يكفي فقط أن الإنسان بطبعه أناني يرغب في الحصول على أكبر قدر من المنفعة بأقل جهد ممكن .
وإذا كان لا بد من قول ، فإنه إذا كان صحيحا أن الفرد يعيش في المجتمع الذي أنشأه ، والذي يحتاج إليه لكي تتطور حياته وشخصيته ، وإشباع حاجاته المادية والمعنوية ، فإن الدولة يقع على عاتقها أن تقوم ببعض الواجبات الضرورية ومن أبرزها إقامة السلام الاجتماعي والنظام العام والعدالة بين الأفراد أنفسهم ، وهو ما يمثل أحد الأسباب التي من أجلها أعطيت الدولة عدة وسائل تساعدها على أن تتولى بطريقة فعالة المهام الملقاة على عاتقها من خلال وضع مجموعة من القواعد العامة التي تنظم العلاقات ، سواء أن كان بينها وبين الأفراد من ناحية أو فيما بين الأفراد أنفسهم .
وبناء على ذلك فقد أعطيت الدولة الحق في اللجوء إلي القوة متى ما استدعت الضرورة ذلك ، من أجل أن تؤيد احترام هذه القواعد العامة طالما أنها سارية وهذا ما سارت عليه الدولة الإسلامية منذ نشأتها حيث حاولت بل ونجحت في التوفيق والموازنة بين مصالح الأفراد من جانب والمصالح العامة من الجانب الآخر ، يقول الله تعالى " ولا تجعل يدك مغلولة إلي عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا (4) هذا المبدأ الذي اكتشفه القانون الوضعي في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي .
وعلى أية حال فإنه من المتفق عليه من وجهة النظر العقابية ، أن المجتمع له الحق في أن يضع مجموعة من القواعد العامة التي تحظر على الأفراد ، أو تتطلب منهم إتيان بعض التصرفات ، كما أن له الحق في محاكمة الأفراد الذين لا يطيعون هذه القواعد ، وأن تطبق عليهم الجزاء المقرر قانونا لسلوكهم المعتبر جرما . هذا الحق يتجسد فعليا في القانون الجنائي المكون لحق الدولة في التجريم والعقاب المصنوع من السلطة التشريعية عملا بمبدأ فصل السلطات وتحديد الوظائف . هذا مع ملاحظة أن السلطة التشريعية ليست طليقة من كل قيد أثناء وضعها لتلك القواعد وفقا للنظام الدستوري للدولة المعنية ، ووفقا للفلسفة التي يقوم عليها النظام في الدولة والمبادئ التي يستند عليها ، وأهم هذه المبادئ ، مبدأ شرعية التجريم والعقاب باعتباره الوجه الأول للشرعية ، وقرينة البراءة باعتبارها الوجه الآخر لمبدأ الشرعية .
فالمبدأ الأول ، أي شرعية الجرائم أي شرعية الجرائم والعقوبات ، يكون حجر الأساس القانون الجنائي ، أما المبدأ الثاني قرينة البراءة فإنه يسود ويسيطر على جزء مهم من القانون الجنائي بمعناه الواسع – الذي يعني بالبحث عن الحقيقة القضائية ، أي الإجراءات الجنائية وبعبارة أكثر وضوحا فإنه إذا كان اكتشاف الحقيقة هو هدف الإجراءات الجنائية فإن وسائل هذه الأخيرة للوصول إلي الهدف يجب أن تؤسس على مبدأ قرينة البراءة أو أن الأصل في الإنسان البراءة إلي أن يثبت بصورة قاطعة لا تحتمل أي تأويل عكس ذلك .

2/ مفهوم المبدأ :
مقتضى المبدأ أن كل شخص متهم بارتكاب جريمة – أيا كانت جسامتها – تجب معاملته بوصفه شخصا بريئا حتى تتأكد إدانته بحكم قضائي نهائي محض – أي حائز بحجية الشيء المحكوم به بحيث لا يقبل الطعن فيه (5) .
والثابت أن الدعوى الجنائية تعرض من ترفع ضده – المتهم – إلي خطرين – الأول هو أن يتم اتهامه خطأ ، ولكنه يستفيد في النهاية بقرار الأوجه لإقامة الدعوى أو حكم البراءة . كما تشير بذلك المادة 141/1 من القانون الإجرائي الجنائي السوداني لسنة 1991م ، والخطر الثاني أن تتم إدانته والحكم عليه بعقوبة في حين أنه برئ . وبالرغم من أن الخطر الأول أقل بشاعة من الخطر الثاني إلا أنه على قدر كبير من الخطورة لما يمكن أن يستتبعه من إجراءات ماسة بحريته الشخصية – المتهم – أو حتى مقيدة لها كالقبض والتفتيش – للأشخاص والأماكن – والحبس الاحتياطي الأمر الذي لا يستطيع معه الحكم القاضي بالأوجه لإقامة الدعوى أو البراءة أن يمحو الأضرار التي تحملها بما في ذلك الثقة التي كان يتمتع بها المتهم من قبل والتي سوف تهتز بعد حبسه أو تفتيشه .
أما فيما يتعلق بالخطر الثاني – إدانته وهو برئ – فإنه وإن كان قليل الوقوع عملا ، إلا أنه ليس نادرا أو مستحيلا . ذلك أن الحياة القضائية التي تم فيها الحكم على أبرياء ، وعلى هذا فإن إمكانية حدوث هذه الأخطاء مسلم به من الناحية التشريعية ، والدليل على ذلك هو وجود القواعد الخاصة بإعادة النظر في الأحكام القضائية الابتدائية في جميع قوانين الإجراءات الجنائية الحديثة (6) وفي سبيل تلافي هذا الخطر المزدوج – والذي يمكن أن يكون ضحيته أي مواطن فقد تبنت أنظمة الإجراءات الجنائية الحديثة مبدأ مقتضاه أن كل شخص متهم بارتكاب جريمة يجب أن يعتبر ويعامل كشخص برئ حتى يصبح القرار القضائي المعلن لإدانته نهائيا لا رجعة فيه .
وبهذا الفهم تعتبر قرينة البراءة أساس كل تنظيمات وقواعد الإجراءات الجنائية والذي يقال عادة في تبريره أنه من الأفضل أن يفلت مذنبا من العقاب خيرا من أن يدان برئ . وفي هذا الصدد يقول الرسول صلى الله عليه وسلم ، فإنه للإمام أن يخطئ في العفو خيرا له من أن يخطئ في العقوبة (7) .
فالمبدأ الذي يمثل حماية للحرية الشخصية للإنسان ، والتي تعتبر أول حق من حقوقه كإنسان بعد حقه في الحياة ، فهو ضمانة أساسية للحرية الفردية ضد تعسف سلطات الدولة المختلفة في ممارستها لحق المجتمع في العقاب . وعليه فإذا كان القسم الموضوعي من القانون الجنائي – أي القسم الخاص بتحريم الأفعال وتحديد عقوباتها – هو قانون المذنبين أو المجرمين ، فإن القسم الإجرائي منه – أي الإجراءات الجنائية – فهو قانون الناس الشرفاء . فالمتهم يحضر أمام مختلف الهيئات القضائية الجنائية . دون أن يكلف بإثبات شيء ، فهو ليس مكلفا بإثبات براءته لأن هذه الأخيرة مفترضة فيه . وعلى هذا فإن تقررت ضرورة القبض عليه ، فإن الحبس الاحتياطي يعد إجراءا استثنائيا بقدر ضرورته للتحفظ على شخصية المتهم من جانب وتجريم كل تعسف في تنفيذ وتطبيق قواعد الإجراءات الجنائية من جانب آخر

حمل باقي البحث من المرفقات