أحمد أبو زنط
09-14-2009, 08:09 PM
المحامي الدكتور عبود السراج
استرداد المجرمين أو تسليمهم هو عملية قانونية اتفاقية، تتم بين دولتين، تطلب إحداهما من الأخرى تسليمها شخصاً يقيم على أرضها، لتحاكمه، أي الدولة الطالبة، عن جريمة من اختصاص محاكمها، ويعاقب عليها قانونها، أو لتنفذ فيه حكماً صادراً عن هذه المحاكم. واسترداد المجرمين هو نوع من أنواع التعاون بين الدول لمكافحة الإجرام، بإلقاء القبض على المجرمين الفارين، ومحاكمتهم، وتنفيذ العقوبة بهم.
تاريخ استرداد المجرمين
استرداد المجرمين معروف منذ القديم. وكانت أحكامه تنحصر بالمعاهدات التي تعقد بين ملوك الدول ورؤسائها وأمرائها، فيتعهد هؤلاء بموجبها تسليم الخصوم السياسيين المعادين لنظام الحكم، أو تسليم الأشخاص الذين يرتكبون جرائم ماسة بالسلطة الحاكمة.
واستمر الأمر على هذه الحال إلى أن بدأت الدول تشعر، في القرن الثامن عشر، باستفحال خطر المجرمين العاديين، وسهولة فرارهم من دولة إلى أخرى، وبضرورة التعاون على إلقاء القبض عليهم أينما كانوا، وتسليمهم إلى الدولة صاحبة الحق في محاكمتهم.
وفي مستهل القرن التاسع عشر، بدأت دول العالم بإدخال تنظيم الاسترداد في تشريعاتها الداخلية، بغية وضع أساس ثابت لهذا التنظيم، يمكن أن تنطلق الدولة منه عند إجراء عملية الاسترداد أو التسليم، وإن كان هذا الأمر لم يلغ لجوء الدول إلى الاتفاقيات الثنائية أو الإقليمية لتسهيل إجراءات الاسترداد وضمان تحقيقه بأفضل السبل وأقصرها.
وظلّ تنظيم استرداد المجرمين غير معروف في تشريعات الدول العربية إلى وقت قريب. فقانونا الجزاء وأصول المحاكمات الجزائية العثمانيان خليا من أي أحكام تتعلق بالاسترداد. وكذلك الأمر فيما يتصل بالتشريعات العربية المحلية الأخرى. وكانت السلطة العثمانية، ومن بعدها سلطات الانتداب تمارس عملية الاسترداد، استناداً إلى اعتبارات سياسية قبل الاعتبارات الحقوقية.
وقد بدأت أكثر الدول العربية بتنظيم الاسترداد وإدخال أحكامه في تشريعاتها المحلية بعد الحرب العالمية الثانية. وأهم خطوة قامت بها هذه الدول، عقد اتفاقية تسليم المجرمين والإعلانات والإنابات وتنفيذ الأحكام في إطار جامعة الدول العربية، بتاريخ 14/9/1952. وظلت هذه الاتفاقية مطبقة إلى أن عقدت اتفاقية الرياض للتعاون القضائي بين دول الجامعة العربية في 4/4/1983.
وبدأت سورية بتنظيم استرداد المجرمين أول مرة بالمرسوم الاشتراعي ذي الرقم 80 المؤرخ في 30/6/1947. وعندما صدر قانون العقوبات في عام 1949، ألغى هذا المرسوم، وتضمن في المواد 30 - 36 شروط استرداد المجرمين وآثاره. ثم تلاه القانون ذو الرقم 53 المؤرخ في 5/4/1955، فتضمن أصول تسليم المجرمين العاديين والملاحقين قضائياً بجرائم عادية، وخول سلطة النظر في طلبات الاسترداد إلى لجنة قضائية سماها «لجنة استرداد المجرمين».
وتجدر الإشارة إلى أن سورية لم تكتف بتقنين أحكام الاسترداد في تشريعها المحلي، بل لجأت في ذلك إلى الاتفاقيات العربية والدولية. علماً بأن أول اتفاقية من هذا القبيل كانت مع تركية في 30/5/1926، وجاء بعد مدة الاتفاق القضائي مع لبنان في 25/2/1951، واتفاقية تسليم المجرمين والإعلانات والإنابات وتنفيذ الأحكام مع دول الجامعة العربية في 14/9/1952، والاتفاق القضائي مع الأردن في 23/12/1953، واتفاقيات قضائية أخرى مع ألمانية الديمقراطية (1970)، وبلغارية (1976)، ورومانية (1978)، والإمارات العربية المتحدة (1979)، وتونس (1980)، والجزائر (1981)، واليونان (1981)، وتركية (1981)، وتشيكوسلوفاكية (1984)، والاتحاد السوفييتي (1984)، وبولونية (1985)، وقبرص (1985)، وهنغارية (1986). هذا فضلاً عن «اتفاقية الرياض العربية للتعاون القضائي» التي عقدت بين دول الجامعة العربية، فألغت اتفاقية تسليم المجرمين التي عقدت بين هذه الدول من قبل.
وتجدر الإشارة إلى أن استرداد المجرمين صار في الوقت الحاضر عرفاً دولياً سائداً. ففي حال غياب التشريع الداخلي أو الاتفاقيات الدولية في دولة من الدول، فإن بإمكان هذه الدولة أن تطلب الاسترداد، أو أن تقوم بالتسليم، استناداً إلى الأعراف الدولية.
شروط استرداد المجرمين
تتفق أكثر التشريعات العربية والأجنبية، والاتفاقيات الدولية، على أن الاسترداد لا يمكن أن يتم إلا إذا تحققت فيه شروط معينة هي:
ـ أن يكون التجريم مزدوجاً: ومعنى هذا الشرط أن يكون الفعل موضوع الاسترداد مجرّماً في قانون الدولتين: طالبة الاسترداد، والمطلوب منها التسليم. وأساس هذا الشرط في الدولة طالبة الاسترداد، هو أنه لا يمكن تصور وجود دعوى جزائية، وحكم جزائي بعقوبة، من أجل فعل لا يعد جريمة. أما أساسه في الدولة المطلوب إليها التسليم، فهو أن الممارسة العملية لإجراءات التسليم، تفرض على هذه الدولة دعوة الشخص المطلوب استرداده لاستجوابه قضائياً، وتوقيفه إن اقتضى الأمر ذلك، إلى حين إتمام إجراءات الاسترداد. وهذه الإجراءات لا يجوز أن تتخذ من أجل فعل لا يعد جريمة.
ـ أن تكون الجريمة على قدر معين من الأهمية: وهذا الشرط تفرضه اعتبارات عملية، تتعلق بإجراءات الاسترداد الطويلة والمعقدة والباهظة التكاليف. فالاسترداد لا يمكن اللجوء إليه إلا من أجل الجرائم المهمة والخطيرة، لكي لا تشغل أجهزة الدولة في جرائم قليلة الأهمية، كالمخالفات والجنح البسيطة.
والمعيار المتبع في أكثر التشريعات العربية والأجنبية لتحديد أهمية الجريمة أو خطورتها، هو نوع العقوبة ومقدارها. ونوع العقوبة المطلوب عادة هو العقوبة السالبة للحرية، وحدّها الأدنى يُراوح ـ بحسب الدول ـ بين سنة وسنتين إذا كان المطلوب استرداده متهماً، وبين شهرين وسنة إذا كان المطلوب استرداده محكوماً عليه.
ـ ألا تكون الجريمة مما يحظر التسليم فيها قانوناً أو عرفاً: وتحظر أكثر الدول تسليم الجاني من أجل بعض الجرائم، وهذه الجرائم هي الجرائم السياسية، والجرائم العسكرية، والجرائم التي تخالف عقوباتها النظام الاجتماعي. ففيما يتصل بالجرائم السياسية: يعدّ مبدأ عدم جواز تسليم المجرمين السياسيين مبدأ عالمياً، فرضه العرف الدولي، وتبنته جميع التشريعات في العالم، صراحة أو ضمناً. وقد أجمعت الدول العربية في اتفاقية الرياض لسنة 1983 (المادة 41/ الفقرة أ) على عدم جواز التسليم «إذا كانت الجريمة المطلوب من أجلها التسليم تُعدّ بمقتضى القواعد القانونية النافذة لدى الطرف المتعاقد المطلوب إليه التسليم جريمة لها صبغة سياسية». وقد استثنت هذه الاتفاقية من الجرائم ذات الصبغة السياسية ـ وإن كانت بهدف سياسي ـ الجرائم التالية: التعدي على ملوك ورؤساء الدول العربية أو زوجاتهم أو أصولهم أو فروعهم، والتعدي على أولياء العهد أو نواب الرؤساء لدى الأطراف المتعاقدة، والقتل العمد والسرقة المصحوبة بإكراه الأفراد أو السلطات أو وسائل النقل والمواصلات.
وفيما يتعلق بالجرائم العسكرية: يقضي العرف الدولي أيضاً بعدم جواز التسليم من أجل جريمة عسكرية. وهذا العرف قديم، قد أقره مجمع القانون الدولي المنعقد في أكسفورد عام1880. وإذا كانت بعض التشريعات في العالم لا تنص على هذا الشرط، فإن أغلب الاتفاقيات الإقليمية والثنائية تحتوي عليه، ومنها اتفاقية الرياض المذكورة آنفاً (المادة 41/ الفقرة ب).
وتجدر الإشارة إلى أن الجرائم العسكرية التي لا يجوز التسليم من أجلها هي «الجرائم العسكرية الصرفة»، أي «جرائم الإخلال بواجبات عسكرية»، كجرائم الفرار، وعدم إطاعة الآمر، واغتصاب قيادة عسكرية، والعصيان العسكري... ويخرج عن نطاق هذه الجرائم، جميع الجرائم العادية التي يرتكبها العسكريون، كالقتل والجرح والتزوير والسرقة والاحتيال.
وفيما يتصل بالجرائم التي تخالف عقوباتها النظام الاجتماعي: فقد نصت على هذا الشرط بعض قوانين الدول العربية كالقانون السوري. ومن العقوبات التي يعدّها المجتمع الدولي مخالفة للنظام الاجتماعي عقوبة الحرق والوسم والتشويه الجسدي، والإعدام في الدول التي ألغت هذه العقوبة.
وعلى أية حال، يحق للدولة المطلوب إليها التسليم، أن توافق على التسليم، وتضمِّن مرسوم التسليم شرطاً يتعلق بعدم تنفيذ بعض العقوبات التي تراها مخالفة لنظامها الاجتماعي، كعقوبة الإعدام، أو عقوبة التجريد المدني، أو أي عقوبة أخرى تمس كرامة المحكوم عليه أو تحط من إنسانيته.
ـ أن يكون الاختصاص القضائي منعقداً للدولة طالبة الاسترداد: وهذا الشرط نتيجة منطقية لطبيعة مؤسسة الاسترداد. فطلب الاسترداد يعني قبل كل شيء، أن الدولة الطالبة هي صاحبة الحق قبل غيرها من الدول الأخرى، بملاحقة الشخص المطلوب استرداده، ومحاكمته، وإنزال العقاب المستحق به. أما إذا كان قضاء هذه الدولة غير مختص في الأصل بالنظر في الجريمة المرتكبة، فإن طلب الاسترداد يفقد مسوّغه ومعناه.
ـ ألا يكون الاختصاص القضائي منعقداً للدولة المطلوب إليها التسليم: فللدولة المطلوب إليها التسليم أن ترفض طلب الاسترداد إذا كانت محاكمها مختصة بالنظر في الجريمة موضوع التسليم اختصاصاً إقليمياً أو عينياً أو شخصياً. وهذا الشرط يفرضه مبدأ السيادة. فما دامت الدولة المطلوب إليها التسليم مختصة أيضاً بمحاكمة الشخص المطلوب، فلا يوجد ما يسوّغ تنازلها عن اختصاصها، إلا إذا قبلت بذلك، وقامت بالتسليم بمحض إرادتها.
ورفض التسليم لا يعني ترك الشخص المطلوب استرداده من دون محاكمة، بل يجب على الدولة الرافضة أن تحاكمه أمام محاكمها في حدود اختصاصها. ولكي يكتمل التعاون الدولي في هذه الحالة، فإن على الدولة طالبة الاسترداد أن تزود الدولة التي قررت محاكمة الشخص المطلوب أمام محاكمها، بما لديها من وثائق ومستندات ومعلومات وأشياء تثبت جريمته. وعلى الدولة التي حاكمته أن تعلم بالمقابل الدولة طالبة الاسترداد بنتيجة المحاكمة عند انتهائها.
وفي جميع الأحوال فإن للدولة التي طلبت الاسترداد في المرة الأولى ورفض طلبها، أن تتقدم بطلب استرداد آخر، بعد انتهاء محاكمة الشخص المطلوب، لتتولى هي تنفيذ الحكم الصادر بحقه.
وتتجه أكثر دول العالم إلى تبني مبدأ عدم تسليم رعاياها أو مواطنيها، وقيامها هي بمحاكمتهم وفرض العقوبة المستحقة عليهم، وتنفيذها بهم، وذلك حماية لهم من أي تعد أو تعسف أو إخلال بحقوقهم. وقد تبنت اتفاقية الرياض هذا المبدأ وأجازت في المادة (39) للدولة أن تمتنع عن تسليم مواطنيها، على أن تحدد الجنسية بتاريخ وقوع الجريمة المطلوب من أجلها التسليم. وعلى هذه الدولة أن تلاحق المطلوب إذا ما تلقت من أي دولة موقعة على الاتفاقية طلباً بالملاحقة مصحوباً بالملفات والوثائق والأشياء والمعلومات التي تكون في حيازتها، شريطة أن تكون الجريمة معاقباً عليها في قانون كل من الدولتين بعقوبة سالبة للحرية مدتها سنة، أو بعقوبة أشد.
ولكنّ لمبدأ عدم تسليم المواطنين معارضيه. فمنذ عام 1880، دعا مجمع القانون الدولي المنعقد في أكسفورد دول العالم إلى قبول مبدأ تسليم الرعايا، مستنداً إلى أن محاكمة الجاني في مكان ارتكاب الجريمة، أو في الدولة التي وقع الاعتداء على أمنها، أجدى لحسن سير العدالة ولمكافحة الجريمة والمجرمين. وقد أقر هذا الاتجاه الفقه الحديث، وأكثر المؤتمرات الدولية، ومعاهد القانون الدولي والجزائي. ولكن مع ذلك ظل الأخذ به محدوداً. ومن الدول التي تقبل اليوم بتسليم مواطنيها إنكلترة والولايات المتحدة الأمريكية وإيطالية. وتشترط الأولى والثانية ألا يتم التسليم إلا لدولة تقبل المعاملة بالمثل، وتشترط الثالثة ألا يتم التسليم إلا تطبيقاً لأحكام اتفاقية دولية.
ـ ألا تكون الدعوى العامة أو العقوبة قد سقطت بأحد أسباب السقوط كالتقادم أو العفو العام أو العفو الخاص: وهذا الشرط تفرضه المبادئ العامة للقانون الجزائي. فسقوط الدعوى العامة بأحد أسباب السقوط، لا يترك محلاً، استناداً لهذه المبادئ، لإجراء عملية الاسترداد.
ـ ألا يكون قد قضي بالجريمة قضاء مبرماً في الدولة المطلوب إليها التسليم: وهذا الشرط تتمسك به الدول استناداً إلى مبدأ السيادة. فتسليم شخص إلى دولة أخرى لمحاكمته بعد أن تكون محاكم الدولة المطلوب إليها التسليم قد حاكمته وحكمت عليه بصورة نهائية، فيه مساس بهيبتها وقدرة قضائها على تحقيق العدالة الجنائية. فما دامت الغاية من الاسترداد هي محاكمة الشخص محاكمة عادلة، وتبرئته إن كان بريئاً، ومعاقبته إن كان مذنباً، فقد تحققت هذه الغاية في الدولة التي لجأ إليها هذا الشخص. لكن يبقى أمام الدولة طالبة الاسترداد، أن تعدل طلبها، وتطلب الاسترداد لتنفيذ الحكم الصادر بحق المحكوم عليه في سجونها.
استرداد المجرمين أو تسليمهم هو عملية قانونية اتفاقية، تتم بين دولتين، تطلب إحداهما من الأخرى تسليمها شخصاً يقيم على أرضها، لتحاكمه، أي الدولة الطالبة، عن جريمة من اختصاص محاكمها، ويعاقب عليها قانونها، أو لتنفذ فيه حكماً صادراً عن هذه المحاكم. واسترداد المجرمين هو نوع من أنواع التعاون بين الدول لمكافحة الإجرام، بإلقاء القبض على المجرمين الفارين، ومحاكمتهم، وتنفيذ العقوبة بهم.
تاريخ استرداد المجرمين
استرداد المجرمين معروف منذ القديم. وكانت أحكامه تنحصر بالمعاهدات التي تعقد بين ملوك الدول ورؤسائها وأمرائها، فيتعهد هؤلاء بموجبها تسليم الخصوم السياسيين المعادين لنظام الحكم، أو تسليم الأشخاص الذين يرتكبون جرائم ماسة بالسلطة الحاكمة.
واستمر الأمر على هذه الحال إلى أن بدأت الدول تشعر، في القرن الثامن عشر، باستفحال خطر المجرمين العاديين، وسهولة فرارهم من دولة إلى أخرى، وبضرورة التعاون على إلقاء القبض عليهم أينما كانوا، وتسليمهم إلى الدولة صاحبة الحق في محاكمتهم.
وفي مستهل القرن التاسع عشر، بدأت دول العالم بإدخال تنظيم الاسترداد في تشريعاتها الداخلية، بغية وضع أساس ثابت لهذا التنظيم، يمكن أن تنطلق الدولة منه عند إجراء عملية الاسترداد أو التسليم، وإن كان هذا الأمر لم يلغ لجوء الدول إلى الاتفاقيات الثنائية أو الإقليمية لتسهيل إجراءات الاسترداد وضمان تحقيقه بأفضل السبل وأقصرها.
وظلّ تنظيم استرداد المجرمين غير معروف في تشريعات الدول العربية إلى وقت قريب. فقانونا الجزاء وأصول المحاكمات الجزائية العثمانيان خليا من أي أحكام تتعلق بالاسترداد. وكذلك الأمر فيما يتصل بالتشريعات العربية المحلية الأخرى. وكانت السلطة العثمانية، ومن بعدها سلطات الانتداب تمارس عملية الاسترداد، استناداً إلى اعتبارات سياسية قبل الاعتبارات الحقوقية.
وقد بدأت أكثر الدول العربية بتنظيم الاسترداد وإدخال أحكامه في تشريعاتها المحلية بعد الحرب العالمية الثانية. وأهم خطوة قامت بها هذه الدول، عقد اتفاقية تسليم المجرمين والإعلانات والإنابات وتنفيذ الأحكام في إطار جامعة الدول العربية، بتاريخ 14/9/1952. وظلت هذه الاتفاقية مطبقة إلى أن عقدت اتفاقية الرياض للتعاون القضائي بين دول الجامعة العربية في 4/4/1983.
وبدأت سورية بتنظيم استرداد المجرمين أول مرة بالمرسوم الاشتراعي ذي الرقم 80 المؤرخ في 30/6/1947. وعندما صدر قانون العقوبات في عام 1949، ألغى هذا المرسوم، وتضمن في المواد 30 - 36 شروط استرداد المجرمين وآثاره. ثم تلاه القانون ذو الرقم 53 المؤرخ في 5/4/1955، فتضمن أصول تسليم المجرمين العاديين والملاحقين قضائياً بجرائم عادية، وخول سلطة النظر في طلبات الاسترداد إلى لجنة قضائية سماها «لجنة استرداد المجرمين».
وتجدر الإشارة إلى أن سورية لم تكتف بتقنين أحكام الاسترداد في تشريعها المحلي، بل لجأت في ذلك إلى الاتفاقيات العربية والدولية. علماً بأن أول اتفاقية من هذا القبيل كانت مع تركية في 30/5/1926، وجاء بعد مدة الاتفاق القضائي مع لبنان في 25/2/1951، واتفاقية تسليم المجرمين والإعلانات والإنابات وتنفيذ الأحكام مع دول الجامعة العربية في 14/9/1952، والاتفاق القضائي مع الأردن في 23/12/1953، واتفاقيات قضائية أخرى مع ألمانية الديمقراطية (1970)، وبلغارية (1976)، ورومانية (1978)، والإمارات العربية المتحدة (1979)، وتونس (1980)، والجزائر (1981)، واليونان (1981)، وتركية (1981)، وتشيكوسلوفاكية (1984)، والاتحاد السوفييتي (1984)، وبولونية (1985)، وقبرص (1985)، وهنغارية (1986). هذا فضلاً عن «اتفاقية الرياض العربية للتعاون القضائي» التي عقدت بين دول الجامعة العربية، فألغت اتفاقية تسليم المجرمين التي عقدت بين هذه الدول من قبل.
وتجدر الإشارة إلى أن استرداد المجرمين صار في الوقت الحاضر عرفاً دولياً سائداً. ففي حال غياب التشريع الداخلي أو الاتفاقيات الدولية في دولة من الدول، فإن بإمكان هذه الدولة أن تطلب الاسترداد، أو أن تقوم بالتسليم، استناداً إلى الأعراف الدولية.
شروط استرداد المجرمين
تتفق أكثر التشريعات العربية والأجنبية، والاتفاقيات الدولية، على أن الاسترداد لا يمكن أن يتم إلا إذا تحققت فيه شروط معينة هي:
ـ أن يكون التجريم مزدوجاً: ومعنى هذا الشرط أن يكون الفعل موضوع الاسترداد مجرّماً في قانون الدولتين: طالبة الاسترداد، والمطلوب منها التسليم. وأساس هذا الشرط في الدولة طالبة الاسترداد، هو أنه لا يمكن تصور وجود دعوى جزائية، وحكم جزائي بعقوبة، من أجل فعل لا يعد جريمة. أما أساسه في الدولة المطلوب إليها التسليم، فهو أن الممارسة العملية لإجراءات التسليم، تفرض على هذه الدولة دعوة الشخص المطلوب استرداده لاستجوابه قضائياً، وتوقيفه إن اقتضى الأمر ذلك، إلى حين إتمام إجراءات الاسترداد. وهذه الإجراءات لا يجوز أن تتخذ من أجل فعل لا يعد جريمة.
ـ أن تكون الجريمة على قدر معين من الأهمية: وهذا الشرط تفرضه اعتبارات عملية، تتعلق بإجراءات الاسترداد الطويلة والمعقدة والباهظة التكاليف. فالاسترداد لا يمكن اللجوء إليه إلا من أجل الجرائم المهمة والخطيرة، لكي لا تشغل أجهزة الدولة في جرائم قليلة الأهمية، كالمخالفات والجنح البسيطة.
والمعيار المتبع في أكثر التشريعات العربية والأجنبية لتحديد أهمية الجريمة أو خطورتها، هو نوع العقوبة ومقدارها. ونوع العقوبة المطلوب عادة هو العقوبة السالبة للحرية، وحدّها الأدنى يُراوح ـ بحسب الدول ـ بين سنة وسنتين إذا كان المطلوب استرداده متهماً، وبين شهرين وسنة إذا كان المطلوب استرداده محكوماً عليه.
ـ ألا تكون الجريمة مما يحظر التسليم فيها قانوناً أو عرفاً: وتحظر أكثر الدول تسليم الجاني من أجل بعض الجرائم، وهذه الجرائم هي الجرائم السياسية، والجرائم العسكرية، والجرائم التي تخالف عقوباتها النظام الاجتماعي. ففيما يتصل بالجرائم السياسية: يعدّ مبدأ عدم جواز تسليم المجرمين السياسيين مبدأ عالمياً، فرضه العرف الدولي، وتبنته جميع التشريعات في العالم، صراحة أو ضمناً. وقد أجمعت الدول العربية في اتفاقية الرياض لسنة 1983 (المادة 41/ الفقرة أ) على عدم جواز التسليم «إذا كانت الجريمة المطلوب من أجلها التسليم تُعدّ بمقتضى القواعد القانونية النافذة لدى الطرف المتعاقد المطلوب إليه التسليم جريمة لها صبغة سياسية». وقد استثنت هذه الاتفاقية من الجرائم ذات الصبغة السياسية ـ وإن كانت بهدف سياسي ـ الجرائم التالية: التعدي على ملوك ورؤساء الدول العربية أو زوجاتهم أو أصولهم أو فروعهم، والتعدي على أولياء العهد أو نواب الرؤساء لدى الأطراف المتعاقدة، والقتل العمد والسرقة المصحوبة بإكراه الأفراد أو السلطات أو وسائل النقل والمواصلات.
وفيما يتعلق بالجرائم العسكرية: يقضي العرف الدولي أيضاً بعدم جواز التسليم من أجل جريمة عسكرية. وهذا العرف قديم، قد أقره مجمع القانون الدولي المنعقد في أكسفورد عام1880. وإذا كانت بعض التشريعات في العالم لا تنص على هذا الشرط، فإن أغلب الاتفاقيات الإقليمية والثنائية تحتوي عليه، ومنها اتفاقية الرياض المذكورة آنفاً (المادة 41/ الفقرة ب).
وتجدر الإشارة إلى أن الجرائم العسكرية التي لا يجوز التسليم من أجلها هي «الجرائم العسكرية الصرفة»، أي «جرائم الإخلال بواجبات عسكرية»، كجرائم الفرار، وعدم إطاعة الآمر، واغتصاب قيادة عسكرية، والعصيان العسكري... ويخرج عن نطاق هذه الجرائم، جميع الجرائم العادية التي يرتكبها العسكريون، كالقتل والجرح والتزوير والسرقة والاحتيال.
وفيما يتصل بالجرائم التي تخالف عقوباتها النظام الاجتماعي: فقد نصت على هذا الشرط بعض قوانين الدول العربية كالقانون السوري. ومن العقوبات التي يعدّها المجتمع الدولي مخالفة للنظام الاجتماعي عقوبة الحرق والوسم والتشويه الجسدي، والإعدام في الدول التي ألغت هذه العقوبة.
وعلى أية حال، يحق للدولة المطلوب إليها التسليم، أن توافق على التسليم، وتضمِّن مرسوم التسليم شرطاً يتعلق بعدم تنفيذ بعض العقوبات التي تراها مخالفة لنظامها الاجتماعي، كعقوبة الإعدام، أو عقوبة التجريد المدني، أو أي عقوبة أخرى تمس كرامة المحكوم عليه أو تحط من إنسانيته.
ـ أن يكون الاختصاص القضائي منعقداً للدولة طالبة الاسترداد: وهذا الشرط نتيجة منطقية لطبيعة مؤسسة الاسترداد. فطلب الاسترداد يعني قبل كل شيء، أن الدولة الطالبة هي صاحبة الحق قبل غيرها من الدول الأخرى، بملاحقة الشخص المطلوب استرداده، ومحاكمته، وإنزال العقاب المستحق به. أما إذا كان قضاء هذه الدولة غير مختص في الأصل بالنظر في الجريمة المرتكبة، فإن طلب الاسترداد يفقد مسوّغه ومعناه.
ـ ألا يكون الاختصاص القضائي منعقداً للدولة المطلوب إليها التسليم: فللدولة المطلوب إليها التسليم أن ترفض طلب الاسترداد إذا كانت محاكمها مختصة بالنظر في الجريمة موضوع التسليم اختصاصاً إقليمياً أو عينياً أو شخصياً. وهذا الشرط يفرضه مبدأ السيادة. فما دامت الدولة المطلوب إليها التسليم مختصة أيضاً بمحاكمة الشخص المطلوب، فلا يوجد ما يسوّغ تنازلها عن اختصاصها، إلا إذا قبلت بذلك، وقامت بالتسليم بمحض إرادتها.
ورفض التسليم لا يعني ترك الشخص المطلوب استرداده من دون محاكمة، بل يجب على الدولة الرافضة أن تحاكمه أمام محاكمها في حدود اختصاصها. ولكي يكتمل التعاون الدولي في هذه الحالة، فإن على الدولة طالبة الاسترداد أن تزود الدولة التي قررت محاكمة الشخص المطلوب أمام محاكمها، بما لديها من وثائق ومستندات ومعلومات وأشياء تثبت جريمته. وعلى الدولة التي حاكمته أن تعلم بالمقابل الدولة طالبة الاسترداد بنتيجة المحاكمة عند انتهائها.
وفي جميع الأحوال فإن للدولة التي طلبت الاسترداد في المرة الأولى ورفض طلبها، أن تتقدم بطلب استرداد آخر، بعد انتهاء محاكمة الشخص المطلوب، لتتولى هي تنفيذ الحكم الصادر بحقه.
وتتجه أكثر دول العالم إلى تبني مبدأ عدم تسليم رعاياها أو مواطنيها، وقيامها هي بمحاكمتهم وفرض العقوبة المستحقة عليهم، وتنفيذها بهم، وذلك حماية لهم من أي تعد أو تعسف أو إخلال بحقوقهم. وقد تبنت اتفاقية الرياض هذا المبدأ وأجازت في المادة (39) للدولة أن تمتنع عن تسليم مواطنيها، على أن تحدد الجنسية بتاريخ وقوع الجريمة المطلوب من أجلها التسليم. وعلى هذه الدولة أن تلاحق المطلوب إذا ما تلقت من أي دولة موقعة على الاتفاقية طلباً بالملاحقة مصحوباً بالملفات والوثائق والأشياء والمعلومات التي تكون في حيازتها، شريطة أن تكون الجريمة معاقباً عليها في قانون كل من الدولتين بعقوبة سالبة للحرية مدتها سنة، أو بعقوبة أشد.
ولكنّ لمبدأ عدم تسليم المواطنين معارضيه. فمنذ عام 1880، دعا مجمع القانون الدولي المنعقد في أكسفورد دول العالم إلى قبول مبدأ تسليم الرعايا، مستنداً إلى أن محاكمة الجاني في مكان ارتكاب الجريمة، أو في الدولة التي وقع الاعتداء على أمنها، أجدى لحسن سير العدالة ولمكافحة الجريمة والمجرمين. وقد أقر هذا الاتجاه الفقه الحديث، وأكثر المؤتمرات الدولية، ومعاهد القانون الدولي والجزائي. ولكن مع ذلك ظل الأخذ به محدوداً. ومن الدول التي تقبل اليوم بتسليم مواطنيها إنكلترة والولايات المتحدة الأمريكية وإيطالية. وتشترط الأولى والثانية ألا يتم التسليم إلا لدولة تقبل المعاملة بالمثل، وتشترط الثالثة ألا يتم التسليم إلا تطبيقاً لأحكام اتفاقية دولية.
ـ ألا تكون الدعوى العامة أو العقوبة قد سقطت بأحد أسباب السقوط كالتقادم أو العفو العام أو العفو الخاص: وهذا الشرط تفرضه المبادئ العامة للقانون الجزائي. فسقوط الدعوى العامة بأحد أسباب السقوط، لا يترك محلاً، استناداً لهذه المبادئ، لإجراء عملية الاسترداد.
ـ ألا يكون قد قضي بالجريمة قضاء مبرماً في الدولة المطلوب إليها التسليم: وهذا الشرط تتمسك به الدول استناداً إلى مبدأ السيادة. فتسليم شخص إلى دولة أخرى لمحاكمته بعد أن تكون محاكم الدولة المطلوب إليها التسليم قد حاكمته وحكمت عليه بصورة نهائية، فيه مساس بهيبتها وقدرة قضائها على تحقيق العدالة الجنائية. فما دامت الغاية من الاسترداد هي محاكمة الشخص محاكمة عادلة، وتبرئته إن كان بريئاً، ومعاقبته إن كان مذنباً، فقد تحققت هذه الغاية في الدولة التي لجأ إليها هذا الشخص. لكن يبقى أمام الدولة طالبة الاسترداد، أن تعدل طلبها، وتطلب الاسترداد لتنفيذ الحكم الصادر بحق المحكوم عليه في سجونها.