المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : نظام النفقات في الشريعة الاسلامية (3)



Nancy Otoom
09-14-2009, 10:15 PM
الفقه المقارن

(3)
نفقة المماليك من الأناسي


69 - جاء الإسلام والرق شائع بين جميع أمم الأرض والأرقاء يسامون الخسف والهوان ويقاسون أشد أنواع العذاب في جميع البلدان والممالك ولا سيما عند الرومان فلطف الإسلام بحكمته ما شاءت الظروف أن يلطفه من معاملة الرقيق حتى سار في ذلك شوطًا بعيدًا جدًا فشمل الأرقاء ذكورًا وإناثًا بعطفه ورحمته حتى ساوى بينهم وبين الأحرار في كل شيء إلا فيما هو من خصائص الولاية [(8)] لاقتضاء السياسة الحازمة وقتئذٍ تلك التفرقة، ولولا وجوب التعادل في المعاملات بين المسلمين وغيرهم من الأمم التي ناوأتهم العداء وما قضت به الحكمة وبعد النظر لم يكن الرق في الإسلام شيئًا مذكورًا كما يدل على ذلك روح الإسلام وأصوله ووصاياه الرحيمة، ومع ذلك فقد حث الكتاب الكريم والرسول الرؤوف الرحيم بأشد ضروب الحث على العتق والترغيب فيه وجعله من أعظم القربات التي يتقرب بها العبد إلى ربه، يظهر لك ذلك من آي الكتاب العزيز وأحاديث النبي الكريم التي لا تحصى كثرة، وقد اقتدى المسلمون بنبيهم - صلى الله عليه وسلم - في هذا في جميع العصور الإسلامية، وبالجملة فقد كان شأن الإسلام في تقرير الرق زمن التنزيل نظير شأنه في إبقاء تعدد الزوجات مع تلطيفه الأمر في قصره العدد على أربع بعد أن كان لا حد له ثم توجيه الأنظار ألطف توجيه إلى تفضيل الاقتصار على زوجة واحدة بل يكاد ظاهر القرآن يدل على وجوب ذلك.
70 - وهاك بعض ما يتعلق بموضوعنا من ذلك:
( أ ) روى أحمد والبخاري ومسلم عن أبي ذر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في الأرقاء (هم إخوانكم وخولكم [(9)] جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم).
(ب) وروى أحمد وأبو داود وابن ماجه عن أنس قال: كانت عامة وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين حضرته الوفاة وهو يغرغر [(10)] بنفسه (الصلاة وما ملكت أيمانكم) أي حافظوا على الصلاة وأحسنوا إلى المملوكين.
(ج) وروى أحمد ومسلم عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (للمملوك طعامه وكسوته ولا يكلف من العمل ما لا يطيقه).
(د) وعن عبد الله بن عمرو أنه قال لقهرمان [(11)] له هل أعطيت الرقيق قوتهم قال: لا، قال: فانطلق فأعطهم فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال (كفى بالمرء إنما أن يحبس عمن يملك قوته) رواه مسلم.
هذا بعض ما ورد في نفقة المملوك وكسوته والرفق به في المعاملة، ومما ورد في الحث على العتق قوله تعالى (فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فك رقبة) الآية، وقوله - صلى الله عليه وسلم - (من أعتق رقبة مسلمة أعتق الله بكل عضو منه عضوًا من النار) رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة.
وهاك خلاصة ما قاله الفقهاء في نفقة المملوك وكسوته ومسكنه وما ينبغي أن يعامل به، وأقوالهم متقاربة في ذلك فلا حاجة إلى ذكر أحكام كل مذهب على حدة.
71 - أجمع أئمة المذاهب الأربعة وغيرهم على أن السيد إذا لم يقم بكفاية عبده ولم يستطع العبد أن يقوم بكفاية نفسه من كسبه فإن القاضي يبيعه على سيده غير أن أبا حنيفة - رحمه الله - مشى على أصله من أن المالك إذا كان حاضرًا فليس للقاضي أن يبيع عليه ماله بدون رضاه بل يأمره به، وأما الصاحبان وجمهور الفقهاء فقد أجازوا للقاضي ذلك على ما هو مبين في موضعه.
وجملة القول في نفقة المملوك أن السيد يلزمه نفقة رقيقة قدر كفايتهم بالمعروف ولو مع اختلاف الدين ولو كان الرقيق عاجزًا عن الكسب بسبب مرض أو عمى أو غير ذلك، وتكون النفقة من غالب قوت البلد وإدامه ويلزمه كسوته من غالب الكسوة لا مثال الرقيق في ذلك البلد الذي هو به ويلزمه غطاء ووطاء ومسكن وماعون له وإنما وجب ذلك على السيد لرقيقة لاختصاصه به ومن مات منهم فعلى السيد تكفينه وتجهيزه ودفنه كما تجب عليه نفقته حال حياته وهذا هو الواجب على السيد وجوبًا محتمًا لكن يسن له أن يلبس رقيقة مما يلبس وأن يطعمه مما يطعم بل أوجب بعض الفقهاء ذلك آخذًا من ظاهر الحديث وحمله الجمهور على الندب ويلزم السيد نفقة ولد أمته لأنه تابع لأمه حتى لو كان لتلك الأمة زوج وهذا الولد منه، ويلزم السيد تزويج أرقائه إذا طلبوا ذلك كالنفقة لا فرق في ذلك بين ذكورهم وإناثهم وقد أخذ بهذا الإمام أحمد وبعض الأئمة محتجين بقوله تعالى (وانكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم) والأمر يقتضي الوجوب ولأنه يخاف من ترك إعفافه الوقوع في المحذور، فإن أبي السيد ما وجب عليه من تزويجهم أجبر عليه كسائر الحقوق الواجبة عليه لهم، وعلى السيد تمكين عبده من الاستمتاع بزوجته ليلاً إن كان عمل العبد نهارًا أو نهارًا إن كان عمله ليلاً.
72 - ويحرم على السيد أن يكلف رقيقه من العمل ما يشق عليه مشقة كبيرة، فإن كلفه بشيء من ذلك وجب عليه أن يعينه عليه، ويجب على سيد الأرقاء أن يريحهم من العمل وقت القيلولة والصلاة المفروضة ووقت النوم اللازم لهم، وإذا سافر بهم وجب عليه أن يركبهم على التعاقب فيركب العبد تارة ويمشي تارة أخرى، وإذا مرض أحدهم لزمه أجرة الطبيب الذي يعالجه وثمن الدواء اللازم له ويجب ختان من لم يكن مختونًا منهم ويحرم عليه خصاء رقيقة والتمثيل به فإن فعل ذلك عتق عليه رقيقه، روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (أن سيدًا جب مذا كير مملوكه فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - علي بالرجل فلم يقدر عليه فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - اذهب فأنت حر) أخرجه أبو داود وابن ماجه وأحمد والطبراني، واختلف الفقهاء هل يعتق العبد بمجرد المثلة أو يؤمر السيد بالعتق فإن تمرد فالحاكم يعتقه ؟ على قولين (انظر شرح الروضة الندية).
وإذا جنى الرقيق جناية فإنه يسن للسيد العفو عنه مرة أو مرتين، وقال بعض الفقهاء بل يعفو عنه أكثر من ذلك فإن عاد وكان الذنب عظيمًا ضربه ضربًا غير شديد، وإذا خاف عليه الإباق فقيل يقيده من أجل ذلك، كره الإمام أحمد تقييده، وقال إن بيعه أحب إليه (انظر الفروع).
ويؤدبه على ترك فرائض الله من الصلاة والصوم وكذا إذا كلفه ما يطيقه فامتنع من الامتثال وليس له أن يلطمه على وجهه لحديث ابن عمر مرفوعًا (من لطم غلامه فكفارته عتقه) رواه مسلم، وليس للسيد أن يشتم أبوي رقيقه غير المسلمين ولا يعود لسانه الفحش من القول وفي الحديث (لا يدخل الجنة سيئ الملكة) [(12)] رواه الترمذي وابن ماجه، وسيئ الملكة هو الذي يُسيء إلى مماليكه، وإذا لم تلائم أخلاق العبد أخلاق سيده لزمه إخراجه من ملكه ولا يعذب خلق الله لقوله عليه الصلاة والسلام (لا تعذبوا عباد الله)، وإذا كان لامته ولد ترضعه ولم يفضل من لبنها شيء لغير ولدها فليس للسيد أن يكلفها إرضاع غير ولدها لأن في ذلك إضرارًا بولدها للنقص من كفايته وصرف اللبن المخلوق له إلى غيره مع حاجة الولد إليه فإن فضل من لبنها شيء بعد ري ولدها جاز للسيد أن يأمرها بإرضاع غير ولدها من هذا اللبن الزائد.
73 - وإذا عتق العبد أو الأمة عاد إليهما حق الولاية الذي فقداه بسبب الرق فيجوز لكل منهما ما يجوز لكل من الحر والحرة، على أن شهادة الأرقاء ذكورًا وإناثًا مقبولة شرعًا على ما هو الحق والصواب وإن منع قبولها الأئمة الثلاثة أبو حنيفة ومالك والشافعي - انظر فتح القدير وأعلام الموقعين والمغني وغيره من كتب الحنابلة.
وأما رواية العبد والأمة للحديث فهي مقبولة بالإجماع ولا يشترط في كل منهما لقبول روايته إلا مثل ما يشترط في غيرهما من العقل والضبط والعدالة والإسلام وفتوى كل منهما جائزة إذا كان المفتي منهما أهلاً لذلك كالأحرار تمامًا، وقد كان الرسول الأعظم - صلى الله عليه وسلم - وخلفاؤه الراشدون وأمراء المؤمنين من بعدهم يكرمون التقي من الأرقاء ويبجلونه ويعظمونه من أجل تقواه وصلاحه وعلمه ولا يتأثر واحد منهم بكونه رقيقًا وكيف يتأثرون بذلك وهم يؤمنون بقول الله تعالى (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) لا فرق في ذلك بين عبد وعتيق وحر أصلي، ويدينون بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (الناس سواسية كأسنان المشط لا فضل لعربي على عجمي، إنما الفضل للتقوى) وانظر إلى مكانة نافع مولى ابن عمر الذي قال البخاري فيه: أصح الأسانيد مالك عن نافع عن ابن عمر، وقيل في هذا السند أنه سلسلة الذهب، وإلى منزلة عكرمة مولى ابن عباس الذي أعتقه ابنه علي من بعد وفاة أبيه وقد انتهى إليه علم التفسير وشهد له ابن عباس وأذن له بالفتوى وأخذ عنه العلم سبعون أو يزيدون من أجلاء فقهاء التابعين (انظر تهذيب التهذيب) وغيرهما مما لا يتناوله العد.
74 - وقد كان خلفاء بني العباس إلا النزير منهم أمهاتهم أمهات أولاد وما كان ذلك لينقص من شرفهم شيئًا، وقد يكون السيد الشريف العلوي مولودًا من أمة ولا غضاضة عليه في ذلك لأن نسبه تابع لأبيه.
وقد تولى كافور الإخشيدي العبد الأسود الخصي [(13)] ملك مصر والشام والثغور وخطب له على المنابر في تلك البلاد وفي الحجاز وكان ذلك زمن الخليفة المطيع لله العباسي، تولى كافور ملك هذه الديار سنتين وأربعة أشهر تقريبًا (من سنة 355 إلى 357هـ، 966 إلى 968م)، ومات وهو على ملكه والإسلام في أوج عزه وقد رضيت الأمة كلها بحكمة نزولاً على أمر الرسول الأعظم (اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة، ما أقام فيكم كتاب الله) أخرجه البخاري من حديث أنس.
كذلك تولى المماليك البيض ملك مصر والشام والحجاز بدولتيهم الأولى والثانية خمسًا وسبعين ومائتي سنة إلا بعضة أشهر من سنة (648 إلى 922هـ 1250 إلى 1516م) بعد أن عمروا البلاد التي ملكوها وتركوا فيها أحسن الآثار وكان عصرهم من خير العصور وفي العلم والتعليم وإتقان الصناعات والزخارف أعظم إتقان، حتى لقد انتفع الفاتيكان بصناعهم ولا تزال آثارهم هناك قائمة إلى الآن.
وبالجملة فما كان الإسلام ليضع الرقيق في مرتبة دون مرتبة الإنسان بل اعتبره إنسانًا مكلفًا مثابًا على أعماله الحسنة ومؤاخذًا على أعماله السيئة ومخاطبًا كالحر تمامًا، ولم يسلبه إلا الولاية فقط لأنه أسير حرب أريد بها أعلام كلمة الله فكابر وعاند في ذلك حتى وقع أسيرًا فعوقب بسلب ولايته تأديبًا له، ولأن غير المسلمين كانوا يعاملون أسرى المسلمين كذلك فاقتضى العدل أن يعاملوا من المسلمين بالمثل، ومع ذلك فقد علمت مما قدمنا رأفة الإسلام ورحمته بهذا الرقيق.
75 - فقارن أعزك الله ما جاء به الإسلام وقرره أئمة الشريعة بشأن الرقيق بما كانت عليه معاملته عند اليونان والرومانية وأمم أوروبا في القرون المتوسطة والقرون الحديثة حتى الثورة الفرنسية الأخيرة سنة 1848، وفي الولايات المتحدة في أمريكا حتى حرب سنة 1862 تجد البون شاسعًا والفرق عظيمًا جدًا.
فإنك بينما تجد الإسلام يقرر حقوق الإنسان تقريرًا صريحًا جديًا في أوائل القرن السابع الميلادي ويعتبر الرقيق إنسانًا مكلفًا ذا روح وإرادة عقل لا فرق بينه وبين الحر في ذلك إلا الولاية نزولاً على حكم الظروف كما قد بينا وأنه لا فضل لحر على عبد ولا لحرة على أمة وإنما الفضل بالتقوى لا بالحرية فمن كان تقيًا فهو الأفضل وإلا كرم عند الله ولو كان رقيقًا زنجيًا، وإن للحر أن يتزوج الأمة وللحرة أن تتزوج العبد ولا لوم ولا تثريب عليهما في ذلك وأن الخلفاء العباسيين لم يضرهم كون أمهاتهم إماء وأن مصر والشام لم ينقص قدرهما أن تولى أمرهما زنجي أسود خصي بعد أن ثبتت كفايته وصلاحيته لما تولاه، وأن مؤونة الرقيق واجبة على سيدة بالمعروف ولو كان لا عمل له بسبب عجزه أو مرضه بل يسن للسيد أن يؤكل رقيقة مما يأكل ويلبسه مما يلبس وأن على السيد ألا يكلفه من الأعمال ما هو فوق طاقته.
وأنه يجب عليه أن يزوجه إن احتاج إلى الزواج وأنه يجب عليه أن يريحه من مشقة العمل وألا يعذبه أصلاً وإلا عتق على السيد جزاء له، وأن يستعمل الحكمة والرحمة في عقوبته إذا أتى ذنبًا يستحق عليه العقوبة، وأن للقاضي أن يدخل بين السيد وعبده في كف أذاه عنه وفي وجوب الاعتدال في معاملته وأنه يسمع دعوى العبد والأمة على السيد ويعامل السيد بما يستحق بدون محاباة ولا تحيز إلى جهته، وإن شهادة العبد بعد عتقه مقبولة بالإجماع على غيره ولو كان المشهود عليه حرًا أصليًا شريفًا وأن اليمين توجه إليه ولا تدنس بذلك، وأنه تصح فتواه وروايته للحديث، وأن يكون عالمًا كبيرًا يُقتدى به ويأخذ عنه العلم كبار العلماء الأحرار من سادات العرب وأشرافهم ومن غيرهم وأنه قد انتهى به الأمر عند المسلمين أن أصبح فردًا من ضمن أفراد الأسرة ومن المستحقين في وقف سيده أو سيدته بل قد يزوج بعض السادة عتيقه من ابنته إذا رآه أهلاً لذلك ليحفظ بيته من بعده، وبالجملة فقد وصل كثير من الأرقاء عند المسلمين إلى حالة يغبطون عليها حتى أن بعض الأحرار ليتمنى أن يكون رقيقًا مثلهم ويحظى بما حظوا به، وسائر الأرقاء كانوا في حالة حسنة.
76 - بينما تجد الإسلام في معاملته الأرقاء قبل العتق وبعده على ما وصفت لك آنفًا إذا بك تجد أرسطو فيلسوف اليونان الأكبر يقول في تعريف الرقيق إنه (آلة ذات روح أو متاع قائمة به الروح)، ويقسم الجنس البشرى إلى قسمين أحرار وأرقاء بالطبع، وأن القانون الروماني يعتبر الرقيق شيئًا من الأشياء لا إنسانًا من الأَناسِيّ، وأن حكومات القرون الوسطى في أوروبا كانت تعتبره كالحيوان الأهلي المستخدم وكذلك القوانين السوداء [(14)] في أمريكا المتحدة نصت على أن العبيد لا نفس لهم ولا روح ولا إرادة.
وأن الرقيق بعد عتقه لا تقبل شهادته أمام القضاء إلا على رقيق مثله، ومع ذلك فما كان يجوز تحليفه اليمين لأنها أشرف وأسمى من أن يتفوهوا بها فيدنسوها بأفواههم، وإن تزوج الأبيض بامرأة امتزج بها دم الأرقاء اعتبر ساقطًا عن درجة ذي اللون الأبيض ولا يبالي بكون أصله من الأشراف، وأشد من هذا وأفظع ما كان في العصور المتوسطة في أوروبا عند بعض أممها من أنه إذا تزوج أحد الأهالي بأمة وقع في الرق مثلها، وإن المرأة الحرة التي تتزوج بعبد تفقد حريتها وينالها هذا العقاب، وعند بعضهم كانت تعاقب بالإعدام أما إذا تزوجت السيدة بعبدها فجزاؤهما أن يحرقا بالنار وهما على قيد الحياة.

77 - وإذا أبق العبد كان جزاؤه في القوانين السوداء الفرنسية قطع الآذان والكي بالحديد المحمي في المرتين الأولى والثانية أما في المرة الثانية فكان جزاؤه القتل، وجزاء هذا الآبق في القوانين الإنجليزية الاستعمارية القتل أن استمر إباقة أكثر من ستة أشهر.
أما عقوبات الرقيق إذا اقترف ذنبًا فقد كانت عند اليونان بالجلد بالسوط وبالطحن على الرحى، وكان أخف عقوباته عند الرومان وألطفها استعماله في مشاق الحراثة والزراعة وهو مكبل بالسلاسل ومثقل بالأغلال وقد يعرض لأقسى أنواع العذب وقد تكون عقوبته بضربه بالسياط حتى يشرف على الهلاك أو يهلك في أكثر الأوقات، وقد كان يعلق من يديه وتربط الأثقال برجليه.
وأما في العصور الحديثة فعند الفرنسيين لم تكن قوانين مستعمراتهم تمنع السادة البيض من إهلاك أرقائهم بجلدهم بالسياط وتكبيلهم بالسلاسل والأغلال وضربهم ضرب التلف بل لا تمنعهم من إحراقهم بالنار وقد اعتاد القضاة عدم إنصاف العبيد من ساداتهم بل أن المالك إذا ارتكب أي جناية على رقيقة ولو جناية القتل فقد كان القضاة يلتمسون براءته بكل الطرق، وقد أيدت الجمعيات الاستعمارية في كل زمان قاعدة أنه لا يسوغ لواضعي القوانين أن يتوسطوا ويتدخلوا بالتشريع بين العبد وسيده.
وكذلك كانت المعاملات والعقوبات التي قررتها قوانين أمريكا للأرقاء لا تقل في قسوتها وفظاعتها عن القوانين الفرنسية فقد حظرت على العبد حق المرور والذهاب والمجيء وأنه لا يفارق الزرع إلا بإذن قانوني ومع ذلك فإذا اجتمع في الطريق العام أكثر من سبعة من الأرقاء فإنهم يعتبرون مخالفين للأوامر وأول أبيض يصادفهم في الطريق له الحق أن يقبض عليهم ويجلد كل واحدٍ منهم عشرين جلدة، ومن أتى منهم ذنبًا ولو صغيرًا فهو تحت إرادة سيده فإن شاء ضربه بالسياط أو عاقبه بأية عقوبة شاء مهما بلغت من الشدة والصرامة والقانون يساعد السيد على ما يصنع بعبده فإذا تعدى الزنجي على مولاه أو على مولاته أو أولادهما بضرب أو جرح فجزاؤه الإعدام.
78 - كذلك كان الأرقاء محرومين من العلم والتعليم وكيف يكون لهم نصيب من ذلك وهم غير جديرين بن كالبيض حتى لقد تخطى الأمر في ذلك الأرقاء فلم يقتصر عليهم بل تناول جميع ذوي الألوان غير اللون الأبيض وقد قضى ملك فرنسا سنة 1767 قضاء مبرمًا مؤبدًا على جميع ذوي الألوان وذرياتهم بألا يتمتعوا بالمزايا التي يتمتع بها الجنس الأبيض ولذا قضى على هذه الأجناس كلها قضاءه المبرم المؤبد بالحرمان من طلب العلم في فرنسا، واستمر الأمر على هذا الشذوذ حتى ثورة فبراير سنة 1848 بفرنسا التي أعقبها العمل على إبطال الاسترقاق واستمر الحال كذلك في أمريكا حتى الحرب الأمريكية الطويلة من ابتداء سنة 1862 فأخذ حال ذوي الألوان في التحسن بعد ذلك بعد التحسن وإن كان لم يصل إلى درجة السادة البيض حتى الآن، وتم إلغاء الرق من العالم سنة 1875 بعد أن ابتدئ في إلغائه فعلاً في سنة 1780.
هذا ومن شاء المزيد من البيان فليقرأ كتاب الرق في الإسلام الذي طبع في مصر سنة 1309هـ، 1892م جزى الله مؤلفه وناقله إلى العربية خير الجزاء وأثابهما على ما قدمت أيديهما من هذا العمل المبرور والصنيع المشكور أجزل الثواب.
نفقة الحيوان ووجوب الرفق به
79 - عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (عُذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت فدخلت فيها النار لا هي أطعمتها وسقتها إذ حبستها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض) [(15)] وروى مثله أبو هريرة. رواه أحمد والبخاري ومسلم.
وعن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش فوجد بئرًا فنزل فيها فشرب ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى) [(16)] من العطش فقال الرجل لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني فنزل البئر فملأ خفه ماء ثم أمسكه بفيه حتى رقي فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له. قالوا يا رسول الله - وأن لنا في البهائم لأجر - فقال (في كل كبد رطبة أجر) [(17)] رواه أحمد والبخاري ومسلم.
وروى أبو داود بإسناد جيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر ببعير قد لصق ظهره ببطنه فقال (اتقوا الله في هذه البهائم العجماء فاركبوها صالحة وكلوا لحمها صالحة).
80 - قال الشوكاني استدل بالحديث الأول على تحريم حبس الهرة وما شابهها من الدواب بدون طعام ولا شراب لأن ذلك من تعذيب خلق الله وقد نهى عنه الشارع، واستدل به أيضًا على أن نفقة الحيوان واجبة له على مالكه وذلك لأن مالك الحيوان حابس له في ملكه ومانع له من السعي على رزقه فما دام كذلك وجب عليه الإنفاق عليه فإن سيبه سقط الوجوب عنه لكن لا يبرأ بالتسييب إلا إذا كان في مكان يتمكن فيه الحيوان من تناول ما يقوم بكفايته.
وهل يجب عليه ذلك ديانة فقط أو هو واجب عليه ديانة وقضاء ؟ بمعنى أن القاضي يجبر المالك على الإنفاق إذا أبى أن ينفق، قال بالأول أبو حنيفة - رحمه الله - وهو ظاهر مذهبه ووجهه إن الحيوان ليس له حق ولا خصومة ولا ينصب عنه وكيل بخلاف الرقيق من بني آدم فإن له المطالبة بحقه قضاءً لكونه إنسانًا ذا حق، ووافق أبا حنيفة في ذلك ابن رشد من المالكية فقال يؤمر المالك بالنفقة من غير قضاء [(18)]، وقال بالثاني الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد قالوا إن الحيوان مخلوق ذو روح محترم فيجب حفظه كالآدمي (انظر نيل الأوطار)، وهو رواية عن أبي يوسف ورجحه الطحاوي والكمال بن الهمام وقال: إن الحق ما عليه الجماعة أي الأئمة الثلاثة لأن غاية ما فيه أن يتصور فيه دعوى حسبة فيجبره القاضي على عمل الواجب ولا بدع فيه، وأقره في البحر والنهر والمنح (انظر رد المحتار) غير أن الدابة إذا كانت مشتركة بين اثنين وامتنع أحدهما من الإنفاق عليها أجبره القاضي منعًا للضرر عن شريكه فيقول للآبي إما أن تبيع نصيبك من الدابة أو تنفق عليها رعاية لحق شريكك، وهذا باتفاق.
ومثل الدابة في ذلك الملك المشترك إذا احتاج إلى العمارة ولم تمكن قسمته.
81 - وهاك خلاصة ما ذكر في كتب المذاهب الأربعة وغيرها من الإنفاق على الحيوان والإحسان إليه في المعاملة، والتفاوت بينها في ذلك يسير:
إذا تمرد مالك الحيوان عن الاتفاق عليه أو بيعه أو تسييبه إلى مكان يجد فيه رزقه ومأمنه أجبره القاضي على أحد هذه الأمور الثلاثة كما يجبر مالك العبد، بجامع أن كلاً منهما مملوك وذو كبد رطبة ومشغول بمصالح المالك ومحبوس عن مصالح نفسه، ومثل البيع إخراجه عن ملكه بصدقة ونحوها أو إجارته ليعلفه من أجرته، ثم إن كان الحيوان مما يؤكل لحمه زيد على الثلاثة المتقدمة الأمر بذبحه، وبالجملة لا يجوز أن يحبسه جائعًا عطشان ولا يقوم بكفايته، فإن هذا ممنوع حتمًا لما فيه من تعذيب خلق الله.
وقد جاء في بعض كتب المالكية أنه إذا لجأت هرة عمياء إلى بيت شخص وجبت نفقتها عليه حيث لم تقدر على الانصراف أهـ، وقد أجمع العلماء على أنه لا يحل للإنسان أن يحمل دابته ما فيه مشقة عليها بل يرفق بها في ذلك، وقالوا أيضًا أنه يحرم أن يحلب من لبن بهيمته ما يضر بولدها وإنما له أن يأخذ ما زاد على كفايته فقط، وإذا طالت أظفار الحالب وكان ذلك يؤذي البهيمة في ضرعها فلا يجوز له حلبها ما لم يقص ما يؤذيها من أظافره، ويحرم ترك حلب إن كان ذلك يضرها فإن لم يكن ترك الحلب يضرها كره ذلك لما فيه من إضاعة المال، ويستحب ألا يستقصي الحالب في الحلب بل يدع في الضرع شيئًا، ويحرم جز الصوف من أصل الظهر ونحوه لما فيه من تعذيب الحيوان، وعلى مالك النحل أن يبقى للنحل من العسل في الكوارة قدر حاجتها، وعلى مالك دود القز تحصيل ورق الدود لدوده أو تخلية الدود لأكله - إن وجد - لئلا يهلك بدون فائدة، وبالجملة لا يحل حبس شيء من الحيوان حتى يهلك جوعًا أو عطشًا لأنه تعذيب ولو كان الحيوان غير معصوم الدم كما إذا كان مؤذيًا وذلك للحديث الصحيح (إذا قتلتم فأحسنوا القتلة) فيقتل ذلك الحيوان المؤذي كالأفاعي ونحوها ولا يعذبه.
وقال في الفروع: وكره أحمد خصاء غنم وغيرها إلا خوف غضاضة وقال لا يعجبني أن يخصي شيء: ويحرم ضرب الدابة في وجهها ووسمها فيه إلا لمداواة أو غرض صحيح على شرط أن يكون الوسم في غير الوجه ولا يضر الدابة أهـ.
فانظر - رحمك الله - هل أتت جمعيات الرفق بالحيوان بأحسن من هذا ؟
نفقة الأشياء الأخرى
82 - نفقة الملك المشترك الذي لا يقبل القسمة واجبة على كل من الشريكين فإذا امتنع أحدهما أجبره القاضي إحياء لحق شريكه على ما قدمنا وأما الملك غير المشترك فإن كان وقفًا أو لمحجور عليه لصغر أو جنون أو سفه وجب على الولي عمارته لأنه يجب عليه فعل الأصلح، وكذا يجب على ولي المال حفظ ثمر هؤلاء وزرعهم وتعهده بالسقي وغيره مما هو في حاجة إليه، فإن لم يكن وقفًا ولا ملكًا لواحد من هؤلاء فقد قالوا لا تجب عمارته ولا إصلاحه لا فرق في ذلك بين العقار من الدور والأرضين والبساتين والمنقول على اختلاف أنواعه وذلك لأنه لا يترتب على عدم الإنفاق عليه تعذيبه لأنه ليس ذا روح فلا حرمة في نفسه، لكن يكره تركه بلا تعهد ولا إصلاح لما في ذلك من إضاعة المال، وإضاعة المال حرام، وقد صرح في شرح الروض بأن إضاعة المال إنما تحرم إذا كان ذلك بفعل إيجابي كإلقاء المتاع في البحر من غير مسوغ لذلك أما إذا كان بعمل سلبي كترك عمارة الدور وسقي الأشجار فليس هذا بحرام لأن العمل قد يشق على المالك ولا يستطيعه. أهـ، وقال العدوي في حاشيته على الخرشي ما نصه: من كان له شجر يضيع بترك القيام عليه بحقه فإنه يؤمر بالقيام عليه فإن لم يفعل أثم بتضييع المال للنهي عن إضاعته ولم نسمع أنه يؤمر ببيع ذلك أهـ، وقال في الفروع وحكاه عنه في شرح المنتهي: وتستحب النفقة على غير الحيوان ذكره في الواضح وهو ظاهر كلام غيره من أصحابنا ويتوجه الوجوب لأنه متى لم ينفق عليه هلك وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن إضاعة المال أهـ أقول ولم أرَ مثل هذا القول لغير صاحب الفروع وهو وجيه.
تتمة
من موجبات النفقة أيضًا على ما نص عليه الزيدية في كتبهم سد رمق المضطر والضيافة وسأذكر هنا تتميمًا للفائدة خلاصة ما قالوه في ذلك مع زيادة ما يقتضيه المقام من كلام غيرهم.
سد الرمق
83 - يجب سد رمق من يخشى عليه التلف من بني آدم وهو محترم الدم سواء أكان مسلمًا أم غير مسلم لكن يشترط ألا يجد المضطر من يقرضه أو يشتري ماله ولو بدون قيمته فإن وجد شيئًا من ذلك لم يجب على غيره سد رمقه لأنه ليس مضطرًا في هذه الحالة، ويشترط أيضًا ألا يخشى صاحب المال التلف أو الضرر على نفسه في الحال إذا أنفق ما عنده على المضطر أما إذا كان لا يخشى على نفسه في الحال تلفًا أو ضررًا وإنما يخشى ذلك في المستقبل لو أنفق ما عنده الآن فإن الواجب لا يسقط عنه بهذه الخشية بل يلزمه سد الرمق للمحترم، ويتكل في المستقبل على الله.
ويجوز للمضطر أن يأخذ من مال غيره حيث لا يخشى على مالكه الضرر، وللمضطر أن يقاتله إذا منعه فإذا قتل المالك فلا شيء عليه وإن قتله المالك قتل به.
وجميع أنواع الحيوان التي لا تؤكل ولا يجوز قتلها (كالحيوانات المؤذية) كالإنسان محترم الدم في وجوب سد رمقها فإن كانت مما يؤكل فإما سد رمقها وإما تذكيتها.
أقول: روى أبو يوسف في كتاب الخراج إن قومًا وردوا ماء فسألوا أهله أن يدلوهم على البئر فلم يدلوهم عليها فقالوا إن أعناقنا وأعناق مطايانا قد كادت تنقطع من العطش فدلوا على البئر واعطوا دلوًا نستقي به فلم يفعلوا، فذكروا ذلك لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال: فهلا وضعتم فيهم السلاح ؟
ومن هنا أخذ الفقهاء أنه لو منع أحد إنسانًا الماء وكان الممنوع يخاف على نفسه ودابته العطش ولم يجد ماء بقربه ينقع به غلته كان له أن يقاتل المانع بالسلاح لأنه قصد إتلافه بمنعه حقه إذ الماء في البئر مباح غير مملوك لأحد لعدم إحرازه، أما إذا كان محرزًا في الأواني فإنه يقاتله بغير السلاح لأنه مملوك بالإحراز، غير أن بالآخر حاجة شديدة إليه والمفروض أن دفع هذه الحاجة بشر به من الماء لا يضر محرزه كما إذا منعه الطعام عند المخمصة وكان فيه فضل عن حاجة المانع فإن لم يكن في الماء والطعام فضل عن حاجة مالكه فهو مخير بين قسمة الماء والطعام بينه وبين طالبه وبين إيثار نفسه عليه تقديمًا لحياته على حياة غيره [(19)]، وهذا حق له، ويجب على الآخذ به ضمان ما يأخذه من المال والطعام لأن حل الأخذ للإضرار لا ينافي الضمان.
84 - وقال في معين الحكام إذا نزلت برجل مخمصة ووجد مع رجل طعامًا فامتنع من إطعامه ومن مساومته كان له أن يقاتله فإن مات الجائع وجب القصاص عند من يراه وإن أخذ الجائع قهرًا فعليه قيمته أهـ.
وقد حكى ابن القيم - رحمه الله - في الطرق الحكمية الخلاف فيهما إذا بذل صاحب المال ماله للمضطر فيبذله بالثمن أو مجانًا ؟ قال والصحيح بذله مجانًا لوجوب إحياء النفوس مع القدرة على ذلك والإيثار بالفضل مع ضرورة المحتاج أهـ.
وقد أسقط عمر - رضي الله عنه - الحد عن السارق في عام المجاعة وأخذ بذلك الإمامان أحمد والأوزاعي فقيه الشام وقال ابن القيم إن هذا هو محض القياس ومقتضى قواعد الشرع فإن السنة إذا كانت سنة مجاعة وشدة غلب على الناس الحاجة والضرورة فلا يكاد يسلم السارق من ضرورة تدعوه إلى ما يسد به رمقه أهـ.
الضيافة
85 - قال في المنتزع المختار وحواشيه ما خلاصته: الضيافة واجبة على من نزل به ضيف وإنما تجب على من كان من أهل الوبر وهم البدو وذلك للخبر وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - (الضيافة على أهل الوبر [(20)]، وليست على أهل المدر) لكن ذهب أكثر أهل البيت وجمهور الفقهاء إلى أن الحديث منسوخ، لكن الظاهر عدم النسخ ومن ادعاه فعليه الدليل أهـ.
وقال في الروضة الندية وشرحها: يجب على من وجد ما يقرى به من نزل من الضيوف أن يفعل ذلك وحد الضيافة إلى ثلاثة أيام، وما كان وراء ذلك فصدقة، ولا يحل للضيف أن يثوي عنده حتى يحرجه، وإذا لم يفعل القادر على الضيافة ما يجب عليه كان للضيف أن يأخذ من ماله بقدر قراه، وذلك لحديث عقبة بن عامر في الصحيحين قال قلت يا رسول الله إنك تبعثنا فننزل بقوم لا يقروننا فما ترى ؟ قال إن نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فأقبلوا وإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم أهـ وفيهما من حديث ابن شريح الخزاعي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته، قال وما جائزته يا رسول الله ؟ قال يوم وليلة والضيافة ثلاثة أيام فما كان وراء ذلك فهو صدقة، ولا يحل له أن يثوي عنده حتى يحرجه أي يضيق صدره، وأخرج أحمد وأبو داود من حديث المقدام أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول (ليلة الضيف واجبة على كل مسلم فإن أصبح بفنائه محرومًا كان دينًا له عليه إن شاء اقتضاه وإن شاء تركه) أهـ وإسناده صحيح.
86 - وقد ذهب الجمهور إلى أن الضيافة مندوبة لا واجبة واستدلوا بقوله (فليكرم ضيفه جائزته) قالوا والجائزة هي العطية والصلة وأصلها الندب، ولا يخفي أن هذا اللفظ لا ينافي الوجوب وأدلة الباب مقتضية ذلك لأن التغريم لا يكون لإخلال بأمر مندوب، وكذا قوله (واجبة) فإنه نص في محل النزاع وكذلك قوله (فما كان وراء ذلك فهو صدقة) وتمامه فيه.
والحمد لله أولاً وآخرًا وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
حاشية
وبعد فإن من بين الدراسات العليا في جامعات أوروبا نوعين من الدراسة اتسعت بينهما دوائر القوانين على اختلاف أنواعها وظلت تنتقل بهما من حالة إلى خير منها وهما دراسة القانون المقارن ودراسة القانون بتوسع وتعمق بأن يعمد إلى مسألة من مسائله الهامة من الناحية العملية أو الناحية النظرية ويعني بها في الدراسة العناية التامة من جميع جهاتها ثم يسلك هذا المسلك في غيرها وهلم جرا، وبذلك أصبحت قوانين أوربا في تمحيص مستمر وتهذيب وتنقيح، وإني قد شغفت كل الشغف بأن يكون هذا النوع من الدراسة النافعة متبعًا عندنا في الشريعة الإسلامية للمرة الأخيرة لدراستها لذلك كتبت هذه البحوث الثلاثة في مقارنة مذاهب أئمة الشريعة بعضها ببعض في أحكام النفقات لتكون نموذجًا لدراسة المقارنات المذهبية مع الاستطراد الذي يقتضيه المقام من مقارنات ومقابلات للقوانين الوضعية، كما وضعت من قبل في السنة الماضية كتابي (طرق القضاء) ليكون نموذجًا لدراسة الشريعة بتعمق وتوسع، وإني أقول ولا ارتاب في شيء مما أقول إن دراسة الفقه لا تكون مثمرة ومفيدة لطلاب قسم التخصص في الشريعة الإسلامية من حاملي شهادة العالمية في المعاهد الدينية وكذا لطلاب قسم الدكتوراة في كلية الحقوق إلا إذا اتبعت معهم هاتان الطريقتان وكررت كل واحدة منهما على حسب ما يتسع له الزمن فيما يناسب من الموضوعات المختلفة فبذلك وحده تتربى فيهم ملكة الفقه في الشريعة الإسلامية تربية سليمة يرجى أن يظهر أثرها النافع في وضع قوانين شرعية تكون غضة نضرة محكمة الوضع وعلى اتصال دائم بالحياة العملية ليعمل بها في محاكم البلاد الإسلامية والله الموفق.
أحمد إبراهيم إبراهيم
21 ذو الحجة سنة 1348،
20 مايو سنة 1930.
________________________________________
[(8)] وأما كون العبد لا يملك فهذا ليس مجمعًا عليه، فما اشتره من كون الرق من موانع الميراث ليس موضع إجماع (أفاد الشوكاني) وأقول إن مذهب الإمامية أن الوارث إذا كان مملوكًا أجبر الإمام مالكه على عتقه ويأخذ قيمته من التركة وباقيها يكون ملكًا لذلك الوارث بعد عتقه أهـ، انظر مفتاح الكرامة.
[(9)] الخول حاشية الإنسان وخدمة يطلق على الجمع والواحد، والخولي هو الراعي الحسن القيام على المال.
[(10)] يغرغر أي يجود بنفسه عند الموت، وقال في نيل الأوطار أنه مبني للمجهول، أقول يصح لغة بناؤه للفاعل.
[(11)] القهرمان هو الوكيل وأمين الدخل والخرج.
[(12)] بفتح الميم واللام كما في النهاية واللسان والقاموس وضبطه في كشاف القناع بكسر الميم وسكون اللام.
[(13)] اشتراه سيده الإخشيد بثمانية عشر دينارًا أي بأقل من اثني عشر جنيهًا مصريًا ثم أعتقه بعد أن رباه ورقاه حتى جعله من كبار قواد الجيوش وظهرت مواهبه وفضله وحزمه وسياسته حتى صار أهلاً للملك.
[(14)] تطلق القوانين السوداء على مجموع القواعد والأصول التي دونها المستعمرون من الفرنسيين والإنجليز والأمريكان وغيرهم بشأن الاسترقاق وظلت معمولاً بها إلى أمد غير بعيد على ما فيها من منتهى القسوة والفظاعة بل لا تزال آثارها باقية إلى الآن بعد زوالها رسميًا، فقد ترآى لأولئك المستعمرين الجبابرة أن يقسموا بني الإنسان الواحد إلى قسمين: القسم الأول: الجنس الأبيض من أوربيين وأمريكيين، وهؤلاء هم السادة المسيطرون.
والقسم الثاني: غيرهم من بني الإنسان من سائر الألوان الأسود والأسمر والأصفر والأحمر، فهم إما متبربرون أو أنصاف متمدنين أو متوحشون، ثم جعلوا للبيض قانونًا ولغيرهم قانونًا آخر أملاه عليهم حب الذات والهوى والقوة وتجرد نفوسهم من الكرم وما إليه من الأخلاق العالية.
ولا يزالون يرون هذا بالفعل إلى الآن لا يتزحزحون عنه قيد أنملة وإن كانت قوانينهم قد تلطفت كل التلطف حتى أصبح ظاهرها خيرًا وبركة على العالم كله لكنهم في تطبيقها لا يزالون يلاحظون هذا الفرق بين الإنسان الأبيض وذلك الشيء الآخر المخلوق على صورته من عربي وبربري وزنجي وغير هؤلاء، وقد نقل مكاتب كوكب الشرق في وهران في مايو 1930 أربع حوادث قتل فيها أربعة من السادة البيض الفرنسيين أربعة من العرب المسلمين وأقر كل منهم بالقتل أمام المحكمة لكن المحكمة برأتهم جميعًا لأن بعضهم قال إنه ندم على ما فعل وبعضهم ليس له سوابق فمن أجل ذلك برئوا جميعًا (وانظر الكلمة القيمة التي في العدد (1632) من كوكب الشرق لمدير القسم الشرقي منه).
هذا هو صنيع أولئك السادة وأما صنيع الإسلام منذ القرن السابع من الميلاد فلم يسلك هذا المسلك الذي سلكوه بل قرر أن أكرم الناس عند الله أتقاهم ولو كان عبدًا زنجيًا وأنه لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى وإن اختلاف الألسنة والألوان في بني الإنسان الواحد دليل على قدرة الخالق سبحانه وتعالى وآية من آياته في نظر ذوي العقول وأولى العلم وليس ذلك سببًا لأن يفرق بينهم في التكاليف والمعاملات حتى لقد قضى ذلك الشرع الذي خذله أهله بالمساواة في التضامن بين الأحرار والعبيد وبين الذكور والإناث وبين المسلمين وغير المسلمين المقيمين في ديار الإسلام، وأن حكومة الإمام أبي يوسف تقتل المسلم بالذمي والدولة الإسلامية أعظم سطوة مائة مرة من دولة الفرنسيين الآن فقل لي بربك أية مساواة جيء بها إلى العالم تعادل هذه المساواة ؟ ولله الحجة البالغة.
[(15)] الخَشاش بفتح الخاء وكسرها هوام الأرض وحشراتها قال في تعليقات المهذب سميت بذلك لأنها تخش في الأرض أي تدخل فيها.
[(16)] الثرى هو التراب الندي واللهث هو إخراج اللسان عطشًا أو تعبًا وفعله من باب منع.
[(17)] الرطبة أي ذات الحياة.
[(18)] قال الحطاب في شرحه على متن خليل ما ملخصه قال ابن رشد: ويقضي للعبد على سيده أن قصر عما يجب له بالمعروف في مطعمه وملبسه، بخلاف ما يأكله من البهائم، فإنه يؤمر بتقوى الله في ترك ذلك عنها، ولا يقضي عليه بعلفها، وقد روي عن أبي يوسف أنه يقضي على الرجل يعلف دابته به كما يقضي عليه بنفقة عبده، لما جاء أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل حائط رجل من الأنصار فإذا فيه جمل، فلما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - رق له وذرفت عيناه، فسمح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سروه وذفريه حتى سكن ثم قال من رب هذا الجمل ؟ فجاء فتى من الأنصار فقال هولي يا رسول الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفلا تتقي الله في البهيمة التي ملكك الله إياها ؟ فإنه شكا إليّ أنك تجيعه قال ابن رشد: والفرق بين العبد والدابة أن العبد مكلف يجب عليه الحقوق من الجنايات وغيرها، فكما يقضي عليه، يقضى له، وأما الدابة فهي غير مكلفة لا يجب عليها حق، ولا يلزمها جناية، فكما لا يقضي عليها لا يقضي لها أهـ، ونقل ابن عرفة من أبي عمرو ما يخالف ما قاله ابن رشد قال: يجبر الرجل على أن يعلف دابته أو يرعاها إن كان في رعيها ما يكفيها، أو يبيعها، أو يذبح ما يجوز ذبحه، ولا يترك يعذبها بالجوع، ولازم هذا القضاء عليه لأنه منكر، وتغيير المنكر واجب القضاء به، وهذا أصوب مما قاله ابن رشد على إن تعذر شكوى الدابة يوجب كونها أحرى بالقضاء لها أهـ والسر وهو الظهر، والذفر هو الموضع الذي خلف أذن البعير أول ما يعرق منه أهـ منه أقول: والذي في اللسان والقاموس والتاج الذفري بألف التأنيث المقصورة، وقال في اللسان في حكاية الحديث (فمسح رأسه وذفراه)، وقيل هو منون على وزان أدرهم، فالظاهران الذفر بدون تلك الألف خطأ، والله أعلم.
[(19)] أقول هذه هي مرتبة العدل التي تليق بالتشريع العام ووراءها مرتبة الإحسان وهي مرتبة الإيثار على النفس وهي من أعلى المطالب وقد أثر كعب بن مامة غيره على نفسه بالماء حتى مات من العطش وكذلك كان شأن بعض مجاهدي الصحابة والتابعين وهم يجودون بأنفسهم في معارك الحروب حتى مات المؤثر منهم على نفسه عطشًا وهو مثخن بجراحه
وجاد بالنفس إذ ضن البخيل بها والجود بالنفس أقصى غاية الجود
وبعد فالله تعالى يقول (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون).
[(20)] أهل الوبر هم سكان الصحارى يسكنون الخيام المصنوعة من وبر الإبل وأهل المدر هم أهل المدن والقرى لأن بنيانها من المدر وهو قطع الطين اليابس ونحوها مما تبنى به البيوت.