المبحث الأول
القواعد العامة في الإثبات
تنقسم إلى خمسة مطالب نبحث في المطلب الأول مبدأ حياد القاضي وفي المطلب الثاني الحق في الإثبات وفي المطلب الثالث محل الإثبات وفي المطلب الرابع عبء الإثبات
المطلب الأول
مبدأ حياد القاضي
فالأصل أن القاضي مقيد بطرق الإثبات التي حددها القانون ، وأن دوره يقتصر على تلقي ما يقدمه الخصوم من أدلة في الدعوى ،وتقديرها وفقا للقيمة التي قررها لها القانون فليس من وظيفة القاضي أن يساهم في جمع أدلة جديدة ولا يستطيع القاضي أن يستند إلى أدلة استنبطها بنفسه خارج الجلسة ، ولا يجوز له أن يأخذ بأدلة قامت في قضية أخرى ، أو قامت في القضية المعروضة عليه ولم يعلم بها أحد طرفي الخصومة وهذا الموقف السلبي في تسير الدعوى يعبر عنه بمبدأ حياد القاضي (( ولا يتطلب المشرع حياد القاضي فحسب ، وإنما يتطلب منه حماية مظهر الحيدة الذي يجب أن يتحلى به ومن متطلبات مبدأ حياد القاضي ، أو حماية مظهر الحيدة ، أو هما معا ، إلا يكون للقاضي مصلحة في الدعوى التي ينظرها ..مادية كانت أو معنوية وإلا يكون له رأي مسبق في الدعوى التي ينظرها ، فهذا الرأي قد يشل تقديره الصحيح .. وإلا يخل بحق الدفاع وهو الحق الذي يستوجب اتخاذ الإجراءات في مواجهة الخصوم ويستوجب بداهة المساواة بينهم في المعاملة وجه العموم ومنحهم جميعا فرصا متكافئة على وجه الخصوص )) (3)
وحياد القاضي يمنعه أن يقضي بعلمه الشخصي عن وقائع الدعوى وهذا ما عبرت عنه المادة 3 من قانون البينات الأردني (ليس لقاض أن يحكم بعلمه الشخصي)
والسبب في ذلك أن علم القاضي هنا يكون دليلا في القضية ، ولما كان الخصوم حق مناقشة هذا الدليل ، اقتضى الأمر أن ينزل القاضي بمنزلة الخصوم ، فيكون خصما وحكما وهذا لا يجوز(1) ولا تعد المعلومات المستقاة من خبرة القاضي في الشؤون العامة المفروض إلمام الكافة بها من قبيل المعلومات الشخصية المحظور على القاضي أن يبني حكمه عليها
- أمثلة على الدور الإيجابي للقاضي في الإثبات :
ومن الأمثلة على هذا الدور الإيجابي للقاضي في الإثبات في ظل أصول المحاكمات المدنية ، أن للقاضي أن يستدعي من يرى سماع شهادته وأن يأمر بحضور الخصم لاستجوابه أو إدخال شخص لأجل إلزامه بتقديم ورقة تحت يده ، وأن يجري تحقيقا استكشافا للحقيقة ، وأن يوجه اليمين الحاسمة من تلقاء نفسه إلى أي من الخصمين وأن يقرر من تلقاء نفسه الكشف والخبرة عند الاقتضاء كذلك يخول للتقاضي استنباط القرائن القضائية وذلك في الحدود التي يجيزها القانون , وللقاضي أيضا سلطة تقدير ما يترتب على العيوب المادية في المحرر من إسقاط قيمته ، والحكم ببطلان أو رد الورقة ولو لم يدع بتزويرها
وللقاضي كذلك سلطة العدول عما أمر به من إجراءات الإثبات وبعدم التقيد بنتيجة الإجراءات المتعلقة بالإثبات
المطلب الثاني
الحق في الإثبات
فالإثبات حق الخصوم فالمدعي من حقه أن يقدم جميع ما عنده من أدلة يسمح بها القانون لإثبات ما يدعيه وللمدعى عليه الحق في الرد والنفي أي إقامة الدليل على عكس ما يدعيه المدعي وعلى القاضي أن يمكنهما من ذلك وإلا كان مخلا بحق الخصوم في الإثبات وكان حكمه مشوبا بالقصور الذي يستوجب النقض إلا إذا كان الإثبات لا جدوى فيه , لأن وجه الحق في الخصومة قد استبان , أو لأن الدعوى من الأدلة ما يغني عنه
واحترام حق الإثبات وحق النفي يقتضي - بطبيعة الحال – اتخاذ إجراءات الإثبات في مواجهة الخصوم وتمكينهم من مناقشة وتنفيذ الأدلة المقدمة في الدعوى وهذا ما يعبر عنه بمبدأ (( المجابهة بالدليل ))
وقد حرص المشرع الأردني في قانون أصول المحاكمات المدنية على تأكيد هذا المبدأ فقضى بأنه (( لا يجوز للمدعي أو المدعى عليه أن يبدي في الجلسة التي تخلف فيها خصمه طلبات جديدة أو أن يعدل أو يزيد أن ينقص في الطلبات الأولى ما لم يكن التعديل متمخضا لمصلحة خصمه وغير مؤثر في أي حق من حقوقه ))
فلا يحوز للقاضي أن يعتمد في حكمه أسبابا أو إيضاحات أدلى بها أحد الخصوم أو مستندات أبرزها إلا إذا أتاح للخصوم الآخرين مناقشتها وجاهيا ولا يصح إسناد حكمه إلى أسباب قانونية أثارها من تلقاء نفسه دون أن يدعو الخصوم مقدما إلى تقديم ملاحظاتهم بشأنها
مضمون الحق في الإثبات :
يخول حق الإثبات للخصم الحق في إثبات ما يدعيه بالوسائل التي حددها القانون فللخصم الحق في الاستشهاد بالشهود في الأحوال التي يجيز القانون فيها الإثبات بالبينة وهذا الحق يقابله واجب على الشاهد بالحضور أمام المحكمة والإدلاء بشهادته ، إلا إذا كان من الأشخاص الذين لا يجوز لهم الشهادة في مسائل معينة ,فطبقا لقانون البينات الأردني
(( الموظفون والمستخدمون والمكلفون بخدمة عامة لا يشهدون ولو بعد تركهم العمل بما يكون قد وصل إلى علمهم أثناء قيامهم بالعمل من معلومات لا يجوز أذاعتها ومع ذلك فالسلطة المختصة أن تأذن لهم بالشهادة بناء على طلب المحكمة أو أحد الخصوم ))
(( من علم من المحامين أو الوكلاء أو الأطباء عن طريق مهنته أو صنعته بواقعة أو بمعلومات
لا يجوز له أن يفشيها ولو بعد انتهاء خدمته أو زوال صفته ما لم يكن ذكرها له مقصوداً به ارتكاب جناية أو جنحة ويجب عليهم أن يؤدوا الشهادة عن تلك الواقعة أو المعلومات متى طلب منهم من أسرها إليهم على أن لا يخل ذلك بأحكام القانونين الخاص بهم ))
(( لا يجوز لأحد الزوجين أن يفشي بغير رضا الآخر ما أبلغه إليه أثناء الزوجية ولو بعد انفصامها إلا في حالة رفع دعوى من أحدهما على الآخر أو إقامة دعوى على أحدهم بسبب جناية أو جنحة وقعة منه على الآخر ))
وكذلك للخصم الحق في توجيه اليمين الحاسمة إلى خصمه ويجوز لمن توجه إليه اليمين الحاسمة أن يردها لمن وجهها كذلك يحق للخصم رد الشاهد ورد الخبير التي يجيز فيها القانون ذلك
لا يجوز أن يصطنع الشخص دليلا لنفسه :
إذا كان للخصم الحق في أن يقدم الأدلة التي تثبت ما يدعيه ، فأنه لا يجوز له أن يصطنع دليلا لنفسه فإذا اشترط القانون الكتابة للإثبات ، فلا يجوز أن يكون الدليل الذي يقدمه الخصم ورقة صادرة منه ، أو محررات دونها بنفسه وإنما يجب أن تكون هذه الكتابة صادر من الخصم الذي يتم التمسك بالكتابة في مواجهته وإذا اشترط القانون البينة للإثبات فلا يجوز أن يكون الدليل الذي يقدمه الخصم مجرد أقواله وادعاءاته ، فلا يحق للخصم أن يشهد لنفسه ضد خصمه
على أن القانون يبيح للشخص في حالات استثنائية أن يحتج بدليل صادر عنه من ذلك ما نصت عليه المادة 15 من قانون البينات الأردني من أن (( دفاتر التجار لا تكون حجة على غير التجار إلا أن البيانات الواردة فيها عما أورده التجار تصح أساسا للمحكمة أن توجه اليمن المتممة إلى لأي من الطرفين )) فطبقا لهذا النص للتاجر أن يتمسك بما دونه في دفاتره كدليل لصالحه ولو أنه ليس بدليل كامل وإنما يصلح أساسا يجيز للقاضي أن يوجه اليمين المتممة إلى أي من الطرفين
لا يجوز إجبار الشخص على تقديم دليل ضد نفسه :
الأصل أنه لا يجوز إجبار الخصم على تقديم دليل ضد نفسه , غير أنه استثناء من هذا الأصل يجوز لأحد طرفي الخصومة أن يجبر الخصم الآخر على تقديم ما تحت يده من محررات منتجة في الدعوى وذلك في حالات نصت عليه المادة عشرين من قانون البينات الأردني
- الحالة الأولى : إذا كان القانون يجيز مطالبته بتقديمها أو بتسليمها
- الحالة الثانية : إذا استند إليها خصمه في أية مرحلة من مراحل الدعوى
ومع توافر حالة من الحالات السابقة التي يجوز فيها إلزام الخصم بتقديم محرر تحت يده ، فإن الفصل في طلب إلزام الخصم بذلك يتعلق بأوجه الإثبات وهو بذلك متروك لتقدير القاضي فله أن يرفضه إذا تبين له عدم جديته ، أو عدم جدواه ، أو إذا كون عقيدته في الدعوى من أدلة أخرى اطمأن إليها
ومع كل ذلك أنه يجب استيفاء شروط معينة لطلب إلزام الخصم بتقديم محرر تحت يده فطبقا للمادة 21 من قانون البينات الأردني يجب أن يبين في هذا الطلب تحت طائلة الرد :
1 - أوصاف السند أو الورقة
2- فحوى السند أو الورقة بقدر ما يمكن من التفصيل
3- الواقعة التي يستشهد بالورقة التي تؤيد أنها تحت يد الخصم
4- وجه إلزام الخصم بتقديمها أوصاف ألأأأأو
وإذا استوفى الطلب الشروط المبينة فأن إغفال المحكمة إجابة الطلب أو الرد عليه يشوب حكمها بالقصور
اثر امتناع الخصم عن تقديم محرر طلبه خصمه :
(( إذا أثبت الطالب طلبه أو أقر الخصم بأن السند أو الورقة في حوزته أو سكت قررت المحكمة لزوم تقديم السند أو الورقة في الحال أو في أقرب موعد تحدده وإذا أنكر الخصم ولم يقدم الطالب إثباتا كافيا لصحة الطلب وجب أن يحلف المنكر يمينا بأن الورقة أو السند لا وجود له وأنه لا يعلم وجوده ولا مكانه وأنه لم يخفه أو لم يهمل البحث عنه ليحرم خصمه من الاستشهاد به )) وهذا ما تقضي به المادة 22 من قانون البينات الأردني
(( إذا لم يقم الخصم بتقديم الورقة أو السند في الموعد الذي حددته المحكمة أو امتنع عن حلف اليمين المذكورة اعتبرت الصورة التي قدمها خصمه صحيحة مطابقة لأصلها فإن لم يكن خصمه قد قدم صورة عن الورقة أو السند جاز الأخذ بقوله فيما يتعلق بشكله أو بموضوعه )) وهذا ما تقضي به المادة 23 من قانون البينات الأردني
المطلب الثالث
محل الإثبات
الشروط الواجب توافرها في الواقعة القانونية محل الإثبات :
تنص المادة الرابعة من قانون البينات الأردني على انه (( يجب أن تكون الوقائع التي يراد إثباتها متعلقة بالدعوى و منتجة في الإثبات وجائزاً قبولها )) ويتضح من النص السابق أنه يلزم في الواقعة المراد إثباتها تتوافر شروط هي :
أن تكون الواقعة متعلقة بالدعوى , وأن تكون منتجة فيها . وأن تكون جائزة القبول , ويضيف الفقه شرطين آخرين تفرضهما طبيعة الأشياء , وهما أن تكون الواقعة المراد إثباتها محل نزاع , وأن تكون محددة
- ونعرض فيما يلي لكل من هذه الشروط الخمسة
الشرط الأول : يجب أن تكون الواقعة المراد إثباتها متعلقة بالدعوى
يشترط أن تكون الواقعة المراد إثباتها متعلقة بالدعوى أي متصلة بالحق المطالب به وإذا انصب الإثبات على الواقعة التي تكون مصدر الحق ، فلا شك أن الواقعة في هذه الحالة تكون متعلقة بالحق المطالب به كما إذا اثبت المؤجر عقد الإيجار لكي يطالب بالأجرة ، وكما إذا اثبت المقرض عقد القرض لكي يطالب بسداد الدين
الشرط الثاني : يجب أن تكون الواقعة المراد إثباتها منتجة في الدعوى
ومفاد ذلك أن يكون من شان إثبات الواقعة أن يؤدي إلى اقتناع القاضي بصحة الحق المدعي به وليست كل واقعة متعلقة بالحق المدعي به تكون بالضرورة منتجة في الدعوى ومثال ذلك (( تقديم المستأجر مخالصات بالأجرة عن مدد سابقة على المدة التي يطالبه المؤجر بأجرتها ذلك لأن دفع الأجرة عن مدد سابقة لا يفيد دفعها عن مدة لاحقة .
أو تقديم من يدعي اكتساب حق الملكية على العقار بالتقادم الدليل على حيازته للعقار مدة 3 سنوات متصلة لان هذه المدة اقل من المدة اللازمة لكسب ملكية العقار بالتقادم (1)
أو تقديم من يدعي وفاء دين الدليل على صدور إقرار من غير الدائن بهذا الوفاء ، لان الإقرار على افتراض ثبوته لا يفيد الدائن (4)
ويتضح من الأمثلة السابقة أنه لا يكفي أن تكون الواقعة المراد إثباتها متعلقة بالحق المطالب به وإنما يجب أيضا أن تكون منتجة في الدعوى ((وقد يقال لماذا يشترط في الواقعة هذان الشرطان معا ، وأحدهما - وهو الإنتاج يستغرق الآخر فكان يكفي أن يشترط وحده ؟ وهذا صحيح من الناحية النظرية ولكن يحسن ، من الناحية العملية ، فصل الشرطين أحدهما عن الآخر فقد يطلب الخصم إثبات واقعة يتضح من أول وهلة أنها متعلقة بالدعوى فهذا يكفي لقبول إثبات هذه الواقعة قبولا مبدئيا ، حتى إذا تبين فيما بعد أنها غير منتجة في الإثبات رفض القاضي استمرار السير في إثبات الواقعة أو أضاف إليها وقائع أخرى تتساند معها أما إذا أدمج الشرطان في شرط واحد، وكان لا بد من أن تكون الواقعة منتجة من مبدأ الأمر ، لم يستطع القاضي قبول إثبات الواقعة قبولا مبدئيا ، فيتعطل بذلك طريق الإثبات (1) ويترتب على هذا الشرط أنه يجوز للمحكمة أن تعدل عما أمرت به من إجراءات متى رأت انه اصبح غير منتج وذلك إذا ما وجدت في أوراق الدعوى ما يكفي لتكوين عقيدتها الفصل في موضوع النزاع واعتبار بان من العبث وضياع الجهد والوقت الإصرار على تنفيذ إجراء اتضح أنه غير مجد (8)
الشرط الثالث : يجب أن تكون الواقعة المراد إثباتها جائزة القبول :
والواقعة قد تكون غير جائز قبول إثباتها لاستحالة تمنع من الإثبات أو لأن القانون يحرم إثباتها
والاستحالة التي تمنع من الإثبات قد تكون استحالة مادية ، كمن يدعي أنه ابن لشخص أصغر منه سنا ، وقد تكون الاستحالة نتيجة عدم تحديد الواقعة كمن يدعي انه مالك بعقد دون أن يبين هل هو عقد بيع أو هبة , والقانون قد يحرم إثبات واقعة لأسباب مختلفة نزولا على اعتبارات النظام العام والآداب ، فيمنع إثبات دين القمار أو بيع المخدرات أو قرض بفائدة تزيد عن الحد الأقصى الذي حدد القانون ، أو علاقة جنسية غير مشروعة أو صحة القذف وقد يمنع القانون إثبات واقعة لأسباب تقتضيها الصياغة الفنية كما هو الحال بالنسبة لواقعة مخالفة لقرينة قانونية قاطعة فلا يجوز للخصم إثبات عدم صحة حكم صدر ضده لان هذا يتعارض مع مبدأ حجية الأمر المقضي
وهناك من الوقائع ما تعتبر في ذاتها جائزة القبول ولكن القانون يحظر قبول الدليل في إثباتها كما إذا كان الإثبات ينطوي على إفشاء أسرار الوظيفة أو المهنة أو الصنعة أو علاقة الزوجية فكما رأينا لا تجوز الشهادة من الموظف العام والمحامي والوكيل والطبيب والزوج في حالات معينة ، وحظر الإثبات في هذا الصدد لا يتعلق بواقعة يحرم إثباتها وإنما يتعلق بدليل لا يجوز قبوله في صورة معينة بمعنى أن عدم جواز القبول لا ينصب على الواقعة في حد ذاتها وإنما على دليلها ، بحيث تكون الواقعة التي يقف عليها الشخص بسبب وظيفته أو مهنته جائزة القبول ولكن لا يجوز إثباتها بشهادته (8)
كذلك قد تكون الواقعة في ذاتها جائزة القبول ولكن القانون لا يجيز إثباتها إلا طبقا لطرق معينة فالقانون الأردني لا يجيز الإثبات بالشهادة في الالتزامات التعاقدية حتى لو كان المطلوب لا تزيد قيمته على عشرة دنانير فيما يخالف أو يجاوز ما اشتمل عليه دليل كتابي وفيما إذا كان المطلوب هو الباقي أو هو جزء من حق لا يجوز إثباته بالشهادة وإذا طالب أحد الخصوم الدعوى بما تزيد قيمته على عشرة دنانير ثم عدل طلبه إلى ما لا يزيد على هذه القيمة ولا تقبل البينة الشفوية لإثبات ما يخالف مضمون السند ولا يجوز دحض السند بسند آخر أو بإقرار أو بدفاتر من يدعي بالسند ويشترط جواز قبول البينة الشفوية لإثبات الظروف التي أحاطت بتنظيم السند أو لإثبات العلاقة بما بين السند بموضوع الدعوى وسند آخر وكذلك يشترط جواز قبول البينة الشفوية ضد السند بحالات الإدعاء بأنه أخذ عن طريق الغش والاحتيال أو الإكراه حسب نص المادة 29 من قانون البينات الأردني
الشرط الرابع : يجب أن تكون الواقعة المراد إثباتها محل نزاع :
وهذا شرط بديهي ، فإذا لم يوجد نزاع حول الواقعة فلا محل للنظر فيها فلا داعي لاستلزام إثباتها , فإن كانت مسلما بها من الخصم الآخر تنتفي الغاية من إثباتها ، إلا أنه ينبغي أن يكون هذا الاعتراف قاطعا صريحا وشاملا
الشرط الخامس : يجب أن تكون الواقعة المراد إثباتها محددة :
وهذا شرط بديهي أيضا . فالواقعة القانونية محل الإثبات يجب أن تكون محددة كافيا نافيا للجهالة وإلا تعذر إثباتها وضاع وقت القضاء في غير فائدة وطال أمد النزاع بغير داع فإذا أدعى الخصم أن مصدر الدين الذي يطالب هو عقد ، يجب عليه تحديد ماهية هذا العقد ، ما إذا كان عقد بيع أو عقد قرض أو عقد هبة أو غير ذلك من العقود . وإذا أدعى الخصم أنه مالك عليه أن يحدد سند ملكيته
ويجب أن يكون تحديد الواقعة كافيا حتى يمكن التحقق من أن الدليل الذي سيقدم يتعلق بها لا بغيرها فإذا كان محل الإثبات عقداً وجب بيان نوعه وتعيين محله ، كأن يذكر مثلا أنه عقد بيع سيارة معينة بأوصافها وأن يعين تاريخه وإن كان وفاء بدين وجب بيان زمانه ومكانه وأصل الدين المؤمن به ومقداره ، وإن كان واقعة ضرب وجب تعين الضارب والمضروب وزمانه ومكانه الضرب الخ .. أما الإدعاء بعقد أو بوفاء أو بفعل ضار دون بيان خصائصه التي يتعين بها فلا يكون قابلا للإثبات (8)
والواقعة القانونية محل الإثبات قد تكون واقعة إيجابية كوجود شيء معين أو القيام بعمل معين وقد تكون واقعة سلبية كالامتناع عن عمل معين أو عدم التقصير في الوفاء بالتزام معين والواقعة السلبية كالواقعة الإيجابية يمكن قبولها للإثبات ما دامت محددة . وإثبات الواقعة السلبية قد يكون عن طريق إثبات واقعة إيجابية منافية لها فإذا أراد الطبيب أن يثبت عدم تقصيره في علاج مريض فأنه يستطيع إثبات ذلك بإقامة الدليل على أنه قام بالعناية اللازمة التي يفرضها واجب العلاج وإذا أراد الدائن بالالتزام بعدم البناء أن يثبت عدم وفاء المدين بهذا الالتزام فإنه يستطيع إثبات ذلك بإقامة الدليل على حصول البناء
المطلب الرابع
عبء الإثبات
عبء الإثبات يقع على من يدعي خلاف الوضع الثابت :
تنص المادة 73 من القانون المدني الأردني (( الأصل براءة الذمة وعلى الدائن أن يثبت حقه وللمدين نفيه)) وتنص المادة 77 من القانون المدني الأردني ( البينة على من أدعى واليمين على من أنكر ) وكذلك المادة 75 من القانون المدني (الأصل بقاء ما كان على ما كان كما أن الأصل في الأمور العارضة العدم , وما ثبت بزمان يحكم ببقائه ما لم يوجد دليل على خلافه)
ويتضح من النصوص السابقة أن عبء الإثبات على المدعي وليس المقصود بالمدعي الخصم الذي يبدأ إجراءات رفع الدعوى وإنما يقصد به كل من ادعى أمراً على خلاف الوضع الثابت أصلا أو عرضا أو ظاهراً أو فرضا بعبارة أخرى ، المدعى بالواقعة محل الإثبات ، لا المدعي في الدعوى , والأصل في الحقوق الشخصية أو الالتزامات هو براءة الذمة فإذا ادعى الدائن أن له دينا في ذمة آخر فأنه يدعي خلاف الأصل وعليه إثبات ما يدعيه بإقامة الدليل على مصدر هذا الدين أما المدعى عليه فلا يكلف بأي إثبات وذلك لأنه يتمسك بالوضع الثابت أصلا
وإذا نجح الدائن في ذلك انتفى الوضع الثابت أصلا وأصبحت المديونية هي الوضع الثابت عرضا ، فإذا أراد المدين أن يثبت عكس ذلك فعليه إقامة الدليل على دعواه ، كأن يثبت أن الدين قد انقضى بسبب من أسباب الانقضاء كالوفاء مثلا
و هناك حالات كثيرة يعتبر فيها القانون وضعا معينا هو الأصل ، فمن تمسك به لا يكلف بأي إثبات ، ومن يدعي خلافه يقع عليه عبء إثبات فالأصل أن كل شخص أهل للتعاقد ما لم تسلب أهليته أو يحد منها بحكم القانون والأصل سلامة العقد من العيوب فمن يدعي خلاف ذلك عليه إثباته والأصل أن للعقد سببا حقيقيا مشروعا ، فإذا أقيم الدليل على صورية السبب فعلى من يدعي أن للالتزام سببا آخر مشروعا أن يثبت ما يدعيه والأصل في الإجراءات أنها روعيت ، وعلى من يدعي خلاف ذلك إثبات ما يدعيه
والأصل بالنسبة للحقوق العينية هو وجوب احترام الوضع الثابت ظاهراً فالحق العيني يخول صاحبه سلطة مباشرة على شيء معين ، وهذه السلطة تخلق وضعا ظاهراً لصالح من يباشرها فحائز العقار يعتبر هو المالك لهذا العقار ولا يطلب منه إقامة الدليل على ملكيته وعلى من يدعي خلاف الظاهر إثبات ما يدعيه والأصل أيضا أن تعتبر الملكية خالية من كل حق للغير كحق ارتفاق أو حق رهن فإذا ادعى شخص أن له حقا على ملك الغير فعليه إثبات ما يدعيه لأنه يدعي خلاف الظاهر
إلى جانب الوضع الثابت أصلا أو عرضا أو ظاهراً توجد أوضاع يفترض القانون وجودها عن طريق قرائن قانونية يقيمها لصالح المدعي والقرينة القانونية وسيلة يلجأ إليها المشرع في حالات يصعب فيها على المدعي إقامة الدليل على ما يدعيه ، فيفترض ثبوت واقعة معينة بمجرد ثبوت واقعة أخرى ويعفى المدعى من إقامة الدليل على الواقعة التي يدعيها ، ويكتفي منه إثبات الظروف اللازمة لقيام القرينة القانونية
والقرائن القانونية نوعان ، فهي إما أن تكون قرائن قاطعة لا تقبل إثبات العكس ، وأما أن تكون قرائن غير قاطعة وهذه تقبل إثبات العكس وعلى هذا تنص المادة 40 من قانون البينات الأردني التي تقضي بأن (( القرينة القانونية تغني من تقررت لمصلحته عن أية طريقة أخرى من طرق الإثبات على أنه يجوز نقض هذه القرينة بالدليل العكسي ، ما لم يوجد نص يقضي بغير ذلك))
والقرينة القانونية القاطعة تعفى من تقررت لصالحه من عبء إثبات الواقعة الأصلية المطلوب إثباتها وهي أيضا لا تقبل الدليل العكسي أما القرينة القانونية غير القاطعة ، أو القرينة البسيطة ، فالافتراض لقانوني فيها يقبل إثبات العكس ومثال ذلك التأشير على سند الدين بما يستفاد منه براءة ذمة لمدين حجة على الدائن إلى أن يثبت العكس ، ولو لم يكن التأشير موقعا عليه ما دام السند لم يخرج قط من حيازته فإذا وجد التأشير على سند الدين بما يفيد براءة الذمة ، فإن المدين لا يطالب بأي إثبات ، ويكون على الدائن إذا أراد أن ينقض دلالة هذا التأشير ، أن يقيم الدليل على ذلك ، فعليه أن يثبت أن المدين لم يقم بالوفاء رغم التأشير الصادر منه
والوفاء بقسط من الأجرة قرينة على الوفاء بالأقساط السابقة على هذا لقسط حتى يقوم الدليل على عكس ذلك فطبقا لهذه القرينة يعفي المستأجر من إثبات الوفاء بالأقساط السابقة على القسط الذي يطالب به المؤجر وعليه فقط إثبات الوفاء بهذا القسط ذلك أن المؤجر لا يقبل عادة استيفاء قسط من الأجرة عن مدة معينة إلا إذا كان قد استوفى الأقساط السابقة عليه والمستأجر لا يحتفظ بالعادة بمخالصات الوفاء بالأجرة إلا بالنسبة للقسط الأخير غير أن هذه القرينة ليست قاطعة ، فيستطيع المؤجر أن يقيم الدليل على أن المستأجر لم يقم بالوفاء بالأقساط السابقة
وإذا كان عبء الإثبات يتحمله من يدعي خلاف الوضع الثابت أصلا أو عرضا أو ظاهراً أو فرضا ، فإن عبء الإثبات يوزع عملا بين الخصمين في الدعوى ويتبادل الخصمان ذلك حتى يعجز أحدهما عن إقامة الدليل على ما يدعيه فيخسر دعواه ويحكم للآخر
فالمريض مثلا إذا أنكر على الطبيب بذل العناية الواجبة ، فإن عبء إثبات ذلك يقع على المريض إلا أنه إذا اثبت هذا المريض واقعة ترجح إهمال الطبيب وفقا للأصول الطبية المستقرة فإن المريض يكون بذلك قد أقام قرينة قضائية على عدم تنفيذ الطبيب لالتزامه فينتقل عبء الإثبات بمقتضاها إلى الطبيب ويتعين عليه لكي يدرأ المسؤولية عن نفسه أن ينفي عنه وصف الإهمال