بحث في جريمة ابادة الجنس البشري
المقدمة:
توصف جريمة "الإبادة الجماعيةبأنها أشد الجرائم الدولية جسامة وبأنها "جريمة الجرائم". وقد تضمن النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية (1998) في مادته السادسة نصا يتعلق بجريمة الإبادة الجماعية.ولم يأت هذا النظام شاذا عن سابقيه: النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة والنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية لرواندا، اللذين تضمنا نصا مشابها لنص المادة السادسة من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية يتعلق بتعريف جريمة الإبادة الجماعية
من الملفت للنظر في هذا المجال أن تعريف الإبادة الجماعية المدرج في الأسناد الدولية الثلاثة المشار اليها أعلاه جاء مطابقا تماما لتعريف هذه الجريمة المقرر في المادة الثانية من إتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها التي اعتمدتها الجمعية العامة للامم المتحدة في 9/12/1948. فتعريف الإبادة الجماعية بأنها: "أي من الأفعال الآتية: المرتكبة بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية، بصفتها هذه
أ- قتل أفراد الجماعة
ب- إلحاق ضرر جسدي أو عقلي جسيم بأفراد الجماعة
ت- إخضاع الجماعة عمدا لأحوال معيشية يقصد بها إهلاكها كليا أو جزئيا
ث- فرض تدابير تستهدف منع الإنجاب داخل الجماعة
ج- نقل أطفال الجماعة عنوة إلى جماعة أخرى.
يعد تعريفا مستقرا لها منذ عقود خمسة أو يزيد؛ أي منذ إعتماد إتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها
ظهر مصطلح "الإبادة الجماعية" رسميا لأول مرة في التوصية رقم 96/1 الصادرة عن الجمعية العامة للامم المتحدة في 11/12/1946، حيث أدانت الجمعية العامة هذه الجريمة بعد أن وسمتها بأنها من جرائم القانون الدولي وبأنها محل إدانة العالم المتمدن
أما أول ظهور لمصطلح "الإبادة الجماعية" في أدبيات القانون الدولي وفي الفكر الإنساني فكان عام 1944 من خلال الذي كان مستشارا لوزارة الحرب التابعة للولايات المتحدة، من أجل توضيح خصوصية الجرائم المرتكبة من النازيين. وقد كان ذاته قد اقترح وصف الأفعال الهادفة لتدمير الجماعات العرقية أو الإجتماعية أو الدينية بأنها "جريمة من جرائم قانون الشعوب وقد قام آنذاك بتصنيف هذه الأفعال إلى أفعال موجهة للقضاء على الوجود المادي للجماعات، وإلى أفعال موجهة ضد القيم الثقافية للجماعات. وإقترح وضع إتفاقية دولية للقضاء على هذه الجريمة والمعاقبة عليها.
وجرى التأكيد على وضع الإتفاقية المقترحة بعد عامين من إقتراح في بوخارست من قبل الأستاذ ، الذي أضاف إلى الإقتراح السابق فكرة إنشاء محكمة جنائية دولية لحماية حقوق الإنسان
وفي دراسة معنونة بـ "في إحتلال دول المحور للدول المحتلة" نشرها عام 1944، أشار إلى فضاعة الممارسات الهتلرية والنازية وعدم إنسانيتها، خاصة الممارسات والأفعال الهادفة لتدمير شعوب دول أوروبا الواقعة تحت الإحتلال النازي، وإلى "جرمنة" هذه الدول. وقد ابتدع نفسه في هذه الدراسة مصطلح "الإبادة الجماعية". وهو مشتق من الكلمة اللاتينيةومعناها "الجماعة"، ومن كلمةومعناها "يقتل"، وأوضح أن مصطلح "الإبادة الجماعية" يشير إلى "تدمير أمة أو جماعية إثنية.... ولا يعني بالضرورة التدمير الفوري لهذه الأمة أو الإثنية، بل يعني في الغالب وجود خطة منظمة للقيام بأفعال مختلفة تهدف إلى القضاء على الأسس والركائز الحيوية التي تقوم عليها حياة الجماعة القومية والإثنية، وتؤدي في النهاية إلى تدمير الجماعة ذاتها من هذه الخطة هو إقصاء أو إفناء المؤسسات والبني السياسية والإجتماعية للجماعة، وكذلك الأمر بالنسبة للغتها وديانتها وثقافتها ووجدودها الإقتصادي. كما تهدف الخطة أيضا إلى الإعتداء على السلامة البدنية والشخصية للأفراد المنتمين للجماعة محل الإبادة. فالإبادة الجماعية ترتكب ضد الجماعة القومية أو الإثنية بصفتها كائنا مستقلا له ذاتية خاصة به
غدا مصطلح "الإبادة الجماعية اليوم مصطلحا مألوفا وذا دلالة مستقرة في القانون الدولي.وقد جرى وضع تعريف لهذا المصطلح، ويبدو أن هذا التعريف – كما أوضحنا سابقا – محل إجماع واتفاق دولي، فتكرار التعريف الوارد في المادة الثانية من إتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها (1948) في العديد من الصكوك والمواثيق الدولية يؤكد هذا الإجماع، خاصة عند مقارنة مسألة تعريف جريمة الإبادة الجماعية بغيره من التعاريف المعطاه لجرائم دولية أخرى، فتعريف الجرائم ضد الإنسانية ما زال تعريفا قلقا، وثمة تردد واضح في وضع تعريف عام ومستقر لهذا المصطلح
ثمة سمات اخرى تميز تعريف جريمة الإبادة الجماعية، أهمها العدد الكبير من التساؤلات والإشكاليات التي أثيرت بصدده، والتي ما زال جزء لا يستهان منها بحاجة إلى إجابات واضحة لغايات الآن، فرغم التفسيرات والإضاءات التي قدمتها المحاكم الجنائية الدولية الخاصة بالنسبة لعدد من هذه التساؤلات، ومع ان محكمة العدل الدولية قد تسنى لها النظر في نزاعات تتعلق بتطبيق وتفسير إتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليهافي عدة مناسبات ، إلا أن عددا من المسائل الخلافية بشأن مفهوم هذه الجريمة وأركانها ما زال بحاجة إلى بيان وإيضاح
يستطاع القول إن الإجتهادات والأحكام القضائية الصادرة عن المحاكم الجنائية الدولية قد حملت في ثناياها تطويرا لا يستهان به بالنسبة لجوانب عديدة ذات صلة بأركان جريمة الإبادة الجماعية وبتمييزها عن سواها من الجرائم الدولية. ولهذا، سيصار إلى دراسة وتحليل مفهوم جريمة الإبادة الجماعية وأركانها من خلال الممارسة الدولية ذات الصلة ومن خلال الأحكام والإجتهادات القضائية الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة والمحكمة الجنائية الدولية الخاصة برواندا، وفي ضوء الأعمال التحضيرية للنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية والصيغة النهائية لمشروع نص أركان الجرائم المقدم من اللجنة التحضيرية للمحكمة الجنائية الدولية. ولعل أهم ما حملته الممارسة الدولية المعاصرة بخصوص جريمة الإبادة الجماعية من تطوير لمفهوم الجريمة وأركانها هو بيان لمفهوم الجماعات المشمولة بنطاقها وتحديد الإنتماء إليها (أولا)، ولصور السلوك، الجرمي المكون للركن المادي للجريمة (ثانيا) وطبيعة القصد الجنائي الواجب توافره لقيام الجريمة (ثالثا).
المواضيع المتشابهه:
المفضلات