المطلب الثاني : إثبات العقود الإلكترونية بواسطة الاستثناءات القانونية المقررة على الدليل الكتابي والاتفاقات الخاصة
تعرفنا في المطلب الأول على الشروط الواجبة التوفر في الدليل الكتابي حتى يمكن الاعتداد به في الإثبات ،وهى الكتابة والتوقيع ، وخلصنا إلى أن الورقة العرفية لا يمكن أن تستوعب طرق الاتصال الحديثة لأن المشرع بصريح العبارة في مقتضي الفقرة الثانية من الفصل 426 من ق ل ع أشترط وجوبا أن يكون التوقيع بخط يد الملتزم، وهو مالا يمكن مجاراته عمليا مع تطور وسائل التعاقد عن بعد.
وعلى الرغم من أن القاعدة العامة في إثبات التصرفات في الميدان المدني هو التقييد، ووجوب إثباته كتابه إذا تجاوزت قيمة التصرف 250 درهم حسب مقتضيات الفصل 443 من ق ل ع، إلا أن المشرع أورد عدة استثناءات على هذه القاعدة ، يمكن من خلالها الاستغناء عن ضرورة التوفر دليل كتابي كامل والاكتفاء بأي وسيله أخرى من وسائل الإثبات، وهى واردة على سبيل الحصر<< الفقرة الأولى>> ومن جهة أخرى قد يعمد الأطراف إلى الاتفاق فيما بينهم على إعطاء الحجية لوسيلة معينه يتم اللجوء إليها في الإثبات عند النزاع، الشيء الذي يطرح الإشكال حول مدى صحة هذه الاتفاقات <<الفقرة الثانية >>.
الفقرة الأولى : الاستثناءات القانونية على مبدأ وجوب الإثبات بالكتابة
سنقوم من خلال هذه الفقرة بعرض لمدى إمكانية الاعتماد على الاستثناءات القانونية لإعطاء الحجية للعقد الإلكتروني الذي يتم إبرامه عن طريق وسائل الاتصال الحديثة لعلها تسعفنا في استيعاب هذه الوسائل لإمكانية إعطاءها حجة في الإثبات، وذلك من خلال ثلاث نقط على التوالي:
أولا: بداية حجة كتابيه
بداية حجة كتابيه أو مبدأ الثبوت بالكتابة كما تسميها بعض التشريعات العربية، نص عليها المشرع المغربي في صريخ الفصل 447 من ق ل ع والذي جاء فيه: (لا تطبق الأحكام المقررة فيما سبق عندما توجد بداية حجة بالكتابة وتسمى حجة بالكتابة كل كتابة كانت صادرة ممن يحتج بها عليه أو ممن أنجز إليه الحق منه أو ممن ينوب عنه.
وتعتبر صادرة من الخصم كل حجة يحررها بناء على طلبه، موظف رسمي مختص، في الشكل الذي يجعلها حجة في الإثبات، وكذلك أقوال الخصوم الواردة في محرر أو حكم قضائي صحيحين شكلا).
ويستنتج من نص الفصل أعلاه أنه يستلزم لإعمال هذا الاستثناء شرطان، أولهما أن توجد كتابة، وثانيهما أن تكون صادرة ممن يحتج بها ضده، لكن ما المقصود بالكتابة في هذه الحالة؟ وما هي الحلول القانونية المتبعة في حالة إنكار هذه الورقة ممن يحتج بها ضده؟.
وبالرجوع إلى أغلب الفقه[1] نراه يجيب على أن الكتابة هنا تؤخذ بأوسع معنييها، فهي تنصرف إلى أية كتابه دون اشتراط أي شكل خاص أو توقيع، ودون أن تكون معدة للإثبات، ولكن إذا ما أخذنا بهذا المفهوم يطرح تساؤل أخر بخصوص طبيعة الدعامة التي يجب أن تدون عليها الكتابة ؟
إذا ما تمعنا في الفصل السابق نجده خاليا من أي تحديد لطبيعة الدعامة، أي انه لا يوجد ما يلزم أن تكون الكتابة فوق ورق عادى، ولكن بشرط أساسي وأن تكون الكتابة الموجودة على الدعامة لا تقبل التعديل أو التغيير ،فإذا ما توافرت هذه الشروط يمكن الحديث عن توافر شرط الكتابة.
أما فيما يتعلق بالشرط الثاني أي بوجوب صدور تلك الكتابة عمن يحتج بها عليه، فإن طبيعة التعاملات الإلكترونية والتي تتم عن طريق وسائط ليس لها وجود مادي، فإنه تبرز صعوبة نسبة هذه الكتابة لأي الشخص المراد الاحتجاج بها ضده ، بالإضافة إلى الحالة التي ينكر فيها الشخص الكتابة التي صدرت منه، فلا يوجد من الوسائل ما يمكن أن تبرهن على أن هذه الكتابة قد صدرت منه فعلا، وذلك بخلاف الكتابة التقليدية والتي تتم على محرر مادي ملموس يمكن أن يحتج به في كل سهوله إذا ما كان موقعا منه أو مكتوبا بخط يده أو من ينوب عنه.
لهذا نؤيد بعض الفقه[2] الذي يذهب إلى استبعاد التعاملات الالكترونية من إعطاءها صفة بداية حجة كتابية للأسباب التي تم ذكرها ، وتفنيدا لما ذهب إليه بعض الفقه الأخر[3] من إمكان إعطاء المحررات الالكترونية صفة بداية حجة كتابيه بشرط أن تكون موقعه إلكترونيا ممن صدرت عنه، وهو ما يتجافى إطلاقا مع صريح مع قانون الالتزامات والعقود من عدم الاعتداد بالتوقيع الإلكتروني وعدم إعطاءه حجية التوقيع التقليدي.
ثانيا : حالة فقدان الدليل الكتابي
نص المشرع على هذه الحالة ضمن مقتضيات الفقرة الأولى من الفصل 448 من ق ل ع والتي تنص على أنه: (استثناء من الأحكام السابقة يقبل الإثبات بشهادة الشهود:
1. في كل حالة يفقد فيها الخصم المحرر الذي يتضمن الدليل الكتابي لالتزام له أو للتحليل من التزام عليه،...).
وباستقراء مقتضيات هذا الفصل نتوصل إلى الشروط المتطلبة لإعطاء التعاملات الالكترونية حجية في الإثبات، فينبغي بداية أن يثبت الشخص أنه قد حصل على الدليل الكتابي الذي يقتضيه القانون مسبقا ثم ضياع هذا السند لسبب أجنبي خارج عن إرادته.
بعدما تبينا فحوى هذه الشروط، نستخلص من خلال الشرط الأول أن المشرع قد تطلب وجود دليل كتابي كامل، وأن كلا الطرفين قد بذلا جهدهما من أجل هذا ولم يتوان عن توفير الشروط المتطلبة قانونا1 لهذا ومع عدم توفر شروط الدليل الكتابي في المحرر الإلكتروني أصلا. لا يمكننا الحديث هنا عن إعمال هذا الاستثناء، أي أن فقد احد الشروط يعني الاستثناء كله.
ثالثا :استحالة الحصول على دليل كتابي:
أشار المشرع إلى هذه الحالة في مقتضيات الفقرة الثانية من الفصل 448 من ق ل ع فجاءت تقضى بأنه:
( استثناء من الأحكام السابقة يقبل الإثبات بشهادة الشهود :
1.......
2. إذا تعذر على الدائن الحصول على دليل كتابي لإثبات الالتزام كالحالة التي تكون فيها العقود ناشئه عن شبه العقود وعن الجرائم...).
انطلاقا من هذا النص يتضح لنا أن القانون حينما يفترض الكتابة في الإثبات، إنما يفترض إمكان الحصول على دليل كتابي، فإذا كانت هناك ظروف تحول دون ذلك، فإن الشهادة تجوز في الإثبات نزولا على ما يقتضيه العقل وتوجبه العدالة، وتعتبر هذه الحالة تطبيقا للقاعدة العامة (أنه لا يكلف شخص بمستحيل)2.
وينبغي أيضا لأعمال هذا الاستثناء وأن يكون السبب المانع خارج عن إرادة الشخص وليس له دور في حدوثه، وأن يعمل كل ما في وسعه للحصول على الدليل ولكن كل محاولاته قد باءت بالفشل، ومعظم الأمثلة الواردة تؤيد ما ذهبنا إليه من صوريه وغلط وتدليس...
وبالرجوع لبعض مواقف الفقهية3والتي اعتبرت أن العادة أو الطبيعة المادية للوسائط الالكترونية قد تكون مانعا يجيز الإثبات بكافة طرق الطرق والوسائل ، فإنها تبقى محل نظر لعدة أسباب أهمها أن العادة أو الطبيعة المادية للوسائط الالكترونية لاتصل إلى درجة الاستحالة. لأن الانترنت لا يعتبر الطريق للتعاقد، وإرادة المتعاقد تبقى بارزه ومحل اعتبار مع علمها المسبق ووعيها التام بصعوبة الحصول على دليل يثبت التعاقدات التي سيقوم بإبرامها.
نستخلص من ما سبق أن اللجوء إلى الاستثناءات الواردة على مبدأ الإثبات الكتابي والتسلل منه يؤدى إلى إهدار المبدأ الأصيل لتعميم الاستثناء ليحل محل هذا المبدأ في جميع المعاملات والتعاقدات التي تتم عبر وسائل الاتصال الحديثة ، وتأكيدا لهذا الرأي يكمن الرجوع لتقرير مجلس الدولة الفرنسي في هذا الموضوع بتاريخ 2 يوليوز 1998 والذي جاء فيه أن: ( اللجوء إلى نظام الاستثناءات على مبدأ وجوب الإثبات بالدليل الكتابي ليس مقبولا لأنه ينظر إلى الإثبات عن طريق المحررات الالكترونية من منظور قاصر وغير حقيقي. فسواء كان التوجه إلى الاستناد إلى مبدأ بداية حجه كتابيه أو إلى الاستحالة المادية للحصول على محرر مدون بالطريقة التقليدية فإن ذلك ليس إلا متهربا من مواجهة الواقع الزى أصبح مفروضا في وقتنا الحالي، أي واقع التعامل بالمحررات الالكترونية)1.
الفقرة الثانية : الاستثناءات الاتفاقية على مبدأ وجوب الإثبات بالكتابة
من المعلوم أن قواعد الإثبات تنقسم إلى شقين أساسين، أولهما القواعد الإجرائية أو المسطرية، وثانيهما القواعد الموضوعية المنظمة لمحل الإثبات وعبئه وطرقه وحجيته.
ومما لاشك فيه أن القواعد الإجرائية في الإثبات بقسميها المدني والجنائي لها تعلق مباشر بالنظام العام، وبالتالي عدم جواز الاتفاق على مخالفة أحكامها2.
أما بالنسبة للقواعد الموضوعية في الإثبات فإن الفقه مختلف فيه فجانب يرى3 أنه غير متعلق بالنظام العام. أي أن كل اتفاق يتناول بالتعديل لهذه القواعد يعتبر اتفاقا صحيحا نافذا، بينما يرى جانب أخر من الفقه3 أن قواعد الإثبات تنقسم إلى أقسام ثلاثة : أولا قبول أدلة الإثبات، وثانيا عبء الإثبات، ثالثا حجية دليل الإثبات، فيفتح الباب أمام الأطراف للاتفاق على قبول الأدلة الذين ارتضوها، مثل إحلال شهادة الشهود محل الكتابة إذا كانت هذه الأخيرة هي المطلوبة، أما بالنسبة لعبء الإثبات وحجية دليل الإثبات وحدود هذه الحجية وطرق إنكارها واثبات عكسها مع ضرورة ربط هذه المقتضيات بالنظام العام، وإخضاع هذه المقتضيات دائما للسلطة التقديرية للقاضي، وذلك تأكيدا لمهمته الأساسية وهى إحقاق الحق وإبطال الباطل وإعطاء الحق لأهله. ومن مؤيدات ما ذهب إليه هذا الاتجاه هو عدم بعض المبادئ العامة في ميدان الإثبات مثل عدم جواز اصطناع الشخص دليلا لنفسه، بالإضافة إلى أن الاتفاق لا ينبغي أن يصل إلى درجة حرمان أحد طرفيه من حقه في ما يدعيه كليا ؟ أو إعطاء دليلا يملكه أحد الأطراف حجة قاطعة؟
وتعقيبا على رأى الجانب المعارض لفكرة تعلق قواعد الإثبات الموضوعية بالنظام العام محيلا في ذلك على رأى غالبية الفقه والقضاء في فرنسا ومصر رغم صراحة النص في كلا التشريعين من خلال المادة 1341 من التقنين المدني الفرنسي وتقابلها نص المادة 60 من قانون الواثبات المصري والتي نورد نصهما للأهمية البالغة وهو ينص على: (في غير المواد التجارية إذا كان التصرف القانوني تزيد قيمته عل مائة جنيه، أو كان غير محدد القيمة، فلا تجوز شهادة الشهود في إثبات وجوده أو انقضائه، ما لم يوجد اتفاق أو نص يقضى بغير ذلك)1.
فرغم عدم ربط قواعد الإثبات الموضوعية بشكل عام في مصر وفرنسا بالنظام العام، لكنها تمتلك من القواعد القانونية ما تستطيع به أن تحمى إرادة الطرف الضعيف وإرادة المستهلك بشكل عام يجنبها التعسف في فرض الشروط ، وكمثال على ذلك نذكر مضمون المادة 149 من القانون المدني المصري والتي تعطي بمقتضاه للقاضي سلطة تقدير مدى تعسفية الشرط من عدمه مع إعطاءه سلطه في تعديل هذه الشروط أو إعفاء الطرف الضعيف منها .
كما أن قراءة مقتضيات المادة 443 من ق ل ع المغربي بتمعن توحي على أن مقتضياتها تتعلق بالنظام العام لأن المشرع أورد كلمة يلزم وهى توحي بالوجوب.
نخلص من كل ما سبق إلى تبنى الرأي الفقهي الذي يربط قواعد الإثبات الموضوعية بالنظام العام لما تحققه من حماية للطرف الضعيف في غياب أي نص قانوني مغربي يسمح للقاضي بالتدخل لتعديل أو إلغاء الشروط التعسفية التي يمكن أن تضمن في العقد، وتأكيدا لما ذهبنا إليه نورد التعامل مع البنوك عن طريق الشبابيك الأوتوماتيكية والتي تشترط فيه البنوك في عقودها مع زبناءها على إعطاء ذلك الشريط الورقي حجية قاطعه ومطلقه تفوق حجة المحررات العرفية، وهو ما يسلب القاضي سلطته في تقدير قيمة الأدلة المنازع فيها.
.إدريس العلوى العبدلاوى. وسائل الإثبات في التشريع المغربي. مطبعة النجاح الجديدة .طبعه 1977. ص 120 وما بعدها.
.عبد الرزاق السنهوري . الوسيط في شرح القانون المدني. نظرية الالتزام بوجه عام .الجزء الثاني .دار النهضة العربية.القاهرة 1964. ص420.
.محمد محمود لطفي . استخدام وسائل الاتصال الحديثة في التفاوض على العقود وإبرامها.القاهره1993.ص23.[1]
.حسن عبد الباسط جميعي.إثبات التصرفات القانونية التي يتم إبرامها عن طريق الانترنت.دار النهضة العربية طبعة 2000 .ص61 وما بعدها.
حاجى صليحة.الوفاء الرقم عبر الانترنت .المظاهر القانونية.أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون الخاص.كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية .وجدة سنة 2004.2005.ص 151.
[2]: محمود محمد أبوفروه.الخدمات البنكية الالكترونية عبر الانترنت . رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة في القانون الخاص . كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية.وجدة سنة 2005.2006 ص 76.
.محمد السعيد رشدى.التعاقد بوسائل الاتصال الحديثة مع التركيز على البيع بواسطة التلفزيون.مطبوعات جامعة الكويت .الطبعة الأولى 2001.ص 64.
.الحسن الملكي.التجارة الالكترونية .قراءة قانونية. مقال منشور بمجلة المحاكم المغربية.العدد 89 سنة 2001.ص81وما يليها.[3]
1 .حاجى صليحه. م س .ص158.
2 . إدريس العلوى العبدلاوى.م س . ص 126 .
3 . أحمد المهدى .
1 - نور الدين الناصرى : أشار إليه عبد الباسط جميعى . م س . ص 67 .
2 . إدريس العلوى العبدلاوى .م س . ص 118 .
3 - الفكهاني
-الناصري
.عبد الباسط جميعى . اثر عدم تكافؤ
المفضلات