يعد التفتيش من اخطر الإجراءات الماسة بالحرية الشخصية لكونه يمثل قيدا وجوبيا يخضع له الشخص باعتباره من الإجراءات التي تهدف إلى التوصل إلى الحقيقة باعتبارها غاية العدالة الجنائية في النظم الإجرائية، لذا تسعى السياسة الجنائية المعاصرة إلى إقامة نوع من التوازن بين اعتبارات تحقيق العدالة والأمن وضمانات الحرية.

وفي هذا البحث سنتناول موقف كل من المشرع الأردني السعودي على السواء من تفتيش الأماكن والمدى الذي نجح من خلاله كليهما في إقامته مثل هذا التوازن المنشود، والوقوف على نقاط القصور التي اعترت موقفها في هذا الخصوص.


وتأسيسا على ما تقدم سنقسم هذه الدراسة إلى المباحث التالية:


المبحث الأول: ماهية التفتيش وخصائصه


المبحث الثاني: محل التفتيش


المبحث الثالث: ضوابط تفتيش الأماكن




المبحث الأول: ماهية التفتيش وخصائصه


التفتيش هو البحث عن الحقيقة في مستودع السر، وهو إجراء من إجراءات التحقيق الابتدائي تملكه سلطة التحقيق، ويتضمن القيام بعمل معين من أجل الحصول على أدلة الجريمة القائمة تمهيدا لممارسة حق المجتمع في العقاب، وهو- كعمل إجرائي- واقعة قانونية يرتب عليها القانون أثرا إجرائيا.


غير أن دراسة التفتيش القضائي بالمعنى القانوني المقصود لا يتوقف عند هذا الحد بل يستلزم الخوض في غمار ماهية هذا التفتيش واستجلاء طبيعته الخاصة، ومن ثم يتعين إبراز خصائص هذا التفتيش التي تفيدنا في وضع حد فاصل بينه وبين غيره من المفاهيم والإجراءات الأخرى التي قد تشتبه بالتفتيش القضائي وعليه فإننا نقترح أن يتم التطرق إلى ما سبق ذكره تفصيلا في مطلبين على النحو التالي:


المطلب الأول: تعريف التفتيش القضائي وطبيعته القانونية



المطلب الثاني: خصائص التفتيش القضائي




المطلب الأول: تعريف التفتيش القضائي وطبيعته القانونية



تعددت التعريفات الفقهية التي قيلت بشان التفتيش، وقد قيل في تعريفه بأنه "الاطلاع على محل له حرمة خاصة للبحث عن ما يفيد التحقيق، ويعتبر من اخطر إجراءات التحقيق الجنائي لأنه يجمع بين استعمال السلطة وتقييد الحرية"


غير انه يلاحظ على هذا الرأي الفقهي-مع الاحترام والتقدير- إسهابه غير المبرر في التعريف والخلط الواضح بين تعريف التفتيش وخصائصه، ناهيك عن إغفاله مع ذلك لركيزة أساسية ينبغي أن يتضمنها التعريف كبيان القائم بهذا الإجراء، وفي اتجاه آخر أكثر وضوحا عرفه جانب من الفقه بأنه "إجراء تحقيق يقوم به موظف مختص للبحث عن أدلة مادية لجناية أو جنحة وذلك في محل خاص أو لدى شخص وفقا لأحكام القانون، كما عُرف أيضا بأنه "إجراء من إجراءات التحقيق، تقوم به سلطة حددها القانون يستهدف البحث عن الأدلة المادية


الجنائية أو جنحة تحقق وقوعها في محل خاص يتمتع بالحرمة بغض النظر عن إرادة صاحية".


ومما سبق تكاد تتفق التعريفات في غالبيتها على أن التفتيش يجب لمباشرته أن تكون ثمة جريمة وقعت ويقتضي تعقبها وكشف الحقيقة فيها البحث عن الأدلة التي تؤيد الاتهام أو تفيد البراءة، ولذلك لا تقوم به إلا سلطة من السلطات المختصة بالتحقيق أو بأمر منها فهو بذاته ليس بدليل وإنما وسيلة للحصول على الدليل.



أما عن موقف التشريع الأردني والسعودي بشان تحديد مفهوم التفتيش فانه يلاحظ ابتداء أن التعريف ليس من مهام المشرع، بل يناط بالفقه والقضاء التصدي لهذه المسألة، ولم يخرج المشرع الأردني عن هذا الإطار تاركا هذه المهمة للفقه والقضاء، غير أن المنظم السعودي خرج عن هذا الإطار وأقحم نفسه بتحديد ماهية التفتيش متصديا لتعريفه في المادة 80 من نظام الإجراءات بقوله "التفتيش عمل من أعمال التحقيق ولا يجوز الالتجاء إليه إلا بناء على اتهام موجه إلى شخص يقيم في المسكن المراد تفتيشه بارتكاب جريمة أو باشتراكه في ارتكابها، أو إذا وجدت قرائن تدل على انه حائز لأشياء تتعلق بالجريمة وواضح من هذا النص التزيد غير المبرر من قبل المنظم السعودي والغموض أحيانا في المفهوم المقترح للتفتيش، وبدون عناء نلمس نوعا من الركاكة في الصياغة القانونية لهذا النص، هذا من جهة، ومن جهة أخرى هناك ثمة قصور واضح في هذا التعريف وعدم وضوح الغاية من هذا التفتيش أو الجهة القائمة به، وعلى كل فقد كان حريا بالمنظم السعودي أن ينأى جانبا عن إيراد مثل هذه التعريفات -على الأقل- لان مهمته ليست وضع التعريفات لمفهوم معين بقدر ما هي تبيان الأحكام المتعلقة بإجراء معين تحديدا واضحا لا لبس فيه ولا غموض.


أما بشأن الطبيعة القانونية للتفتيش القضائي فمن الواضح أن المنظم السعودي في المادة 80 سالفة الذكر قد نص صراحة على أن "تفتيش المساكن عمل من أعمال التحقيق......"، وبذلك يكون التفتيش من إجراءات التحقيق التي تهدف إلى ضبط الأدلة التي يكون الهدف منها كشف الحقيقة بصدد الجريمة التي يجري التحقيق بشأنها، لذلك لا يكون التفتيش إلا بعد أن تظهر الجريمة ويتجه فيها التحقيق إلى متهم معين، بالمقابل لم يتطرق المشرع الأردني لتبيان الطبيعة القانونية للتفتيش القضائي، وذلك على اعتبار أن المشرع الأردني قد نظم أحكام التفتيش في البند الثالث من الفصل الأول من الباب الرابع تحت بند التفتيش وضبط المواد المتعلقة بالجريمة ولم يكن المشرع الأردني والحالة هذه بحاجة إلى النص على أن التفتيش هو عمل من أعمال التحقيق، غير أن هذا لا يمنع من أن تقوم محكمة الموضوع بهذا الإجراء سندا للمادة 162/2 من قانون أصول المحاكمات الجزائية الأردني التي أجازت للمحكمة أن تأمر ولو من تلقاء نفسها أثناء نظر الدعوى وفي أي دور من ادوار المحاكمة بتقديم أي دليل وبدعوة أي شاهد تراه لازما لظهور الحقيقة، وعليه فالمحكمة تملك الحق في اتخاذ كافة الإجراءات اللازمة للحصول على ذلك الدليل ومن بينها التفتيش، من جهة أخرى ومن خلال النظر إلى المحاكم الجنائية والسلطة الواسعة التي خولها القانون إياها للقيام بهذه الوظيفة بما يكفل لها اكتشاف الحقيقة، كي لا يعاقب برئ أو يفلت مجرم فان ذلك يقتضي أن لا تكون مقيدة في أداء وظيفتها بأي قيد لم يرد به نص في القانون.


المطلب الثاني: خصائص التفتيش القضائي


من خلال استقراء أحكام التفتيش الواردة في التشريعين الأردني والسعودي يمكن تلمس خصائص التفتيش وهي الجبر أو الإكراه، وكونه يمس حق السر، ويتخذ كوسيلة للبحث عن الأدلة المادية، وسنعرض لهذه الخصائص بشيء من التفصيل في الفروع الثلاث التالية:


الفرع الأول: الجبر أو الإكراه


تنطوي إجراءات التحقيق الجنائي على قدر من الإكراه، ويشترك التفتيش في ذلك مع كل الإجراءات فهو تعرض "قانوني" لحرية المتهم الشخصية أو لحرمة مسكنه بغير إرادته ورغما عنه، وعلة ذلك أن القانون في تنظيمه لأحكام التفتيش يوازن بين حق الدولة في توقيع العقاب تحقيقا لمقتضيات العدالة وبين حق الفرد في التمتع بحريته وصيانة أسراره، وأمام ذلك يباح التفتيش رغما عن إرادة الشخص متى توفرت الضوابط والضمانات المقررة قانونا،


لذلك فالتفتيش الذي يتم دون اعتبار لإرادة صاحب المسكن ودون أهميه لرضائه، فانه لا يخول صاحب المسكن مقاومة هذا الإجراء أو الاعتراض عليه، والذي إن فعل فان القانون يخول القائم بالتفتيش اتخاذ خطوات معينة تجعل معنى الجبر أو الإكراه واقعا ملموسا وظاهرا يقينيا، وقد نصت المادة 19 من قانون أصول المحاكمات الجزائية الأردني على أن "للمدعي العام وسائر موظفي الضابطة العدلية أن يطلبوا مباشرة معاونة القوة المسلحة حال إجراء وظائفهم"، وعليه لا يعد تفتيشا الإجراء الذي لا ينطوي على خاصية الجبر والإكراه، ولذلك فلا يعد تفتيشا البحث عن الأدلة في مسكن برضا صاحبه في غير الحالات النصوص عليها قانونا،


فالرضا متى توافرت شروط صحته في هذه الحالة ينفي عنصر الإكراه ومن ثم يكون الإجراء المتخذ في هذه الحالة اطلاع أو معاينة.



الفرع الثاني: المساس بحق السر



التفتيش يمثل قيدا حقيقيا على الحرية الفردية فهو انتهاك لحق السر ومساس به على اعتبار أن التفتيش ينصب في البحث عن الحقيقة في مستودع السر.


وعليه فان كل إجراء يتخذ من قبل السلطة المختصة ولا يتضمن اعتداء على حق السر لا يعد تفتيشا، فالقبض على الشخص يختلف عن تفتيشه من حيث أن القبض تقييد للحرية فحسب بينما التفتيش انتهاك لسرٍ يخفيه الفرد في ملابسه بالإضافة إلى حريته الفردية،وبالمقابل لا يعد تفتيشا البحث في الأماكن والأشياء التي ليست مستودعا للسر، ومن ذلك البحث في الأماكن العامة والمزارع والحقول المفتوحة التي يحق لكل شخص الاطلاع على ما بها، ففي هذه الحالات لا يعدو الأمر أن يكون اطلاعا أو معاينة.


الفرع الثالث: التفتيش وسيلة للبحث عن الأدلة المادية


نظرا لان عبء الإثبات يقع على عاتق سلطة الاتهام، فان القانون يسمح باتخاذ إجراءات تنطوي على مساس بحرية المتهم وبحقه في السرية وذلك بما يحقق مصلحة المجتمع، ومن ثم فان إسناد الجريمة إلى شخص معين يتطلب إقامة الدليل على صلته بها، وتبرز خاصية التفتيش في هذا الإطار تحديدا على اعتبار أن هدف التفتيش هو الوصول إلى الأدلة وتحديدا الأدلة المادية منها وهي تلك التي تنتج عن عناصر مادية ناطقة بنفسها وتؤثر في اقتناع القاضي بطريق مباشر.


المبحث الثاني: محل التفتيش


يكون محل التفتيش منصبا على مكان (تفتيش الأماكن)، وقد ينصب على الأشخاص ويسمى (تفتيش الأشخاص) ويخرج الأخير عن نطاق دراستنا والتي تقتصر على النوع الأول وهو تفتيش الأماكن، ولا تقتصر الأماكن على المساكن فقط بل قد تشمل المحلات والأماكن العامة والأماكن الخاصة التي لا يباح للجمهور دخولها كعيادة الطبيب أو مكتب المحامي.


وتأسيسا على ما تقدم سنتناول محل التفتيش وفقا للفروض السابقة على النحو التالي:


المطلب الأول: التعريف بالمسكن


خرج كلا من المشرع الأردني والمنظم السعودي عن الاتجاه الغالب في التشريعات المقارنة والتي لم تود تعريفا للمسكن في تشريعاتها الإجرائية، فقد عرفت المادة الثانية من قانون العقوبات الأردني (بيت السكن) بأنه "المحل المخصص للسكنى أو أي قسم من بناية اتخذه المالك أو الساكن إذ ذاك مسكنا له ولعائلته وضيوفه وخدمه أو لأي منهم وان لم يكن مسكونا بالفعل وقت ارتكاب الجريمة، وتشمل أيضا توابعه وملحقاته المتصلة التي يضمها معه سور واحد"، والى حد ما ساير المنظم السعودي نظيره الأردني- على الأقل في التصدي اتعريف المسكن وتحديد إطار عام لهذا المفهوم- وذلك من خلال المادة 40 من نظام الإجراءات الجزائية السعودي والتي ورد فيها "..... وتشمل حرمة المسكن كل مكان مسور أو محاط بأي حاجز أو معد لاستعماله مأوى".

والملاحظة أن المشرع الأردني كان أكثر وضوحا وتحديدا من نظيره السعودي في تعريفه للمسكن. ومهما يكن الأمر فان المكان يعتبر مسكونا في باب التفتيش وفقا لأحد

معيارين، حقيقة استعماله أو الغرض من إعداده، فكل مكان يقيم الشخص فيه يعد منزلا وان لم يكن مخصصا للإقامة وكل مكان اعد للإقامة يعتبر منزلا وان لم يكن مسكونا بالفعل، وعليه فانه من حيث الأصل يعتبر المسكن المكان الذي يأوي إليه الإنسان ويتخذه مقرا له، فيدخل ضمن نطاق هذا المفهوم المكان الذي يقيم فيه "فعلاً"، كما يصدق هذا المفهوم في ظل التشريعين الأردني والسعودي على المكان الذي يعده صاحبه لسكناه وان كان يتغيب عنه في فترات معينة، وعليه فان مدلول المسكن يتحدد في ضوء ارتباط المسكن بحياة صاحبه الخاصة، فهو كل مكان خاص يقيم فيه الشخص بصفة دائمة أو مؤقتة، من جهة أخرى لا عبرة في الحماية التي يسبغها القانون على المنزل بسند الحيازة فقد يكون حق الملكية أو الإيجار أو الانتفاع أو التسامح،لا بل أكثر من ذلك فالمغتصب أو الساكن عن طريق القوة أو الغش يتمتع بالحرمة المقررة للمسكن شانه شان الحائز بسند قانوني، فلا يحق أن يفتش منزله دون إتباع الإجراءات القانونية المقررة في القانون بعلة انه غاصب للمنزل، وعليه يكون المستأجر الذي حكم بطرده من المكان لا يزال يتمتع بحماية القانون ما دام حائزا لهذا المكان.


ومع ذلك هناك رأي آخر في هذه المسالة تحديدا نعتقد من وجهة نظرنا انه جانب الصواب في النتيجة التي وصل إليها والتي مؤداها أن دخول منزل الغاصب أو الساكن عن طريق القوة لا يعد انتهاكا لحرمة المسكن على اعتبار أن استعمال المكان للسكنى يجب أن يكون مشروعا فالمسكن إذا كان مغتصبا أو مسكونا عن طريق القوة فلا مجال لان يتمتع بالحماية المقررة لحرمة المسكن، بناء على أن القانون لا يمكن أن يحمي الحالات غير


المشروعة، غير إننا لا نتفق مع هذا الرأي الأخير والذي يبدو أن هناك خلطا واضحا في توجه هذا الرأي في المصلحة التي ابتغاها المشرع من حماية وصون حق المسكن فهو بكل الأحوال ليس الحيازة وإنما حماية الحرية الفردية وحماية حق السر في ذاته بغض النظر عن الحائز أو عن مدى مشروعية تلك الحيازة من عدمها، لذلك لا نتفق مع الرأي الفقهي الذي يرى بان المغتصب لا يتمتع بالحرمة المقررة للمسكن على اعتبار أن المشرع كان بهدف عند وضعه للقواعد المتعلقة بضمان المسكن حماية الحياة الخاصة للأفراد أيا كانت وسيلة الحيازة.

ومن البديهي انه لا أهمية بعد ذلك لهيئة المسكن ولا المادة التي صنع منها، فيصح أن يكون بيتا أو كوخا أو خيمة، وقد يكون مصنوعا من الطوب أو الخشب أو القش.

من جانب آخر ومن خلال استقراءنا لنصوص التشريعين الأردني والسعودي بشان تعريفها للمسكن يلاحظ ان الحماية لا تقتصر فقط على المسكن بالمفهوم المتقدم ذكره بل يندرج تحت هذا المفهوم ما يسمى "بملحقات المسكن" والتي يقصد بها كل ما يتبع المسكن وتكون مخصصة لمنافعه كالحديقة والمخزن والإسطبل، وغرفة الغسيل، والسلم، غير انه يشترط وفقا للتشريعين الأردني والسعودي بشان الملحقات أن يضمها والمسكن سور واحد، من جهة أخرى ينبغي عدم التشدد في مسالة اتصال الملحقات اتصالا مباشرا بالمسكن حتى تضفى عليها الحماية الجزائية، بل يكفي بشان تلك الملحقات رابطة التبعية الوظيفية بمعنى أنها تكمل استعمال المكان في الغرض المخصص له، على أن يترك أمر تقدير تبعية الملحقات للمسكن لقاضي الموضوع.

المطلب الثاني: تفتيش الأماكن الأخرى

تبرز الصعوبة في كثير من الأحيان في تحديد مدلول بض الأماكن فيما إذا كانت تندرج تحت مفهوم المسكن وبالتالي تخضع للحماية التي قررها المشرع للمسكن بحيث يجب مراعاة الشروط والضمانات المقررة قانونا في هذا الشأن، أم أنها لا تندرج ضمن هذا المفهوم وبالتالي يمكن إغفال تلك الضمانات والشروط التي اقرها القانون لضمان عدم انتهاك حرمة المسكن، ولعل من أهم تلك الأماكن التي تثور بشأنها الصعوبات تلك الأماكن المعدة للسكنى والأماكن الخاصة.

وتأسيسا على ما تقدم سنحاول الخروج بنتيجة محددة في هذا الإطار والذي من الواضح أن تلك الأماكن لا زالت موضع خلاف لدى الفقه حيث يلاحظ أن الآراء الفقهية قد تباينت إلى حد كبير في هذه الجزئية، وعلى كل فإننا سنتناول في الفروع الثلاثة التالية تحديد مدلول تلك الأماكن.

الفرع الأول: الأماكن المعدة للسكنى

تثور الصعوبة في تلك الأماكن المهيأة للسكن ولا يقيم فيها أحد، خاصة أن كلا التشريعين الأردني والسعودي قد جعلا من تلك الأماكن محلا للحماية الجنائية، فالمادة الثانية من قانون العقوبات الأردني تبنت عبارة "المحل مخصص للسكن" بينما المنظم السعودي تبنى عبارة "المكان المعد استعماله كمأوى"، والتساؤل المثار هنا يتعلق بالمعيار الواجب تطبيقه على مكان معين حتى ينسحب عليه وصف المكان المعد للسكن وبالتالي يكون محلا للحماية الجنائية؟

لقد قيل بشأن الأماكن المعدة للسكنى أنها تحتمل إحدى تفسيرين:

الأول: المكان المخصص بطبيعته للسكنى ولو انه لم يسكن بعد، كمبنى شيد وعرض للإيجار ولكنه لم يسكنه أحد بعد، أو شقة خلت من مستأجرها ولم يحل أحد محله بعد، فهذه الأماكن لا تعد من الأماكن المسكونة أو المعدة للسكنى وعليه فإنها لا تتمتع بالحماية الجنائية المقررة للمسكن.

أما الثاني: فهو المكان المسكون فعلا ولو أن ساكنيه لا يقيمون فيه مثل منزل المصيف أو المشتى الذي لا يقيم فيه ساكنه إلا شهوراً محددة في السنة فقط أو منزل في الريف ينزل فيه ساكنه يوم العطلة الأسبوعية فقط.

وعلى ضوء ذلك يقصد بالأماكن المعدة للسكنى تلك المسكونة بالفعل وان أصحابها لا يقيمون فيها بصفة دائمة ومن ثم فإنها تدخل في نطاق الأماكن المسكونة والتي تتمتع بحرمة المسكن، بينما الأماكن الخالية أو المعدة للإيجار ولو كانت مفروشة فلا تعد أماكن مسكونة أو معدة للسكنى لانتقاء علة الاعتداء على الحرية الفردية لأحد الأشخاص.بقي أن نقول أن الخلاف في العبارتين الواردتين في التشريعين الأردني والسعودي هو خلاف لفظي ليس إلا، فالنتيجة في كلا التشريعين واحدة وهي انه إذا كان المكان مسكونا بالفعل ولكن لا يقيم فيه صاحبه بصفة دائمة كمنزل المصيف فهو في نظام الإجراءات السعودي (م40) "مكان معد لاستعماله كمأوى"، في حين انه في القانون الأردني "محل مخصص للسكن" وكلتا الحالتين تدخل في نطاق مفهوم المسكن محل الحماية.

الفرع الثاني: الأماكن الخاصة

يختلف مفهوم المكان الخاص عن المفهوم التقليدي للمسكن في أن المكان الخاص ينصرف إلى ذلك المكان الذي يخصصه صاحبه لمزاولة نشاط معين من أنشطته الدائمة بحيث تبدو نية هذا الشخص واضحة في منع دخول مثل هذا المكان الخاص إلا بإذن صاحبه، ولعل الأمثلة على تلك الأماكن الخاصة كثيرة فمكاتب المحامين وعيادات الأطباء وأماكن ممارسة الحرف ليست إلا أمثلة على تلك الأماكن الخاصة والحقيقة أن فكرة الأماكن الخاصة بتنازعها رأيان فقيهان:

يرى جانب من الفقه أن المسكن بطبيعته مكان خاص، ولكن ليس كل مكان خاص مسكنا إنما يتميز المسكن بتخصيصه للإقامة الفعلية أي أن حائزه قد أعده لإقامته وسائر مظاهر الحياة التي يحرص على حجبها عن اطلاع الغير عليها، ويبنى هذا الرأي نتيجة بعدم امتداد الحماية الجنائية المقررة للمسكن إلى تلك الأمكنة الخاصة التي لم تعد للإقامة فيها وإنما خصصت لمزاولة مهنه أو لمباشرة نشاط تجاري أو صناعي.

بالمقابل يرى جانب آخر من الفقه –والذي نرجحه- إمكانية امتداد الحماية الجنائية لمثل تلك الأماكن الخاصة من خلال تبني المفهوم الموسع للمسكن على اعتبار أن الحياة الخاصة للفرد متحققة في هذا الغرض أيضا وبالتالي كان مبررا أن تمتد الحماية الجنائية لتشمل تلك الأماكن الخاصة لاتحاد العلة، على أن مثل هذا الحكم يتوقف على ضرورة توافر شرطين أساسيين في المكان الخاص حتى يخضع لحماية حرمة المسكن، وهما:

أولا: أن يكون المكان مخصصا لممارسة أحد الأنشطة الفردية، سواء كانت مهنية أم صناعية أم تجارية أم أساسية، وعليه تخرج عن إطار المكان الخاص تلك المكاتب التي تمارس مهام وظيفية عامة.


ثانيا: صفة الخصوصية: ويتحقق هذا الشرط إذا كان الدخول أو البقاء في ذلك المكان يتوقف على إذن صاحبه.

ووفقا للفهم السابق يبدو أن هناك قصورا ملحوظا في التشريع الأردني تحديدا فيما يتعلق بإغفاله للمكان الخاص وتحديد إذا كان يندرج ضمن إطار الحماية الجنائية المقررة للمسكن أم لا، حيث أن قراءة نص المادة الثانية من قانون العقوبات الأردني لا تسعفنا في الخروج بنتيجة محددة حول مدى إمكانية أن يندرج المكان الخاص ضمن تعريف المسكن الوارد في هذه المادة، بالمقابل كان المنظم السعودي أكثر وضوحا وصراحة من نظيره الأردني في هذه الجزئية تحديدا حيث استهل المنظم السعودي المادة 40 من نظام الإجراءات الجزائية بأن "للأشخاص ومساكنهم ومكاتبهم ومراكبهم حرمة تجب صيانتها......"، ويبدو من خلال هذا النص أن المنظم السعودي –وحسنا فعل- كان أكثر ميلا للإتجاه الفقهي الذي يوسع من مفهوم المسكن بحيث شمل "المكاتب" بالحماية الجنائية، وعلى الرغم من ذلك ورغم ما يسجل للمنظم السعودي من موقف إيجابي في هذا الاتجاه، إلا أننا نرى أن المكان الخاص لا يقتصر فقط على "المكاتب" بل يمتد ليشمل تلك الأماكن المعدة لمباشرة نشاط تجاري او صناعي وأماكن ممارسة الحرف والتي قد يبدو من الصعب أن تندرج ضمن المعنى المتعارف عليه لمفهوم "المكاتب" وكان حريا بالمنظم السعودي أن يكون أكثر وضوحا ويضمن النص السالف الذكر وبعبارة صريحة المكان الخاص.
** يتبع

المواضيع المتشابهه: