:
رقابة محكمة العدل العليا على عملية الاستملاك
كما توضح لنا في المطلب السابق فإنه لا وجود لقرارات تقبل الانفصال عن عملية الاستملاك يمكن أن تكون محلاً للطعن بالإلغاء، والقرار الوحيد في العملية هو قرار الاستملاك الصادر عن مجلس الوزراء، وهو قرار يقترن بقرينة قاطعة تفيد أن الاستملاك تم للمنفعة العامة، ومع كل هذا وذاك لم تفلت قرارات الاستملاك من عين رقابة محكمة العدل العليا حيث شملت هذه الرقابة كافة عناصر القرار، ولكن قبل الخوض في مظاهر تلك الرقابة نتساءل عن الأساس الذي اعتمدت عليه المحكمة لقبول اختصاصها بالنظر في الطعون بقرار الاستملاك. هذا ما سنبينه فيما يلي :
الفرع الأول: مدى اختصاص محكمة العدل العليا بمنازعات الاستملاك
تثور مسالة اختصاص محكمة العدل العليا بنظر منازعات الاستملاك بسبب التحديد التشريعي الحصري لاختصاصاتها في المادة (9) من قانون محكمة العدل العليا رقم (12) لسنة (1992)، وإلا ما كان لهذا الحديث من لزوم لو أن ولاية المحكمة عامة على كل منازعة إدارية تتعلق بقرار إداري نهائي.
نحن نعلم أن اختصاص محكمة العدل العليا محدد في مجال الطعن بالإلغاء في الفقرة (أ) من المادة (9) من قانونها وليس من ضمنها النظر في الطعون المقدمة ضد قرار الاستملاك.
وبالرجوع إلى قرارات المحكمة الموقرة منذ نشأتها نجدها قد تناولت موضوع الاستملاك والطعن فيه بدعوى تجاوز السلطة في أكثر من مناسبة على الرغم من أن قوانين المحكمة المتعاقبة لم تورد نصاً بهذا الخصوص وعليه نتساءل: من أين استمدت المحكمة اختصاصها هذا ؟ مع العلم أن قانون الاستملاك لم يأتِ على ذكر الجهة القضائية المخولة بنظر المنازعات المتعلقة بالاستملاك ولم يشر لا تصريحاً ولا تعريضاً إلى ولاية محكمة العدل العليا ؟
ابتداءً وللإجابة على هذا التساؤل لا بد من الإشارة إلى أن أسلوب التحديد الحصري للاختصاصات يعني اقتصار المحكمة على هذه المنازعات دون سواها وعليه فما لم يرد النص عليه سيؤول اختصاص النظرية فيه إلى المحاكم النظامية باعتبارها صاحبة الولاية العامة.
استنادا إلى المادة 9/أ نجد البند (9) منها ينص على:" تختص المحكمة دون غيرها (...) 9- الدعاوى التي يقدمها الأفراد والهيئات بإلغاء القرارات الإدارية النهائية " وتضيف الفقرة التي تليها:" 1- الطعن في أي قرار إداري نهائي حتى لو كان محصناً بالقانون الصادر بمقتضاه ".
يتضح من خلال النصين للوهلة الأولى أنهما مطلقان ويجعلان محكمة العدل العليا مختصة بنظر كافة الطعون المتعلقة بأي قرار إداري نهائي توافرت فيه أركان وشروط القرار الإداري وأوجه الطعن بالإلغاء أي أنها صاحبة الولاية العامة على المنازعات الإدارية، والقول بذلك يجعل من السفاهة تعداد المشرع لاختصاصاتها الحصرية في البنود السابقة، وحيث أنه لا ينسب للمشرع لغو، فإنه من غير المنطقي تفسير الأمر على هذا المنوال ومما يؤكد ذلك أحكام محكمة العدل العليا المتتالية برفضها اختصاص النظر في الطعون بإلغاء العديد من القرارات الإدارية على أساس أن اختصاصها محصور بما جاء في المادة التاسعة من قانونها وليس من بينة هذا النزاع( ).
إذن القول بأن المحكمة ذات ولاية عامة على أي قرار إداري ينافي الواقع العملي وينافي روح القانون التي اتجهت نحو تحديد اختصاص محكمة العدل العليا على سبيل الحصر، وفي ضوء هذا ليس لنا سوى تفسير واحد لهذا الوضع وهو أن المحكمة قد توسعت في اختصاصها بمقتضى اعتمادها معياراً موضوعياً وهو أن القرار المطعون فيه هو قرار إداري نهائي احتوى عناصر القرار الإداري ومن ثم فإن اختصاص المحكمة ينعقد بالطعن فيه، وربما نجد في أحد أحكامها إشارة إلى هذا المعيار عندما قالت :" لا يرد الدفع بعدم اختصاص محكمة العدل العليا بنظر الدعوى كون النزاع هو نزاع مدني يدور حول حق المستدعين بتملك قطع أرض في العقبة لأن القرار الصادر عن مجلس إدارة سلطة إقليم العقبة هو قرار تنظيمي صادر عن سلطة عامة من شأنه إحداث أثر قانوني يؤثر في مصلحة المستدعين وليس نزاعاً مدنياً، وبالتالي يكون الاختصاص منعقداً لمحكمة العدل العليا "( ). هكذا أقرت محكمة العدل العليا باختصاصها استناداً إلى طبيعة القرار باعتباره قراراً إدارياً تنظيمياً.
واستندت في أحكام أخرى لها على تبرير اختصاصها بالبند التاسع من الفقرة (أ) من المادة (9) حيث قضت في أحد مبادئها:"تختص محكمة العدل العليا دون غيرها في الطعون المقدمة من ذوي المصلحة والمتعلقة بالدعاوي التي يقدمها الأفراد والهيئات بإلغاء القرارات الإدارية النهائية وذلك وفقا للمادة 9/أ/9 من قانون محكمة العدل العليا رقم 12 لسنة 1992 وعليه وحيث أن القرار المطعون فيه والمتضمن السماح لشركة بنك المؤسسة العربية المصرفية - الأردن بتملك عقارات بالأردن هو قرار إداري صادر عن أعلى سلطة إدارية مختصة وهي مجلس الوزراء وهو نهائي ومنتج لأثر قانوني مما يجعل محكمة العدل العليا مختصة للنظر بالدعوى ويكون القول بغير ذلك مستوجب الرد."( )
وقضت كذلك: "استقر الاجتهاد على أن محكمة القضاء الإداري لا تختص بالنظر في الطعن في القرار الإداري إلا عند عدم وجود مرجع طعن مواز يحقق للطاعن جميع المزايا التي تحققها له دعوى الإلغاء، وعليه وحيث أن المستدعي موظف في مكتبة الجامعة الأردنية و مسؤول عن مخزن الإهداء والتبادل في المكتبة وعلى أثر نقل المستدعي من مخزن الإهداء والتبادل جرى جرد موجودات المخزن من الكتب وتبين وجود نقص فأصدر رئيس الجامعة قراراً بتحميل المستدعي مسؤولية النقص في الكتب المفقودة من عهدته وتغريمه قيمتها الإجمالية فتكون الدعوى في حقيقتها دعوى مدنية تهدف إلى عدم إلزام المستدعي بمبلغ من المال هو قيمة الكتب الناقصة في المخزن والاختصاص بنظرها معقود للمحاكم النظامية العادية صاحبة الولاية العامة في نظر مثل هذا النزاع وتكون بالتالي الدعوى واجبة الرد لعدم الاختصاص."
إن هذا النهج من المحكمة الموقرة لهو نهج محمود يفتح المجال أمامها لبسط رقابتها على العديد من القرارات الإدارية وبالخصوص القرارات التي لم يأت ذكرها في المادة (9) من قانونها، ومع أننا هنا لسنا بمعرض الحديث عن اختصاصات محكمة العدل العليا إلا أننا نرى بعض التناقض العجيب في موقف المحكمة من قرارات إدارية رفضت النظر فيها معتمدة على أن المشرع حدد اختصاصاتها حصراً وكثيراً ما اتخذت هذا الموقف بالنسبة لبعض الطعون في قرارات الموظفين( )، مما يدفعنا للتساؤل كيف أنها تضيق من اختصاصها تارة – اعتماداً على التحديد الحصري له – وتوسعه تارة بحجة أنها تنظر إلى طبيعة القرار؟؟!!
قد يظن القارئ أننا نشك في ولاية المحكمة على منازعات الاستملاك لكن الحقيقة خلاف ذلك، فهي بالعكس لابد أن تكون تحت رقابة محكمة العدل العليا خاصة وهي جهة القضاء الإداري الوحيدة في الأردن ومن الجدير أن تمنح ولاية عامة على المنازعات الإدارية.
و نحن بهذه المناسبة نناشد المشرع بإعطائها تلك الولاية العامة حتى لا يفلت أي قرار إداري من رقابة المشروعية وهذا كله يصب في خدمة العدالة فنحن نعلم خصوصية القضاء الإداري وطبيعته المختلفة عن القضاء العادي.
المفضلات