ثالثا:مصير معيار فقد الرقابة على السيارة
بالنظر إلى الانتقادات الموجهة إلى معيار فقد الرقابة على الشيء، تخلى عنه القضاء الفرنسي و كان الحكم الحاسم في هذا الشأن هو حكم الدوائر المجتمعة لمحكمة النقض الفرنسية الصادر في 03 فبراير 1930 في قضية جاندير (JANDHEUR)، حيث قررت أن القانون لا يميز بين الحالة التي يكون فيها الشيء مسيراً بواسطة الإنسان و الحالة التي لا يكون مسيراً فيها من طرفه، و أنه لا يلزم لتطبيق أحكام المسؤولية عن الأشياء، أن يكون بالشيء عيب ملازم لطبيعته من شأنه إحداث الضرر(4).
1،3 أنظر في عرض ذلك: محمد لبيب شنب، المسئولية عن الأشياء، مرجع سابق، ص 277 و بعدها، سهير سيد منتصر، رسالتها، ص 92، 147،148
2 حسين عامر، المسؤولية المدنية التقصيرية و العقدية، مطبعة مصر، القاهرة، الطبعة الأولى، 1956، فقرة 744، ص 757.
4 أنظر في عرض ذلك أيضاً: عاطف النقيب، مرجع سابق، ص 181
و اطرد القضاء الفرنسي بعد ذلك على اعتبار الضرر ناشئا عن الشيء، و تطبيق المادة 1384 فقرة 1 عليه و كان وقت حصول الضرر مسيراً بيد الإنسان أو أداة طيعة بيده، و لو لم يكن به عيب أ خلل مما يعني عدم تحقق الإفلات بالمعنى السابق(1).
و بهذا فشل أنصار معيار فقد الرقابة على السيارة في محاولتهم للتفرقة بين فعل الإنسان و فعل الشيء من أجل حجب المسئولية عن فعل الشيء كلما كان لفعل الإنسان دخل في الحادث و هكذا بدا جلياً عدم كفاية هذا المعيار لتحديد مجال تطبيق أحكام المسئولية عن الأشياء.
البند الثالث: معيار القوة أو الحركة الذاتية للشيء
أولا: عرض معيار القوة الذاتية
قال بهذا المعيار العميد جورج ربير (G.RIPERT) ، الذي حصر فعل الشيء أو المسئولية عن الأشياء في نطاق الفعل الصادر من الشيء الذي يتمتع بقوة دفع ذاتية، و هي بصفة أساسية السيارة، و يرى أن الأشياء التي تتمتع بقوة دفع ذاتية هي أشياء خطرة، و هي وحدها التي تحتاج إل الحراسة بسبب المخاطر التي يمكن أن تحدثها للغير مما يستوجب مساءلة حراسها، أما الأضرار الناشئة عن الأشياء غير الخطرة فتخضع الأضرار الناشئة عنها للقواعد العامة التي تلزم المضرور بإثبات خطأ الفاعل(2).
ثانيا: نقد معيار القوة الذاتية
تعرض معيار القوة الذاتية الذي يقوم على خطورة الشيء إلى عدة انتقادات نوجز أهمها في الآتي:
1- إن خطورة الشيء معيار لتحديد الأشياء التي تنطبق عليها قواعد المسؤولية عن الأشياء أكثر منها معيار لتحديد فع الشيء، إذ لا يكفي لتطبيق أحكام هذه المسؤولية تواجدنا أمام أحد الأشياء الخطرة، و إنما يشترط أيضاً وجود فعل منها، و باعتبار السيارات من الأشياء الخطرة، فهذا المعيار لا يدلنا على تحديد متى نكون أمام فعل السيارة، و إنما يفيد فقط في تصنيفها ضمن الأشياء الخطرة.
2- إن هذا المعيار ليس له أي أساس قانوني، إذ أن المادة 1384/ 1 مدني فرنسي (138/ 1 مدني جزائري) تشير إلى الأشياء التي تحت الحراسة، و لم تقص الحراسة على الأشياء الخطرة دون غيرها، و بالتالي فهذا المعيار يضيق من مجال تطبيق أحكام المسؤولية عن الأشياء.
3- إن معيار الخطورة يصعب تطبيقه من الناحية العملية، لأن الشيء الواحد قد يعد خطراً أو غير خطر تبعاً للظروف و الملابسات التي تحيط به عند وقوع الحادث.
1 عاطف نقيب، مرجع سابق، ص 181
2 إبراهيم الدسوقي أبو الليل، رسالته، ص 436؛ راجع أيضا: عاطف النقيب، مرجع سابق، ص119-120؛ محمد نصر رفاعي، رسالته، ص 95؛ أنظر أيضا سهير سيد منتصر، رسالتها، ص 40-41.
4- إن شرط الخطورة هو عودة غير مباشرة لنظرية الخطأ الواجب الإثبات، لأن الأخذ به يؤدي إلى تكليف المضرور بإثبات الطبيعة الخطرة للشيء، و هذا الإثبات يعادل من حيث العبء إثبات خطأ المتسبب في الحادث.
ثالثا: مصير معيار القوة الذاتية
أحرز هذا المعيار نجاحا كبيرا في القضاء الفرنسي، إذ تأثر به القضاء الإداري في قضية خاصة بحادث وقع من سيارة عسكرية، حيث قرر مجلس الدولة الفرنسي أن ظروف المرور الخطرة في الوقت الحاضر تستلزم إقامة قرينة على خطأ السائق الذي تسبب في الحادث "هذه القرينة التي لا تستطيع الإدارة في مواجهتها أن تثبت أن السائق لم يرتكب خطأ".
و تأثرت محكمة النقض الفرنسية كذلك بهذا المعيار في القرار الذي أصدرته بتاريخ 21 فبراير 1927، الذي نقضت بموجبه الحكم الذي أصدرته محكمة بيزانسون (Besançon) بتاريخ 29 ديسمبر 1925، الذي كان يفرق بين الضرر الذي يحدث من سيارة متوقفة و الضرر الحالة الأولى، فأكدت محكمة النقض رفضها لهذه التفرقة، و أضافت أن المسؤولية عن الأشياء لا تتحقق إلا إذا كان الشيء مما يستلزم حراسة خاصة بسبب ما يمكن أن يحدثه من ضرر للغير(1).
و طبقت المحاكم الفرنسية معيار الخطر في أحكامها لعدة سنوات خاصة بين 1927 و 1929، و شمل السيارات، حيث أكدت المحاكم أنها تخضع لضرورة الحراسة بسبب الخطر الذي يمكن أن تحدثه للغير، بالنظر إلى حركها و سرعتها، ثم توسع تطبيق هذا المعيار ليشمل الأسلحة النارية و شمل أيضاً بعض الأشياء التي تتضح خطورتها بجلاء مثل المتفجرات و بعض المواد الكيمائية و الطائرات.
على الرغم من النجاح الذي لقيه هذا المعيار في السنوات الأولى لظهوره؟، إلا أن الصعوبات العملية التي كانت تعترض القضاة بسبب الاختلاف الفقهي الشديد حول تحديد معنى الخطورة، دفع القضاة إلى هجره، و كان هذا في قرار الدوائر المجتمعة لمحكمة النقض الفرنسية في حكمها الشهير الذي أصدرته في 13 فبراير 1930 في قضية جاندير (JAND’HAUR) ، الذي أكد على وجوب تطبيق أحكام المسؤولية عن الأشياء في جميع حالات الأضرار الناشئة عن الأشياء دون تفرقة بين الأشياء الخطرة و غير الخطرة(2).
البند الرابع: المعيار الحقيقي لفعل السيارة
من خلال عرض المعايير السابقة لفعل السيارة و تقييمها، و من مراجعة ما استقر عليه القضاء الفرنسي في هذا المجال، يتبين أنه بمجرد تدخل السيارة في تحقيق الضرر يفترض القضاء أن السيارة كانت السبب المنشئ له، ما لم يثبت الحارس خلاف ذلك.
1 سليمان مرقس، الوافي في شرح القانون المدني، القسم الثاني، المسؤوليات المفترضة، المجلد الثاني، بدون دار و بلد النشر، سنة 1992، ص1014-1015.
2 عاطف النقيب، مرجع سابق، ص181
و لقد استقر القضاء الفرنسي منذ قضية جاندير (JAND’HAUR) على تطبيق أحكام المسؤولية عن الأشياء في جميع الحالات التي يشترك فيها الشيء في إحداث الضرر، و لم يعد يهم تحديد مصدر فعل الشيء و تدخله في إحداث الضرر، و ما إذا كان قد تحقق نتيجة نشاط الإنسان أو بفعله الذاتي.
و هكذا فإنه لا يشترط في فعل السيارة أي شرط، بل يكفي مجرد تدخلها المادي في الحادث كدليل و معيار لفعل السيارة.
و بهذا المعنى يأخذ الأستاذ فافييه، إذ يقول أن المعيار الوحيد المقبول هو الذي يتوقف على مجرد اشتراك الشيء في الضرر، ففعل الشيء لا يعني سوى تدخله في إحداث الضرر(1).
و هذا التحليل يتماشى مع صياغة المادة 1384 مدني فرنسي، و كذلك المادة 138/ 1 مدني جزائري حيث ذكرت هذه الأخيرة العبارة التالية:
" كل من تولى حراسة شيء ... يعتبر مسؤولا عن الضرر الذي يحدثه ذلك الشيء".
يتبين من هذا النص أن فعل الشيء يتحقق في كل مرة يتدخل فيها الشيء مادياً في إحداث الضرر، غير أن هذا التدخل يكفي فقط باعتباره ممثلاً لفعل السيارة، و لا يكفي لقيام المسؤولية أي أن يكون هذا التدخل هو السبب الحقيقي للضرر، أي لا بد من توافر علاقة السببية، و هذا ما سأتناوله بالدراسة في المبحث الموالي.
الفرع الثالث: شروط فعل السيارة
اختلف الفقهاء حول تحديد متى يكون الشيء قد تدخل في إحداث الضرر، فوضعوا شروطاً بتوافرها يتحقق فعل السيارة، و ينتفي بانتفائها.
فاشترط البعض لوجود فعل السيارة أن تكون قد اتصلت اتصالاً مباشراً بالمضرور أو بمحل الضرر بتحقق التلامس المادي بينهما، و يرى البعض الآخر أن فعل السيارة لا يتحقق إلا إذا كانت وقت حدوث الضرر في حالة حركة.
1 إبراهيم الدسوقي أبو الليل، رسالته، ص 447.
البند الأول: شرط التلامس
أولا: مضمون شرط التلامس
يرى بعض الفقهاء أن فعل السيارة أساس تطبيق أحكام المسؤولية الموضوعية، لا يتصور وجوده إلا إذا كان هناك اتصال مادي أو تلامس بين السيارة و المضرور، و إذا لم يتحقق هذا التلامس انعدم فعل الشيء، و بالتالي يستبعد تطبيق أحكام المسؤولية عن الأشياء، لتطبيق القواعد العامة في المسؤولية التقصيرية، التي تلقي بعبء إثبات خطأ المتسبب على عاتق المضرور(1).
و يتساهل أنصار هذا الاتجاه في قبولهم لفكرة التلامس، إذ تتحقق عندهم هذه الفكرة حتى و لو لم يتم الاتصال أو الاحتكاك بين السيارة ذاتها و المضرور، فيتحقق شرط التلامس مثلاً في حالة كسر زجاج واجهة محل من مسمار تطاير نتيجة سير السيارة أمام المحل، و يتحقق كذلك في حالة إصابة شخص بداخل سيارة صدمتها سيارة أخرى، و يتحقق كذلك في حالة تخطي سيارة لراكب دراجة بطريقة فجائية، مما ترتب عليه سقوط نتيجة انزعاجه أو مضايقته من تخطي السيارة له(2).
فيكفي عند هؤلاء الفقهاء ليتحقق شرط التلامس، الاتصال المادي بين المضرور و بين شيء آخر ناتج عن الشيء الأصلي (السيارة)، أما ما قد ينشأ عن السيارة، و ما تسببه من تأثير نفسي قد يؤثر في مسلك المضرور و يسبب له الضرر، فلا يتحقق معه فعل السيارة نظراً لعدم وجود أي تلامس بين السيارة أو ملحقاتها و المضرور، فلا يمكن للمضرور في هذه الحالة التمسك بالقواعد الموضوعية في المسؤولية عن الأشياء.
ثانيا: موقف القضاء الفرنسي من شرط التلامس
أكدت محكمة النقض الفرنسية في قرارها الصادر بتاريخ 22 يناير 194، عدم اشتراط التلامس بين السيارة مصدر الضرر و الشيء أو الإنسان المضرور لوجود فعل السيارة، و بالتالي تطبيق أحكام المسؤولية عن الأشياء.
1 إبراهيم الدسوقي أبو الليل، رسالته، ص 450؛ و أورد الأستاذ الدسوقي أمثلة عن الفقهاء الذين يشترطون التلامس و هم: اسمان (ESMEIN)، سافاتييه (R.SAVATIER)، روييدر (RODIERRE) .
2 عبد الرزاق السنهوري، الوسيط، الجزء الأول، مرجع سابق، ف728، ص 1232؛ محمد لبيب شنب، مسؤولية عن الأشياء، مرجع سابق، ف 178، ص162.
كما أكدت الغرفة المدنية لمحكمة النقض الفرنسية في قرارها الصادر بتاريخ 04 نوفمبر 1956 على عدم تطلب مثل هذا الشرط، إذ قضت في قضية قائد السيارة الذي حرك عجلة القيادة فجأة فتسبب ذلك في رعب قائد الدراجة مما يفقد توازنه، مسبباً سقوطه على الأرض، بأن هذا يكفي لانعقاد مسؤولية قائد السيارة.
و حتى الأحكام التي رفضت تطبيق أحكام المسؤولية عن الأشياء في حالة عدم الاتصال بين السيارة و الضرر، يتضح من خلال تحليلها أن ذلك ليس بسبب انعدام التلامس – كما زعم أنصار الاتجاه السابق- و إنما كان ذلك لأن فع السيارة لم يكن هو السبب في حدوث الضرر، كما هو الحال بالنسبة لقرار محكمة النقض الفرنسية الصادر بتاريخ 24 ماي 1957 الذي رفضت فيه تطبيق أحكام المسؤولية عن الأشياء بالنسبة لحادث سقوط راكب دراجة لحظة تجاوز سيارة له، و كذلك الحال بالنسبة للقرار الصادر عن محكمة النقض الفرنسية بتاريخ 19 يناير 1956، الذي رفضت فيه تطبيق المادة 1384/ 1 مدني فرنسي في حادث سيارة لم يتم فيه التلامس بين السيارة و المضرور، مبررة حكمها بأن سبب الضرر كان حركة خاطئة من المضرور(1).
ثالثا: تقييم شرط التلامس
بالرغم من اشتراط بعض الفقهاء التلامس أو الاتصال المادي بين السيارة و المضرور لإمكان وجود فعل السيارة، إلا أن ما جاؤوا به من أحكام قضائية لا يكفي لتبرير موقفهم – كما سبق توضيحه- لهذا رفض غالبية الفقه هذا الشرط مقررين إمكان وجود فعل السيارة في حالة عدم التلامس أو الاتصال المادي بين السيارة و المضرور، فيرى الأستاذ بودان (BEUDANT) أن هذا التلامس ليس بشرط ضروري ، كما أنه غير كاف لوجود فعل الشيء و تطبيق أحكام المسؤولية عن الأشياء، حيث أن التلامس لا يترتب عليه بالضرورة مسؤولية الحارس الذي يكون له جميع الحالات إثبات أن السيارة لم تكن السبب الحقيقي في الضرر.
المفضلات