{سلسلة قصصية} في بيت التنين وبيوت اخرى - لـ عمر الداودية - (الحلقة الخامسة)

**أحمد أبو زنط** · 09-30-2011 12:37 AM

إذا توقفت السيارات والدراجات أحيانا لينظر اصحابها إليك...فأنت في مدينة هايكو.. وإذا التفت رقاب المارة على آخرها وعيونهم تتفحصك بدقة...فأنت في هايكو، وإذا اوقفنك بعض الجميلات هنا وهناك لمحادثة عابرة أو طلبا لرقم هاتفك او لأخذ صورة معك...فأنت في هايكو، وإذا اتسعت عيون طفل صيني صغير على اخرها –لأول مرة- و هو ينظر إليك مشدوها فأنت بالطبع في هايكو.

لا تستغرب للمشهد الجديد ... فأنت حين تمضي وحيداً بين الألوف من الافواج الصينية بعيونك وأنفك ووجهك المختلف...قد يحصل لك ما حصل لي. لا عرب و لا عجم هنا!! قد ترى أجنبيا واحدا بالصدفة كل بضعة اشهر..وربما ستنظر اليه انت ايضا مستغربا كما نظر اليك الصينيون يوم وصولك و لسان حالك يقول "ما الذي اتى به الى هنا...ما الذي أتى به الى هذه الجزيزة النائية ؟!".

وبعد أن كنت مواطنا من الدرجة الثالثة في بريطانيا...ينظر الي الإنجليز متجهمين كما ينظرون الى كل الأجانب أكانوا طلابا، سياحا أو حتى مسافري ترانزيت، وترتجف قلوبهم كلما دخلت الحافلة حاملا حقيبة على ظهري...أصبحت فجأة وعلى غفلة، مواطنا من الدرجة الأولى بامتياز!! ترحاب و دفء ومعاملة خاصة أينما ذهبت في هايكو.

كنت أتمشى في الشوارع الضيقة المحاذية لجامعة هينان لتدريب المعلمين مندهشا بدوري من المجتمع الجديد ، كنت أتوقع أفواجا من السياح تملأ المكان، لكن الجزيرة -كمان تبين لي لاحقا- لازالت في طور النشأة وفي خطواتها الأولى في برنامج الجذب السياحي.

برفقتي كان مارك، شاب جنوب افريقي (أبيض) رافق والده قبل سنة الى هايكو في رحلة تبشيرية كما فهمت. وبينما يسهب مارك في حديثه عن السياسة في بلاده وأمجاد البيض وحنينه الى نظام الفصل العنصري، أتضور أنا جوعا ..بحثا عن اي اشارة باللغة الإنجليزية قد تعني...برغر...بيتزا...ساندوش...أي شيئ مفهوم ومهضوم. كنت دوما من عشاق ورواد المطاعم الصينية، وتهيأ لي أن الطعام لن يكون مشكلة البته في الصين –رغم تحذيرات مسبقة-. اتضح لي أن المطاعم الصينية خارج الصين تختلف كليا عن المطاعم الصينية في الداخل. فالمطاعم الصينية في الخارج تم "تلطيف" أطباقها لتناسب ذوق المجتمع المحلي الذي تعمل فيه، لكنها في الصين و خاصة في المدن التي يقل بها الأجانب مثل هايكو مختلفة جدا !!! لم تأقلم بعد لتناسب أمثالي من الغرباء.

الصين منذ آلاف السنين تتفنن وتتلذذ بطهي لحوم الكلاب والقطط بتقديمها مع السلاحف أو بطبخها مع الثعابين. يقول الصينيون أن لحم الكلاب من الأطعمة الشهية، ويعتقد انه يساعد على تدفئة الجسم لذلك ينتشر تناوله أكثر في الشمال الشرقي حيث تنخفض درجات الحرارة شتاءاً. ويقول ممارسو الطب الصيني إن لحم الكلاب غني بالبروتين والدهن وجيد للكلى ويعزز مستويات الطاقة والفحولة !!

وبعض أجزاء الصين فيها أعداد كبيرة من مزارع الكلاب، وخاصة مقاطعة بايغيان جنوب شرق إقليم غيانشو كما قيل لي لاحقا حيث أنها موطن أحد الأباطرة الذي كان معروفا قبل ألفي عام بولعه بلحم الكلاب المطبوخ مع السلاحف. ومن جهة اخرى فلحم القطط رغم انتشاره فهو اقل شعبية من لحم الكلاب والسبب لا يعود الى مذاقه انما الى خرافة صينية دارجة تقول بأن القطة ستعود ليلا لتنتقم من آكلها. لكن حكاية القط هذه لم تنطلِ على عقول كل الصينيين، فمثلا سكان مقاطعة غوانغدونغ الجنوبية يرفضون هذه الخرافة ولديهم أمثال شعبية نابعة من مذاقاتهم في الطهي ومنها "الغوانغدونغي سيأكل أي شيء إلا أباه وأمه".

كنت أعرف مسبقا أن للصينيين عاداتهم المختلفه عنا في هذا الجانب، لكن لم أتوقع أن يكون لحم الكلاب و القطط و الزواحف و الخنازير و حتى صورها منتشرة و معلقة في كثير من المطاعم.

قرأت قبل وصولي الى مدينة هايكو بفترة خبرا تفائلت به. مفاده أن قانونا سيسن بهذا البلد لمكافحة إساءة معاملة الحيوانات حيث سيتم تغريم أي شخص متلبس بالتهام لحم قطط أو كلاب بنحو 730 دولارا بالإضافة إلى السجن 15 يوما. لكن الواقع هنا مختلف جدا... فمما أراه حولي يبدو أن القانون لم يدخل حيز التنفيذ.

و لاحقا عندما بدأت الدراسة في الجامعه كان بين طريق الجامعة و بيتي مطعم متخصص في تقديم لحم الكلاب و على بوابة المطعم كانت هناك لافتة ضخمه عليها صور لبعض الكلاب الأنيقة ! كان علي ان اقطع الشارع الى الجهة الأخرى كلما اقتربت من المطعم لتفادي رائحة اللحوم المنبعثة، فإذا ما ابتعدت.. قطعت عائداً الى الجهة الأخرى مكملاً سيري.

أنظر الى المطعم و زبائنه من بعيد بكثير من الإشمئزاز و الإستغراب و القرف، ثم أنظر الى العامة حولي لعلي أجد أحدهم يشاركني نظرتي هذه و يستهجن ما يرى...لكن الجميع يمر عابرا مطعم الكلاب هذا دون ان يعيره او يعير زبائنه أدنى اهتمام، فهو في نظرهم مطعم ككل المطاعم المتناثرة.

انا: مارك...أين سنأكل؟!

مارك: لا أدري...كل اقتراحاتي رفضتها !! كيف ستتأقلم هنا بهذه العقلية ؟!

انا: أية عقلية؟! ساعتان و نحن ندور بين مطاعم الكلاب و القطط و الزواحف !! سوف اتأقلم سريعا...لكن ليس في يومي الثاني!! لابد ان هناك مطاعم فاخرة في مكان ما في هذه المدينة...لابد من وجود مطعم بيتزا (نباتية) مثلا !!

مارك:يوجد..."البيتزا هت"

انا: بيتزاااا هتتتتتتتتت و لما لم تقل من البداية ؟!

مارك: البيتزا هت بعيد جدا ربما 50 يوان بالتاكسي ...و اسعاره جد غالية

انا: لا بأس... على حسابي التاكسي و الطعام ايضا...خذني هناك

مارك: حسنا ...كما تشاء

انا: لنذهب اولا الى احد البنوك القريبة اريد تصريف بعض الدولارات لم يتبقَ في حوزتي سوى القليل من اليوانات ...دفعت ما احضرته معي في إيجار الغرفة و الفحص الطبي و بعض المتطلبات الأخرى..

ذهبنا الى أحد البنوك القريبة، و كان علي ملأ بعض النماذج التي تتطلب الكثير من التفاصيل.و المعروف أن تصريف العملة في أي مكان أمر سريع و بسيط للغاية، لكن الأمر مختلف جداً في الصين، و خاصة اذا ما كنت أجنبيا...كثير من الأوراق و كثير من النسخ و كثير من التواقيع.

قدمت النماذج التي ملأتها إلى المحاسب...مرفقة بجواز السفر و الدولارات، ثم غاب الرجل لمدة غير قصيرة و عاد بالأوراق يعلو وجهه ألف علامة إستفهام و بدأ التحدث باللغة الصينية ومارك–قربي- ترجم ما قاله الرجل...

مارك: الرجل لم يسمع قبل الآن بالاردن...انت كتبتها باللغة الإنجليزية ...هل تعرف ما هو المرادف لها؟ المرادف ل "جوردن" باللغة الصينية؟؟

أنا: المرادف ؟! لم افهم

مارك: نعم! هنا في الصين لكل كلمة اجنبية المرادف الصيني لها...فمثلاً الولايات المتحدة لا ينطقونها (يونيتد ستيتس) بل "ماي قوا" (وهي باللغة الصينية تعني البلاد الجميلة، ماي: جميل، قوا:بلد)، كوريا مثلا تنطق "هانج قوا"، حتى المطاعم مثل ماكدونالد يقولون: "ماي دنغ لاو". الاسماء الأجنبية هنا لا تنطق كما هي، إنما يجدون مرادفا لها باللغة الصينية يناسب النطق و يسهل تداولها و حفظها... بعض الأحيان يكون المرادف مشابهاً للكلمة الاصلية و بعض الاحيان يكون في قمة الإختلاف.

و بالفعل اتضح لاحقاً ان كلام مارك كان صحيحاً، حتى ان كل أجنبي هنا يعطى إسماً صينياً يناسب النطق و يتماشى مع اللغة الصينية و يدون على الهوية الشخصية، فإما ان تختار إسما صينيا متداولا و معروفا أو إما ان يتم تقريب إسمك الأصلي بطريقة تناسب اللفظ في اللغة. و عند تسجيلي بالجامعه لاحقا سألوني عن الإسم الذي اخترته

الموظفة: إسمك باللغة الصينية؟

أنا: ماو

هي (مندهشة): ماو !! نسبة الى ماو تسي تونغ؟!

أنا: نعم، ما المشكلة؟!

هي: لا يمكن !!

أنا: لماذا؟!

هي: ماو رجل عظيم

أنا: إذن؟ انا اخترته لهذا السبب، هل المطلوب ان اختار اسما حقيرا؟؟

هي: إختر أي إسم آخر غير ماو، لهذا الإسم قدسيته و إحترامه الكبير هنا

و لم اختر إسما آخر فما كان منها الا ان نظرت الى اسمي في جواز السفر و قامت بإعطائي إسما قريبا لعمر يستطيعون نطقه بسهوله و هو : "أو ما" !!

وبالعوده الى الحديث الدائر في البنك و مشكلة تصريف الدولارات قلت لصديقي مارك أني لا أعرف كيف تنطق "جوردن" باللغة الصينية.

مارك: مشكلة! لن نستطيع تصريف النقود حتى نعرف، لأن الأوراق الرسمية يملأها موظف البنك باللغة الصينية، و لقد حدثت لي قصة مشابهة عند وصولي الى الصين، حيث طلبوا اسم بلدي باللغة الصينية فقلت جنوب إفريقيا، فما كان منهم إلا أن سألوني مجددا: جنوب إفريقيا !! و لكن أي دولة في جنوب إفريقيا ؟! ...

حاول مارك تخمين كيفية نطق "جوردن" باللغة الصينية فقال: جو دن..جو دنغ..جور دونغ... و في كل محاولة لمارك كان الموظف يهز راسه مشيرا بالنفي و الى عدم وجود هذه الكلمة داخل القاموس الصيني.

لم نستطع تصريف النقود و عدنا الى الجامعة...ذهبت الى قسم الطلبة الأجانب و شرحت لهم المشكلة. تناقش الموظفون قليلاً ثم بحثوا في إحدى القواميس ليجدوا أن"جوردن" تنطق "يويه دان"!!

حسناً...دونتها. انا هنا لست عمر و لست من الأردن و لا من جوردن ... بل انا "أو ما" و انا من "يويه دان".

عمر محمد الداودية..

المواضيع المتشابهه: