سلسلة قصصية (في بيت التنين وبيوت اخرى) لـ عمر الداودية (الحلقة السابعة ) ..


[10/9/2011 3:11:48 AM]
عمر الداودية
(الحلقة السابعة )
الصين قطعت علاقتها مع السماء، لا إله ولا رسل ولا كتب سماوية.. الديانة هنا الشيوعية ورسولها هو "ماو تسي تونغ"، أو "الشمس الحمراء التي لا تغيب" كما يحبذ أبناء الصين تسميته.

"ماو" هو قائد الثورة الصينية التي انتهت بإعلان جمهورية الصين الشعبية الحديثة عام 1949 واستمر قائداً لها حتى وفاته عام 1976.

في دولة تعمها الفوضى والجهل والنزاعات الداخلية آنذاك، كان على ماو أن يبحث عن طريقة تنظم هذه الدولة ذات الجغرافيا الشاسعة وتعداد السكان الهائل، باتجاه واحد وبهدف واحد وبايديولوجية واحدة ، حوَل ماو النظام الاقتصادي الرأسمالي الى نظام إشتراكي وسيطر بقبضة من حديد على كافة أجهزة الدولة واستخدمها للدعاية، فبعد أن كانت الصين تقدس الآباء والأجداد منذ آلاف السنين اصبحت تقدس الوطن وقائده وبدأت تعاليم كونفوشيوس بالزوال، وقام ماو بتطوير مفهوم جديد للشيوعية عرف ب "الماوية" وهي مزيج بين شيوعية لينين و ماركس بالإضافة الى فلسفته هو.

هنا في مدينة هايكو ، احترام وإجلال لماو أينما ذهبت، لازالت صوره تملأ المكان، في المؤسسات الحكومية، الجامعات، المصارف، المطاعم و لا تخلو سيارة أجرة واحدة أو حافلة للنقل العام من صورة صغيرة معلقة لماو تتدلى من تحت المرآة. هنا هو الشمس الحمراء، القائد، الرمز، المخلص، الثائر، الفيلسوف...الخ.

المجتمعات المتعبه و المرهقه و التي عاشت عقودا من البطش و الظلم تبحث دائما بين أبنائها عن مخلص أو مرشد ينقذها مما هي فيه، يدفعها الى النهوض و الصعود من جديد، فكان ماو هو هذا الملهم الذي انتظره ابناء الصين طويلاً. لكن الخطأ الذي يرتكبه أبناء هذه الشعوب في بحثهم عن الخلاص هو تقديس هذا الملهم الجديد، حيث ينزه هذا الثائر عن الخطأ فيستبد بالسلطة، و تصبح ارشادته و تعاليمه أوامراً لا نقاش ولا سؤال فيها، فتجر الثورة الجديدة على الشعب وبالاً و بؤساً لا يختلف كثيراً عن مرحلة ما قبل الثورة، و كما يقول الكاتب السعودي الليبرالي تركي الحمد: "الأنظمة الثورية تأتي بإسم الشعب فتقضي على الشعب ومصالح الشعب".

عندما أقرأ في المصادر المحايدة و حتى الصينية بعض الأحيان عن ماو و سياساته أتفاجىء بهذا الحب و التقديس الذي لم ينته بعد لهذا الرجل ، فبالرغم مما قام به ماو من توحيد للصين الشاسعه، جغرافياً و فكرياً أيضا و إعلانه نشأة دولة الصين الشعبيه، و نشره للتعليم و القضاء على البطالة و التضخم، وتوفيره العناية الصحية بشكل واسع، فإن ماو في النهاية لا يختلف كثيراً عن هتلر أو ستالين.

مات في عهد "ماو" ما بين 40-70 مليون صيني بسبب سياسات الحكم المستبدة والبرامج الثورية، أغلبهم قضوا جوعا والبقية اعدمت لانتقادها أو حتى مسائلتها لسياسات القائد الأوحد.

فمثلاً عام 1958 أطلق ماو ما يعرف ببرنامج "القفزة الكبرى الى الأمام". أراد "ماو" من خلال هذا البرنامج تحويل الصين من دولة زراعية الى دولة صناعية محاكياً التجربة السوفيتية. فقام بإجبار ملايين المزارعين و العمال على ترك أراضيهم و المشاركة في البرنامج الصناعي الجديد. تم منع و إغلاق المزارع الخاصة والتي لا تدار حكومياً، و تم إعدام كل من يقوم بالعمل الزراعي خارج الإشراف الحكومي تحت تهمة العمل ضد الثورة. لم يستطع الفلاحون تحقيق الاهداف الصناعية للبرامج التي وضعها ماو، فكانت النتيجة كارثة إقتصادية. إنخفض الانتاج الزراعي للبلاد بنسبة 70% من عام 1958 الى 1960، و أدت المجاعة الى وفاة 30 مليون صيني خلال ثلاث سنوات فقط. قام ماو بإنهاء البرنامج الصناعي وعزا التراجع الرهيب بالانتاج الزراعي و ما ترتب عنه من مجاعة الى سوء الأحوال الجوية !!

يقول الصحفي "لو باوقوا" واصفاً سنوات المجاعة: "في منتصف عام 1959 ركبت الحافلة ذاهباً من شيانيانج الى هوشي و في الطريق كنت أرى من النافذة عشرات الجثث الملقاة يمنة و يسرة. في الحافلة لم يتجرأ أحد على الحديث أو ذكر مشهد الموتى على حافة الطريق. لقد رأيت بأم عيني ما حدث لاؤلئك الصحفيين الذين كتبوا او تحدثوا عن الفاجعة...لم يمتلك قلمي الشجاعة ليكتب..فالتزمت أنا و هو الصمت".

و في مشهد آخر يقول "يو ديهونج" و هو أحد ممثلي الحزب في مقاطعة شيانيانج إبان حكم ماو: " ذهبت الى إحدى القرى لأجد المئات من الجثث المتناثرة، ثم ذهبت الى قرية أخرى لأجد نفس المشهد... كان الناس يمرون قرب الجثث غير عابئين...طلبت منهم دفن الموتى، فقالوا: لا بأس ستأكلهم الكلاب !! فقلت: هذا غير ممكن...فالناس من جوعها أكلت الكلاب" !!

رغم مرور خمسين عاماً على كارثة المجاعة في الصين فإن ذكراها لاتزال حاضرة بصورة او بأخرى بين أبناء المجتمع. فمثلاً عندما بدأت تعلم اللغة الصينية درسنا في الصفحة الأولى للكتاب التحية باللغة الصينية، و كانت اول عبارة حفظتها هي:

"ني هاو ما؟" و تعني: كيف حالك؟.

مرت الايام و الاسابيع و الشهور ومر عام كامل على إقامتي في الصين و لم يستخدم أحد في الشارع عند مقابلتي هذه العبارة و يسألني في الصينية كيف حالك !!

لماذا؟! ...

الصينيون استبدلوا –في الشارع- عبارة "كيف حالك؟" بعبارة أخرى لها نفس المدلول، فلكما مررت بصيني تعرفه و بغض النظر عن الوقت أو المكان فهو يبادرك بعبارة و هي: "ني تشفان لا مايوا؟" و هي تعني "أكلت أم لم تأكل بعد؟" !!

في البداية لم أفهم سبب استبدال الجميع عبارة "كيف حالك؟" بالسؤال عن الطعام !! و عندما قرأت عن كارثة المجاعة و تحدثت مع الصينيين في أمر التحية المتعلقة بالطعام، بدأ الامر يتضح حيث أن الصينيين كانوا يربطون الحياة بالطعام و كان الحصول على وجبة طعام في حقبة المجاعة هي أسمى ما يطمح إليه المواطن الصيني، فإن انت أكلت فانت بألف خير. و هكذا استبدلت التحية الصينية التقليدية و هي كيف حالك؟ بالسؤال عن طعامك! و استمرت منذ زمن ماو الى الآن.

و بالعودة الى سياسات ماو و ما جرتها من ويلات على شعبه و بعد سنوات من كارثة المجاعة، أطلق الزعيم الصيني عام 1966 ما يعرف بإسم الثورة الثقافية و التي كانت تهدف الى سحق المعارضة و إسكات الأصوات المنتقدة لسياسات ماو و تنظيف البلاد من أولئك المعادين للثورة. أغلق ماو المدارس خلال فترة الثورة الثقافية، وأمر المثقفين و العلماء ممن يخشى على سلطته منهم، بالذهاب الى المناطق الريفية "لإعادة تعليمهم" من قبل المزارعين و أهل الريف حيث فرض عليهم العمل الشاق في الحقول. مات ملايين الصينيين أيضاً خلال فترة الثورة الحضارية، و كان لها نتائج وخيمة على الاقتصاد و المجتمع الصيني و كثرت حالات الانتحار حتى أن الأمر وصل بالصينيين في مدينة شنغهاي الى تفادي المشي على الأرصفة المحاذية للمباني الشاهقة خوفاً من هبوط أحد المنتحرين على رؤوسهم !!

و عندما تم إعلام ماو بالخسائر البشرية جراء برنامج الثورة الثقافية و كثرة حالات الانتحار أجاب: "لا توقفوا أولئك الذين يحاولون الانتحار، إن الصين دولة تعج بالسكان و موت أو انتحار بعض الافراد هنا أو هناك لن يؤثر عليها".

وتأتي قمة لامبالاة ماو بأرواح أبناء شعبه في حديثه في منتصف السيتينات عن استعداده لخوض حرب نووية مع الدول الرأسمالية، و التضحية ب 300 مليون صيني لو كان هذا هو ثمن القضاء على الرأسمالية و نشر الإشتراكية.

يقول اللورد آكتون في جملته المشهور:"السلطة تميل الى الفساد، و السلطة المطلقة هي فاسدة بالمطلق. الرجال العظماء هم في الغالب رجال سيئون"
"Power tends to corrupt, and absolute power corrupts absolutely. Great men are almost always bad men."

مات ماو عام 1976، و تسلم الإصلاحي "دنج شياوبنج" قيادة الصين عام 1978، بعدما استطاع إبعاد "هوا قوافنج" عن القيادة و هو الرجل الذي اختاره ماو لخلافته. كان دنج أحد سياسي الحزب المحاربين من قبل السلطة بسبب تناقض آرائه و أفكاره في الإصلاح الإقتصادي مع سياسات ماو، حتى أن أحد أبنائه أصيب بالشلل بعد ان ألقته أجهزة التحقيق من نافذة الطابق الثالث لجامعة بكين أيام "الثورة الحضارية" التي أطلقها ماو.

عندما أستلم "دنج شياوبنج" السلطة عام 1978 كانت نسبة الفقر بين أبناء شعبه تراوح 58% !! إستطاع "دنج" من خلال الانفتاح الاقتصادي على دول العالم و التعلم من تجارب دول الجوار مثل اليابان و سنغافورة و إرسال آلاف الصينيين للدراسة في الدول المتقدمة من النهوض بالاقتصاد الصيني بشكل عامودي لافت. وضع "دنج" سياسات ماو الكارثية جانباً وبدأ يبحث عن سبل النهوض بالإقتصاد الصيني وإن كان هذا النمو يستند الى مبادئ لا إشتراكية. و قال في هذا الصدد: "لا يهم إن كانت القطة بيضاء أو سوداء، المهم أن تستطيع إصطياد الفئران". عندما تنحى "دنج" عن السلطة عام 1992 كانت نسبة الفقر بين أبناء شعبه قد تقصلت من 58% الى 3% فقط.

لازالت الصين تمضي قدما في نمو إقتصادي يذهل الجميع، وفي العادة يكون الانفتاح الإقتصادي مصحوبا بحرية سياسية و فكرية، لكن الأمر مختلف هنا.

الحكومة في بكين تسيطر بشكل مطلق على وسائل الإعلام و مصادر المعلومات و تحدد ما هو المسموح الإطلاع عليه من قبل الفرد الصيني. أنت لا تسمع أصواتأَ معارضة داخل الصين، و أولئك الذين يتجرأون على المجاهرة يوضعون تحت الإقامة الجبرية.

هناك "سور عظيم" من الرقابة، و خاصة الرقابة المتعلقة بالشبكة العنكبوتية. تفاجأت عندما وصلت الى الصين و حاولت فتح موقع الفيس بوك للحديث مع أصدقائي أن الموقع قد تم حجبه، ثم حاولت دخول موقع اليوتيوب لأجد أن هذا الموقع أيضاً قد تم حجبه، و غيره من المواقع الأخرى. السبب يكمن كما تقول الحكومة الصينية بمحتوى هذه المواقع التي تحاول المس من هيبة الصين و نشر معلومات مغالطة تهدف الى إثارة البلبلة و الفوضى في البلاد.

عندما كنت مغادراً من مطار هايكو لزيارة قصيرة الى الأهل، و بينما أنا أضع حقائبي عبر جهاز الكشف عن المعادن، كانت الموظفة الجالسة خلف الشاشة الكاشفة لمواد الحقيبة تتحدث الى زمليها و تشير الى الشاشة باهتمام و كأنها وجدت شيئاً. ثم طلبت مني الوقوف جانبا و فتح الحقيبة للتفتيش. حاولت تخمين الشيئ المريب الذي رأته عبر الجهاز،فإذا بها تفتح الحقيبة وتأخذ كل الكتب الموجودة وتتصفحها واحداً واحدا للتأكد من محتواها !!

عند مخالطة الشعب الصيني و مناقشة شتى الأمور السياسية و الإجتماعية تلاحظ أمراً لا تجده في أي دولة أخرى ألا و هو التطابق شبه التام في كثير من وجهات النظر. حيث تشعر أن المواطن الصيني تم تلقينه الإجابات مسبقاً و أنه قد حفظها عن ظهر قلب، وهو لا يسعى الى التشكيك أو الجدال أو البحث في حقيقتها و لا يملك العقلية النقدية لفعل ذلك، و عبارة "الرأي و الرأي الآخر" مرفوضة في الصين.

من ناحية هناك الكثير من الإنتقادات الدولية لسجل الصين في مجال حقوق الإنسان و تضييقها على الحريات الفكرية و قمع المعارضة بشتى أشكالها. لكنك إذا نظرت الى أرض الواقع بعقلية محايدة و عايشت أهل البلاد تدرك أنها ربما الطريقة الوحيدة التي تستطيع الصين من خلالها المحافظة على وحدة البلاد ذات الجغرافيا الشاسعة، و تعداد السكان الهائل الذي يمثل أعراقاً مختلفة. فمثلاً لو فتحت الصين أبواب الحرية الفكرية و الديموقراطية على مصرعيها و أدرك المواطن الصيني أن له حقوقاً كان يجهلها، و أدركت الجماعات العرقية أيضاً ذلك، فإلى أين سيجر هذا الصين؟! إنظر الى الفوضى في بعض البلاد العربية التي تتعايش فيها عدة طوائف أو جماعات عرقية و لا يزيد عدد سكانها على بضعة ملايين، و حاول أن تتخيل المشهد في بلد يتراوح عدد السكان فيه المليار و نصف.

عمر محمد الداودية
Facebook: Omar Mohammad Daoudieh
الحلقة الثامنة الاحد المقبل

للمزيد :

{سلسلة قصصية} في بيت التنين وبيوت اخرى - لـ عمر الداودية - (الحلقة السادسة)



المواضيع المتشابهه: