في مقهى "السويسي" الواقع على أطراف حي السويسي الراقي في عاصمة المغرب؛ الرباط،




كنت التقي بشكل شبه يومي مع أصدقائي المغاربه القاطنين في حي "المعاضيض" الشعبي، المجاور. نرتشف قهوة "النص نص" المغربية و يدور الحديث عن الأوضاع البائسة في حيهم المتهالك، و عن أحلام الهجرة الأوروبية التي تراودهم. الجميع يتحدث عن اوروبا و كأنها شاطئ مرصع بالذهب ينتظر وصولهم ، فاتحاً ذراعيه مرحباً.
في كل يوم كان يغادر مئات المغاربة بشكل غير شرعي عابرين البحر الأبيض المتوسط باتجاه الشواطئ الأوروبية على متن "قوارب الموت".
من أجل الصعود على ذلك المركب المهلهل يبيع المغربي كل ما يملك، في حلم الوصول الى ذلك الشاطئ الذي يعد بالكثير. غادرنا يونس، ثم جلال و بعده أحمد، و بدأ تجمع مقهى السويسي يقل شيئاً فشيئاً مع مرور السنوات.

الجميع غادر بسرية تامة... و تركوا خلفهم رسائلَ تعد بعودة قريبه بعد تجميع الثروة التي اعتقدوا أنها بانتظارهم.

لم يعد أحد من الأصدقاء ... و لم نسمع أخبارهم بعدها !!

ما عرفناه عن هذه الرحلات السرية كان مرعباً...

القوارب التي كانوا يغادرون عليها، بالكاد كانت تطفو على سطح الماء. يتم تكديسها و تحميلها فوق طاقتها حتى يضمن أصحابها ربحاً مضاعفاً. فغرقت الكثير من القوارب خلال الرحلة بسبب الحمولة الزائدة، و في حالات اخرى قام اصحاب القوارب بالقاء الركاب في البحر بعد قطع نصف المسافة، ثم العودة مرة اخرى الى الشواطئ المغربية و تحميل مجموعة اخرى من الضحايا. و أما القلة التي اقتربت من الشاطئ الأوروبي، يتم اصطيادها بكل سهولة من قبل خفر السواحل التي تكون بالانتظار.
غادرت انا أيضاً -بعد فترة- بحثاً عن الحلم الأوروبي، طالباً للدراسة و ليس مهاجراً غير شرعي، عبر طائرة تابعة للملكية الأردنية و ليس قارباً على وشك الغرق.

خلال التحليق فوق البحر الأبيض المتوسط، نظرت بحزن كبير الى الأسفل ...
هنا ابتعلت الأمواج الأصدقاء !! ...

أوروبا التي عشتها و عاشها غيري لم تكن كما تخيلها الجميع اثناء أحاديثنا في القهوة. أوروبا هرمت اقتصادياً و ثقافياً، و لم تعد ذلك الملاذ الذي يزخر بفرص العمل و يوفر الحياة الكريمة للمهاجرين، و من عاش في احدى الدول الأوروبية يعرف جيداً الحال المزرية التي وصلت اليها أوضاع اولئك الذين تركوا اوطانهم و عائلاتهم خلفهم بحثاً عن بداية جديدة.

يعود كل هذا الى الذاكرة اليوم، و انا في انتظار اقلاع الطائرة من مدينة قوانجو الصينية الى جزيرة هينان محطتي الأخيرة التي سأدرس فيها اللغة الصينية لمدة لن تقل عن العام. تجربة تلو تجربة، و دولة بعد اخرى ... و اليوم انا مستعد لعبور السور الصيني، في البحث عن تجربة شرقية مختلفة.
.........................

جزيرة هينان أو كما يحلو للصينيين تسميتها "هاواي الصين"، هي جزيرة استوائية تقع في أقصى جنوب الصين. هي لن تكون التجربة الأولى في مدينة استوائية حيث يمتاز الجو بالحرارة و بهطول الامطار الغزيرة على مدار السنة، فقد أقمت في جاكرتا/اندونيسيا ما مجموعه العام في زيارات متباعدة.
كانت الجزيرة تستخدم كمنفى للمعارضين و المشاكسين في منتصف القرن الماضي، أما الآن فأصبحت مركز جذب سياحي في المنطقة و الحكومة الصينية تنفق بسخاء لتطوير المنشآت و الخدمات فيها لتحويلها عما قريب إلى جزيرة تستقطب سياح العالم اجمع كما هي جزيرة بالي الاندونيسية و هاواي الأمريكية. و هي ليست بالجزيرة الصغيرة حيث تبلغ مساحتها 33210 كيلومترات مربعة و هو ما يقارب ثلث مساحة الأردن، ويصل عدد سكان الجزيرة 8 ملايين و نصف.
لجزيرة هينان حكاية في صفحات الكرامة الصينية، حيث كانت أول من أقض مضجع جورج بوش الابن في بداية حكمه.
في بداية شهر نيسان من عام 2001 تحطمت مقاتلة صينية اثر ارتطامها بطائرة تجسس أمريكية كانت على مسافة 104 كيلومترات من الجزيرة، و أدى تحطم المقاتلة الصينية إلى وفاة الطيار الصيني. قام الطيران الصيني بإجبار طائرة التجسس الضخمة و طاقمها المكون من 24 شخصا على الهبوط في هينان. فما كان من بوش إلا أن طالب المسئولين الصينيين بإعادة الطائرة و طاقمها إلى الولايات المتحدة فورا و احترام حرمتها بعدم تفتيشها حيث أنها مصنفة تحت باب "بالغة السرية" و أكثر الطائرات "حساسية في سلاح البحرية". و للعلم فقد كانت الطائرة تقوم بجمع المعلومات عن قواعد الصواريخ الصينية في محافظة نوتزيان.
قوبلت الغطرسة الأمريكية بموقف صيني صلب. حيث أمر الرئيس الصيني في حينها جيان زيمين بتفتيش الطائرة و هو ما اغضب الأمريكان، و طالب أيضا الرئيس بوش بالاعتذار العلني على هذا التطفل السافر. و في ظل رفض الصينيين الإفراج عن الطائرة و طاقمها إلا باعتذار رسمي، قام بوش باعتذار لم يرض فحواه الجانب الصيني. اعتذار لم يهدئ من غضب أكثر من 1300 مليون صيني اجتمع بعضهم للاحتجاج أمام السفارة الأمريكية في بكين.
انتهت الحادثة التي أدت إلى توتر العلاقات بين الجانبين برسالة اعتذار سلمها السفير الأمريكي –حينها- جوزيف بروهير إلى الخارجية الصينية. و قد سميت الرسالة لاحقا ب "رسالة الأسفين" وفيها يتأسف فيها الجانب الأمريكي في مناسبتين حيث تقول الرسالة: " نحن في غاية الأسف لوفاة الطيار الصيني ...." و لاحقا : "نحن في غاية الأسف لدخول الأجواء الصينية بلا إذن..."
....................................
عبر خطوط الصين الجنوبية وصلنا مطار جزيرة هينان الدولي. و المطار يقع في مدينة هايكو عاصمة اقليم الجزيرة.
لا شيئ دولي في هذا المطار غير اسمه ...
لا ارى افواج سياح البته كما كان يخيل لي و لا حتى وجها غريبا واحدا بين كل هذه الوجوه المتشابهه، افواج صينية يمنة و يسرة بدوت بينها اكثر غربة على غربتي، ولا اشارات باللغة الانجليزية بجانب الصينية الا ما ندر. استلمت الحقيبة و مضيت باتجاه بوابة الخروج و اذا بي اسمع بعض النداءات...
.. مستر عمر؟؟..مستر عمر؟؟..
لالتفت و ارى يافطة باللغة الانجليزية من بعد ... يقف خلفها ثلة من المستقبلين كتب عليها اسمي. مضيت مبتسما باتجاههم و انا اشاهد الغيرة في وجوه الآخرين من حاملي اليافطات، لابد ان الجميع يحسدهم فلا اعتقد انهم واجهوا ادنى صعوبة في العثور علي حتى بين هذه الافواج الغفيرة من الصينيين!!
مضى حامل اليافطة نحوي..شاب ممتلئ بدا في منتصف عقده الثالث..
انا: مستر تسونغ؟
هو (بالانجليزية): لا.. تجونغ.. اهلا بك في هايكو
انا: "هن قاوشنغ رن شي ني" (جملة جاهدت لحفظها لهكذا مناسبه تعني سررت بمقابلتك -باللغة الصينية-)
تجونغ: ماذا؟!
انا: ممم ...لا شيء.. سررت بمقابلتك... قلتها بالانجليزية ... (يبدو ان خللا ما حصل اثناء تشدقي بالجملة الصينية الوحيدة التي حفظتها)
ثم صافحت شابان و فتاة رافقوا السيد تجونغ الى المطار لاستقبالي. ثلاثتهم طلبة في جامعة "هينان لتدريب المعلمين" والسيد تجونغ هو إداري في قسم اللغات.
انا: لماذا كلفتم انفسكم عناء الحضور؟! شخص واحد يفي بالغرض و اكون له شاكرا
تجونغ: كل الطلبة الاجانب الدراسين للغة الصينية في جامعة هينان لهذا العام قادمون من دول مجاورة كاندونيسيا، الفلبين و كوريا. انت تمثل دولة في النصف الاخر من الكرة الارضية لم أسمع بها قبل الان.
انا: اذن ؟؟!
تجونغ: ربما تساعدك بعض الحفاوة الزائدة على تأقلم مبكر في وطنك الثاني ... الصين
انا: شكرا عزيزي تجونغ...

ما أن خرجت و رأيت هذه الأفواج الصينية أمامي تمضي جيئة و ذهابا حتى أصابني ذلك الشعور الساحر الآسر. إن هذا المنظر يبهجني .. يطربني ..هذه الوجوه الجديدة تثير في فضولا و أسئلة لا بداية لها و لا نهاية. إن أجمل ما في السفر هو ذاك الشعور الممزوج بالفرح و الترح، غبطة لقاء أناس جدد، بثقافة و تكوين و عادات جديدة و غريبة، و حزن على فراق أناس تعلمت منهم و ألفتهم. و في المقابل فالسكون ممل و عقيم. ما هي الإثارة إن كنت حبيس نفس البيئة و الوجوه و الأصدقاء و الأسماء و العادات و المقاهي و الشوارع و الأضواء و الكتب؟؟!

انطلقت بنا السيارة من المطار باتجاه جامعة هينان لتدريب المعلمين. الطريق ستستغرق حوالي 30 دقيقة كما اخبرني السيد تجونغ. اتصفح المدينة الجديدة خلال الطريق بعيون كلها فضول الى رؤية شيئ غريب او جديد، لكن المدينة تلفحت بسواد الليل حاجبة عني معالمها ... بالمفاتن و العيوب.

قاطع السيد تجونغ شرودي سائلا:

ما هي اللغة الرسمية في الاردن؟
انا: العربية
تجونغ: اهااا العربية تذكرت !! ... بالمناسبة كم هي عدد الدول العربية؟
انا: لم اقرأ الاخبار اليوم
تجونغ: ماذا تقصد؟
انا: عدد الدول العربية كالبورصة ... قد تزداد او تنقص في اي وقت ...امر لا تستطيع التنبؤ او التكهن به. رقم البارحة 23 دولة و هو رقم مرشح دائما للتصاعد لا النقصان.
تجونغ: لم افهم !!
انا: لا بأس.. هنالك 300 مليون شخص غيرك لا يفهمون
تجونغ: و من الذي يفهم؟
انا: أناس غيرنا... ربما في واشنطن و لندن و باريس ...
تجونغ (مازحا): امممم ... على العموم يبدو انها البورصة الوحيدة في العالم التي لا تخسر ... المؤشر دوما في تصاعد ...
انا: بالفعل
...........................

مرارا عشت هذه اللحظة !! جالسا قرب نافذة الحافلة ... مرهقا من سفر طويل ... مليئا بالفضول و الشجون و الاسئلة...ماذا تحمل لي المدينة الجديدة ؟! ... هل بكت امي بعد ان غادرت هذا الصباح؟! لابد انها تنتظر رنين هاتفها الان... كم ستطول اقامتي هنا؟! و هل ستصبر "فتاة عمان" على فراق قد يطول؟! ...طمأنتها بعودة قريبة...لكنني اعرف انها ستطول ... و اعرف ايضا ... رغم الدموع و الوعود ... أنها لن تنتظر!!

المواضيع المتشابهه: