مسؤولية عديم التمييز عن فعله الضار
- دراسة مقارنة -


د.أمجد محمد منصور
مجلة الزرقاء الأهليه للبحوث والدراسات ، العدد : 2 ، رقم الصفحة : 37 - المملكة الأردنية الهاشمية


الملخص
يرجع انعدام التمييز إلى سببين رئيسيين هما: صغر السن والمرض العقلي، وهناك أسباب أخرى عارضة قد تلحق بهما، كحالات الصرع والغيبوبة الناشئة عن تناول عقاقير مخدرة وغير ذلك. وقد تباينت التشريعات في شأن مسؤولية عديم التمييز، ومدى هذه المسؤولية. وقد حاولنا إبراز هذا الموضوع في كل من القانون المدني الأردني، والفقه الإسلامي، والقانون المدني المصري، والقانون المدني الفرنسي.


المقدمة
تعد مسؤولية عديم التمييز وتعويض الأضرار الناتجة عن أفعالهم في الوقت الحاضر، من أهم مشكلات القانون المدني، وهي مجال واسع لاجتهاد الفقه، بهدف حسم النزاع فيها والوصول إلى حلول مرضية بشأنها، كما تباينت بشأنها التشريعات. وهي تعالج في الفقه الإسلامي من خلال القاعدة الشرعية " المباشر ضامن وإن لم يتعمد أو يتعد، والمتسبب لا يضمن إلا بالتعمد أو التعدي ".

وقد أفاض الفقهاء في شرح هذه القاعدة، وتبين منها أنها تركز على إظهار علاقة السببية بين الفعل الذي يحدث من المباشر وبين النتيجة التي تحققت، وبالتالي فإن الرأي الذي عليه الجمهور، هو تضمين عديم التمييز متى كان فعله قد أدى إلى الضرر، حتى ولو لم يكن متعمدا أو متعديا، كما أن هؤلاء الفقهاء قد اتفقت كلمتهم حول مطلب التمييز في حالة التسبب بطريقة العمد، ذلك أن العمد يستلزم الإرادة، لكنهم انقسموا ما بين مؤيد ومعارض فيما يتعلق بالتسبب الناجم عن إهمال وتقصير.
وقد رأينا أن الإتجاه الذي ذهب إلى التضمين هو الأرجح، انطلاقا من أن أساس الضمان هو جبر الضرر وليس الجزاء والعقوبة، ومن ثم فإن المقصود منه رفع الضرر الذي حدث دونما نظر إلى شخص محدثه.

وقد عالج المشرع الأردني مسؤولية عديم التمييز من خلال المادتين (278، 256) متلمسا ذات النهج الذي اتجه إليه الفقه الإسلامي، آخذا بالمسؤولية الكاملة لعديم التمييز عن أفعاله الضارة، مؤسسا إياها على الإضرار وليس الخطأ، فقد نصت المادة (256) مدني أردني على أن كل إضرار بالغير يلزم فاعله ولو كان غير مميز، بضمان الضرر، وجاء أيضا بالمادة (278) أنه إذا أتلف صبي مميزا أو غير مميز أو من في حكمهما مال غيره لزمه الضمان من ماله.
ولقد كان موقف المشرع الأردني أكثر توفيقا من المشرع المصري والفرنسي، إذ إن مسؤولية عديم التمييز في هذين القانونين مسؤولية استئنائية وناقصة، انطلاقا من أنهما يربطان بين المسؤولية والتمييز، فالشخص، في القاعدة العامة، لا يسأل عن أفعاله التي تضر بالآخرين إلا إذا كان مميزا في ظل هذين القانونين. والحق أن فكرة الخطأ بمفهومها التقليدي أساسا للمسؤولية لا تحقق العدالة.

وبالتالي فقد بات من الضروري إجراء تعديلات تشريعية في كل من مصر وفرنسا بحيث تتقرر المسؤولية الكاملة لعديمي التمييز عن أفعالهم الضارة، وهذا ما يحقق مصلحة المضرور الذي تسعى جاهدة التشريعات الحديثة إلى إسباغ الحماية عليه، ولكي تتحقق العدالة، وحتى لا تكون هناك تضحية بمصلحة طرف على حساب طرف آخر، فإن الأمر ينبغي أن يتم في إطار متوازن مراعاة لمصلحة عديم التمييز والمتضرر معا، حتى لا تختل المراكز القانونية لأي طرف من الأطراف.
إزاء ما تقدم فقد تطلب الأمر أن نعرض لهذا الموضوع وفق خطة تمثلت في أربعة مباحث على النحو الآتي:
  • المبحث الأول: أسباب عدم التمييز.
  • المبحث الثاني: مسؤولية عديم التمييز عن فعله الضار في الفقه الإسلامي والقانون المدني الأردني.
  • المبحث الثالث: مسؤولية عديم التمييز عن فعله الضار في القانون المدني الفرنسي.
  • المبحث الرابع: مسؤولية عديم التمييز عن فعله الضار في القانون المدني المصري.
  • خاتمة: تشتمل على أهم النتائج المستخلصة من البحث.






المبحث الأول
أسباب عدم التمييز( )


يمكن أن نرد انعدام التمييز إلى أمرين أساسيين أولهما صغر السن، وثانيهما المرض العقلي، وسنعرض لهذين الموضوعين في مطلبين.


المطلب الأول: انعدام التمييز بسبب صغر السن
تنص المادة (44/2) من القانون المدني الأردني على أن "كل من لم يبلغ السابعة يعتبر فاقدا للتمييز"( ).
وواضح من هذا النص أن المشرع الأردني قد حدد سن التمييز بسبع سنوات، ومن ثم فإن الشخص الذي لم يبلغ هذه السن يعد عديم التمييز.
ولا ريب أن المشرع الأردني قد تأثر بالفقه الإسلامي، وهو بصدد تحديد سن التمييز، إذ إن الراجح في هذا الفقه الحنيف هو سبع سنوات، طالما أن الشخص لم يصب بمرض عقلي، إنطلاقا من أن الغالب أن الشخص في هذه المرحلة العمرية تكون مداركه قد تمت( ).

ونعتقد بأن المشرع الأردني بتحديده سن السابعة من العمر كسن للتمييز إنما أقام قرينة بسيطة قابلة لإثبات العكس من أن الصغير لا زال فاقدا للتمييز على الرغم من بلوغه هذه السن( ).
ويلاحظ أنه لا يوجد في القانون الفرنسي نص تشريعي عام يحدد سنا معينة للتمييز في نطاق المسؤولية المدنية( )، وإن كان المشرع قد تدخل بمقتضى القانون رقم 631 لسنة 1974 الصادرة في 5 يوليه لسنة 1974، محددا سن الرشد بثمانية عشر عاما في المادة (488) مدني واعتبرت المادة (388) مدني فرنسي، القاصر هو كل شخص ذكرا كان أو انثى لم يبلغ سن الثامنة عشرة. وبالتالي فإن تحديد سن التمييز تعد مسألة واقع يستقل بتقديرها قاضي الموضوع، في كل حالة على حدة( ).


المطلب الثاني: انعدام التمييز بسبب المرض العقلي
إن الصغير الذي يبلغ سن السابعة يعتبر مميزا في القانون الأردني وأيضا القانون المصري، اما في ظل القانون الفرنسي فالأمر مرجعه للقاضي حسب حالة الشخص الراهنة طالما لم يبلغ سن الثامنة عشرة( ).
لكن ذلك كله مرهون بألا يطرأ على الشخص بعد بلوغه هذه السن ما يؤدي إلى انعدام تمييزه.

وقد نصت المادة (44/1) مدني أردني على أنه "لا يكون اهلا لمباشرة حقوقه المدنية من كان فاقد التمييز لصغر في السن أو عته أو جنون".
والجنون كعارض من عوارض الأهلية، يؤدي إلى انعدام التمييز، ذلك أنه مرض يصيب العقل فيفقده، والفقهاء المسلمون يميزون بين نوعين من الجنون، فهناك الجنون المطبق وهو الذي يكون موجودا كل الوقت، وهذا يؤدي إلى انعدام التمييز، كما أن هناك الجنون المتقطع، وهو الذي لا يستوعب كل الوقت وإنما تتخلله فترات يفيق الشخص فيها، ومن ثم يعد مدركا لأفعاله، وهذا يأخذ حكم المعتوه( ).

وقد أخذ المشرع الأردني بالتفرقة التي قال بها الفقه الإسلامي بين الجنون المطبق والجنون المتقطع، في المادة (128/2) مدني على أن "المجنون المطبق هو في حكم الصغير غير المميز. أما المجنون غير المطبق فتصرفاته في حال إفاقته كتصرف العاقل"( ).
أما العته، فهو لا يؤدي إلى زوال العقل كالجنون، وإنما إلى نقصانه فقط، فيكون الشخص مختلط الكلام قليل الفهم( ).
ويفرق الفقهاء المسلمون بين نوعين من العته، الأول يأخذ الشخص فيه حكم الصبي المميز، ذلك لأنهما يتماثلان في الإدراك، والثاني يأخذ حكم الصبي غير المميز والمجنون، ذلك أن الإدراك في هذه الحالة يقل عن إدراك الصبي المميز( ).

ولقد اعتبر المشرع الأردني المعتوه في حكم الصغير المميز فيما يتعلق بتصرفاته، ونص على ذلك صراحة في المادة (128/1) مدني "المعتوه هو في حكم الصغير المميز"( ). وإن كانت المادة (44/1) مدني قد عدت المعتوه فاقد التمييز إذ تقول :"لايكون أهلا لمباشرة حقوقه المدنية من كان فاقد التمييز لصغر في السن أو عته أو جنون".
ونعتقد أن الأمر يتطلب توحيدا تشريعيا في هذا المقام، إضافة إلى الجنون والعته كسببين هامين لإنعدام التمييز، إلا أن هناك أسبابا أخرى عارضة تجعل الشخص فاقدا للإدراك إذا وقع تحت تأثيرها كحالات الصرع، والغيبوبة الناشئة عن تناول عقاقير مخدرة أيا كان نوعها، كالمواد الكحولية والهيروين، والكوكايين، والمورفين وقد رفض القضاء الفرنسي اعتبار الغيبوبة الناشئة عن أزمة قلبية تنتاب المريض بالقلب من أسباب انعدام التمييز( ).



المبحث الثاني
مسؤولية عديم التمييز عن فعله الضار
في الفقه الإسلامي والقانون المدني الأردني


نعلم أن القانون المدني الأردني قد استقى الغالب الأعم من أحكامه من الفقه الإسلامي، لأن مجلة الأحكام العدلية هي التي كانت سائدة قبل صدور مشروع القانون في أغسطس (آب) 1976، على أن يبدأ تطبيقه اعتبارا من 1/1/1977م كما جاء في المادة الأولى منه.
وتعد مجلة الأحكام العدلية بمثابة قواعد شرعية مستقاه من الفقه الحنفي، وكان يرجى منها أن تكون قانونا مدنيا في الدولة العثمانية( ).

ولما كانت مجلة الأحكام العدلية هي المصدر التاريخي للقانون المدني الأردني، وبالتالي فهي الواجبة التطبيق فيما لا يتعارض مع نصوص هذا القانون، وهذا هو الواضح من نص المادة الثانية من القانون حيث جاء فيها "فإذا لم تجد المحكمة نصا في هذا القانون حكمت بأحكام الفقه الإسلامي الأكثر موافقة لنصوص هذا القانون فإن لم توجد فبمقتضى مبادىء الشريعة الإسلامية". كما أن المادة (1448) مدني أردني قد نصت على أنه (يلغى العمل بما يتعارض مع أحكام هذا القانون من مجلة الأحكام العدلية).

يتضح مما تقدم أن المشرع الأردني كان حريصا على أن تكون أحكام الفقه الإسلامي هي الأصل الذي يجب عدم مخالفته( ).
ينبني على ذلك أننا إذا أردنا أن نبحث مدى مسؤولية عديم التمييز عن فعله الضار في القانون المدني الأردني، فإنه يجدر بنا أن نبحث هذا الموضوع بداية في الفقه الإسلامي، ومن ثم تتوزع الدراسة إلى مطلبين نعرض في أولهما لمدى مسؤولية عديم التمييز في الفقه الإسلامي، وفي المطلب الثاني نتناول هذا الموضوع من زاوية القانون المدني الأردني.


المطلب الأول: مسؤولية عديم التمييز عن فعله الضار في الفقه الإسلامي
إن بحثنا لهذا الموضوع من منظور الفقه الإسلامي سوف يتم في ضوء القاعدة الفقهية المعروفة وهي المباشر ضامن وإن لم يتعمد أو يتعد، والمتسبب لا يضمن بالتعمد أو التعدي.
وبالتالي يتطلب الأمر في هذا المقام أن نبين المقصود بكل من المباشرة والمتسبب في الفقه الإسلامي، لنصل من وراء ذلك إلى مدى تطبيق الحكم الخاص بكل منهما على عديم التمييز.

الفرع الأول: المقصود بالمباشرة ومدى انطباق حكمها على عديم التمييز
أولا: المقصود بالمباشرة
يتبين من التعريفات التي أوردها الفقهاء في هذا الصدد أنها تركز على إظهار علاقة السببية بين الفعل الذي يحدث من المباشر وبين النتيجة، فمتى ترتبت هذه النتيجة على الفعل، عندئذ تكون بصدد المباشرة، ولا يهم بعد ذلك القصد.
ونذكر من تعريفات الفقهاء للمباشرة ما يلي:
يرى الأحناف أن المباشر "من يلي الأمر بنفسه"( ).
ويعرفها الشافعية بأنها "ما يؤثر في الهلاك ويحصله"( ).
ويرى المالكية أنها "ما يقال عادة حصل الهلاك به من غير توسط"( ).
والحنابلة قد وضعوا لذلك بعض الأمثلة منها كأن يلقيه في النار أو يسد فمه أو نفسه ...( ).
وقد عرفت مجلة الأحكام العدلية في المادة (887) بقولها "الاتلاف مباشرة هو اتلاف الشيء بالذات ويقال لمن فعله فاعل مباشر". ويمكننا ان ننتهي إلى تعريف المباشرة فنقول بأنها "من يأتي فعلا يسبب ضررا ودون واسطة أمر آخر ويكون هذا الضرر هو النتيجة الحتمية للفعل".
والقاعدة في الفقه الإسلامي هي أن المباشر ضامن ولو لم يتعمد أو يتعد، والمتسبب لا يضمن إلا بالتعمد أو التعدي وهذا ما عبرت عنه صراحة المادة (92) من مجلة الأحكام العدلية( ).

ثانيا: مدى انطباق الحكم السابق على عديم التمييز
الرأي الذي عليه جمهور الفقه الإسلامي هو تضمين عديم التمييز أي مسؤوليته عن أفعاله الضارة متى كان فعله قد أدى إلى هذا الضرر، وليس بالضرورة أن يكون متعمدا أ متعديا.
ذلك أن الفقه الإسلامي يهتم بجبر الضرر مراعاة لمصلحة المتضرر، دون النظر إلى الشخص الذي أحدثه، ومن ثم فإن الصبي غير المميز والمجنون ومن في حكمهما، يسأل عن الضرر الذي يحدثه للآخرين في النفس أو في المال.
يستوي إذن كون الشخص مميزا أو غير مميز في ضمانه لأفعاله الضارة، فهو لايعفى من أفعاله الضارة في كل الحالات( ). وبالرغم مما تقدم فإن هناك اتجاها لبعض المالكية يرون فيه عدم تضمين عديم التمييز، فيقول ابن جزي "وأما الصبي الذي لا يعقل فلا شيء عليه فيما أتلفه من نفس أو مال، كالعجماء، وقيل المال هدر، والدماء على العاقلة كالمجنون"( ). لكن جمهور المالكية يذهبون إلى تضمين عديم التمييز كغيرهم من فقهاء المذاهب الأخرى( ).

الفرع الثاني: المقصود بالتسبب ومدى انطباق حكمه على عديم التمييز
أولا: المقصود بالتسبب
الفارق الجوهري بين المباشرة والمتسبب، أن الفعل في حالة المباشرة يؤدي إلى النتيجة دونما واسطة أي بشكل مباشر، بينما في حالة التسبب تكون هناك واسطة بين الفعل والنتيجة أي تشترك معه عوامل أخرى في إحداث الضرر ولذلك جاءت تعريفات الفقهاء للتسبب حول هذا المعنى، فعرفه الأحناف بقولهم "إحداث أمر في شيء يفضي إلى تلف شيء آخر على جرى العادة ويقال لفاعله متسبب"( ). ويرى الشافعية أن التسبب "ما يؤثر في الهلاك ولا يحصله"( ). ويعرفه المالكية بأنه "ما يحصل الهلاك عنده بعلة أخرى إذا كان السبب هو المفضى لوقوع الفعل بتلك العلة"( ). إذن يتعين حتى تتحقق المسؤولية في حالة التسبب أن يتجاوز الشخص حدود حقه الشرعي (التعدي على حق غيره) سواء كان عمدا اهمالا وتقصيرا( ).

ثانيا: هل يسأل عديم التمييز عن فعله الشخصي في حالة التسبب؟
من المعلوم أن الفقهاء المسلمين لم يدرسوا النظم القانونية وخصوصا المسؤولية، على شكل نظريات، كما هو موجود في القوانين الوضعية، وإنما هم وضعوا الحلول الجزئية للمشكلات المعروضة، وصاغوا الفقه على أساس تلك الفرعيات تخريجا على اصول مذاهب أئمتهم ولهذا فأحكام المسؤولية في الفقه الإسلامي متفرقة في عدة أبواب مثل باب الجنايات، الغصب، الإتلاف، الديات وغير ذلك.

ويبدو أن الفقهاء لم يعرضوا لهذه المسألة تحديدا، مكتفين بما ورد في شأنها على وجه الإجمال، وإن كان الفقهاء المحدثون قد عرضوا لها في مؤلفاتهم( ).
ولا ريب أنه في حالة التسبب بطريقة العمد، لا يوجد خلاف حول مطلب التمييز، ذلك ان العمد يستلزم الإرادة، وهذه الأخيرة لا تقوم بغير إدراك وتمييز. ومن ثم ففي هذه الحالة يسأل عديم التمييز عن فعله الضار. أما في حالة الإهمال والتقصير، وهي عكس العمد، فلم يكن هناك حلا واحدا في شأنها في الفقه الحديث.

فقد ذهب اتجاه في الفقه نراه أولى بالاتباع، إلى ان العبرة بالنظر إلى ذات الفعل وليس شخص الفاعل، فمتى كان الفعل محظورا وأتاه الشخص كان من قبيل التعدي الموجب للضمان( ).
أما الإتجاه الثاني فيرى بأنه ينبغي التفرقة بين حالة المباشرة والتسبب. وإذا كانت القاعدة صريحة في عدم تطلب التمييز عند المباشرة لكن الأمر مختلف في حالة التسبب التي تستلزم التعمد أو التعدي اي الخطأ، وهذا الأخير ينبغي أن يكون الشخص معه مميزا( ).

ونعتقد أن الإتجاه الأول هو الأرجح، ذلك أن أساس الضمان الجبر وليس الجزاء والعقوبة، ومن ثم فإن المقصود منه هو رفع الضرر الذي حدث، أيا كان الشخص الذي وقع الضرر بفعله مميزا أو غير مميز، وهذا ما يتوافق مع قوله صلى الله عليه وسلم "لاضرر ولا ضرار".
ويشير بعض الفقه – بحق – إلى أن الحكم الشرعي ينقسم إلى قسمين، أولهما: خطاب تكليفي وهو خطاب مباشر يشمل الأحكام الخمسة. وثانيهما: الخطاب الوضعي وهو خطاب غير مباشر، فهو شيء وضعه الله في شرائعه وجعله دليلا أو سببا أو شرطا. وأهم الفروق بينهما:
1. الحكم في خطاب الوضع هو قضاء الشرع على الوصف بكونه سببا أو شرطا أو مانعا. وخطاب التكليف هو طلب أداء ما تقرر بالأسباب والشروط والموانع.
2. يشترط في خطاب التكليف علم المكلف وقدرته على الفعل وكونه من كسبه. أما خطاب الوضع فلا يشترط فيه تكليف ولا علم ولا قدرة. وهذا الفرق هو الذي جعل الأصل في خطاب الوضع أن يكون بمنزلة الواقعة التي تكون مصدرا للالتزام( ).


المطلب الثاني: موقف القانون المدني الأردني من مسؤولية عديم التمييز عن فعله الضار
وينقسم هذا المطلب إلى فرعين نعرض في أولهما لموقف القانون المدني الأردني، وفي ثانيهما لتعذر الحصول على التعويض من غير المميز.

الفرع الأول: موقف القانون المدني الأردني
من المعلوم أن القانون المدني الأردني قد استقى احكامه من الفقه الإسلامي، ولذا فقد عد الإضرار هو اساس المسؤولية، وليس الخطأ كما عليه الحال في بعض التشريعات المعاصرة( ). وبالتالي فقد أقر في هذا الصدد مسؤولية عديم التمييز، ونص على ذلك صراحة في المادة (256) مدني بقوله "كل إضرار بالغير يلزم فاعله، ولو غير مميز، بضمان الضرر". وكذلك جاء في المادة (278) مدني أردني أنه "إذا أتلف صبي مميز أو غير مميز أو من في حكمهما، مال غيره، لزمه الضمان من ماله"( ).

يتبين من هذين النصين أن المشرع الأردني يعترف كقاعدة عامة بمسؤولية عديم التمييز وهو قد سلك مسلكا متطورا في تقريره المسؤولية الكاملة لعديم التمييز، وقد استفاد واضعوا القانون من التطور الذي مرت به مختلف التشريعات في هذا الخصوص. وما قرره المشرع الأردني قد استوحاه من الفقه الإسلامي، الذي يقيم المسؤولية على أساس الإضرار( ).
ونعتقد أن هذا المسلك من جانب المشرع يستحق التأييد، ذلك أن فكرة الخطأ بمفهومها التقليدي كأساس للمسؤولية لا تحقق العدالة، وإذا كان جمهور الفقه ما زال حريصا على هذه الفكرة لكن هناك الكثير من التعديلات التي طرأت عليها، ولذلك فقد قيل بالخطأ المفترض، سواء انطوى على قرينه بسيطة تقبل إثبات العكس او كان مستندا الى قرينة قاطعة لا تقبل اثبات العكس إلا بإثبات السبب الأجنبي، وهي كلها وسائل للتحايل على الفكرة التقليدية ترمى إلى حماية المتضرر من الأضرار التي تحدث له.

الفرع الثاني: تعذر الحصول على التعويض من غير المميز
تحدثنا ان القانون المدني الأردني قد عد مسؤولية عديم التمييز مسؤولية أصلية كاملة، ومن ثم فهو مسؤول عن ضمان الأضرار التي يحدثها للآخرين مسؤولية كاملة. وقد يتعذر الحصول على التعويض من غير المميز، لذلك فإن هناك بعض البدائل التي نص عليها المشرع، فقد قررت المادة 288 مدني مسؤولية متولي الرقابة عن الأعمال غير المشروعة الصادرة من الخاضعين لرقابتهم، وإن كان المشرع قد جعل هذه المسؤولية جوازية وأناط أمر تقديرها بالقاضي، وهذا ما عبرت عنه الفقرة الأولى من هذه المادة بقولها.
"1. لا يسأل أحد عن فعل غيره، ومع ذلك فللمحكمة بناء على طلب المضرور إذا رأت مبررا، أن تلزم بأداء الضمان المحكوم به على من أوقع الضرر. أ- من وجبت عليه قانونا أو اتفاقا رقابة شخص في حاجة إلى الرقابة بسبب قصره أو حالته العقلية او الجسمية ...".

وقد كان أولى بالمشرع حماية لمصلحة المضرور أن يعتبر هذه المسؤولية وجوبية لا جوازية ومرهونة بمشيئة القاضي قد يقررها أو يرفضها( ). كما أن القانون المدني الأردني، وهو في سبيله لتأمين الحماية للمتضرر، قد نص على تحميل الدية للعاقلة أو الجاني، حيث تقول المادة (273) بأن "ما يجب من مال في الجناية على النفس وما دونها، ولو كان الجاني غير مميز، هو على العاقلة أو الجاني، للمجني عليه أو ورثته الشرعيين وفقا للقانون".
ولا ريب أن تعويض الدولة للمضرورين يعد سبيلا قويا لتأمين مصلحة المضرور إذا ما أخذ به المشرع، على غرار ما فعلته بعض التشريعات الحديثة، خاصة عند عدم وجود عاقلة للجاني أو مع وجودها ولكنها لا تستطيع الوفاء( ).


المبحث الثالث
مسؤولية عديم التمييز عن فعله الضار
في القانون المدني الفرنسي


لقد تطورت فكرة مسؤولية عديم التمييز عن فعله الضار في ظل القانون الفرنسي عبر مرحلتين، الأولى قبل صدور القانون رقم 3 لسنة 1968، والذي تعدل بمقتضاه نص المادة 489/2، من القانون المدني، والثانية بعد صدور هذا القانون. ويمكننا أن نفرد لكل من الأمرين مطلبا مستقلا. إضافة إلى مطلب ثالث نخصصه لموضوع التوازن بين مصلحة كل من المضرور وعديم التمييز.


المطلب الأول: مسؤولية عديم التمييز عن فعله الضار قبل تعديل المادة 489/2 مدني فرنسي
الاتجاه الذي كان سائدا في ظل القانون المدني الفرنسي القديم هو عدم مسؤولية عديم التمييز عن أفعاله الضارة، وجاء قانون نابليون الذي صدر في عام 1804 خاليا من نص خاص يتعلق بمسؤولية عديم التمييز.
ولم يكن أمام الفقه والقضاء – إزاء عدم وجود نص صريح – إلا اللجوء إلى القواعد العامة في المسؤولية عن الفعل الضار، والمنصوص عليها في المواد (1383، 1382، 1384) من القانون المدني الفرنسي، وكلها تتجه إلى عدم مسؤولية عديم التمييز، ذلك أنها تقوم على الخطأ من جانب مرتكب الفعل الضار، والخطأ يستلزم الإرادة، وعديم التمييز ليس لديه إرادة ومن ثم لا مسؤولية عليه. هذا الإتجاه الذي يرى عدم مسؤولية عديم التمييز هو ما كان عليه رأي غالبية الفقه الفرنسي( )، وسندهم في ذلك أنه لا مسؤولية بدون خطأ، والخطأ مرتبط بالإرادة.

وقد تعرض هذا الإتجاه للنقد بإعتباره يتنافى مع العدالة، وخاصة حينما يكون عديم التمييز ثريا، ويكون المعتدى عليه فقيرا. ولذا فقد لجأ أنصار عدم المسؤولية إلى بعض الوسائل للتخفيف من هذا المبدأ، كالاعتداد بفكرة الخطأ السابق للمريض باضطراب عقلي، وإمكان اعتبار عديم التمييز حارسا أو مسؤولا عن غيره، وأيضا اشتراط أن تثبت حالة انعدام التمييز لحظة ارتكاب الفعل الضار، واخيرا التوسع في الأخذ بمسؤولية الغير عما يأتيه عديم التمييز من أفعال ضارة ( ). وإذا كان هذا هو الإتجاه الغالب في الفقه الفرنسي، فإن إتجاها آخر منه ذهب إلى مسؤولية عديم التمييز عن أفعاله الضارة( )، وإن كانوا قد اختلفوا من حيث الوسيلة، فرأى بعضهم الاستناد إلى الخطأ ولكن بمفهومه الموضوعي أو المجرد وليس بمفهومه الشخصي أو الذاتي، في حين حاول بعضهم الآخر أن يبحث عن حلول أخرى غير الخطأ، فقالوا بالمخاطر المستحدثة كأساس للمسؤولية، واستند بعضهم إلى العدالة، وقال بعضهم بواجب المساعدة كأساس لهذه المسؤولية، وأخيرا استند بعضهم إلى الضمان( ).
وقد تعرضت هذه الآراء جميعا للنقد، وبقيت نظرية الخطأ هي الأساس التقليدي لهذه المسؤولية بمفهومها المادي أو الموضوعي الذي دافع عنه بعض الفقهاء.

المطلب الثاني: مسؤولية عديم التمييز عن فعله الضار
بعد تعديل المادة 489/2 مدني فرنسي لقد بذلت محاولات تشريعية كثيرة في ظل القانون الفرنسي لتقرير مسؤولية عديم التمييز، وقد انتهت هذه المحاولات بتعديل نص المادة 489/2 من القانون المدني بمقتضى القانون رقم 68-5 الصادر في 3 يناير 1968( ). وقد ورد هذا النص في الباب الخاص بحماية المرضى المختلين عقليا بالغي سن الرشد، وخلاصته ان المشرع أراد إلزام المختل عقليا البالغ سن الرشد بتعويض الأضرار التي يحدثها للآخرين.

وقد ذهب بعض الفقهاء إلى أن النص يقتصر تطبيقه على المرضى المختلين عقليا بالغي سن الرشد، استنادا إلى أن النص كانت عبارته واضحة في هذا الشأن، ولو أراد المشرع أن يطبق هذا النص على غير المختلين عقليا بالغي سن الرشد لقال ذلك صراحة فضلا على أنه نص استثنائي ومن ثم لا يتوسع في تفسيره( ).
وعلى الرغم من وجاهة هذا الرأي وما ينطوي عليه من منطق سليم، إلا أننا نرى – حماية للمضرور – عدم الأخذ بهذه التفرقة وأن الحماية ينبغي أن تتسع لتشمل الأضرار التي يحدثها عديم التمييز بسبب الاختلال العقلي أو بسبب آخر غير الاختلال العقلي( ).
ونعتقد أن على المشرع الفرنسي القيام بتعديل نص المادة (489/2) بحيث يشتمل على جميع حالات عدم التمييز، مع تغيير موضع النص بحيث يأتي في باب المسؤولية، وليس كما هو عليه الآن في باب حماية المرضى المختلين عقليا والبالغين سن الرشد.

المطلب الثالث: التوازن بين مصلحتي المضرور وعديم التمييز
قد يحدث أن يكون عديم التمييز المصاب بإختلال عقلي معسرا، ومن ثم فقد تنادى بعض الفقه إلى أن هذا التعديل في النص غير مجد طالما انه لا يؤدي إلى حصول المضرور على التعويض اللازم، وقالوا إن مصلحة المريض المختل عقليا تقتضي إعفاءه من المسؤولية، لأن ما فعله وهو على هذا الحال نتاج ظروف معينة، وهذا ما تقتضيه العدالة، خاصة وأن تعديل نص المادة (489/2) قد جاء في قانون هدفه الأصلي حماية المختلين بالغي سن الرشد( ).
وهذه الحجج، التي ساقها من يرون عدم ضرورة التعديل الذي طرأ على النص، مردود عليها. ذلك ان ورود النص ضمن قانون يهدف إلى حماية المرضى المختلين عقليا بالغي سن الرشد، لا يؤثر في سلامة النهج الذي يراه المشرع الفرنسي بتقريره مسؤولية طائفة من عديمي التمييز، والمفروض أن تعقبها خطوات أخرى لتشمل الطوائف الأخرى من عديمي التمييز.

وفي الإتجاه الآخر، صحيح أن ما يأتيه عديم التمييز المريض بإختلال عقلي خطر اجتماعي، لكن ذلك لا يعني أن يتحمل عبء هذا الخطر شخص واحد وهو المضرور، وإلا فإنه لا يعد خطرا اجتماعيا. ولذلك فإن الحل المطروح أن نعترف بمسؤولية عديم التمييز عن أفعاله ثم نبحث بعد ذلك في كيفية التعويض. ويحتاج الأمر بعد ذلك إلى علاج من هذا الجانب الأخير، أي التفكير في إدخال ذمم أخرى إلى جانب ذمه عديم التمييز في تحمل عبء التعويض، وقد ووجهت مثل هذه الحالات في خصوص حوادث السيارات وإصابات العمل وغيرها.

ولكي تتحقق العدالة وحتى لا يكون هناك تضحية بمصلحة طرف على حساب طرف آخر، فإن الأمر ينبغي أن يتم في إطار متوازن مراعاة لمصلحة عديم التمييز والمتضرر معا. وفي تقديرنا أن أفضل ضمان أن يكون هناك نص تشريعي يلزم الدولة بتحمل عبء هذه التعويضات التي يسأل عنها عديم التمييز، وبإستطاعة الدولة أن تفرض على مواطنيها مبلغا زهيدا، إضافة إلى الضريبة العامة، يكون مخصصا لمثل هذه التعويضات، ومن ثم يتحقق التضامن الاجتماعي في تحمل المخاطر التي تقع من عديمي التمييز( ).




المبحث الرابع
مسؤولية عديم التمييز عن فعله الضار
في القانون المدني المصري


المسؤولية عن الأفعال الشخصية تقوم – بحسب الأصل – في ظل القانون المدني المصري على الخطأ بعنصريه المادي والمعنوي، وبالتالي فإنه لتحقق هذه المسؤولية ينبغي أن يكون هناك انحراف في سلوك الشخص مع توافر الإدراك والتمييز لديه، إضافة إلى ركن الضرر والعلاقة السببية.

وهذا ما كان سائدا سواء في ظل القانون المدني القديم أم الحالي، وإن كان المشرع قد استفاد من بعض التشريعات الحديثة فيما يتعلق بمسؤولية عديم التمييز، فجعله مسؤولا عن أفعاله الضارة ولكن مسؤولية استثنائية من نوع خاص، وبقيت القاعدة العامة هي عدم مسؤوليته وقد جاء هذا صراحة في المادة (164) مدني التي نصت على أن:
1. يكون الشخص مسؤولا عن اعماله غير المشروعة متى صدرت منه وهو مميز".
2. ومع ذلك إذا وقع الضرر من شخص غير مميز ولم يكن هناك من هو مسؤول عنه أو تعذر الحصول على تعويض من المسؤول جاز للقاضي أن يلزم من وقع منه الضرر بتعويض عادل، مراعيا في ذلك مركز الخصوم"( ). يتبين من هذا النص أن القاعدة العامة هي عدم مسؤولية عديم التمييز، وأنه يسأل استثناء بضوابط معينة ونعرض لذلك في مطلبين.


المطلب الأول: (الأصل) عدم مسؤولية عديم التمييز
الأصل العام الذي اعتنقه المشرع المصري هو عدم مسؤولية عديم التمييز (الصغير، المجنون، المعتوه)، ذلك أن النص قد ربط بين المسؤولية والتمييز، فالشخص كقاعدة عامة لا يسأل عن أفعاله التي تضر بالآخرين إلا إذا كان مميزا.
وهذا التمييز ينظر إليه وقت وقوع الفعل الضار، ولا يشترط استمرار حالة انعدام التمييز كي تنتفي المسؤولية، ولكن يتحقق ذلك، حتى ولو كان سبب انعدام التمييز عارضا كما يحدث في حالات الصرع أو تناول مسكر أو مخدر، شريطة ألا يكون هذا العارض راجعا إلى خطأ الشخص ذاته، سيكون في هذه الحالة الأخيرة مسؤولا عن أفعاله التي تضر بالآخرين( ).

المطلب الثاني: مسؤولية عديم التمييز استثناء
عرضنا في المطلب الأول للقاعدة العامة في ظل القانون المدني المصري وهي عدم مسؤولية التمييز، ولكن المشرع لم ياخذ بهذه القاعدة بصفة مطلقة، وإنما أقر مسؤولية عديم التمييز بضوابط معينة كما يستفاد من الفقرة الثانية من المادة 164 التي قالت:
"ومع ذلك إذا وقع الضرر من شخص غير مميز، ولم يكن هناك من هو مسؤول عنه أو تعذر الحصول على تعويض من المسؤول، جاز للقاضي أن يلزم من وقع منه الضرر بتعويض عادل مراعيا في ذلك مركز الخصوم". يتضح من هذا النص أنه يقرر مسؤولية عديم التمييز ولكن بمواصفات معينة أولها أنها مسؤولية استثنائية إذ وردت على خلاف القاعدة العامة التي تقتضي بعدم مسؤولية عديم التمييز. وهي أيضا مسؤولية احتياطية أي أن القاضي لا يلجأ إليها إلا في حالة عدم وجود شخص آخر يمكن الرجوع عليه، أو كان موجودا ولكنه معسر ومن ثم لا يمكن أخذ التعويض منه.
وهي أخيرا مسؤولية مخففة، إذ لم يلزم المشرع القاضي بالتعويض الكامل، ومن ثم يستطيع القاضي أن يحكم بتعويض يقل عن الضرر، وهو في كل الحالات يوازن بين كل حالة على حدة، وحسب ظروف كل منهما من حيث الاغتناء والافتقار( ). وبعد عرض موقف المشرع المصري في شأن مسؤولية عديم التمييز، نعتقد أنه قد بات من الضروري إجراء تعديل على نص المادة (164)( ) بحيث تتقرر بمقتضاه المسؤولية الكاملة لعديم التمييز عن أفعاله التي تضر بالآخرين، بحيث تكون هذه المسؤولية قاعدة عامة، تكون وجوبية للقاضي وليست جوازية، وهذا بلا ريب ما يحقق مصلحة المضرور الذي أصبحت التشريعات المختلفة تسعى جاهدة إلى إسباغ الحماية عليه. وفي هذا نقول ما اقترحناه سابقا أنه ينبغي أن يكون هناك نص تشريعي يلزم الدولة بتعويض الأضرار التي يحدثها فاقدو التمييز للآخرين، وبالإمكان أن يخصص لذلك جانبا من الميزانية لمعالجة هذا الأمر على انه خطر اجتماعي ينبغي مواجهته. ومن الممكن أن تنهض بذلك الهيئة العامة للتأمينات الاجتماعية، فتخصص جزءا من ميزانيتها لضمان مثل هذه التعويضات.


الخاتمة:
وفي نهاية هذا البحث سنجمل النتائج التي توصلنا إليها من خلاله وتتمثل في:
أولا: يتفق القانون المدني الأردني والفقه الإسلامي، حسب الرأي الراجح في الفقه والقانون المدني المصري، في تحديد سن التمييز بسبع سنوات، أما القانون الفرنسي فقد عد كل من لم يبلغ سن الثامنة عشرة قاصرا، ومن ثم فإن الأمر مرجعه إلى السلطة التقديرية للمحكمة حسب الحالة المعروضة، وهذا سوف يؤدي إلى تعارض احكام القضاء في الكثير من الأحيان.

ثانيا: إن للفقه الإسلامي نظرة متميزة في مجال المسؤولية عن الأفعال الضارة بصفة عامة، وهو يقيم هذه المسؤولية على أساس الإضرار وليس الخطأ، ولذا فقد انتهينا إلى أن عديم التمييز يسال عن تعويض الأضرار التي يحدثها للآخرين سواء كان مباشرا أو متسببا.

ثالثا: لقد اتجه القانون المدني الأردني اتجاها حديثا ومتطورا في شأن مسؤولية عديم التمييز، إذ إعتبرها مسؤولية أصلية وكاملة. ولكن نظرا لأنه قد يتعذر الحصول على مبلغ التعويض من عديم التمييز، فقد قررت المادة (288) مدني مسؤولية المكلفين بالرقابة عن الأعمال غير المشروعة التي تصدر من الخاضعين لرقابتهم، وقد جعل المشرع هذه المسؤولية جوازية، وأناط أمر تقديرها بالقاضي، هذا فضلا عن ان المشرع وهو في سبيله لتأمين الحماية للمتضرر قد نص على تحميل الدية لعاقلة الجاني في المادة (273) وحبذا لو اكتملت هذه الحماية بإيجاد نص تشريعي يلزم الدولة بتعويض المضرورين من عديمي التمييز. ومن الممكن أن تساهم مؤسسة الضمان الاجتماعي في هذا الصدد فيخصص جانب من ميزانيتها لتحقيق هذه الحماية.

رابعا: لقد ظل القانون الفرنسي لحقبة طويلة من الزمن يأخذ بمبدأ عدم مسؤولية عديم التمييز، سواء في ظل القانون القديم أو قانون نابليون، وكان الفقه والقضاء يلجآن إلى القواعد العامة المنصوص عليها في المواد (1382، 1383، 1384) والتي لا يسأل عديم التمييز بمقتضاها، إذ هي تستلزم الخطأ، وظل الوضع على هذا الحال حتى صدر القانون رقم 68-5 الصادر في 3 يناير 1968، الذي تعدلت بمقتضاه المادة (489/2) بحيث يلتزم المختل عقليا البالغ سن الرشد بتعويض الأضرار التي يحدثها للآخرين. وعلى الرغم من أن هذا النص قد ورد في الباب الخاص بحماية المرضى المختلين عقليا، فإننا نرى أنه ينبغي أن يكون في موضعه المناسب وهو باب المسؤولية، فضلا عن ضرورة اتساع النص ليشمل جميع حالات انعدام التمييز، بحيث تتحدد مسؤوليتهم عن أفعالهم الضارة، وبالإمكان ان يكون هناك بند خاص في الميزانية لتعويض هذه الأضرار.

خامسا: إن القاعدة العامة للمسؤولية عن الأفعال الشخصية في ظل القانون المدني المصري تقوم على الخطأ بعنصرية المادي والمعنوي (فضلا عن الضرر وعلاقة السببية) وهذا ما كان سائدا في ظل القانون القديم والحالي. وقد تأثر المشرع المصري ببعض التشريعات الحديثة فيما يتعلق بمسؤولية عديم التمييز، ولذا قرر في المادة (164/2) مدني هذه المسؤولية التي جاءت استثنائية ومخففة وجوازية للقاضي، ونعتقد أنه قد بات من الضروري أن يعدل المشرع المصري عن هذا الموقف بحيث تكون مسؤولية عديم التمييز مسؤولية كاملة ووجوبية للقاضي ومن الممكن أن يخصص جانبا في ميزانية الدولة لتعويض الأضرار التي تحدث من عديمي التمييز، بحيث يتحقق التوازن بين مصلحتي عديم التمييز والمضرور، ولا نضحي بأحدهما على حساب الآخر. ولا ريب أنه يمكن عمل ذلك من خلال الهيئة العامة للتأمينات الاجتماعية، فيضاف هذا البند إلى جانب أهدافها الأخرى المحمودة.


المراجع:

أولا: باللغة العربية

1. إبراهيم، أحمد، الأهلية وعوارضها والولاية في الشرع الإسلامي، مجلة القانون والاقتصاد، جامعة القاهرة س1، ع3، 1931.
2. أبو زهرة، محمد، أصول الفقه، دار الفكر العربي، القاهرة، (بلا.ت).
3. أمين، سيد، المسؤولية التقصيرية عن فعل الغير في الفقه الإسلامي، دكتوراه، جامعة القاهرة، 1964.
4. باز، رستم، شرح مجلة الأحكام العدلية، ط3، المطبعة الأدبية، بيروت، 1933.
5. 5 البغدادي، أبو محمد، مجمع الضمانات، ط1، المطبعة الخيرية بالقاهرة، 1308هـ.
6. اين قدامة، محمد عبد الله بن أحمد بن محمد المقدسي، المغنى ط3، ج7، 1367هـ.
7. جمعة، نعمان، دروس في الواقعة القانونية أو المصادر غير الإرادية، القاهرة، 1972.
8. حيدر، علي، درر الحكام، شرح مجلة الأحكام، تعريب فهمي الحسيني، بيروت، (بلا.ت).
9. خاطر، عدنان السرحان، نورى خاطر، مصادر الحقوق الشخصية، الالتزامات، دار الثقافة، 2000.
10. الخضري، محمد، أصول الفقه، ط2، القاهرة، 1933.
11. الخفيف، علي، الضمان في الفقه الإسلامي، محاضراته لقسم البحوث والدراسات القانونية والشرعية، معهد الدراسات العربية، القاهرة، 1971.
12. رفاعي، محمد نصر، الضرر كأساس للمسؤولية في المجتمع المعاصر، دكتوراه، جامعة القاهرة، 1978.
13. الزحيلي، وهبة، نظرية الضمان أو احكام المسؤولية المدنية والجنائية في الفقه الإسلامي، ط1، دار الفكر بدمشق، 1971.
14. الزرقا، مصطفى أحمد، الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد، ج3، مطبعة الحياة بدمشق 1964.
15. سلامة، أحمد، مذكرات في نظرية الالتزام، الكتاب الأول، المصادر، 1975.
16. سلطان، أنور، النظرية العامة للالتزام، مصادر الالتزام، 1965.
17. السنهوري، عبد الرزاق، مصادر الحق في الفقه الإسلامي، ج1، القاهرة 1967.
18. السنهوري، عبد الرزاق، الوسيط في شرح القانون المدني، ج1، مصادر الالتزام ط2، 1964.
19. سوار، محمد وحيد، الاتجاهات العامة في القانون المدني، دار الثقافة، 1996.
20. سوار، محمد وحيد، النظرية العامة للالتزام، مصادر الالتزام، ج1، منشورات جامعة دمشق، 92/1993.
21. شوقي، أحمد عبد الرحمن، مسؤولية المتبوع باعتباره حارسا، مجموعة بحوث كلية الحقوق، جامعة المنصورة، ع1، 1975.
22. عبد الباقي، عبد الفتاح، مصادر الالتزام في القانون الكويتي مع المقارنة بالفقه الإسلامي وأحكام المجلة، ج2، المصادر غير الإرادية، 74/1975.
23. العكام، محمد فاروق بدوي، الفعل الموجب للضمان في الفقه الإسلامي، دكتوراه، القاهرة، 1977.
24. وديع، فرج، فضل بعض نظم الشريعة الإسلامية على ما يقابلها من نظم القوانين الحديثة، ترجمة مقال بالفرنسية في مجلة I'egypte judiciaRe، العدد رقم 187، الصادر بتاريخ 4 ابريل 1937.
25. القانون المدني الأردني، المذكرات الايضاحية للقانون المدني الأردني،
26. القانون المدني المصري، مجموعة الأعمال التحضيرية للقانون المدني المصري، الجزء الثاني.
27. القرافي، شهاب الدين، الفروق، جـ4، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، (بلا.ت).
28. الكاساني، علاء الدين أبو بكر بن مسعود، بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، ط 2، دار الكتاب العربي، بيروت، 1974.
29. مرقس، سليمان، المسؤولية المدنية في تقنينات البلاد العربية، القسم الأول، الأحكام العامة، 1971.
30. مصطفى، منصور، المصادر غير الإرادية للالتزام، جامعة الكويت، 1980/1981.
31. مطلوب، عبد المجيد، إبطال دعوى جمود الفقه الإسلامي، مقال منشور بمجلة الحقوق والشريعة الكويتية، عدد يونيو، 1982.
32. منصور، أمجد، المسؤولية المدنية عن حراسة الأشياء، دراسة مقارنة في القانونين المدنيين المصري والفرنسي والفقه الإسلامي، دكتوراه، جامعة المنصورة، 1994.
33. منصور، أمجد، النظرية العامة للالتزامات، مصادر الالتزام، دراسة في القانون الأردني والمصري والفرنسي ومجلة الأحكام العدلية والفقه الإسلامي، دار الثقافة، 2001.


ثانيا: باللغة الفرنسية

34. AUBRy et Rau et EsmEin: Droit civil FRancais T.vi 1951.
35. CARBonnieR "jean": Droit civil T.2.1972.
36. Ghestin: Traite de deoit civil les obligation le contrat Paris. 1980.
37. StaRK: Droit civil (obligation Responsabilite delictuelle) 2ed 1985.
38. MaRty et RaynAud: Droit civil "les obligations" 1962.
39. MaZEAuD (H.1.j.): Lecon de droit civil.T.2, par de juglart.paris.1973.
40. MaRty et RaynAud: Droit civil les Obligations 2e ed T.1 les sources.1988




المواضيع المتشابهه: