خصَّ المشرع الدستوري الفصل العاشر منه "بعنوان" نفاذ القوانين والإلغاءات"
فبعد أن أقام المادة (129) على فقرات ثلاث، قرر في الفقرة الأولى إلغاء الدستور لسنة 1946 مع ما طرأ عليه من تعديلات، في حين خصص الفقرة الثانية لإلغاء مرسوم فلسطين لسنة 1922 وما طرأ عليه من تعديلات، أما الفقرة الثالثة فقد قرر فيها عدم تأثير الإلغاء المنصوص عليه في الفقرتين السابقتين على قانونية أيْ قانون أو نظام صدر بموجبهما أو أي شيء عمل بمقتضياتهما قبل نفاذ أحكام هذا الدستور بعد نشره في الجريدة الرسمية وذلك احتراماً من المشرع الدستوري للحقوق المكتسبة التي ترتبت على العمل بما سبق ذكره من دستور أردني ومرسوم دستور فلسطيني وما صدر بموجبهما أي شيء عُمِل بمقتضاهما قبل صدور عام 1952.

أما المادة (128) من الدستور المعدَّل فقد أقامها المشرع الدستوري على فقرتين بدلاً من فقرة واحدة كانت قد اكتفت بها المادة (128) من الدستور الصادرة عام 1952، أي قبل التعديل الأخير، تمثلت الفقرة الأولى من هذه المادة بعدم جواز أن تؤثر القوانين التي تصدر بموجب هذا الدستور لتنظيم الحقوق على جوهر هذه الحقوق أو تمس أساسياتها هذه الحقوق والحريات المنصوص عليها في المواد (5) منه وما بعدها خاصة وأن الدستور المعدَّل قد أعاد التأكيد على المساواة بين حقوق وحريات المواطنين دون تمييز بينهما والواجبات المترتبة عليهم، أما الفقرة الثانية من المادة (128) من الدستور- وهي ما تعنينا في هذا المقام- فقد وردت على النحو التالي: "أن جميع القوانين والأنظمة وسائر الأعمال التشريعية المعمول بها في المملكة الأردنية الهاشمية عند نفاذ هذا الدستور تبقى نافذة إلى أن تلغى أو تعدل بتشريع يصدر بمقتضاه وذلك خلال مدة أقصاها ثلاث سنوات" غاية ما هنالك أن المشرع الدستوري اشترط استمرار العمل بها ضمن مدة أقصاها ثلاث سنوات إلى أن تلغى أو تعدل ضمن هذه المدة. وهذه المدة المحددة لسريان ما كان سارياً من قوانين وأنظمة وأعمال تشريعية لم تكن موجودة قبل التعديل، أي لم تكن موجودة في دستور عام 1952.

ويفهم من تحديد هذه المدة لسريان مفعول هذه القوانين والأنظمة والأعمال التشريعية التي كانت موجودة عند التعديل، أنها ستكون ملغاة بإنتهاء هذه المدة ما لم تكن قد ألغيت أو عدلت قبل انقضاء هذه المدة.

فكأن المشرع الدستوري قد اعتبر هذه المدة الزمنية المحددة مرحلة انتقالية يتعين على المشرع العادي فيها أن يبادر إلى إستنان ما يلزم من قوانين وأنظمة وأعمال تشريعية بديلة للقوانين التي ستصبح ملغاة بحكم الدستور بعد انتهاء هذه المدة حتى لا يحدث فراغاً تشريعيا، الأمر الذي يقتضي من المشرع العادي القيام بدراسة شاملة للقوانين والتشريعات التي سينتهي العمل بها عند إنتهاء هذه المدة، فالمشرع الدستوري قد حدد لها عمراً لا يتجاوز السنوات الثلاث وبدءاً من سريان مفعول الدستور المعدل وإنتهاءاً بانقضاء هذه المدة وهذا التحديد في غاية الأهمية بالنسبة للقوانين التي سينتهي العمل بها بانتهاء المرحلة الانتقالية ونذكر على سبيل المثال من هذه القوانين قانون تسليم المجرمين لسنة 1927 والقانون المعدل رقم (23) لسنة 1972 وربما ما زال العمل جارياً في بعض القوانين التي كانت سارية في زمن العهد العثماني.

والجدير بالذكر أن عدم تحديد مدة لسريان القوانين المنوه عنها بأعلاه في الدستور الصادر عام 1952 هو الذي أدى إلى استمرار العمل بها لغاية الآن، كما يجب أن يُلفت النظر إلى الترابط الشديد بين نص المادة (128/2) من الدستور وبين نص المادة (101/2) منه التي وردت على النحو التالي:

" لا يجوز محاكمة أي شخص مدني في قضية جزائية لا يكون جميع قضاتها مدنيين ومستثنى من ذك جرائم الخيانة والتجسس والإرهاب وجرائم المخدرات وتزييف العملة".

ومع أننا كنا نتمنى لو أن المشرع الدستوري استخدم في هذا النص مصطلح قضاة "نظاميين" بدلاً من مصطلح قضاة "مدنيين" لأن هذا المصطلح هو الأدل على هذا المعنى خاصة وأن المشرع الدستوري اعترف في المادة (99) منه بأنواع ثلاثة من المحاكم هي محاكم نظامية- وليست مدنية- ومحاكم دينية ومحاكم خاصة، كما كنا نتمنى لو أن المشرع الدستوري المعدل أضاف كلمة "متخصصين" أيضاً إلى كلمة "مدنيين" ليصبح إجمالي المصطلح المستخدم "قضاة نظاميين متخصصين" إلا أنه عند تطبيق هذا النص لا بد أن يؤخذ بعين الاعتبار ما ورد في نص المادة (128/2) من الدستور من حيث وجوب استمرار العمل بجميع القوانين والأنظمة وسائر الأعمال التشريعية المعمول بها في المملكة – ما لم تلغ أو تعدل- خلال مدة أقصاها ثلاث سنوات، وهذا يعني بأن نص المادة (101/2) من الدستور لا يجوز العمل به إلاَّ بعد انقضاء هذه المدة. وبلغة أوضح، فإن عدم جواز محاكمة المدنيين إلاَّ أمام قضاة جميعهم مدنيين لا يبدأ العمل به إلا بعد انقضاء سنوات ثلاث بدءاً من التعديل الدستوري. وبلغة أكثر وضوحاً، فإنه يجوز محاكمة المدنيين أمام قضاة ليسوا جميعاً مدنيين ضمن مدة السنوات الثلاث، أي أنَّ نص المادة (101/2) موقوف العمل به ومعلق على شرط انقضاء مدة السنوات الثلاث".

ومع أن المشرع الدستوري قد أستثنى بالتعديل حالة ارتكاب المدنيين لإحدى الجرائم الخمس المنوه عنها بأعلاه، إذ تتوجب محاكمتهم أمام قضاة غير مدنيين وهو مبدأ معمول به أصلاً حتى قبل التعديل الدستوري، إذ أن المحكمة المختصة بمحاكمة مرتكبي إحدى الجرائم الخمس حتى ولو كان من المدنيين هي محكمة أمن الدولة على مقتضى نص المادة (3) من قانون محكمة امن الدولة، وهي محكمة مشكلة من قضاة عسكريين ومدنيين وقاضي نظامي وليس هناك من أي إشكال بهذا الخصوص، إلاّ أن الإشكال يثور في حالة ارتكاب أحد العسكريين أحدى هذه الجرائم.

فالمادة (7/أ) من قانون المخابرات العامة رقم (24) لسنة 1964 تنص على أنه " في حالة ارتكاب احد موظفي وأعضاء المخابرات العامة لجريمة من الجرائم الداخلة في اختصاص محكمة أمن الدولة حسب أحكام القانون رقم (17) لسنة 1959 وتعديلاته يحاكم من أسند إليه ارتكاب الجرم وجميع المشتركين والمحرضين والمتدخلين معه أمام المجلس العسكري لدائرة المخابرات العامة ويكون للمجلس نفس الصلاحيات الممنوحة لمحكمة أمن الدولة بموجب القانون رقم (17) لسنة 1959".

فهذا النص صريح الوضوح وقوي الدلالة بجعل المجلس العسكري في دائرة المخابرات العامة هو المختص بنظر الجرائم التي يرتكبها منتسبو دائرة المخابرات العامة والتي تختص بها محكمة أمن الدولة وبما أن المادة (3) من قانون محكمة أمن الدولة قد جعلت محكمة أمن الدولة هي المختصة حصرياً بنظر جرائم الخيانة والتجسس والإرهاب - باعتبارها من جرائم أمن الدولة- والمخدرات وتزييف العملة المشار إليها في المادة (101/2) من الدستور، فإن السؤال الذي يثور يتعلق بتحديد الجهة المختصة بنظر هذه الجرائم، أهي محكمة امن الدولة أم المجلس العسكري لدائرة المخابرات العامة؟ إن الإجابة على هذا السؤال تتحدد في رأينا بالزمن الذي ترتكب فيه إحدى هذه الجرائم، فإذا كان ارتكاب هذه الجريمة قد وقع خلال السنوات الثلاث من سريان نص المادة (128/2) من الدستور المعدّل، فإننا لا نتردد في الإجابة على هذا السؤال بأن المجلس العسكري هو المختص بنظر هذه الجريمة.

أما إن تم ارتكاب إحدى هذه الجرائم الخمس بعد إنقضاء السنوات الثلاث التي تبدأ بتاريخ سريان نص المادة (128/2) من الدستور، فإننا لا نتردد أيضاً في القول بأن محكمة أمن الدولة لتصبح هي المختصة بنظر هذه الجريمة، ولا يسوغ القول بأن المادة (7/أ) من قانون المخابرات العامة قد جعلت الاختصاص للمجلس العسكري، لأنه في حالة التنازع أو التعارض بين نص دستوري ونص قانوني، تكون الغلبة للنص الدستوري، لأن الدستور يسمو على القانون.

بهذه الإجابة المترتبة على تبنى معيار الزمن الذي ترتكب فيه إحدى هذه الجرائم الخمس بتحديد الجهة المختصة للنظر بالجرائم الخمس أو إحداها، نكون قد التزمنا بتطبيق جميع النصوص الدستورية والقانونية الواجبة التطبيق، وهي: نصوص المواد 128/2، 101/2 من الدستور ونص المادة (3) من قانون محكمة امن الدولة ونص المادة (7/أ) من قانون المخابرات العامة وهو ما ننادى به دوماً من ضرورة العمل على الاتساق والتنسيق بين جميع النصوص القانونية بغية تطبيقها جميعها في آن واحد إن اقتضى الأمر ذلك، ما دام أنها تشكل جزء لا يتجزأ من النظام القانوني للدولة الواحدة، وما قلناه بشأن ارتكاب أحد منتسبي رجال المخابرات العامة لإحدى الجرائم الخمس يصدق على رجال القوات المسلحة فيما لو ارتكب أحدهم إحدى الجرائم الخمس. فالمادة (8) من قانون تشكيل المحاكم العسكرية رقم (23) لسنة 2006 تنص على ما يلي:
أ‌) تختص المحاكم العسكرية بالنظر في الجرائم التالية:
1- الجرائم المنصوص عليها في قانون العقوبات العسكري
2- الجرائم المنصوص عليها في قانون العقوبات أو في أي قانون آخر إذا ارتكبها أي من الضباط أو الأفراد باعتباره القانون الأحدث تطبيقاً للطرائق الأصولية في التفسير التي ترسي مبدءاً ذهبياً خالداً وهو أن الأحدث ينسخ الأقدم.

وما قلناه بشأن منتسبي دائرة المخابرات العامة ينطبق على الجرائم التي يرتكبها منتسبو القوات المسلحة سواء أكان قد نُصَّ على هذه الجرائم في قانون العقوبات العسكري أو في قانون العقوبات العادي أو في أي قانون أخر، الأمر الذي يصح معه القول بأن قانون تشكيل المحاكم العسكرية هو الواجب التطبيق لا قانون محكمة أمن الدولة، هذا مع العلم بأن المادة (3) من قانون محكمة أمن الدولة المعدل رقم (6) لسنة 1993 قد جعلت محكمة أمن الدولة بعد تشكيلها بمقتضى المادة (3) من هذا القانون هي صاحبة الصلاحية لمحاكمة الأشخاص العسكرية والمدنيين المتهمين بارتكاب أي من الجرائم التالية - ومن بينها الجرائم الخمس- التي تقع خلافاً لأحكام القوانين والنصوص المبنية في المادة المذكورة وأي تعديلات تطرأ عليها أو تحل محلها.

هذا مع العلم أيضاً بأن المادة (8) من قانون تشكيل المحاكم العسكرية رقم (23) لسنة 2006 قد جعلت المحاكم العسكرية هي صاحبة الاختصاص بالنظر في جميع الجرائم.

نخلص إلى القول بأن المعيار في تحديد الاختصاص فيما لو ارتكب أحد العسكريين إحدى الجرائم الخمس، هو الزمن الذي ترتكب فيه هذه الجرائم، فإن تم ارتكابها من قبل احد العسكريين في خلال السنوات الثلاث بدءاً من التعديلات الدستورية فإن المحاكم العسكرية هي المختصة، سنداً لنص المادة (128/2) من الدستور، أما أن تم ارتكابها بعد انقضاء هذه المدة، فإن محكمة أمن الدولة تصبح هي المختصة، فالنص الدستوري يرجح على النص القانوني في حال التعارض أو التنازع نظراً لسمو الدستور على ما عداه من القوانين.

ولا يثور أي إشكال فيما لو ارتكب أحد العسكريين من رجال المخابرات العامة أو من منتسبي القوات المسلحة جريمة من غير الجرائم الخمس، فالاختصاص يكون للمجلس العسكري أو للمحاكم العسكرية بغض النظر عن الزمن الذي ترتكب فيه هذه الجريمة سواء أكان خلال السنوات الثلاث أو بعدها لأن المشرع الدستوري المعدل قد خص الجرائم الخمس فقط بالخروج على مبدأ الاختصاص الجزائي الشخصي هذا مع العلم بأنه لا شيء يمنع في القانون أو الدستور من أن تشكل في محكمة أمن الدولة هيئة ثانية مكونة من قضاة جميعهم مدنيين تجاوباً مع نص المادة (101/2) من الدستور حيث أنها لم تشترط أن يحاكم المدنيون أمام محاكم نظامية بل أمام قضاة جميعهم مدنيين بغض النظر عما إذا كانت هذه المحاكم محاكم نظامية أو خاصة طالما أن جميع قضاتها مدنيين.



المحامي الدكتــور كامل السعيد
عميد كلية الحقوق في الجامعة الأردنية سابقاً
أستاذ الدراسات العليا لقانوني العقوبات وأصول المحاكمات الجزائية
عضو محكمة التمييز سابقاً.




المواضيع المتشابهه: