في بلد لم ترسخ فيها قدم الديمقراطية بعد، نكون في أشد الحاجة إلى رقابة القضاء، فيه تصان الحقوق والحريات، وبدونه تهدر وتهتك. فإلى ساحة القضاء يهرع الناس ، يلتمسون فيه العدل والإنصاف، فالقضاة هم ضمير الأمة ورمز إرادتها وأملها في إعلاء كلمة الحق والعدل التي أودعها الله أمانة بين أيديهم، فأحكام القضاء مصابيح يأتم بها الهداة.

وحتى يتمكن القضاة من القيام بمسئوليتهم وأداء الأمانة الملقاة على عاتقهم فلابد أن يتحقق للقضاء الاستقلال والحيدة والموضوعية،بحيث لا يخضع القضاة في ممارستهم لعملهم لسلطان أي جهة أو سلطة أخرى.

ومن أخطر المؤثرات الخارجية التي قد تؤثر على حيدة القاضي وتحول بينه وبين الحكم بموضوعية قوة الرأي العام ، ولا شك أن الإعلام بصوره المتعددة المسموع، والمرئي ، والمقروء يلعب دوراً كبيراً في بلورة الرأي العام، وتعبئته على نحو معين، والذي قد يؤثر بشكل أو بآخر على حياد القاضي حيال القضية المعروضة عليه، والتي يجب أن يبدى رأيه فيها بموضوعية وحيدة تامة .

كما أن طبيعة عمل القاضي تفرض عليه التحوط عند إبداء أرائه كونه مواطناً في المجتمع يعيش ويتفاعل معه، ومن ثم فإن هناك خطوطاً حمراء يجب على القاضي ألا يتعداها حتى لا تؤثر على حيدته ونزاهته التي يتعين أن يتسم بها لكونها من مفترضات وظيفته ، وإلا فقد صلاحيته كقاضِ.
وفى الآونة الأخير رأينا كيف يتم تناول القضايا المعروضة على القضاء- لاسيما المتعلقة بالفساد- من قبل وسائل الإعلام ، والتي وصلت إلى حد عمل محاكمات شعبية مناظرة للمحاكمة القضائية ، و لاحظنا أيضا ظهور السادة القضاة عبر وسائل الإعلام.

ولا شك أن هذه الأمور تؤثر على حيدة القاضي و التي هي روح القضاء ، وحتى يقوم القضاء بأداء دوره والنهوض بوظيفته والقيام برسالته السامية بتحقيق العدل، فإنه يتعين أن يكون بمنأى عن أي تأثير من الإعلام والصحافة ليس فقط في مرحلة تكوين الرأي القضائي بل أيضاً في مرحلة إعلان رأيه القانوني في القضايا التي ينظرها. فحكم القضاء هو عنوان الحقيقة ولا يجوز لوسائل الإعلام أن تتناول الحكم بالنقد أو التعليق عليه، وهو ما شاع في الآونة الأخيرة، إذ تناولت وسائل الإعلام أحكام القضاء بالتعليق والنقد وهذا الأمر محظور لمساسه بهيبة القضاء فضلاًً عن تأثيره السلبي في زعزعة الثقة في نفوس المتقاضين.

و رغم أن القاضي يشغل وظيفة عامة، ألا انه لا يخضع للنظام القانوني لموظفي الدولة، لكونه يقوم بمباشرة وظيفة مستقلة لها أهميتها وخطورتها، ولذا أفرد المشرع نظاماً قانونياً خاصاً به ورد في قانون استقلال القضاء وقانون أصول المحاكمات المدنية. وبموجب هذه النصوص ينفرد القاضي بمركز قانوني متميز، ولذا أحاطه المشرع بقدر كبير من الضمانات التي تكفل حماية القاضي في نزاهته وحيدته، كما عمل على كفالة الاحترام الأدبي للقضاة، فلا يجوز التعريض بالقضاة بسبب قضائهم، وخاصة بطرق النشر والعلانية عبر وسائل الإعلام.

وأخيرا، نقول يعد الحق في الإعلام من الحقوق التي تتفق عليها التشريعات الحديثة وما تمليه الضرورات العملية من جهة، ويعد في ذات الوقت صورة من صور الرقابة الشعبية من قبل الجمهور على سريان المحاكمات- لاسيما المحاكمات الجنائية،ولكن هذا لا يعني أن يعلب الإعلام دورا سلبياً في تعبئته الرأي العام على نحو معين، والذي قد يؤثر بشكل أو بآخر على حياد القاضي حيال القضية المعروضة عليه، والتي يجب أن يبدى رأيه فيها بموضوعية وحيدة تامة، فاستقلال القاضي لم يعد شان داخلي يخص السلطة القضائية ، بل أصبح حق من حقوق الإنسان في دول عالمنا المعاصر .


المحامي الدكتور نوفان العجارمة
أستاذ القانون الإداري و الدستوري المشارك
كلية الحقوق – الجامعة الأردنية





المواضيع المتشابهه: