إذا كان فعلا أن القرارات الاقتصادية الأخيرة التي اتخذتها حكومة الدكتور عبد الله النسور بتحرير أسعار المشتقات النفطية ورفع الدعم الحكومي عنها تأتي استجابة لما تم الاتفاق عليه بين الحكومة الأردنية وصندوق النقد الدولي، فإن التساؤل الأبرز هو سبب عدم عرض هذه الاتفاقية على مجلس النواب لإقرارها وفق أحكام الدستور.
إن أحكام المعاهدات والاتفاقيات الدولية في الدستور الأردني قد جاءت مقتضبة وتقتصر على الفقرة الثانية من المادة (33) منه التي تنص على أن "المعاهدات والاتفاقات التي يترتب عليها تحميل خزانة الدولة شيئا من النفقات أو مساسا في حقوق الأردنيين العامة أو الخاصة لا تكون نافذة إلا إذا وافق عليها مجلس الأمة، ولا يجوز في أي حال أن تكون الشروط السرية في معاهدة أو اتفاق ما متناقضة للشروط العلنية".
إن حكم المادة الدستورية السابقة يقضي بأن القاعدة العامة هي أن جميع المعاهدات والاتفاقيات التي يبرمها الأردن تكون نافذة المفعول بمجرد استكمال إجراءات التوقيع والتصديق عليها من دون الحاجة إلى تعليق نفاذها على أي إجراء دستوري آخر. أما الاستثناء فيتمثل في إخضاع نوع معين من المعاهدات والاتفاقيات الدولية التي تبرم إلى موافقة مجلس الأمة التي من شأنها أن تمس حقوق الأردنيين العامة أو الخاصة، أو تلك التي يترتب عليها تحميل خزانة الدولة شيئا من النفقات، بحيث لا تكون تلك الاتفاقيات الدولية نافذة إلا بعد موافقة مجلس الأمة عليها وإصدارها بموجب قانون خاص.
إن اتفاقية الأردن مع صندوق النقد الدولي تدخل في صميم الاتفاقيات الدولية التي تمس حقوق الأردنيين العامة والخاصة، ويترتب عليها تحميل موازنة الدولة الكثير من النفقات، ومع ذلك لم يتم عرضها على مجلس الأمة لفرض رقابته عليها كما هو منصوص عليه دستوريا.
إن السبب في ذلك يعود إلى عام 1962 عندما ثار خلاف حول المقصود بكل من (المعاهدات) و(الاتفاقيات) الواردة في الفقرة الثانية من المادة (33) من الدستور وذلك في معرض الجدل الذي ثار حول ما إذا كان الاتفاق المالي الذي كانت الحكومة الأردنية تنوي إبرامه مع أحد البنوك الأجنبية الخاصة يدخل ضمن مفهوم (الاتفاقيات) المنصوص عليها في المادة (33) من الدستور، وأنه بالتالي يجب أن لا يكون نافذ المفعول إلا بعد عرضه على مجلس الأمة وموافقته عليه باعتبار أنه سيترتب عليه تحميل خزانة الدولة شيئا من النفقات. وقد أحيل الأمر في ذلك الوقت إلى المجلس العالي لتفسير الدستور الذي أصدر وبالأكثرية قراره التفسيري رقم (1) لسنة 1962 الذي عرف فيه (المعاهدات) بأنها الاتفاقات التي تعقدها دولتان أو أكثر ويكون لها طابع سياسي كمعاهدات الصلح ومعاهدات التحالف وما شابهها. أما (الاتفاقيات) فهي التي يكون طرفاها دولتين أو أكثر وتتعلق بغير الشؤون السياسية، وبالأخص الشؤون الاقتصادية.
ومن خلال التعريفين السابقين قرر المجلس العالي لتفسير الدستور بأن الاتفاقيات المالية التي تبرمها الدولة مع أي شخص طبيعي أو معنوي كالبنوك أو الشركات أو المؤسسات الدولية لا تكون مشمولة بأحكام الفقرة الثانية من المادة (33) من الدستور، وبالتالي لا يحتاج نفاذها إلى موافقة مجلس الأمة، ولو كانت تلك الاتفاقيات تحمل خزانة الدولة شيئا من النفقات أو تمس بحقوق الأردنيين العامة أو الخاصة.
إن ذلك القرار التفسيري فيه الكثير من التجني على أحكام الفقرة الثانية من المادة (33) من الدستور وتضييق غير مبرر على نطاق رقابة مجلس الأمة على الاتفاقيات الدولية. فإذا كنا نتفق مع المجلس العالي في قراره التفسيري بأن المعاهدة ذات طابع سياسي وبالتالي فإنها في الأغلب العام ستبرم بين دولتين أو أكثر، فإن الاتفاقية التي هي ذات طابع اقتصادي يجب أن لا يقتصر نطاق تعريفها على تلك الاتفاقيات التي تبرم بين الدول بعضها بعضا، بل يجب أن يمتد ليشمل الاتفاقيات التي تبرمها الدولة مع الأفراد والشركات الخاصة والمؤسسات الدولية.
إن القرار التفسيري السابق وإن كان قد أصبح جزءا لا يتجزأ من الفقرة الثانية من المادة (33) من الدستور ويقرأ معها، إلا أنه قد تسبب في مشاكل دستورية جمة كان آخرها عدم وجود حاجة دستورية لعرض الاتفاقية المبرمة مع صندوق النقد الدولي على مجلس الأمة لمراقبتها من قبل ممثلي الأمة في مجلس النواب، وذلك رغم الآثار الكبيرة التي ترتبت عليها من مساس بحقوق الأردنيين العامة والخاصة وتحميل نفقات على خزينة الدولة.
لذا فهناك حاجة ماسة لتعديل المادة (33) من الدستور لتوسيع نطاق الاتفاقيات التي يجب موافقة مجلس الأمة عليها لتشمل تلك التي توقعها الحكومة مع أشخاص طبيعيين أو معنويين أو مؤسسات دولية بعد أن حصرها المجلس العالي لتفسير الدستور بالاتفاقات الموقعة بين الدول. فالاتفاقيات الدولية التي تبرمها الحكومة مع بنوك أو شركات أجنبية أو مؤسسات دولية لاقتراض مبالغ مالية يجب أن تخضع لرقابة مجلس الأمة كون أثرها لا يقتصر فقط على تحميل خزانة الدولة شيئا من النفقات، بل يمتد أثرها إلى المساس بحقوق الأردنيين العامة والخاصة وذلك من خلال سداد تلك القروض المالية وفوائدها الذي سيكون حتما من خلال عوائد الرسوم والضرائب التي ستفرضها الحكومة على المواطنين بشكل يمس بحقوقهم الدستورية، وهو ما يبرر إخضاع تلك الاتفاقيات إلى موافقة مجلس الأمة أسوة بالمعاهدات والاتفاقيات الدولية الأخرى الموقعة بين الدول مع بعضها بعضا.
* أستاذ القانون الدستوري المساعد في كلية الحقوق في الجامعة الأردنية

المواضيع المتشابهه: