إبراهيم كشت - يستخدم لفظ (الفضول) في أصل العربية للدلالة على فعل الشخص الذي يهتم بما لا يعنيه ، ويتعرض لما لا شأن له فيه ، ويتدخل فيما لا يخصّه . كما يستعمل لفظ (الفضولي) في المجال القانوني ليعني ذلك الشخص الذي يقوم بعمل لمنفعة غيره ، دون أن يكون ملزماً بذلك العمل أو موكلاً به . لكن يبدو أنه مع تطور اللغة في الاستخدام ، بات لفظ الفضول يشير إلى اتجاهين : أحدهما سلبي يومئ إلى شغف المرء وتشوّقه لمعرفة أخبارٍ وأحداث لا تعنيه ، وتدخّله فيها . والثاني معنى ايجابي يدلُّ على الشغف والتشوّق لمعرفة ما هو خيّر ونافع والاهتمام به ، ومن ذلك الفضول العلمي .

الفضول العلمي ... والشغف بمعرفة الحقيقة :
أَفهمُ الفضول العلمي على أنه رغبة وجدانية قويّة ، تصل حدَّ الشَّغف ، في معرفة الحقيقة ، وفهم الظواهر التي تحدث في الكون والحياة ، والبحث عن التفسيرات التي تزيل غموض جوانب متعددة في الوجود ، والوقوف على القوانين التي تربط الأشياء وتحكمها ، واستكشاف الجديد ، سواء أكان ذلك في مجال العلوم الطبيعية أم الإنسانية . وهو «شغفٌ» مقرون دائماً بشعور يشبه الاشتياق .. ! اشتياق الباحث إلى النتيجة التي تمحو جهله في موضوع ما ، وتزيل الشكَّ واللُبس الذي يَلفُّ ظاهرة أو حدثاً أو علاقة بين الأشياء والأحياء . كل ذلك بالمعرفة ... ولكن ليس أَيُّ معرفة ، وإنما المعرفة العلمية القائمة على المنهج السليم، والمستندة إلى العقل والمنطق والتجربة والبرهان .
وتنطلق أهمية الفضول العلمي – فيما أرى – من كونه شعوراً طبيعياً فطرياً (خامّاً) يبعثُ على التقصّي والبحث والاكتشاف والخروج بالفرضيات واختبارها ، ووضع النظريات ، والتوصل إلى الحقائق ، وبلوغ الحلول المنشودة . فهذا الفضول هو بذرة الإبداع العلمي ، التي تشحن من يمتلكها بالمشاعر ، وتشحذه بالحماس ، وتفتح له آفاق الخيال ، وتبعث فيه العزيمة والحافز للاستمرار في الملاحظة والدراسة والتحرّي والبحث والتحليل والتجريب ، إلى أن يترجم إبداعه إلى واقع ذي قيمة .

الفضولُ الإيجابيّ الذي كان يملأُ نفوس العلماء ...
أنظر إلى الفضول الإيجابي ، وتحديداً ذلك الفضول العلمي الذي كان يملأ وجدان «دارون» ، فقد ترك دراسة الطب ودراسة اللاهوت ، والتحق سنة 1831 بالباخرة الاستكشافية التي دارت حول الأرض في خمس سنين ، وعمره يومئذ اثنين وعشرين عاماً ، وراح يلاحظ الكائنات الحيّة في القارات والجزر والبحار ، بعين ذي الفضول المولع بالمعرفة ، ويقارن بينها بشغف ، حتى وضع نظرياته في أصل الأنواع ، وفي النشوء والارتقاء ، والانتخاب الطبيعي ، كل ذلك قبل الاكتشافات العظيمة التي وصل إليها الإنسان في عالم الجينات .
وأنظر كذلك الحال ، إلى العالم الهولندي ليفون هوك ، الرجل الذي لم يُتحْ له من الدراسة إلا حظاً يسيراً ، غير أنه كان شغوفاً بالعدسات ، مشتغلاً بها بانهماك ، يطغى عليه فضوله العلمي لرؤية كائنات أصغر مما تراه العين المجردة ، ومكث في عمله هذا وبحثه سنين عدداً ، حتى اكتشف عام 1674 من خلال عدساته تلك الكائنات الدقيقة التي سميناها بالجراثيم ، وما اكتفى بذلك ، فراح يبحث عن أنواعٍ أخرى منها في مياه الآبار ولُعاب البشر وأمعائهم .
وخذ مثلاً آخر العالم الايطالي غاليليو ، الذي ترك دراسته الجامعية لأسباب مادية ، لكن فضوله العلمي الذي لم يقتصر على البحث في قوانين الميكانيك ، وتعداه إلى الشغف بالفضاء والأجرام السماوية والأفلاك (غير مقتنع بكثير من الأفكار السائدة في عصره حول الشمس والأرض والقمر والكواكب ) قاده في سبيل إشباع هذا الفضول الى تطوير تليسكوب، تمكّن من خلاله من الوصول إلى العديد من الملاحظات والاكتشافات الفلكية .

هل الفضول الإيجابي غريزة ؟
أحسبُ أن الفضول الإيجابي ، ومنه الفضول العلمي في أساسه ومنطلقه ومادته الخام الأولى عبارة عن شعور غريزي ، بدليل أن حبَّ الاستكشاف موجود في الحيوانات بشكل ملحوظ ، على نحو يساعدها على التكيف وتجنب المخاطر . وبعرفُ الذين تمرّسوا في تربية القطط مثلاً ، أنك إذا دخلتَ إلى المنزل مثلاً تحمل بعض السلع أو الحقائب ، أسرعت القطة إليها وبدأت تدور حولها وتحاول الدخول بينها وتستمر بشمّها وتحسسها لتكتشف ماهيتها ، ولا ترى القطة كذلك جحراً أو ما يشبه الجحر إلا حاولت دخوله أو مد يدها فيه ... على نحو يشير إلى غريزة الاستكشاف التي لا بد أن تكون أكثر تطوراً ووضوحاً لدى الإنسان .
ومما يؤيد ما تقدم أيضاً حول الأصل الغريزي لحب معرفة الأشياء واستكشافها وفهمها ، أن الأطفال أكثر فضولاً من الكبار في محاولتهم التعرّف إلى الأشياء والاستفسار عن أسباب الظواهر والأحداث ، وهم أكثر اندهاشاً من الكبار لما يجري حولهم . بعد أن تعوّد الكبار على ما يحيط بهم من وقائع وأحداث وظواهر ، أو التهوا عنها في تلبية متطلبات العيش ، أو التهوا عنها في محاولة إشباع فضول آخر سلبي ، هَمُّه معرفة أخبار الناس ، وتتبع أنباء المشاهير ، والشغف في اكتشاف عيوب الناجحين وتحويلها إلى قصص مثيرة ، تلبي بدورها فضول الآخرين .

تنمية الفضول الإيجابي :
لئن كانت إثارة الفضول الإيجابي نحو معرفة الحقيقة ، وتعزيز الفضول العلمي وتنميته لدى النشء مُهمَّة ، فإن الأهم فيما أرى هو الانتباه إلى عدم طمس فضولهم الفطري الطبيعي الأصيل ، من خلال تجاهل أسئلتهم أو الاستخفاف بها ، أو تقديم إجابات سريعة جاهزة خرافية وأسطورية لهم ، تقطع تسلسل أسئلتهم، وتطفئ جذوة فضولهم في مهدها ، وتريحهم أبد العمر من عناء البحث والتفكير والتحليل . ولا سيما إذا كانت تلك الإجابات مما لا يقبل النقاش ، ولا يرضى بغير التسليم .
فالفضول الذي يبحث عن الفهم الصحيح ويحاول إزالة الغموض ، هو شعور أصيل وفطري ، قابل للتنمية أو للطمس ، وهو باعث على تحري الحقيقة ، والدراسة والبحث والإبداع ، يحفّز على الاستغراق في طلب المعرفة العلمية ، ذلك الاستغراق الذي يقاوم الملل، ويقوّي العزيمة ، ويديم المثابرة والاستمرارية ، بدافعية ذاتية ، ليست لها غاية إلا إشباع ذلك الفضول الايجابي الأصيل .

وبعد ...
أقترح هنا على الدارسين والمثقفين والمفكرين المهتمين بالبحث عن أسباب تقدم أمم وتخلّف أخرى ، أن يضيفوا إلى عوامل التقدم والإبداع والإبتكار والاكتشاف عاملاً مهماً ومؤثراً ، وهو مدى توافر الفضول العلمي لدى أفراد المجتمع أو مدى تضاؤله أو غيابه .

المواضيع المتشابهه: