مشروع قانون الأحزاب السياسية من منظور الحريات الدستورية / د. محمد الحموري
مقدمة:
*
إن من يقرأ مشروع قانون الأحزاب السياسية لسنة 2005، يشعر بأنه يقرأ نصوصا لا صلة لها بالفصل الثاني من الدستور الأردني الذي يتحدث عن حقوق الأردنيين وحرياتهم. كما يشعر أيضا، أن الظروف غير العادية التي تمر بها دول الجوار العربي، قد انعكست على ذهنية واضع المشروع ونفسيته، الى حد اعتقد معه أن الأمر يقتضي منه أن يضع قانونا عرفيا للأحزاب السياسية. ومثل هذا الاعتقاد أمر غير سليم. ذلك أن انتماء الحكومات الى مواطنيها، وإشعارهم بالحرص على حقوقهم وحرياتهم السياسية، وليس تقييدها أو مصادرتها، هو الذي يمكّن تلك الحكومات من التعامل مع الظروف غير العادية التي تواجهها والتغلب عليها. كما أن التشريعات الناضجة والمتوازنة هي أداة الحكومات للنهوض بالحقوق والحريات المذكورة. وإذا كان الأصل أن التشريعات توضع لتعيش عقودا من الزمن، فإنه لا يجوز أن يصدر تشريع *لأهم المؤسسات الديمقراطية في الدولة، كالأحزاب السياسية، إنطلاقا من ظرف آني لا يلبث أن يزول. ولقد وجدت أن من الضروري أن أبدي بعض الملاحظات الأولية على مشروع قانون الأحزاب، خاصة وأن دستورنا الأردني يحتوي على نصوص ناضجة في مجال الحقوق والحريات، مستقاة من أفضل الدساتير في الديمقراطيات المعاصرة، ومن الظلم لدستورنا وللشعب الذي يستظل فيه، إصدار تشريعات تعبر عن حالات انفعال ونزق حكومي، أملتها ظروف آنية، لتحكم مستقبل الحياة السياسية في هذا الوطن. وسوف أبدي هذه الملاحظات، تحت عناوين ثلاثة، وذلك على النحو التالي:
اولا : اثر المشروع على الحقوق والحريات الدستورية
ولبيان الخلفية التي ينبغي أن تنطلق منها التشريعات الناظمة للحريات الدستورية أقول، أنه على الرغم من التعديلات التي جرت على الدستور الأردني، إلا أن المواد المتعلقة بحقوق وحريات الأردنيين، ظلت كما هي، ودون أن يطالها التعديل منذ صدور الدستور عام 1952 حتى الآن. وهذه المواد هي من (5 ـ 23)، وقد وردت تحت الفصل الثاني من الدستور. ويلاحظ على هذه الحقوق والحريات الدستورية، أن ممارستها تتم على النحو الذي ينص عليه القانون، لكنه لا يجوز للقانون الذي يصدر لتنظيم ممارسة أي واحدة من الحريات الدستورية أن يصادر هذه الحريات أو يفرغها من مضمونها تحت ستار تنظيمها. وبالنسبة للأحزاب السياسية، فقد جعل الدستور حق إنشائها مستمد من الدستور نفسه وليس من القانون، وذلك بموجب الإستثناء الذي ورد في المادة * (16/2) من الدستور، المتعلقة بحق الأردنيين في إنشاء الأحزاب السياسية، حيث أن حق إنشاء الحزب وفقا لهذه المادة، يستمده الأردنيون من الدستور مباشرة، وذلك أسوة بما نصت عليه دساتير الدول التي أخذت بالنهج الديمقراطي، مثل المادة (4) من الدستور الفرنسي لعام 1958، والمادتين * *(9 و 21) من الدستور الألماني لعام 1949 وفق آخر تعديلات جرت عليه في عام 1991، والمادتين (18و 49) من الدستور الإيطالي الصادر عام 1947 وفق آخر صيغة له عام 2003، والمادة (19) من الدستور الهندي لعام 1949، والمادة (26) من الدستور الليبي في العهد الملكي لعام 1963، والمادة (21) من الدستور الياباني لعام 1963، والمادة (21) من الدستور المصري في العهد الملكي لعام 1923، والمادة (27) من الدستور البلجيكي لعام 1921، علما بأن الدستور الأردني أخذ أحكامه ونصوصه عن الدستور البلجيكي متأثرا بالترجمات والصياغات المصرية.
*
وتنص المادة (27) من الدستور البلجيكي لعام 1921، التي تشكل المصدر التاريخي المباشر للمادة (16/2) من الدستور الأردني، على ما يلي في نسختها الإنجليزية:
*
“Belgians have the right to enter into association or partisanship, this right cannot be liable to any preventative measures."
*
وباللغة العربية:
*
"للبلجيكيين الحق في تكوين الجمعيات والأحزاب السياسية، ومن غير الممكن أن ترد على هذا الحق أية تدابير تمنع من ممارسته."
*
وواضح من هذا النص البلجيكي أن حق تكوين الأحزاب السياسية وممارسة هذه الأحزاب لنشاطها لا ترد عليه أية قيود. وبالطبع، فإن حق التكوين والممارسة لهذه الأحزاب، لا يجوز أن يتعارض أو يخالف باقي نصوص الدستور البلجيكي، سواء من حيث المشروعية أو من حيث الوسيلة.
*
أما في الأردن، فقد تم وضع المادة البلجيكية سابقة الذكر، بصياغة شكلت الفقرة الثانية من المادة *(16) من الدستور الأردني لتنص على النحو التالي:
*
"2. للأردنيين الحق في تأليف الجمعيات والأحزاب السياسية على أن تكون غاياتها مشروعة ووسائلها سلمية وذات نظم لا تخالف أحكام الدستور."
*
لكن المشرع الدستوري الأردني، تحوط لجوانب إجرائية تتعلق بالطريقة التي يتألف فيها الحزب، والكيفية التي تتم فيها مراقبة الموارد المالية للحزب، فنص على أن يكون ذلك وفقا لقانون يصدر لهذا الغاية.
*
ولذلك جاءت الفقرة الثالثة من المادة (16) من الدستور، ليصبح نصها على النحو التالي:
*
"3. ينظم القانون طريقة تأليف الجمعيات والأحزاب السياسية ومراقبة مواردها."
*
وعلى هذا، فإن الفقرتين السابقتين المتعلقتين بالأحزاب السياسية تحتويان على أمرين جوهريين مختلفين في الأساس وفي المضمون، أولهما أمر موضوعي يتعلق بالحق في إنشاء الأحزاب السياسية، والثاني أمر إجرائي يتعلق بطريقة تأليف الأحزاب ومراقبة مواردها المالية، ولكل من هذين الأمرين مدلوله الدستوري الذي لا يجوز للقانون أن يتخطاه أو يعتدي عليه أو يصادره.
*
وبالنسبة للأمر الأول وهو الأمر الموضوعي، فإننا نجد أن الفقرة الثانية من المادة (16) تجعل الأردنيين يستمدون حقهم في إنشاء الأحزاب السياسية من الدستور مباشرة، وذلك أسوة بالنص بالبلجيكي. ومع أنه من المفهوم أيضا من الناحية الدستورية، أنه لا يجوز ممارسة هذا الحق على نحو يخالف باقي نصوص الدستور، سواء من حيث المشروعية أو من حيث الوسيلة، وأن هذه المسائل تشكل بالضرورة حدودا ومحددات ترد على أصل الحق، إلا أن واضعي الدستور الأردني رغبوا أن لا يتركوا ذلك للمفهوم الضمني المذكور، ومن ثم شرعوا المحددات التي نتحدث عنها صراحة في الفقرة الثانية، لتصبح هذه المحددات الثلاث هي: أن تكون غاية الحزب مشروعة، وأن تكون وسيلته في العمل سلمية، وأن يكون نظامه لا يخالف الدستور. ويلاحظ هنا أن هذه المحددات الثلاث تستعصي على الضبط التشريعي، بمعنى أنه من غير الممكن أن يصدر قانون يحدد حالات عدم المشروعية أو أنواع الوسائل غير السلمية أو الحالات التي يكون فيها النظام مخالفا للدستور. والسبب هو أن المحددات الثلاث تبلغ في عموميتها حدا أوسع من أي تصور تشريعي يمكن أن يوضع لحصرها وتحديدها مقدما، ولذلك فإن قوانين الأحزاب التي تصدر، لا يمكن أن تتضمن أي تفصيل عن المحددات الثلاثة السابقة، فتنص عليها كما هي، ليصبح الأمر بعد ذلك متروكا لتحديده من قبل القضاء في كل حالة من الحالات الثلاث، عندما يثور الخلاف بشأن أية مخالفة لها. وهنا لا يخرج الأمر عن واحد من فرضين:
الفرض الأول:أن تجد الجهة الحكومية في الوثائق المرفقة بالطلب الذي يقدم إليها لتوثيق إنشاء الحزب، أن غايات الحزب غير مشروعة أو وسائله غير سلمية أو نظامه يخالف الدستور. ففي هذه الحالة، عندما ترفض الجهة الحكومية الطلب المذكور لمخالفته أي واحدة من المحددات الثلاثة، فإن لصاحب الطلب أن يلجأ الى القضاء لإثبات خلاف ما تدعيه الجهة الحكومية، ويكون حكم القضاء في النهاية هو القول الفصل.
*
الفرض الثاني:أن تستجد أي واحدة من المحددات الثلاث بعد نشوء الحزب، فتتخذ الحكومة إجراء بحقه، وفي هذه الحالة فإن للحزب أن يلجأ الى القضاء، لإثبات خلاف ما تدعيه الجهات الحكومية، ويكون حكم المحكمة بالتالي هو القول الفصل أيضا في هذا الموضوع.
*
وتأكيدا لما سبق نقول، أنه حدث عام 1954 أن رفضت الحكومة الطلب المتعلق بإنشاء أحد الأحزاب السياسية، تحت ذريعة أن غايات الحزب وأهدافه غير مشروعة. وعندما طعن مؤسسو الحزب بقرار الحكومة قررت محكمة العدل العليا في حكمها رقم (45/1954) المنشور على الصفحة (430) من مجلة نقابة المحامين لسنة 1955، ما يلي:
اشتمال دستور الحزب على العبارات التالية: ‘الوطن العربي وحدة لا تتجزأ ولا يمكن لأي قطر من الأقطار العربية أن يستكمل حياته منعزلا عن الآخر‘ و ‘حزب البعث العربي اشتراكي نضالي يؤمن بأن أهدافه الرئيسية في بعث القومية العربية وبناء الاشتراكية لا يمكن أن تتم إلا عن طريق النضال‘، هذه العبارات لا تدل بشكل من الأشكال بأن أهداف الحزب المذكور مقاومة نظام الحكم القائم وكيان الدولة.
المواضيع المتشابهه:
- [مقالة قانونية موثقة] : قراءة في مشروع قانون الأحزاب السياسية لسنة 2012 (1-2) - د.ليث نصراويين
- مجلس الوزراء يقر مشـروع قانون الأحزاب السياسية
- المطالبة بالملكية الدستورية تنم عن جهل قانوني ودستوري - د.محمد الحموري
- النظام البرلماني والدستور الأردني والملكية الدستورية .. أ.د محمد الحموري
- القدس للدراسات السياسية» يطلق مشروع «المبادرة الوطنية لإصلاح قانون الأحزاب السياسية ا
المفضلات