وكما إنه لا يجوز أن يتصرف تصرفاً يزيل الملك لا يجوز له أن يتصرف تصرفاً ينقص المرهون كإجارته مدة تحلّ الدين قبل انتهائها، لأن ذلك يقلل الرغبة في شراء المرهون، فإن كان الدين يحّل مع انتهاء المدة أو بعدها جاز له التصرف في ذلك.
وكذلك لا يجوز له رهنه من غيره، لأنه يزاحم حق الأول، فيفوت مقصود الرهن.
وذهب الحنفية إلى التفصيل في هذا التصرف:
1- إذا كان التصرف بيعاً انعقد البيع موقوفاً، سواء علم المشتري بذلك أم لم يعلم.
ووجه الوقف هو أن الراهن لا يتصرف في خالص حقه، إذ تعلق به حق المرتهن، وهو الحبس، فيتوقف على إجازته.
فإذا أجاز المرتهن البيع نفذ، لأن عدم النفاذ لمكان حقه، فإن رضي ببطلان حقه زال المانع فنفذ البيع. وإن لم يجزه بطل البيع.
هذا الكلام في حق البائع، أما المشتري، وإن لم يجز المرتهن البيع فإن المشتري بالخيار إن شاء صبر إلى فكاك الرهن، أو رفع الأمر إلى القاضي ليفسخ البيع لأن هذا الفسخ لقطع المنازعة وهو إلى القاضي.
2- إذا كان التصرف هبة من غير المرتهن أو صدقة انعقد أيضاً موقوفاً على إذن المرتهن، فإن لم يأذن بطل ذلك، وأن أذن نفذ، وفي هذه الحالة يبطل عقد الرهن، لأنه زال عن ملكه لا إلى بدل بخلاف البيع.
3- إذا كان التصرف إجارة توقف على إذن المرتهن، فإن لم يأذن بطلت، لأن قيام ملك الحبس له يمنع الإجارة، ولأن الإجارة بعقد الانتفاع، وهو لا يملك الانتفاع بنفسه، فكيف يملكه غيره، وإن أذن جازت الإجارة، وبطل عقد الرهن، لأن الإجارة إذا جازت -وهي عقد لازم - لا يبقى الرهن ضرورة، والأجرة للراهن لأنها بدل منفعة مملوكة له، وولاية قبض الأجرة له لأنه هو العاقد، ولا تكون الأجرة رهناً، لأن الأجرة بدل المنفعة، والمنفعة ليست بمرهونة فلا يكون بدلها مرهوناً، كل هذا إذا كانت الإجارة لغير المرتهن، أما إذا كانت له جازت الإجارة وبطل الرهن إذا جدد المرتهن القبض للإجارة، لأن قبض الرهن غير قبض الإجارة، فقبض الرهن مضمون، وقبض الإجارة أمانة.
ثانياً: تصرف المرتهن بغير إذن الراهن:
ذهب الجمهور إلى أنَّ تصرف المرتهن بغير إذن الراهن يعدُّ تصرفاً لاغياً، فإذا أسلم العين كان في ذلك متعدياً غاصباً.
وذهب الحنفية إلى أن تصرفاته موقوفة على إذن الراهن، فإن أجاز صحت ويبطل الرهن، وإلا بطلت، لكن في حال إجازة البيع يبقى الثمن رهناً.
ثالثاً: تصرف الراهن بإذن المرتهن:
ذهب الشافعية إلى أنه إذا تصرف الراهن بإذن المرتهن تصرفاً يزيل الملك نفذ هذا التصرف، وبطل الرهن، لكن للمرتهن الرجوع عن الإذن قبل تصرف الراهن، لأن حقه باق، كما للمالك أن يرجع قبل تصرف الوكيل.
وذهب الحنفية إذا باع أو وهب من أجنبي خرج المرهون عن الرهن فلا يعود إلا بعقد مبتدأ.
رابعاً: تصرف المرتهن بإذن الراهن:
ذهب الحنفية والشافعية إلى أنه إذا تصرف المرتهن بإذن الراهن تصرفاً يزيل الملك صح هذا التصرف ويبطل الرهن.
المسألة السادسة: في تسليم الرهن للراهن وردّه عند فكاكه بوفاء الدين:
الفرع الأول: تسديد بعض الدين:
ذهب الفقهاء إلى أنه لا ينفك شيء من الرهن حتى يؤدي دينه كله أو يبرئه المرتهن من الدين أو يفسخ الرهن.
الفرع الثاني: في تسديد الدين كله:
ذهب الفقهاء إلى أنه إذا سدّد الراهن ما عليه من الدين انفك الرهن، ووجب تسليمه إليه.
وذهبت الحنفية إلى أنه يتبع في التسليم المراحل التالية:
أولاً: إذا طالب المرتهن بدينه يؤمر بإحضار الرهن إن كانت المطالبة في البلد الذي وقع فيه الرهن، فإن كانت المطالبة بالدين في غير البلد الذي وقع فيه العقد وكان الرهن مما لا مؤنة في إحضاره أمر المرتهن أيضاً بإحضار الرهن. لأن الأماكن كلها في حق التسليم كمكان واحد فيما ليس له حمل ولا مؤنة.
ثانياً: فإذا أحضر المرتهن الرهن يؤمر الراهن بتسديد الدين، فإذا فعل سلمه المرتهن الرهن.
وإنما أمر الراهن بذلك ليتعين حق المرتهن بتسليم الدين كما تعين حق الراهن في الرهن تحقيقاً للتسوية بينهما.
أما إذا طالب المرتهن بالدين في غير محل العقد وكان لحمله مؤنة يستوفي دينه ولا يكلف إحضار الرهن، لأن هذا نقل، والواجب عليه التسليم بمعنى التخلية، لا النقل من مكان إلى مكان لأنه يتضرر به ولم يلزمه، لكن في هذه الحال للراهن أن يحلفه بالله أنه ما هلك.
ثالثاً: وهو وجوب تسليم المرهون عند الافتكاك - فيتعلق به معرفة وقت وجوب التسليم، فوقت وجوب التسليم ما بعد قضاء الدين، يقضي الدين أولاً ثم يتسلم الرهن، لأن الرهن وثيقة، وفي تقديم تسليمه إبطال للوثيقة، ولأنه لو سلم الرهن أولاً فمن الجائز أن يموت الراهن قبل قضاء الدين، فيصيرَ المرتهن كواحد من الغرماء فيبطل حقه، فلزم تقديم قضاء الدين على تسليم الرهن، إلا أن المرتهن إذا طلب الدين يؤمر بإحضار الرهن أولاً، ويقال له أحضر الرهن إذا كان قادراً على الإحضار من غير ضرر زائد، ثم يخاطَب الراهن بقضاء الدين، لأنه لو خوطب بقضائه من غير إحضار الرهن، ومن الجائز أن الرهن قد هلك وصار المرتهن مستوفياً دينه من الرهن، فيؤدي إلى الاستيفاء مرتين.
المسألة السابعة: في بيع الرهن:
ذهب الشافعية إلى أن حق البيع للراهن أو وكيله، ويكون ذلك بإذن من المرتهن، لأن له حقاً فيه، فإن لم يأذن المرتهن بالبيع قال له الحاكم، ائذن في بيعه أو أبرئه، وذلك دفعاً لضرر الراهن، فإن أصر على الامتناع باعه الحاكم عليه، ووفى الدين من ثمنه دفعاً للضرر.
ولو طلب المرتهن بيعه فأبى الراهن ذلك ألزمه القاضي قضاء الدين أو بيعه، فإن أصر على الامتناع باعه الحاكم دفعاً للضرر عن المرتهن. هذا إذا لم يكن له وفاء غير الرهن، فإن كان له ما يفي به الدين لم يتعين بيع الرهن. وكذلك الحكم إذا طلب المرتهن بيعه وكان الدين حالاًّ، وكان الراهن غائباً.
أما إذا باعه المرتهن بإذن الراهن فالأصح أنه إن باع بحضرته صح البيع، وإلا فلا، لأن بيعه لغرض نفسه فيتهم في الغيبة بالاستعجال وترك التحفظ دون الحضور.
وهناك قول ثانٍ أنه يصح مع عدم حضوره كما لو أذن له في بيع غيره.
وهناك قول ثالث عندهم هو أنه لا يصح بيعه حضر الراهن أم لم يحضر، لأن الإذن له فيه توكيل فيما يتعلق بحقه، إذ المرتهن مستحق للبيع.
وذهب الحنفية إلى أن للراهن والمرتهن حقاً في العين المرهونة، أما الراهن فملكه، وأما المرتهن فلأنه أحق بماليته من الراهن ولذلك لا ينفرد أحدهما ببيعه دون إذن من الآخر.
فإذا أذن الراهن للمرتهن ببيعه باعه، واستوفى حقه منه، وكذلك إذا أذن الوكيل له في البيع.
فإن حّل الأجل وكان الراهن غائباً أجبر الوكيل على بيعه، لأن حق المرتهن تعلق بالبيع، وفي الامتناع إبطال لحق، فيجبر عليه.
وكيفية الإجبار أن يحبسه القاضي أياماً ليبيع، فإن امتنع بعد ذلك فالقاضي يبيعه عليه دفعاً للضرر.
وأما إذا لم يأذن بالبيع لأحد، طولب بالوفاء، فإن امتنع أجبره القاضي على البيع بما يراه مناسباً، من حبس أو تعزيز.
وعند أبي حنيفة لا يبيعه عليه، لأن البيع عليه بمثابة الحجر على ماله، ولا يكون إلا في الغائب للضرورة، وأما الحاضر فلا يحجر عليه عنده.
المبحث الثاني: في أحكام الرهن الصحيح حال هلاك العين المرهونة:
إن هلاك العين المرهونة لا يخلو من أحد أمرين: إما أن تهلك بنفسها وإما أن تهلك باستهلاك أحد لها، سواء أكان المستهلك الراهن أم المرتهن أم أجنبياً.
أولاً: هلاك العين المرهونة بنفسها:
إذا هلكت العين المرهونة بنفسها فلا يخلو الأمر من إحدى حالين: إما أن يكون هلاكها بتعد وتقصير وإهمال، أو يكون من غير تعد ولا تقصير:
الحالة الأولى: هلاك العين بتعد أو تقصير:
اتفق الفقهاء على أن العين المرهونة إذا هلكت بتعد أو تقصير فإن المتعدي يضمنها، سواء أكان المتعدي الراهن أم المرتهن أم الأجنبي، وسواء أقلنا إن يد المرتهن على الرهن يد أمانة أم قلنا إن يده يد ضمان. فيلزم الضمان بالتعدي، فيوضع مثلها إن كانت مما له مثل، أو توضع قيمتها إن كان قيمية، ويوضع ذلك رهناً مكانها.
الحالة الثانية: هلاك العين المرهونة بلا تعد أو تقصير:
اتفق الفقهاء فيما إذا هلكت العين المرهونة عند المرتهن بلا تعدٍ أو تقصير،
ذهب الشافعية والحنابلة إلى أنه لا ضمان على المرتهن في ذلك، لأن يده على الرهن يد أمانة، فإذا هلكت تهلك من مال الراهن، ولا يسقط شيء من الرهن بهلاكها:
وذهبت الحنفية إلى أنه مضمون المرتهن بدينه على خلاف في كيفية الضمان عندهم، إذ ذهب جمهورهم إلى أن الضمان يكون بالأقل من قيمته أو الدين، فلو هلك وقيمته مثل الدين صار مستوفياً دينه، وإن كانت أكثر من دينه فالفضل أمانة، وبقدر الدين صار مستوفياً، وإن كانت أقل صار مستوفياً بقدره ورجع المرتهن بالفضل.
وذهب مالك إلى أن الرهن إن هلك بسبب ظاهر كموت الحيوان واحتراق الدار فضمانه على الراهن، وإن هلك بسبب خفي كسرقة مثلاً فضمانه على المرتهن، ما لم تقم بينة بهلاكه فيكون ضمانه على الراهن.
ثانياً: في حكم استهلاك العين المرهونة:
استهلاك العين المرهونة إما أن يكون من قبل الراهن وإما أن يكون من قبل المرتهن، وإما أن يكون من أجنبي، ولكل من هذه الأقسام الثلاثة بحث يخصه.
القسم الأول: في استهلاك الراهن العين المرهونة:
إذا استهلك الراهن الرهن ترتبت على ذلك الأحكام التالية:
1- إن كان الدين حالاً يطالب بالدين، إذ لا فائدة في المطالبة بالضمان.
2- إن كان الدين مؤجلاً يضمن مثل الرهن إن كان مثلياً، أو قيمته إن كان قيمياً.
3- يكون المضمون رهناً في يد المرتهن لقيامه مقام العين المرهونة.
4- المرتهن هو الذي يخاصم الراهن في التضمين، لأنه صاحب الحق في مالية الرهن بالحبس ووضع اليد للاستيفاء.
القسم الثاني: في استهلاك المرتهن للعين المرهونة:
إذا استهلك المرتهن العين المرهونة ترتب على ذلك الأحكام التالية:
1- إذا كان الدين مؤجلاً ضمن مثله إن كان مثلياً، أو قيمته إن كان قيمياً. لأنه أتلف مال غيره، وكانت رهناً في يده حتى يحّل الأجل، لأن الضمان بدل العين فأخذ حكمه.
2- تعتبر قيمة المتلّف بالنسبة إلى المرتهن يوم القبض، لأن المعتبر في ضمان الرهن يوم قبضه، لأنه به دخل في ضمانه، لأنه قبض استيفاء.
3- على هذا فإذا نقص سعره يوم الاستهلاك وجب قيمته يوم القبض، فلو كانت قيمته يوم القبض ألفاً، ويوم الاستهلاك خمسماية، غرم خمسماية وتكون رهناً، وسقط من الدين خمسماية.
4- إذا كان الدين حالاً والمضمون من جنس حقه استوفى المرتهن منه وردّ الفضل على الراهن إن كان به فضل، وإن كان دينه أكثر من قيمته رجع على الراهن بالفضل.
القسم الثالث: استهلاك الأجنبي للعين المرهونة:
إذا كان المستهلك للعين أجنبياً ترتب على ذلك الأحكام التالية:
1- يضمن ما أتلفه إن كان مثلياً ضمن مثله، وإن كان قيمياً ضمن قيمته.
2- يجب على هذا المستهلك قيمته يوم الاستهلاك لا يوم القبض كالمرتهن، فلو كانت قيمته يوم القبض ألفاً ويوم الاستهلاك خمسماية وجب بالاتلاف خمسماية، ويسقط من الدين خمسماية، كأنها هلكت بآفة سماوية.
3- تصبح قيمة العين المستهلكة رهناً بدل الرهن السابق.
4- المخاصم للأجنبي هو المرتهن عند الحنفية، والراهن عند الشافعية.


* * *

الفصل الخامس
في أحكام الرهن الفاسد

المبحث الأول: في معنى الفساد والبطلان:
ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الفساد والبطلان بمعنى واحد ويكون الفساد والبطلان بنقص شرط أو ركن أو غير ذلك كما هو مذكور في الأصول. إلا أنهم قالوا إن حكم فاسد العقود حكم صحيحها في الضمان، فإذا اقتضى صحيحه الضمان كالبيع والإعارة، ففاسده أولى، وإذا لم يقتض صحيحه الضمان كالإجارة والرهن ففاسده كذلك.
وعلى هذا فإذا رهن عيناً في عقد رهن فاسد، فإن تلفت العين المرهونة من غير تعد ولا تقصير، فلا ضمان على المرتهن، لأنه في هذا الحال إذا وقع العقد صحيحاً فلا ضمان، فكذلك الفاسد، لأنه واضع اليد أثبتها بإذن مالكها، ولم يلتزم بالعقد ضماناً.

المواضيع المتشابهه: