إسّاقط…

شتاء بغداد كأنه بعض وهمٍ لتنافر قطراته، فقط كانت برودة مأوى (الرشيد) تخالط غيماتها العاليات فتحدث وهم مطر!

في ساحة الاحتفالات الكبرى هناك،

في حين أثقل المطر الغزير كعادته أرصفة عمّان و بلل مراييل براءة طفلاتنا على طول ماركا-المطار حيث اصطفت بناتنا وأبناؤنا منذ ظهر ذلك اليوم لاستقبال (الشهم الحكيم) سيد الملوك، (وأعزهم قبيلا) .. الحسين..العائد بسلة من فرح عقب احتفاله بتدشين مجلس التعاون العربي ذلك المساء.

وقع ذلك في السادس عشر من شباط في شتوة من شتاءات عمان عام 1989، تلك الشتوة التي جمعت (الحسين وصدام ومبارك وعلي عبدالله صالح).

في ذلك الاحتفال العراقي المليوني المنضبط من (لمعة) عيون الحرس الجمهوري التي كانت (تقدح شرراً كالقصر كأنه جمالةٌ صفر) حتى توزيع حبة موز من مخابرات النظام العراقي مكافأة لكل عراقي وعراقية شاركوا في ذلك الاحتفال.

إذ ذاك..

استعار (صدام حسين) رحمه الله كل شيء من الحكم الهاشمي التليد في بغداد، فارتدى في ذلك الاحتفال (الفيصلية)- شعار فيصل الأول.

وكان حنين صدام حسين إلى عصر الملوك الشرعيين قد أخذه إلى كرم مثل كرمهم، وحباً للعرب أتقنه بضراوةٍ مثل حبهم، وسمو همة وعلو شأن أسوة بهم، ووقف في وجه العدا بفروسية استمد صوفيتها من تضحية الشريف الحسين بمُلكه، لم يهن و لم يرمش حين تعلق ذلك باستحقاق لصالح الأمة و صدٍ للطامعين بأحلامها.

شيءٌ واحد فات ذلك الفارس، لم يظفر به وهو بعض صبرٍ و ضبط غرائز و فيض تسامح لأن عنف العراقيين النبلاء فيما يبدو لم يمنحوه فرصة للظفر بتلك السجايا والخصال.

وقف الحسين،،

ذلك المُبَرْقِع لذكائه حد الدهشة، بمهارة كي لا يستفز أي (آخر).. كيف كان بقادرٍ ذاك المليك من أن يبث ونسته فيك و طرد الوحشة عنك، و تنحية مهابته جانباً و ينسيك أنك تجالس أو ترى سبط الرسول صلى الله عليه و سلم بين يديك، كأنه مثلك! تلك الحشمة النبوية التي ورثها مضمخة، مجبولة بالوعد الإلهي: (أدبني ربي فأحسن تأديبي) ، كأن كل ذلك لم يخلق إلا له.

أبو عبدالله، يرحمه الله، حييٌ في خلقه كان.. مثل الثلج الذي يوشك على الذوبان رقة و نعومة ملمس.

وحده كان يتابع القوافي والمغازي و السيّر، وحده من كان يرسل الاشارات و الارشادات للأمة و لا ينسى جراحها.

كان زهوه في ميلاد مجلس التعاون العربي يجمع برقاً مثل عزته و يغضي حياءً بفرحته خشيةً عليه.

قدمه صدام لمنصة الخطاب في ذلك اليوم البغدادي المهيب المنقوع في العروبة، خشع القوم له خشوع التائبين و كأنهم تذكروا فجأة الفاحشة التي أُقترفت في (الرحاب) قبل واحد و ثلاثين سنة.

بكينا من مهابته ومن حزنه ومن شدة احتضان العراق. كنت بجوار عبدالله العتوم وأحمد الدباس يرحمه الله، و همهم عبدالله أبا علي، دامعاً: لِمَ تبكي!؟

قلتُ له في يقين التابعين، القانتين لله سبحانه و تعالى، المؤمنين بآل هاشم حتى قيام الساعة : ألم تر كيف (عشّق) الحسين الكوفية الحمراء هدباً من تحت العقال، و دلى جدائلها معقوفةً صوب ذلك النور (وجهه)!؟

وربما أنني أكملت: كأنه الآن يسامح العراقيين بدم الهواشم.

هذا لبس الفرح الهاشمي للكوفية والعقال في احتفالات بغداد ما قبل مجزرة الرحاب البشعة عام 1958، وهل هنالك مجزرة غير بشعة؟ بعد واحد و ثلاثين سنة عاد لهم الحفيد السِّبط عبر دروب الحب والتسامح ولتسامي عن الثارات، فاستقبلوه بالقلب و بالدمع.

كيف يفتدى الدم بالحب؟ هذا هو أول حروف الأردنية..

لقد اصطبغ ذلك الشماغ الهاشمي بحمرة من وجه الفرح. كم كان ورداً ومتورداً وجه الحسين في الساحة. لست أدري كم منا بقي له ذاكرة ليسترجع تلك الطلة الهاشمية من جديد على باب بغداد العروبة.

مباشرةً من الساحة إلى قاعة التوقيع على ميثاق المجلس توجه الأربعة..

الحسين،،

يرحمه الله الذي ذهب إلى جوار ربه في جنازة القرن، حين أحال الأردن في مماته النبيل و الرزين (مهرجاناً وبساتين حياة ، و خنجراً من حرير تركه لوريثه وديعةً يلمع في وجه الغزاة).

و صدام،،

كان مماته مهانة أمةٍ في يوم عيد الضحية، افتداها واقفاً، و لكن كما قال عباس تشاتشان، العراقي الحائر، أنه بفروسيته قد ارتقى بالمشنقة لتكون (مرجوحة مرجلة). واقفاً كان، شجاعاً ظلّ، و غادر يرحمه الله.

ومبارك،،

حين أثقلت المحنة قوامه انتهى إلى المحاكمة ممدداً، نائماً ، مغمض العينين، تاركاً بهيئته حيرة جديدة لأهل المحروسة، فمنهم من قال إن مبارك يستهزئ بنا حتىو هو يحاكم!؟ و منهم من رثاه و قال: لا يستحق!

وعلي عبدالله صالح..

أحرقوا وجهه بالنار حتى يدرك حتمية التنازل، فكان تنازله نصف قرار، لأن معركته كانت نصف هزيمة و ظلت عيناه ترى.

أربعتهم توجهوا للقاعة..

وبطريقة صدام المليئة بالزهاء و بخفة ظل لم أكن قد استكنهتها بعد، طلب من الرئيس مبارك مداعباً أن يستخدم الأربعة ذات القلم في التوقيع، وأكمل: حتى يكون هالقلم شاهد على اللي (يبوق) توقيعه!

ولم ينتبه أحدٌ أن صدام كان يقرأ الغيب القادم حين اختلف مبارك معهم الثلاثة فيما بعد في محنة (الرواح العراقية إلى الكويت في آب 1990).

ليست أمريكا هي بلد الفرص الكبرى لأنها كبيرة و من الطبيعي أن تعطي فرصاً كبرى، لكن الأردن البلد المحدود في كل شيء هو من يمنح الفرص الكبرى. و بهذا المعنى كنت أقف من خلف مليكي مع نفر من الأردنيين هناك في القاعة ؛ ذلك النفر الذي فُتِح له الباب ليتفيأ بحكمة الملوك بدون تمييز أو محاباة.

كان الحسين للتو أشعل سيجارته عقب توقيعه بذات قلم أبو عدي في اللحظة التي اتجه فيها الرئيس صدام حيث كان يقف الحسين أمامنا.

وقبل أن أذكر ما سأورده، أقول أن ثلاث لحظات عشتها مع ذلك المليك منذ كنت طفلاً عام 1963 حتى أناخ القلب في محراب الشيب. وسأذكر لحظتين ما دمت حياً له و سأغض عن الثالثة حياءً لأنها تخص وسمه لي كاتباً له.

فقد عرفت الحسين طفلاً عام 1963 قبل اصداره العفو الملكي السامي بحق أعمامي قادة الجيش و الطبيب، وعادوا من السجون والمنافي ليبدأوا مشوار الحياة في ظل الدولة الأردنية من جديد.

واللحظة الثانية هي لحظة ما سأرويه لاحقاً في بغداد.

وفي اللحظتين ، أُشهد الله على ما أقول، لم أر فيه – طفلا و ختياراً كنت، إلا ما رأى فيه سماحة الشيخ الثوري أسعد بيوض التميمي، أبو نادر يرحمه الله، ذلك الشيخ الاسلامي المعارض للحكم الأردني على المدى. وأرجو من الأردنيين الذين حضروا ذلك القول وسواه أن يستعيدوه الآن، ذلك أننا أحوج ما نكون إلى أحسن الكلم، كي نوازن بها قبح ظروفنا واهتراء بعض حروفنا.

يوماً ما جاء الشيخ أسعد للقاء (مناصحة) مع الحسين في بسمان العامر، إبان سنوات انقسام الأمة حول النفط و أمريكا و معاهدات العرب مع يهود.

وامتد اللقاء.

وحين غادر أبو نادر سأله مندوب وكالة الأنباء الأردنية- و هو حي يرزق على أي حال و يستطيع أن (يقولها)، لأنه لا خير فيه إن لم يقلها- “كيف كان اللقاء مع سيدنا يا شيخنا؟”

أجاب الشيخ الوقور يرحمه الله بمسؤولية : لقد التمست من ربي سبحانه قبل الدخول إليه أن أنصحه بالحق، و توجهت إلى الله مستجيراً بدعاء (اللهم أنزع هيبته من قلبي لأقول له الحق). و أكل الشيخ الوقور:

“خرجت بعد أن تيقنت أن هذا الملك هو حقاً حفيد المصطفى صلى الله عليه و سلم بعفة لسانه و تسامحه و حيائه و تفانيه في خدمة أمته.”

أعود للحظة الأولى،،

كانت هناك في سلفيت مدينة في مغاريب نابلس حين كانت المملكة الأردنية الهاشمية ثلاثة ضفاف: الشرقية و الغربية و الثالثة، أهمها، كنا (ملاذ العرب و دعاة الصلح بينهم).

قبل أن نخذل بعضنا بعضاً كنا أمةً في وطن، كنا ملاذ أمةٍ في وطنٍ بمعنى أدق.

عام 1963 هفهفت طائرته من فوق رؤوسنا و كانت زيارة (الحسين) إلى هناك في (سلفيت) إلى عشيرتين: آل الزير في (سلفيت) و كان أغلبهم شيوعيين، و آل سلامة في (بديا) و كانوا في معظمهم بعثيين و قوميين.

ربما أنه عودة الله المحادين متعه الله بالصحة و طول العمر، الذي كان مسؤولاً أول في إدارة تلك المنطقة حين شرفنا الحسين، و لهذا أنا بالدم و بالحليب رضعت حب الجنوب لأن أبناء الجنوب فاضوا على وظائفهم الادارية في تلك الأيام رقة و حباً، شأنهم دائماً.

كان كل سادة عشيرتي محكومين بالاعدام، عمي الكبير صالح (الشرع) كان ينتظر تنفيذ حكم الاعدام ضيفاً عزيزاً في القاهرة على جمال عبدالناصر. أيامها كان صدام حسين الفتى البعثي اللاجئ إلى مصر يحظى في منزل عمي أبو كمال مثل رعايته لأبنائه كمال و وليد و ما بينهما.

و عمي صادق (الشرع) رئيس هيئة الأركان يرتدي البدلة الحمراء في سجن المحطة بانتظار التنفيذ.

و عمي الدكتور رفعت عودةأول من زرع القرنية في الأردن و أحضر علم طب العيون منذ منتصف ثلاثينات القرن الماضي من أعرق الجامعات الأوروبية، و كان هو الآخر قد احمرت بدلته في المحطة.

حين هطل الحسين علينا كالمطر، في برْد سلفيت التي كانت تكنّى موسكو الصغرى لكثرة (شيوعيها) و بديا كانت لكثرة (بعثيّها) و لهذا كانت سلفيت دوماً أشد برداً لأنها تحب التداني من موسكو في كل شيئ حتى الطقس.

كان ،،

محامي الأعمام و هو معالي الأستاذ وليد صلاح الذي طلب من عشيرتنا تواقيع التماسات العفو من كل أهل المنطقة لترفع للحسين في الزيارة. و لم يكتف المحامي النبيل بذلك بل وضع خطبة التماس كتبها هو بنفسه و أسند لأحد شجعان العشيرة مهمة المغامرة لإلقائها بين يدي الحسين. و تضمنت الخطبة إذ ذاك نقداً خفياً لبعض إجراءات أطر الدولة و توضيح لبعض ملابسات في القضية وقعت. و كذلك تضمنت التماساً بالعفو.

و لقد حققت جهود العشرات من الناس داخل الدولة من المتعاطفين و خارجها أهداف تلك الخطبة و تمكن أحد شجعان عشيرتنا، عبدالرحيم سلامة-عمي يرحمه الله ، المثول بين يدي الحسين و ألقى خطبته تلك.

أمر الحسين إخلاء الدرب و المنصة لذلك المستجير و أذّن له بالقول.

أتحدث أنا أيها الأهل الأحبة عن قصةٍ وقعت في ستينيات القرن الماضي، كان العالم العربي يزغرد للمشانق و للسحل في الشوارع و للقتل الجماعي و يظن الحكام في العالم العربي أنهم قاب قوسين أو أدنى من الحرية و التقدم. وحده كان الحسين ينصت للمستجير و يراجع المواقف و يخلي الدرب لمن ينشد الوصول إلى الحق و العدل. كان يصنع وطناً يملؤه التسامح و الحرية.

ألقيت الخطبة احتراماً و ولاءً من العشيرة للأردنية الهوية و للهاشمية السلالة و للحسين الحاكم العادل و للعفو التماساً. خطفها الحسين و أودعها كأسراره الكثيرات في جيبه و بطريقته المعهودة وعد بأن الخير قادم إن شاء الله.

أيام كانت تفصلنا فقط عن الرقص و الغناء و اطلاق المشاعل فرحاً بعودة الأعمام. أستنتنج و أقول كان رفعت عودة في أخر أيامه رئيساً للجنة الشعبية في دعم العراق في حربها الضروس ضد إيران و حتى آخر يومٍ في حياته ظل داعماً للرئيس الراحل صدام حسين و لعروبة العراق.

و عاد عمي أبو كمال صالح الشرع ليتولى وزارة الداخلية و الأوقاف إبان حكومة الانقاذ العسكرية في أحداث أيلول سنة سبعين. و تولى العم أبو زياد صادق الشرع ما لا يخطرعلى بال أحد من وظائف الدولة، و اختتمها بوزارتي التموين و الخارجية فيما بعد.

و كل عائلة في الأردن لها ذات القصة أو ما يشبهها، لأدلل على أن روح الأردنية هي روح الحب و التسامي و التسامح و لا يحدث ذلك إلا في الأردن نموذجاً نفسياً عربياً بنسيج الوحدة.

قلت كل ما قلت لأستذكر أيضاً تلك الومضة في عينيّ الحسين، حين وعدت عيناه لحظة انتهاء خطبة الالتماس بالعفو. كان وعده نذراً يوفي وعوده، نذر التسامح الذي علمنا نحن الأردنيين المؤمنين به كيف نسمو على جراحنا و أن نترك الباب مفتوحاً للأخر كي يؤوب إلى رشده بطريقة مشرفة كريمة لأن الأردنيين لديهم قصص مماثلة لما ذكرت، و ما اختياري لها محض عائلية إلا مسعى مني لحث و تشجيع كل أردني و أردنية لاستذكار ما يؤجج فينا الرحمة و العض على الجراح لأننا أحوج ما نكون اليوم فيه لإفشاء ثقافة التسامح و التشبث بقوة الأخلاق لا الترويج لأخلاق القوة، لأننا نحتاج إلى تكريس ثقافة تشكل منعةً لنا و تساعدنا على الاعتراض على ما أسماه الفلاسفة الألمان (ذهنية العصر المهيمنة) و هذا العصر قد ملأته ذهنية الاحتجاج العاصف و إقصاء الآخر و الذبح على الهوية و تعميق روح المذهبيات و الأقلمة و طأفنة المجتمعات.

هذا ما أحب أن ألخصه في لحظة العبرة الأولى منذ طفولتي.

أما اللحظة الثانية في بغداد، و في شباط 1989.

تطلّع الحسين لصدام ، و كنا من خلفه رجاله بعد أن ربانا أطفالاً على هاتيك الأخلاق، بعطفِ الأبِ على ابنه الراشد الفارس صدام حسين.. تطلّع الحسين إليه، ماداً نظره، مباهياً الدنيا به. قال الحسين لصدام و نحن نصيخ السمع بمهابة التابع رغم حرصه رحمه الله أن يسمعنا ما أراد قوله: يا أبو عدي، الله يرضى عليك، اسمعني، ها قد أكرمنا الله سبحانه بانتهاء تلك الحرب البغيضة المدمرة ( و كان يشير إلى انتهاء الحرب العراقية الايرانية قبل قرابة العام).. و أكمل يرحمه الله: “و الآن و نحن نتجه إلى البناء و التطلع لتحقيق مصلحة الأمة، أقترح عليك أن تبدأ ديمقراطية هنا بالتدريج للأهل في العراق تتيح للناس من خلالها يا أبو عدي التعبير و المشاركة. و إذا ترى، نرتب اجتماع مع بعض الإخوة. (و ذكر يرحمه الله الخوئي و د.علاوي و طالباني و الحكيم و الصدر) و نحقق مصالحة تعم فوائدها على الجميع إن شاء الله.”

كان إخلاص سيدنا لإجراء مصالحة في العراق حد التوسل كي تتحقق. و رد أبو عدي يرحمه الله: “أبو عبدالله، تحـچي (باللفظ العراقي) عن الديمقراطية هنانا بالعراق؟”

فأجابه سيدنا بملاعبة: ” اه هنانا!” و ابتسم.. رد صدام:” ما راح يصير ديمقراطية هنانا في العراق..صعبة أبو عبدالله”

انكسر حماس سيدنا و قال: “لا حول و لا قوة إلا بالله.”

لم يأن الأوان بعد لدراسة التجربة العراقية بعد في الصورتين، (البعثية) و تجربة (الديمقراطية الأمريكية) في العراق ؛ لكن المتفق عليه فيما يبدو أن التجربتين، فيهما خطايا، مست العراق دون قدرة أحد أن ينحاز في المطلق لأي منهما. لكن ثمة حقائق، و من دون إطلاق غرائزنا في التحليل، لا بد من استيعابها قبل أن ألج إلى صلب قضية جنون حراس السفارة العراقية في عمّان و ضرورة التروي و الرد بالعقل الأردني الذي يستند إلى كل ما ذكرت تجاه بغداد.

لست معنياً أيها الأحبة بالجنون العراقي و لا بالضياع الليبي و لا بالفوضى المصرية العارمة و لا بالتدمير الذاتي في سوريا، لكني معني هنا مشاركتكم الرأي لمحاولة تخطي ما وقع من حمق في المركز الثقافي الملكي، فأقول: لأننا لسنا مثلهم و حتى لا نصير مثلهم (و لا أقصد بهذا المعنى العراق الشقيق و الأهل منهم، بل الذين أخطأوا منهم و يخطئون) و حتى لا يدركنا ما أدركوه من مصاعب ألتمس منكم العض على الجرح الأردني و التمسك بالأردنية العذبة.

الأردنية ،،

ليست جغرافيا و حسب..الأردنية خلق القبائل التي تحمي الذي يلوذ بها و لو كان قاتلاً، و ذلك سر قوتنا.

الأردنية ،،

سلوك زعل كنيعان الفايز رحمه الله، ذلك الكبير الذي ترك لنا وسماً على جباهنا حين أجار قاتل حفيده و لم يعرف أنه القاتل و حماه و نصره و طلب منه أن يشاركه دفن حفيده.

الأردنية ،،

ملاذ العرب بدون منة، قبل أن يصبح بعض كتابنا و مفكرينا صدى بنظرياتهم الجديدة لتأثرهم بدموية الجوار و فئويته.

الأردنية،،

دم إبراهيم هاشم و سليمان طوقان و افتداء هزاع لوطن و تحدي وصفي بدمه للعدا.

الأردنية ،،

دم الشهيد الكبير على بوابات الأقصى الذي صنع الأردن ليس هلالاً مذهبياً بل الأردن، يجمع أهلّة الأمة كلها وضاءةً مثل سماحة عمامته البيضاء من غير سوء..هذا هو القمر الهاشمي الذي يفتح الباب للرحمة و الرجعة و التوبة وصية و أمراً نحن له صادعين، موسيقى وطن تزف أمر الشهيد المؤسس عبدالله و نحن له مذعنون.

الأردنية،،

الأقصى و القيامة و بيت لحم و مادبا و عجلون و إربد و الطفيلة و قلعة الكرك و حويطات العز و السلط الأبية، فإن نحن أطلقنا غرائزنا و صرنا مثلهم فما هي مزايانا؟ ( و أقصد مثلهم الخطائون من الإخوة العرب)

بعض عراقيين ضرب زياد النجداوي في عمّان لأنه هتف لصدام حسين. و من قبل زياد، بعض عراقيين ذبحوا آل هاشم بدمٍ بارد و أعدموا صدام في يوم عيد و هجّروا طارق الهاشمي بحكم اعدامه دون محاكمة. ميزتنا أن لا نرد على بعض هؤلاء فلا نصير مثلهم.

الأردنية ،،

حالة فكرية صنعها العرب بإيمانهم كلهم متضامنين متشاركين و مجمعين على قيادة الهاشميين للرد على ذهنية العصر على مدار المائة سنة الفائتة، إذ كانت سمتها المد الثوري الشيوعي و كان نقيضها الوقوف في وجود المد الشيوعي،، و في الحالتين كنا ضحايا.

و بقي لنا مائة سنة أخرى نضطر أن نتعايش فيها على حد شفرتين: المد الأصولي الديني المتطرف و الرد على الأصولية الدينية بتطرف أشد. و في الحالين علينا أن نصمد كما صمدنا في المائة سنة الماضية ليظل أملٌ في الأمة أن الفرج قادم بالصبر و بالحكمة و بالتروي.

التطرف الديني بدأ مع الحروب الصليبية، أخذوا منا و أخذنا منهم، و كانت الأذية مشتركة و إن لم تتساوى في النتائج، على حد تعبير أمين معلوف.

و إن كنا نفاخر اليوم بتوصيل أمريكا قمة الديقراطية حين حل أوباما الأسمر لقيادة بيتها الأبيض لأول مرة، فإن الاسلام و العرب قد سبقوا الغرب إلى هذا السمو في التسامح. ارجعوا و اقرأوا محاكمة التاريخي حين عقل بلال الأثيوبي الحبشي، و هو أسمر أيضاً، أعظم قائد عسكري عربي في التاريخ خالد بن الوليد المخزومي..حين عقله بعمامته و حاكمه أمام جيشه في حمص بالقرب من بابّا عمرو. فقط اقرأوا المسافة بين تلك الحادثة المجيدة و بين حروب الردة في حمص اليوم. هذا الذي يلزمنا التسامح.

نحمد الله على نعمائه أن هيأ لنا من آل البيت حكاماً. لا يجوز لنا أن نشتم أحباب آل البيت، شيعة كانوا أم سنة، و نصفهم بصفات أضحت عملة دارجة في سوق النخاسة الفكرية. ثمة لغة ليست لنا و ليست من تاريخنا. هؤلاء شيعة آل بيت رسول الله و نحن أولى بهم. و لا يجوز أن نشتم العراق، فالعراق ظهرنا و ظهيرنا و إن أخطأ بعض العراقِ و أخطأ بعض سوريا و أخطأ بعض مصر، فذلك يدعونا إلى التمسك بالصواب أكثر و أن نكافح لتعميم منظومة أخلاقنا الوطنية و أن نروج لمعاني الصبر و الحكمة و أن لا نطلق غرائزنا على سجاياها لأن أول الحرب كلام و أول السقوط شتائم.. (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ )

أمس بمحض المصادفة فرغت من قراءة كتاب خلخل الكثير من المفاهيم لدي بعنوان (الشاه و أنا) و هو يوثق لمذكراتوزير بلاط الشاه لسبع و عشرين سنة و اسمه أسد الله علم،، اقرأوه أيها الأردنيون لتقفوا على أن الغطرسة و العلو و الكبّر صفات (الشاه) على مدار ثمانمائة صفحة لتستنجوا أن أخلاق الهاشميين الذين وصمهم شاه إيران في إحدى مواقفه (بالضعف و المسكنة).. و كان يرى في أخلاق الحسين ضعفاً و كان يرى الملك جبروتاً و تحكماً و تسلطاً، ثم تذكروا كيف و أين مات الشاه و أين هو الحسين.

و من إحدى الطرائف ما يقوله شاه إيران لزوجته فرح ديبا قبل إعادة تنصيب خوان كارلوس على عرش أسبانيا، ناصحاً العائلة البهلوية أن لا تكون مثل الحسين في الأردن الذي سيفقد عرشه قريباً بسبب تسامحه و ترفعه و مسامحته لأعدائه.. و من بقي عرشه؟ و من مات عن عرشه بعيداً؟

التواضع و الحلم هما ما يوجب أن نصرف الاهتمام إليهما. ذهنية العصر مستبدة و قاتلة و ظالمة و دججت بالعنف.. حتى مصر المحروسة جعلت منها نزهة العنف اليومية قلقة و حائرة و خائفة. نحتاج إلى هدوء في انفعالاتنا حنى نبقى للأمة أملاً. نحتاج إلى اعانة سيدنا الملك عبدالله حتى نعطيه فرصة لحمايتنا، و أعني الكلمة بكامل المسؤولية (لحمايتنا).

و أول ما يحتاجه سيدنا الملك في هذه اللحظة هو تحويل نزهة العنف الأردنية كلما استجدت مناسبة لذلك إلى نزهة من هدوء للتفكير و إلى ترو و هدوء في المواقف.

إن من يرصد المطالب الشعبية في المملكة من بعيد يحس أحياناً بالرعب و الخوف وكأننا في ليبيا و ليس الأردن. ثمة سبع طلبات لإغلاق أبواب سفارات في أقل من سنة. ليس من الجائز هذا الاستمرار فيه.

و على المسؤولين المحليين أن ينتبهوا لدورهم في التدقيق و النظر في القضايا الحساسة و عدم السماح لها بأن تكون في مجتمعنا مادة للتوتير، فما لنا و ما للمقابر الجماعية!؟

أما أنت يا زياد ..

فإن ما أوذيت به هو شرف لكل أردني و أردنية حين ننجح في أن نكون من الكاظمين الغيظ. شرفٌ لنا أن ضيوفنا يعتقدون أنهم قادرون على ضربنا في بيتنا و يطبقون المثل الشعبي عندنا ((مثل مجنون دشع على بلد)). و نحن يا زياد و إخوانك معك قادرون على أن نضربهم فوق ما ضربوا و أن نؤذيهم أضعاف ما آذوا،، حين ذاك نصير مثل المخطئين منهم.

أيها الأردنيون ردوا على الإساءة بالحب و لست بأكرم يا زياد من النبي العربي الهاشمي محمد صلى الله عليه و سلم الذي قال و هو يستعرض دمه المسفوح من أجداد أولئك الذي ضربوك في الطائف، لم يشتم و لم يغضب بل قال: (( إني لم أبعث لعاناً، و لكني بُعثت هادياً و رحمة))

بهذا الهدى و هذه الرحمة أدركت دعوة محمد الصين و أوروبا و الأمريكتين.

إن أردنيتنا واجبها أن تبقى الاعتراض على جنون المرحلة و النقيض لاستدماء المرحلة.

و بعد،،

الاحترام لبشار سرحان الذي غنى قبلنا كلنا للأردنية هاتفاً:

“يا الأردنية..ربعك نشامى!”

و النشامى هم الذين إذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما..

و سلامٌ عليك يا زياد النجداوي.. و سلام عليك يا ختاتنة.. و سلام على أردن السكينة و الخلق و بالحب الهاشمي نقول: فليخسئ الخاسئون!

أحمد سلامة - المنامة


المواضيع المتشابهه: