كمال التشريع الإسلامى وشموله

إن الايمان بالشريعة الاسلامية ، على أنها شريعة كاملة ، ليس مجرد أمانى أو تصورات، إنما هو الايمان الحق القائم ، على قوله تعالى ""اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً"

وهذا الايمان بكمال الشريعة الاسلامية يقتضى أن يقابله ، العمل الكامل بمنهج الشريعة. لان الإيمان وحده لا يكفى ،بل يجب أن يقترن دائما بالعمل ،وبالعمل الصالح وحده ،ولولاهما ما كان للحياة معنى ولا مغزى ، ولقد جاءت الشريعة الاسلاميه لرفع الحرج والضيق عن الناس ودفع الضرر ،وتحقيق مصالح العباد ،ولتحل لهم الطيبات ،وتحرم عليهم الخبائث ،وتضع عنهم اصرهم والأغلال التى كانت عليهم..... ولتصلح شؤنهم فى العاجل والآجل" وقد أكد ذلك بحق : الامام ابن القيم صاحب اعلام الموقعين ، بقولة " إن الشريعة الباهرة التى فى أعلى رتب المصالح ،مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد فى المعاش والمعاد .
وهى: عدل كلها ومصالح كلها وحكمة كلها ، فكل مسألة خرجت عن العدل للجور ،وعن الحمة الى ضدها ،وعن المصلحة الى المفسده ،وعن الحكمة الى العبث ،فليست من الشريعة ،وإن ادخلت فيها بالتأويل . فالشريعة - الكلام مازال لامام ابن القيم -عدل الله بين عباده ورحمته بين خلقه وظله فى أرضه ورحمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم اتم دلاله وأصدقها، وهى : نوره الذى أبصر به المبصرون ،وهداه الذى اهتدى به المهتدون ،وشفاؤه التام الذى به دواء كل عليل ،وطريقه المستقيم الذى من استقام عليه فقد استقام على سواء السبيل . ويقول العز بن عبد السلام : "التكاليف كلها راجعة الى مصالح العباد فى دنياهم واخراهم ،والله غنى عن عباده الكل ،لا تنفعه عبادة الطائعين ولا تضره معصية العاصين" ويقول أيضاً "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ الْإِنْسَ وَالْجِنَّ لِيُكَلِّفَهُمْ أَنْ يُوَحِّدُوهُ وَيَعْبُدُوهُ، وَيُقَدِّسُوهُ وَيُمَجِّدُوهُ وَيَشْكُرُوهُ وَلَا يَكْفُرُوهُ، وَيُطِيعُوهُ وَلَا يَعْصُوهُ، وَأَرْسَلَ إلَيْهِمْ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيُعَزِّرُوهُ وَيُوَقِّرُوهُ وَيُطِيعُوهُ وَيَنْصُرُوهُ؛ فَأَمَرَهُمْ عَلَى لِسَانِهِ بِكُلِّ بِرٍّ وَإِحْسَانٍ، وَزَجَرَهُمْ عَلَى لِسَانِهِ عَنْ كُلِّ إثْمٍ وَطُغْيَانٍ وَكَذَلِكَ أَمَرَهُمْ بِالْمُعَاوَنَةِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَنَهَاهُمْ عَنْ الْمُعَاوَنَةِ عَلَى الْإِثْمِ وَالطَّغْوَى. وَحَثَّهُمْ عَلَى الِاقْتِدَاءِ وَالِاتِّبَاعِ، كَمَا زَجَرَهُمْ عَنْ الِاخْتِلَافِ وَالِابْتِدَاعِ.وَكَذَلِك أَمَرَ عِبَادَهُ بِكُلِّ خَيْرٍ؛ وَاجِبٍ أَوْ مَنْدُوبٍ، وَوَعَدَهُمْ بِالثَّوَابِ عَلَى قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ بِقَوْلِهِ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} الزلزلة: 7 .وَنَهَاهُمْ عَنْ كُلِّ شَرٍّ مُحَرَّمٍ أَوْ مَكْرُوهٍ، وَتَوَعَّدَهُمْ بِالْعِقَابِ عَلَى مَحْظُورٍ جَلِيلِهِ وَحَقِيرِهِ بِقَوْلِهِ: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} الزلزلة: 8 ، وَبِقَوْلِهِ: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} الأنبياء: 47 .
وَكَذَلِكَ أَمَرَهُمْ بِتَحْصِيلِ مَصَالِحِ إجَابَتِهِ وَطَاعَتِهِ، وَدَرْءِ مَفَاسِدِ مَعْصِيَتِهِ وَمُخَالَفَتِهِ؛ إحْسَانًا إلَيْهِمْ، وَإِنْعَامًا عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُ غَنِيٌّ عَنْ طَاعَتِهِمْ وَعِبَادَتِهِمْ. فَعَرَّفَهُمْ مَا فِيهِ رُشْدُهُمْ وَمَصَالِحُهُمْ لِيَفْعَلُوهُ، وَمَا فِيهِ غَيُّهُمْ وَمَفَاسِدُهُمْ لِيَجْتَنِبُوهُ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الشَّيْطَانَ عَدُوٌّ لَهُمْ لِيُعَادُوهُ وَيُخَالِفُوهُ، فَرَتَّبَ مَصَالِحَ الدَّارَيْنِ عَلَى طَاعَتِهِ وَاجْتِنَابِ مَعْصِيَتِهِ، فَأَنْزَلَ الْكُتُبَ بِالْأَمْرِ وَالزَّجْرِ وَالْوَعْدِ الْوَعِيدِ، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَصْلَحَهُمْ بِدُونِ ذَلِكَ؛ وَلَكِنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيْحُكُمْ مَا يُرِيدُ، وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ. ويقول الامام الشاطبى فى موافقاته"إن وضع الشرائع انما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معا" ويقول حجة الإسلام أبو حامد الغزالى في "مستصفاه" :"ومقصود الشرع من الخلق خمسة هو أن يحفظ عليهم دينهم ، وأنفسهم ،وعقلهم ، ونسلهم ،ومالهم . فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهومصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة ، وهذه الأصول الخمسة حفظها واقع في مرتبة الضروريات ، في أقوى المراتب في المصالح ............." ويقول ابن عقيل " السياسة هى مجموعة التدابير التى تحقق مصالح الناس تلك التدابير تتغير بتغير الزمان والمكان وظروف الحال والغاية المنشودة هى تحقيق العدل ورعاية مصالح العباد فأى فعل يحقق هذه الغاية ، فهو من السياسة الشرعية "
كلمة يجب أن تقال : إن الإسلام ليس مجرد دين (شعائر وعبادات) بل هو في جوهره شريعة وعقيدة ،ولا يجوز شرعا أو عقلا الفصل في الدين الإسلامي بين الشريعة والعقيدة ،ذلك لأن مثل هذا الفصل يعنى تناقضا في حياة المسلم ، إذ كيف تصبح حياته العملية محكومة بنظام مغاير لما يعتقد ويؤمن به ، في حين أن الإسلام يقوم على إيمان صادق وعمل صالح . وليس من العقل في شيء أن نفصل بين الجانب الروحي للمسلم وبين الجانب المادي لديه. ويمتاز الدين الإسلامى بأنه دين ودولة ، وقد أرسل النبى - صلى الله عليه وسلم - لا لتأسيس دين فحسب بل لبناء قواعد دولة تتناول شؤن الدنيا ، فهو بهذا الإعتبار مؤسس : الحكومة الإسلامية كما أنه نبى المسلمين . وهو لكونه مؤسس الحكومة الإسلامية ،كانت له الولاية على كل من كان خاضعا لهذه الحكومة ،سواء كان مسلما أو غير مسلم . وبوصف كونه نبيا لم يكن يجبر غير المسلمين – من الذين استمروا على دينهم القديم- على الإعتراف بنبوته ، مع أن دعوته شاملة لجميع البشر . الدين والدولة فى الإسلام شيئان مجتمعان غير أن التمييز بينهما له أهمية كبيرة ،وهذا ما فطن له الفقهاء فقسموا أبواب الفقه الى عبادات(المسأئل الدينية) ومعاملات (الدولة). مسائل العبادات تلك التى تنظر فى علاقة العبد بخالقه وهى مسائل لا يجوز عليها التبديل والتحويل .
أما المعاملات فهى قابلة للتطور والنظر فيها يكون نظر مصلحة وتدبير ،ولذلك جعلت محلا للإجتهاد والمشورة ، وقد يتبدل الحكم فيها من زمان إلى زمان ،ومن مكان لإخر وفقا لما تقتضيه حاجة الناس تحقيقا لرفع الحرج والضيق عنهم. وبذلك فرق الفقهاء بين المسائل الدينية والقانون بمعناه الحديث ،ولتكون أبواب الفقه الخاصة بالمعاملات هى الدائرة القانونية للمسلمين . وهى فقط التى تكون دراستها قائمة على المصلحة وخاضعة لحكم العقل و قابلة للتطور مع الزمان والمكان تبعا لما تقتضيه الظروف . وما نظرية الناسخ والمنسوخ فى القرآن ،والتحريم التدريجى لبعض الأشياء ،وإختلاف المذاهب الفقهية ،وإختلاف الأئمة إلا أثرا من آثار هذا التطور الذى اقتضته المصلحة المصلحة العامة. فإذا تبين في وقت من الأوقات أن نوعا من المعاملات لا يحقق مصالح العباد فإن الاجتهاد يستطيع تغيير الحكم .

المواضيع المتشابهه: