بحث كامل عن علم المواريث

الحمد لله ، قدَّر المواريث في كتابه ، فأعطى كلَّ ذي حقٍّ حقَّه . وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، فرض المواريث بعلمه ، وقسَّمها بين أهلها بحسب ما تقتضيه حكمته .?وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله ، أمر بتنفيذ المواريث وفق ما شرعه ربُّه . صلى الله?عليه وعلى آله وصحبه وحزبه .

وبعــد : فقد استعنتُ بالله تعالى على تأليف كتاب في علم الفرائض ، أتعرَّض فيه لأهمّ المباحث الفرضيَّة ، موضِّحاً ذلك بحلّ جملة من المسائل الحسابيّة?، مع التزامي بالاختصار ، والبُعد ـ ما أمكن ـ عن الأمور الخلافيَّة ، راجياً مولاي جلّ وعلا أن يتقبَّله بقبول حسن ، وأن ينفع به طلبة العلم ، وأن يجعله في موازين حسناتي يوم ألقاه . إنَّه بالإجابة جدير ، وكلّ مستصعبٍ عليه يسير .

وقد قسمته إلى مقدِّمات ، ومباحث .

المقدمات

أولاً ـ نبذة موجزة عن مشروعية الإرث في الإسلام

فرض الله جلّ وعلا المواريث بحكمته وعلمه ، وقسمها بين أهلها أحسن قسم وأتمَّه ؛ فجاءت آيات المواريث شاملةً لكلّ ما يُمكن وقوعه .

وكذا رسوله r بيَّن ما أُنزل إليه من ربِّه أتمَّ بيان ، وأمر بإلحاق الفرائض بأهلها ، سواء منهم الإناث والذكران .

وقد كان أهل الجاهلية في جاهليتهم لا يُورّثون النساء ولا الصبيان ، فأبطل الله حكمهم المبني على الجهل والطغيان ، وجعل الإناث يُشاركن الذكور بحسب ما تقتضيه حاجتهنّ ؛ فجعل للمرأة نصف ما للرجل من جنسها دون زيادة ولا نقصان ، ولم يحرمها كما فعل أهل الجاهلية ، ولا سوَّاها بالرجل كما فعل بعض من انحرف عن مقتضى العقل والفطرة السوية ؛ فقال عزّ من قائل : ) آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيُّهم أقرب لكم نفعاً فريضة من الله إنَّ الله كان عليماً حكيماً( [النساء : 11] ، وقال في آية أُخرى : ) وصيةً من الله والله عليم حليم * تلك حدود الله ومن يُطع الله ورسوله يُدخله جنَّات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم * ومن يعص الله ورسوله ويتعدّ حدوده يُدخله ناراً خالداً فيها وله عذابٌ مهين ( [النساء : 12-14] ، وقال في آية ثالثة : ) يُبيِّن الله لكم أن تضلُّوا والله بكلّ شيءٍ عليمٌ( [النساء : 176] .

" فبيَّن الله تعالى أنَّه فرض المواريث بحسب علمه وما تقتضيه حكمته ، وأنَّ ذلك فرضٌ منه لازمٌ لا يحلّ تجاوزه ولا النقص منه ، ووعد من أطاعه في هذه الحدود وتمشّى فيها على ما حدَّه وفرضه جنَّاتٍ تجري من تحتها الأنهار خالداً فيها مع الذين أنعم الله عليهم من النبيِّين والصديقين والشهداء والصالحين ، وتوعَّد من خالفه وتعدَّى حدوده بأن يُدخله ناراً خالداً فيها وله عذابٌ مهينٌ . كما امتنّ بفضله علينا بالبيان التامّ حتى لا نضلّ ولا نهلك ، فلله الحمد رب العالمين " .

فالشريعة الإسلامية ـ إذاً ـ قد وضعت نظام التوريث على أحسن النظم المالية . والقرآن الكريم بيَّن أحكـام المواريث ، وأحوال كلّ وارث بياناً شاملاً شافياً ، لا يدع مجالاً لأحدٍ من البشر أن يقسم أو يُحدِّد شيئاً من ذلك .

ثانياً ـ حكمة مشروعية الإرث

الإنسان في هذه الحياة أكرم مخلوقاتها ، وهو مستخلف في الأرض ، ومحتاج إلى ما يضمن له بقاء هذا الاستخلاف .

والمال وسيلة لتحقيق ذلك ، يحتاج إليه الإنسان ما دام على قيد الحياة ، فإذا مات انقطعت حاجتـه ، فكـان من الضروري أن يخلفه في ماله مالكٌ جديدٌ . فلو جُعل ذلك المالك الجديد أولَ شخص يحوز المال ويستولي عليه ، لأدَّى هذا إلى التشاحن والتنازع بين الناس ، وتغدو الملكية حينها تابعة للقوة والبطش .

من أجـل ذلك جعلت الشريعة المالَ لأقارب الميت ، كي يطمئنّ الناس على مصير أموالهم ؛ إذ هم مجبولون على إيصال النفع لمن تربطهم بهم رابطة قوية من قرابة أو سبب .

فـإذا مات الشخص ، وترك مالاً ، فإنّ الإسلام يجعل هذا المال مقسَّماً على قرابته ؛ الأقرب فالأقرب ، ممن يُعتبر شخصه امتداداً في الوجود لشخص الميت ؛ كالأولاد ، والأب ، ومن يليهما في درجة القرابة .

الحكمة في تفضيل الذكر على الأنثى في الميراث

قد يتساءل البعض عن الحكمة التي لأجلها يُعطى الذكر من الميراث أكثر ممّا تُعطاه الأنثى ، والجواب على هذا التساؤل يظهر بتأمّل وظيفة كلّ من الذكر والأنثى في الحياة ؛

(1)- فالذكر أحوج إلى المال من الأنثى ؛ إذ الرجال قوّامون على النساء ، والمرأة مكفيَّة المؤنة والحاجة ؛ فنفقتها واجبة على ابنها ، أو أبيها ، أو أخيها ، أو غيرهم من قرابتها . والقائم على غيره ، المنفِق مالِه عليه ، مترقِّبٌ للنقص دائماً ، ومكفيُّ المؤنة والحاجة يترقَّب الزيادة دائماً . والحكمة في إيثار مترقِّب النقص على مترقِّب الزيادة جبراً لنقصه المترقب ظاهرة جداً .

(2)- المرأة لا تُكلَّف بالإنفاق على أحد ، بخلاف الرجل ؛ فإنَّه مكلَّف بالإنفاق على الأهل والأقرباء وغيرهم ممَّن تجب عليه نفقتهم .

(3)- الرجل يدفع مهراً لزوجته ، ويُكلَّف بنفقة السكن ، والمطعم ، والملبس لزوجه وأولاده . وكذا أجور التعليم ، وتكاليف العلاج ، وثمن الدواء ، وغير ذلك ممَّا يدفعه الرجل دون المرأة .

فحين كانت النفقات عليه أكثر ، والالتزامات عليه أكبر ، استحق أن يكون نصيبه أكثر وأوفر .

وهكذا لا تجد المرأة نفسها في حاجة إلى المال في نظام الإسلام ؛ فما تأخذه من نصيبها في الميراث ، ومهرها من الزوج ، يكون مالاً محفوظاً لا يتعرَّض للنقصان .

ولذا كان من الطبيعي أن تأخذ نصف نصيب الرجل . بل إنّ في إعطائها هذه النسبة ـ وهي لا تكلَّف بتكاليف مادية ـ محاباة لها على الرجل ، يقصد الإسلام من وراء ذلك إكرامها ، وإعزازها ، وصيانتها من الفاقة والحرمان .

ثالثاً ـ بيان الأسس الشرعية التي يقوم عليها فقه المواريث ،

وتميُّز الإسلام عن غيره في ذلك

يقوم نظام الإرث في الشريعة الإسلامية ، على مجموعة من الأسس ، يتميَّز بها عن سائر الأنظمة الأخرى . ومن هذه الأسس :

(1)- وقف الإسلام موقفاً وسطاً بين الاشتراكية الشيوعيّة ، وبين الرأسماليّة والمذاهب التي تقول بالحرية الشخصيَّة في التملك ؛ فالاشتراكية الشيوعية ـ كما وضعها كارل ماركس ـ تُنكر مبدأ الإرث وتعتبره ظلماً يتنافى مع مبادئ العدالة ؛ فلا تُعطي أبناء الميت وأقرباءه شيئاً مطلقاً ؛ والرأسمالية وما يُشابهها من المذاهب الاقتصادية تترك مطلق الحرية للمورِّث في التصرف بماله كيف شاء ؛ فله أن يحرم أقرباءه كلَّهم من ميراثه ، ويُوصي به إلى غريب ؛ من صديق أو خادم . وكثيراً ما يُوصي الرجل أو المرأة ـ في المجتمعات الغربية ـ بكلّ ثرواتهم أو بعضها لكلبٍ ، أو قطةٍ ، أو ما أشبه ذلك من الوصايا العجيبة الغريبة .

(2)- الإرث في النظام الإسلاميّ واجبٌ بالنسبة إلى الوارث والمورِّث ؛ فلا يملك المورث أن يمنع أحد ورثته من الإرث . وكذا الوارث يملك نصيبه جبراً من غير اختيارٍ منه ، ولا حكمٍ من قاض ؛ فليس له أن يردّ إرثه ، أو شيئاً منه .

بينما نجد الأنظمة الأخرى لا تُوجب شيئاً من ذلك . بل نجد القانون الفرنسي لا يُثبت الإرث إلاَّ بعد حكم القضاء ؛ فهو اختياريّ عندهم لا إجباريّ .

(3)- النظام الإسلاميّ جعل الميراث في دائرة الأسرة لا يتعدَّاها ؛ فلا بُدّ من نسبٍ صحيحٍ ، أو زوجية ـ والولاء يُشبه صلة النسب ، فكان ملحقاً به ـ . وبذلك لا يرث الولد المتبنَّى، ولا ولد الزنى ، ولا المولود من نكاح باطل أو فاسد. وفي دائرة الأسرة يُفضِّل الإسلام الأقربَ فالأقربَ إلى المتوفّى؛ ممن يُعتبر شخصه امتداداً في الوجود لشخص الميت؛ كالأولاد والأب ومن يليهما في درجة القرابة .

بينما نجد الحال في الأنظمة الأخرى مخالفاً للنظام الإسلامي تماماً ؛

فعنـد اليهود يرث الأولاد الذكور ، ويُعطى للولد البكر نصيب اثنين من إخوته ، دون تفريق بين المولود من نكاح صحيح ، أو غير صحيح . ولا يُحرم الولد البكر من نصيبه بسبب كونه من نكاح غير شرعيّ .

وفي الأنظمة الغربية يمكن للغريب ؛ من صديق ، أو خادم أن يرث ، ويمكن للولد اللقيط ، وولد الزنى أن يرث ، بل يرث عندهم من لا علاقةَ قرابة له بالميت ، بل وحتى الحيوانات كما قدَّمنا .

ذكر الدكتور مصطفى السباعي ـ رحمه الله ـ أنّ أحد الأثرياء في إحدى الدول الغربية كتب في وصيته التي قُرئت بعد موته : أنه ترك كلّ أملاكه ؛ وهي منزل ريفي كامل ، وعقار ، ومكتبه الخاص ، وسيارته ، وخمسين ألف جنيه في البنوك، لسكرتيرته الحسناء، ولم يترك لزوجته قرشاً واحداً، وقال في تلك الوصية : إني لم أترك لزوجتي شيئاً ؛ لأنها كانت سبب شقائي وآلامي المستمرة ، ولا تستحق إلا الفقر والموت ، وإنني أترك كل أموالي لسكرتيرتي التي أحببتها ، وأخلصت لها ، وإليها يرجع الفضل في التغلُّب على نكد زوجتي .

(4)- النظام الإسلامي قدَّر نصيب الوارثين ـ عدا العصبات ـ بالفروض ؛ كالربع ، والثمن ، والسدس ، والنصف ، والثلث ، والثلثان . ولا مثيل لهذا في سائر الأنظمة والشرائع القديمة والحديثة .

(5)- إنَّ توزيع الإرث بالسهام المقدَّرة يؤدّي إلى تفتيت الثروة وتوزيعها ؛ فلا يبقى المال دولةً بين الأغنياء . بخلاف بقية الأنظمة التي تحصر الثروة في شخص واحد قد لا يمتّ للميت بصلة ، وتحرم أقرباءه من أقلّ حقوقهم .

(6)- جعل النظام الإسلاميّ للولد الصغير نصيباً من ميراث أبيه يُساوي نصيب أخيه الكبير ؛ فلم يُفرِّق بين الحمل في بطن أمه ، وبين الولد الكبير في العائلة الكبيرة . كما أنَّ النظام الإسلامي لم يُفرِّق بين الولد البكر وغيره من الأولاد ـ كما هو واقع الحال في شريعة اليهود المحرّفة ، وفي القانون البريطاني ـ ؛ وذلك لأنّ الصغار قد يكونون أحوج إلى مال يصون معيشتهم من إخوانهم الكبار الذين عملوا وجمعوا لأنفسهم ثروة خاصة بهم ، مستقلة عن ثروة أبيهم .

فالولد البكر عند اليهود يأخذ نصيب اثنين من إخوته .

ولقد كان العرب في الجاهلية قبل الإسلام يمنعون الصغير من الذكور ـ فضلاً عن الإناث ـ من إرث أبيه ، ويقولون : لا يُعطى إلا من قاتل ، وحاز الغنيمة .

(7)- جعل النظام الإسلامي للمرأة نصيباً من الإرث ؛ فالأم ، والزوجة ، والبنت ، وبنت الابن ، والأخت ، وأمثالهنّ ، لهنّ نصيبٌ من مال الميت يضمن لهنّ حياة كريمة خالية من هوان الفاقة ، ومذلَّة الفقر .

بخلاف بعض الأنظمة التي حرمت المرأة من ذلك تماماً ؛

فالقانون الفرنسيّ حرم الزوجة من الميراث ، ولم يُعطها شيئاً من ذلك .

والمرأة ـ أماً كانت ، أو زوجة ، أو بنتاً ـ قبل أن تبزغ شمس الإسلام كانت لا تُعطى شيئاً من الإرث، بحجة أنها لا تقاتل، ولا تدافع عن حمى العشيرة . وكـان العـربي يقول : "كيف نعطي المال من لا يركب فرساً ، ولا يحمـل سيفاً، ولا يقاتل عدواً"؛ فكانوا يمنعونهـا من الإرث ، كما يمنعون الوليد الصغير .

وكذا اليهود يُعطى الميراث عندهم للولد الذكر ، فإذا تعدّد الذكور ، كان للولد البكر نصيب اثنين من إخوته . وأما الأنثى فلا ميراث لها عندهم .

(8)- جعل النظام الإسلامي الحاجة أساسَ التفاضل في الميراث ؛ فأبناء الميت أحوج إلى ماله من أبيه ؛ لأنَّ مطالب الحياة قد لا ترهق جدّهم ، كما ترهقهم وهم شباب في مقتبل أعمارهم .

وكذا مطالب الابن الذكر في الحياة ، وفي نظام الإسلام نفسه أكثر من مطالب أخته ؛ فهو الذي يُكلَّف بإعالة نفسه متى بلغ سنّ الرشد ، وهو المكلَّف بدفع المهر لزوجته ، وبنفقة الزوجية ، ونفقة الأولاد ؛ من تعليم ، وتطبيب ، وكساء ، وغير ذلك . ثمّ هو المكلَّف بإعالة أبيه أو أقربائه إذا كانوا فقراء . أمَّــا البنت فلا تكلَّف بشيءٍ من ذلك ؛ فنفقتها على أبيها ما دامت في بيتـه ، ثمّ إذا انتقلت إلى بيت الزوجية كانت نفقتها على زوجها . فإذا فارقت الزوج بطلاق أو موت ، انتقل واجب الإنفاق عليها إلى أبيها ، ثمّ إلى من بعده ، بحسب الترتيب الوارد في نظام النفقات .

رابعاً ـ التعريف بعلم الفرائض والمواريث

الفرائض : جمع فريضة ؛ وهي مأخوذة من الفرض الذي له عدة معان لغوية ؛

منها : التقدير ؛ كما في قوله تعالى : ) وقد فرضتم لهنّ فريضة فنصف ما فرضتم( [البقرة : 137] ؛ أي قدَّرتم .

ومنها : التبيين ؛ كما في قوله تعالى : ) قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم( [التحريم : 2] ؛ أي بيَّن .

ومنها : التنزيل ؛ كما في قوله تعالى : ) إنّ الذي فرض عليك القرآن لرادّك إلى معاد( [القصص : 85] .

ومنها الإحلال ؛ كما في قوله سبحانه : ) ما كان على النبيّ من حرجٍ فيما فرض الله له( [الأحزاب : 38] .

وهـذه المعاني اللغوية كلّها موجودة في الميراث ؛ لأنّ سهام الوارثين فيه مقدَّرة ، قد بيَّنها الله تعالى ، وأنزلها في كتابه ، وأحلَّها للوارثين .

والمواريث : جمع ميراث .

ولفظ ميراث في اللغة مصدر من : وَرِثَ يَرِثُ إِرْثاً وميراثاً .

وهويطلق في اللغة على معنيين ؛ أحدهما : البقاء . ومنه اسم الله تعالى "الوارث" ؛ فإنّ معناه الباقي بعد فناء خلقه .

والمعنى الثاني : انتقـال الشـيء من شخصٍ إلى شخصٍ آخر ، أو من قومٍ إلى قومٍ آخرين ، حسياً كان ؛ كانتقــال المال إلى وارث موجود حقيقة ، أو حكماً ـ كانتقـالـه إلى الحمل قبل ولادتـه ـ ؛ أو معنـويـاً ؛ كانتقال العلم والخلق . ومن ذلك قوله r : "العلماء ورثة الأنبياء" .

فهو أعمّ من أن يكون بالمال ، أو بالعلم ، أو بالمجد والشرف .

والمراد بعلم الفرائض ، أو علم المواريث في الشريعة الإسلامية :

التركة التي خلَّفها الميت وورَّثَهــا غيرَه .

أو استحقاق الإنسان لشيء بعد موت مالكه بسبب مخصوص وشروط مخصوصة .

أو انتقال الملكية من الميت إلى ورثته الأحياء ، سواء كان المتروك مالاً ، أو عقاراً ، أو نحوه .

والميت : مورِّث . وذاك الغير : وارث . والتركة : موروثة .

وعلم المواريث : هو علمٌ بقواعد فقهية وحسابية ، يُتوصَّل بها إلى معرفة الحقوق المتعلقة بالتركة ، ونصيب كل وارث منها . وهو علمٌ مستمدٌ من الكتاب والسنة والإجماع .

خامساً ـ أهمية علم الفرائض ومكانته في الإسلام

لعلم الفرائض مكانةٌ خاصَّةٌ في الإسلام ؛ لما له من علاقة ظاهرة بكل فردٍ في المجتمع .

ومما يدلّك على أهميته من كتاب الله تعالى : أنّ الله عزّ وجلّ تولّى تقدير الفرائض بنفسه ، ولم يُفوَّض ذلك إلى أحدٍ من خلقه ، ووعد من أطاعه في هذه الحدود وتمشّى فيها على ما حدَّه وفرضه جنَّاتٍ تجري من تحتها الأنهار ، وتوعَّد من خالفه وتعدَّى حدوده بأن يُدخله ناراً خالداً فيها وله عذابٌ مهينٌ .

وكذا جاءت السنة المطهرة شارحة لأحكام الميراث ، ومبينة لفضله ؛ فقال r : "ألحقوا الفرائض بأهلها ، فما بقي فهو لأولى رجل ذكر" .

ولقد رغَّب النبيّ r في تعلّم هذا العلم الشريف وتعليمه ؛ كيلا يجهل النّاس نظاماً شديد الصلة بحياتهم العائلية ، وعلائقهم المالية .

فقد أخرج الإمام الترمذي في سننه من حديث أبي هريرة t قال : قال رسول الله r : "تعلَّموا القرآن والفرائض وعلِّموا النَّاس فإنِّي مقبوض" .

وأخرج الإمام ابن ماجه عن أبي هريرة نحوه ، وفيه قوله r : "يا أبا هريرة تعلَّموا الفرائض وعلِّموها فإنه نصف العلم وهو يُنسى، وهو أول شيء يُنزع من أمَّتي" .

وأخرج الإمامان أبو داود ، وابن ماجه في السنن من حديث عبدالله بن عمرو ابن العاص رضي الله عنهما أنه قال : قال رسول الله r : "العلم ثلاثة ، وما سوى ذلك فضل : آية محكمة ، أو سنة قائمة ، أو فريضة عادلة" .

وأخرج الإمام الدارمي في سننه من حديث عبدالله بن مَسْعُودٍ قال : قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ وَعَلِّمُوهُ النَّاسَ تَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ وَعَلِّمُوهُ النَّاسَ تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ وَعَلِّمُوهُ النَّاسَ فَإِنِّي امْرُؤٌ مَقْبُوضٌ وَالْعِلْمُ سَيُقْبَضُ وَتَظْهَرُ الْفِتَنُ حَتَّى يَخْتَلِفَ اثْنَانِ فِي فَرِيضَةٍ لا يَجِدَانِ أَحَدًا يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا" .

ولعلّ من الحكمة في الحثّ على تعلّمه : ما أشار إليه النبيّ r من كونـه يُنسى ؛ إذ هو علمٌ توقيفيّ ، لا مجال للرأي فيه ، فلا بُدّ من أخذه على طريق التلقي .

ولقد اهتمّ سلفُنا الصالح رحمهم الله تعالى بهذا العلم ، وحضُّوا على دراسته وتعلّمه :

فهذا الفاروق عمر t يحثّ على تعلّم هذا العلم بقوله : "تعلَّموا الفرائض فإنَّها من دينكم"

، وبقوله : "تعلَّموا الفرائض واللَّحْنَ والسُّنَن كما تعلَّمون القرآن" .

وكذا حثَّ على تعلّمها عبدالله بن مسعود t بقوله : "تعلَّموا الفرائض والطلاق والحجَّ فإنَّه من دينكم" ، وبقوله : "تعلَّموا القرآن والفرائض ؛ فإنَّه يُوشِك أن يفتقر الرجلُ إلى علمٍ كان يعلمه ، أو يبقى في قومٍ لا يعلمون" ، وبقوله : "من قرأ القرآن فليتعلَّم الفرائض ، فإن لقيه أعرابي قال : يا مهاجر أتقرأ القرآن . فإن قال نعم ، قال : تفرض . فإن قال نعم ، فهو زيادة وخير ، وإن قال لا ، قال : فما فضلك عليَّ يا مهاجر" .

وكذا أبو موسى الأشعري t حثَّ كما حثَّ غيره من الصحابة على تعلّم الفرائض، وشبَّه من علم القرآن ولم يعلم الفرائض بالبرنس الذي لاوجه له ؛ فقال: "من علم القرآن ولم يعلم الفرائض فإنّ مثله مثل البرنس لا وجه له ، أو ليس له وجه" .

وهذا الحثّ والحضّ على تعلّم الفرائض ، كان ديدن السلف رحمهم الله تعالى جميعاً ؛ فقد أخبر عنهم شيخ التابعين الإمام الحسن البصري رحمه الله أنَّهم "كانوا يُرغبون في تعليم القرآن والفرائض والمناسك" .

وهذا يدلّك على أهمية هذا العلم الشريف ومكانته .

وقـد اشتهر من علماء الصحابة بالفرائض عددٌ كثيرٌ ، منهم : زيد بن ثابت ، وعبدالله بن مسعود ، وعبدالله بن عبَّاس ، وعائشة ، وعثمانy .

وكان المبرّز في هذا العلم منهم : زيد بن ثابت t ، الذي شهد له رسول الله r بذلك بقوله : "أرحم أمتي أبو بكر ، وأشدها في دين الله عمر ، وأصدقها حياء عثمان ، وأعلمها بالحلال والحرام معاذ بن جبل ، وأقرؤها لكتاب الله أُبَيّ ، وأعلمها بالفرائض زيد بن ثابت ، ولكل أمة أمين ، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح" ؛ فقد أخبر عليه الصلاة والسلام أنّ زيداً t أعلم أمته بالفرائض .

وكذا كانت الصديقة بنت الصديق ؛ عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها عالمةً بالفرائض ؛ فقد سئل الإمام التابعي مسروق : أكانت عائشة تُحسن الفرائض ، فأجاب : "والذي لا إله غيره ، لقد رأيت الأكابر من أصحاب محمدٍ r يسألونها عن الفرائض" .

وجاء الفقهاء من بعد عصر الصحابة ، وأولوا هذا العلم عناية فائقة ، بدت عند تدوين الفقه الإسلامي ؛ إذ كان باب المواريث من أهم أبوابه وأدق مباحثه . وقد أفرده كثير من المصنفين بمؤلفات مستقلة ، وجعلوه علماً مستقلاً ، وسموه "علم الميراث" ، و"علم الفرائض" ، وسمّوا العالم به : "فرضياً" .

سادساً : مبادئ علم الفرائض العشرة

من المبادئ العشرة التي ينبغي لكلّ من أراد الشروع في علم من العلوم أن يعرفها ، هي : حدّ هذا العلم ، وموضوعه ، وثمرته ، ونسبته إلى غيره ، وواضعه ، واسمه ، واستمداده ، وحكمه ، ومسائله ، وفضله .

فحدّ هذا العلم ـ أي تعريفه ـ قد تقدَّم .

وموضوعه هو : التركات . وثمرته : إيصال ذوي الحقوق حقوقَهم .

ونسبته إلى غيره : كونه من العلوم الشرعية .

وفضله : قد تقدَّم في معرض الحديث عن مكانته .

وواضعه : هو الله سبحانه وتعالى .

واسمه : علم الفرائض ، أو علم المواريث .

وحكمه : تعلمه فرض كفاية ، إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين ، وإن لم يقوموا به أثموا جميعاً .

ومسائله : ما يُذكر في كل باب من أبوابه من تفاصيل المواريث .

ومصادره : الكتاب ، والسنة ، والإجماع .

مصادر علم الفرائض

يستمد علم الفرائض قواعده من ثلاثة مصادر رئيسية :

(1)- القرآن الكريم . ومنه أُخذت أكثر أحكام المواريث ؛ كأحكام الزوج ، والزوجة ، والأب ، والأم ، والبنت ، وغيرهم .

(2)- السنة النبوية . ومنها أُخـذ العديد من أحكام المواريث ؛ كإرث أم الأم ، والأخوات مع البنات ، وغير ذلك .

(3)- الإجماع . كما في توريث أم الأب باجتهاد الفاروق عمر t ، وموافقة الصحابة ، وعليه إجماع المسلمين .

س : هل القياس مصدر من مصادر علم الفرائض ؟

ج : ليس القياس مصدراً من مصادر علم الفرائض . ولم يثبت شيء من أنصباء الورثة بالقياس ؛ لأنه لا مجال للقياس في الأشياء التقديرية ؛ لخفاء وجه الحكمة ـ أحياناً ـ في التخصيص بمقدار دون آخر .

بيان الحقوق المتعلقة بالتركة

سبق أن ذكرنا أنَّ موضوع علم الفرائض ، هي التركة نفسها (جميع ما يتركه الميت) ؛ من حيث تقسيمها ، وتوزيعها .

ولكن ثمَّة حقوق متعلقة بهذه التركة ، لا بُدّ من مراعاتها .

فما هي هذه الحقوق ؟

الأمور المتعلقة بالتركة

الإرث وتوزيعه الوصية الحقوق التي على الميت التجهيز والدفن

حقوق في الذمَّة حقوق عينية

حق للعباد حق لله



الأمور المتعلقة بالتركة :

يتعلَّق بالتركة خمسة حقوق ، لا تنتقل التركة إلى الوارث بدونها ، هي :

(1)- التجهيز : أو ما يُعرف بـ"مؤن التجهيز" ؛ وهي عبارة عن فعل ما يحتاج إليه الميت من وقت وفاته إلى حين دفنه ؛ من نفقات غسله ، وحنوطه ، وكفنه ، وأجور حمَّال ، وحفر قبره ، ونقله من بلد إلى بلد (إذا أوصى بذلك) ، وأجور دفنه ، وكلّ ما يلزم إلى أن يُوضع في قبره .

وكلّ تكاليف الدفن تؤخذ من التركة إن لم يتبرّع واحدٌ بالدفع .

(2)- الحقوق التي على الميت : وهي تنقسم إلى قسمين :

أ ـ حقوق عينيَّة (متعلقة بعين التركة) : مثل : بيت مرهون ، أو عبد جنى جنايةً ( قتل ـ مثلاً ـ ، فعليه دية) ، أو بقرة قد أفسدت زرعاً . وهذه الحقوق يجب سدادها قبل التي في الذمّة ـ بالاتفاق ـ ؛ لأنَّها تمنـع التصرُّف في التركة ، فتكون الملكية ضعيفة . فلا بُدّ من فكّ الحجز ، ودفع الحقوق المتعلقة بعين التركة أولاً .

ب ـ حقوق في الذمَّة : وهي تنقسم إلى قسمين :

= حق لله : كأن يكون عليه زكاة في ماله لم يدفعها ، أو عليه كفَّارات ، أو نذر أن يحجّ ، .. إلخ .

= حقّ للعباد : كالديون التي عليه لعباد الله .

ويجب أن لا يكون هناك دينٌ بستغرق التركة كلها ، فإن وجد دينٌ يستغرق كلّ التركة ، فلا مُلْكيَّة خَلَفيَّة .

س : هل حقّ الله مقدَّمٌ على حقّ العباد في السداد ، أم الأمر على العكس ؟

ج : اختلف الفقهاء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال :

<أ>= الحنفيَّة قالوا : الكفارات جميعها لله سبحانه ، والميت ليس مطالباً بإخراجها ، ولا الورثة . بل هي عبادة محضة تسقط بالموت ، والميت آثمٌ بعدم إخراجها .

<ب>= الشافعية قالوا : أوّل ما يجب أداؤه من الحقوق بعد المتعلق بعين التركة : حقّ الله تعالى ، ثمّ حقّ العباد .

قالوا : والسبب : لأنّ حق الله تعالى ليس له مطالب ، وحقوق العباد لها مطالِب ، ورسول الله r يقول : "اقضُوا الله الذي له ، فالله أحقّ بالوفاء" .

<ج>= بعض المالكية قـالـوا : نبدأ بحق العباد ؛ لأنّ حقوق الله مبنيَّة على العفو ، ولأنّ الله تعالى في الآخرة يُطالب بحقوق العباد قبل المطالبة بحقوقه ؛ ولأنّ المرء مرتهنٌ ومعلَّق بدَيْنِهِ كما أخبر رسول الله r ؛ فقد جيء بجنازة ليُصلِّي عليها، فسأل : "أعليه دين ؟" فلما أجابوه بنعم، قال : "صلُّوا على صاحبكم" ؛ فقـد سأل عن حق العباد . أما حقّ الله تعالى فإنَّه معرَّض للعفو بالتوبة ، بخلاف حقوق العباد .

<د>= الحنابلة قالوا : حقوق العباد ، وحقوق الله متماثلة ، لا يُقدَّم أحدها على الآخر .

(3)- الوصيَّة :

س : لـم كان أداء الديون المستحقة ـ في التركة ـ مقدَّماً على الوصية ، مع أنَّ الله سبحانه وتعالى قد قدَّم الوصية على الـدَّيْـن في القـرآن الكريم ؛ فقال جلّ وعلا : ) من بعد وصيَّة توصون بها أو دين ( [النساء : 12] ، وقال سبحانه وتعالى : ) من بعد وصيَّة يُوْصَى بها أو دين ( [النساء : 12] .

ج : ظـاهــر الآية الكريمة يدلّ على أنّ الوصيَّة مقدَّمة على الدين ، مع أنّ الأمر بالعكس (الدين مقدّم على الوصية) ، فتُقضى ديون الميت أولاً ، ثمَّ تُنفَّذ وصيّته .

وهذا قضــاء رســول الله r وحكمـه ؛ فقـــــد أخبر عنه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب t بـذلك ، فقــال : إنَّكـم تقرؤون هذه الآية : ) من بعد وصيَّة توصون بها أو دين ( ، وإنّ رسول الله r قضى بالدين قبل الوصيّة .

والحكمة من تقديم الوصية على الدين في الآية ـ والله أعلم ـ أنّ الديون حقّ ثابت في ذمَّة المدين قبل الوفاة وبعدها ، ولها مطالِب ؛ إذ لصاحب الحقّ مقـال ؛ ـ كما أخبر رسولنا r ـ . أمَّا الوصيَّة فهي تبرّع محض وبرّ وصلة ، وليس لها مطالِب . فلئلا يتهاون الناس في أمرها ، قدّمها الله تعالى في الذكر ، منبِّهاً على وجوب العناية بها كالعناية بالدين .

س : هل الوصية تحتاج إلى إذن الورثة ؟

ج : لا تحتاج الوصيّة إلى إذن الورثة إذا كانت بالثلث فأقل (لغير وارث) . فإذا زادت عن الثلث (لغير وارث) ، أو كان الموصى إليه وارثاً (سواء كانت الوصية بالثلث ، أو بأقل ، أو أكثر) ، فلا بُدّ من رضى الورثة جميعــاً وإذنهم ؛ إذ عدم الإذن وعدم الرضا يضرّ بالورثة ـ ورضاهم إنّما يُعتبر بعد بلوغهم ـ . وإذا لم يرض أحد الورثة ، ورضي الباقون ، فإنّ ذاك الذي لم يرض يأخذ حقَّه كاملاً من الإرث ، ويُنقص من حقوق الباقين ـ الذي رضوا ـ بمقدار ما يُغطي ما أوصى به الميت لذلك الوارث .

إذاً : يُشترط في الوصية إن كانت لغير وارث أن تكون في الثلث ، أو دونه . فإن زادت عن الثلث اشترط إذن الورثة .

ويُشترط في الوصيَّة إن كانت لوارث : إذن الورثة ، ورضاهم جميعاً .

(5)- الإرث :

بعد أن تُسدَّد الحقوق الأربعة السابقة من التركة ، يوزَّع الباقي ـ وهو الإرث ـ على الورثة بحسب أنصبائهم الشرعيَّة .

والكلام على الإرث يتضمَّن بيان أركانه ، وأسبابه ، وشروطه ، والموانع التي تمنعه ، وأنواعه ، وتفصيل كلّ نوع ، والمستحقين ، ونصيب كلّ واحـد من هؤلاء . وهو ما سنفصله إن شاء في المباحث الآتية .

ولنبدأ أولاً بأركان الإرث .

أركـان الإرث

الركن في اللغة : جانب الشيء الأقوى . يُقال : ركنتُ إلى فلان ، إذا اعتمدت عليه .

وهو في الاصطلاح : جزء ماهية الشيء ، أو ما لا يُتصوّر الشيء بدونه ؛ فالركوع في الصلاة ركنٌ ؛ لأنَّه جزءٌ منها ، ولا توجد الصلاة إلا به .

وللإرث أركان ثلاثة ، لا يُتصوّر الإرث بدونها ، فإذا انعدم واحدٌ منها ، انعدم الإرث .

(1)- المورِّث : وهو الذي يستحق غيره أن يرث منه ، وتحقق موته ؛ سواء أكان موته حقيقة (بأن عُدِمت حياته بالفعل) ، أو حكماً (كأن يحكم القاضي بموته ، مع احتمال حياته ؛ كالمفقود) ، أو تقديراً (كالجنين الذي ينفصل عن أمه ميتاً بجناية عليها) ، أو مع تيقن حياته (كالمرتد الذي لحق بدار الحرب) .

(2)- الوارث : وهو الذي يرتبط بالمورِّث بسبب من أسباب الإرث ؛ كالزوجيّة ، أو القرابة النسبيَّة ، وتحقَّقت حياته بعد موت المورِّث ، ولو للحظة ، مع استحقاقه الإرث .

(3)- الحق الموروث : وهو ما يتركه الميت بعد تجهيزه ، وسداد ديونه ، وتنفيذ وصاياه ؛ من أموال وحقوق تُستحقّ بالإرث .


المواضيع المتشابهه: