{ادعوا ربكم تضرعاً وخفية، إنه لا يحب المعتدين، ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها، وادعوه خوفاً وطمعاً، إن رحمة الله قريب من المحسنين}..
إن إخلاص الدين لله، وتقرير عبودية البشر له، إن هي إلا فرع من إسلام الوجود كله، وعبودية الوجود كله لسلطانه.. وهذا هو الإيحاء الذي يستهدف المنهج القرآني تقريره وتعميقه في القلب البشري.. وأيما قلب أو عقل يتجه بوعي ويقظة إلى هذا الكون ونواميسه المستسرة، وظواهره الناطقة بتلك النواميس المستسرة.. لا بد يستشعر تأثيراً لا يرد سلطانه؛ ولا بد يهتز من أعماقه بالشعور القاهر بوجود المدبر المقدر صاحب الخلق والأمر.. وهذه هي الخطوة الأولى لدفع هذا القلب إلى الاستجابة لداعي الله؛ والاستسلام لسلطانه الذي يستسلم له هذا الوجود كله ولا يتخطاه.
ومن ثم يتخذ المنهج القرآني من هذا الوجود مجاله الأول لتجلية حقيقة الألوهية؛ وتعبيد البشر لربهم وحده، وإشعار قلوبهم وكيانهم كله حقيقة العبودية، وتذوق طعمها الحقيقي في استسلام الواثق المطمئن؛ الذي يستشعر أن كل ما حوله وكل من حوله من خلق الله، يتجاوب وإياه!
إنه ليس البرهان العقلي وحده هو الذي يستهدفه المنهج القرآني باستعراض عبودية الوجود لله، وتسخيره بأمره، واستسلام هذا الوجود في طواعية ويسر ودقة وعمق لأمره وحكمه.. إنما هو مذاق آخر- وراء البرهان العقلي ومع هذا البرهان العقلي- مذاق المشاركة مع الوجود والتجاوب. ومذاق الطمأنينة واليسر؛ والانسياق مع موكب الإيمان الشامل.
إنه مذاق العبودية الراضية، التي لا يسوقها القسر، ولا يحركها القهر.. إنما تحركها- قبل الأمر والتكليف- عاطفة الود والطمأنينة والتناسق مع الوجود كله.. فلا تفكر في التهرب من الأمر، ولا التفلت من القهر؛ لأنها إنما تلبي حاجتها الفطرية في الاستسلام الجميل المريح.. الاستسلام لله الذي يرفع الجباه عن الدينونة لغيره أو العبودية لسواه. الاستسلام الرفيع الكريم لرب العالمين..
هذا الاستسلام هو الذي يمثل معنى الإيمان، ويعطيه طعمه ومذاقه.. وهذه العبودية هي التي تحقق معنى الإسلام، وتعطيه حيويته وروحه.. وهي هي القاعدة التي لا بد أن تقام وتستقر، قبل التكليف والأمر؛ وقبل الشعائر والشرائع.. ومن ثم هذه العناية الكبرى بإنشائها وتقريرها وتعميقها وتثبيتها في المنهج القرآني الحكيم..

تفسير في ظلال القران . سيد قطب

المواضيع المتشابهه: