كان خالد الربعي يقول: "عجبت لهذه الامة في {ادعوني أستجب لكم} [غافر: 60]، أمرهم بالدعاء ووعدهم بالإجابة، وليس بينهما شرط.
قال له قائل: مثل ماذا؟ قال مثل قوله: {وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات} [البقرة: 25] فها هنا شرط،
وقوله: {وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق} [يونس: 2] فليس فيه شرط العمل.
ومثل قوله: {فادعوا الله مخلصين له الدين} [غافر: 14] فها هنا شرط.
وقوله: {ادعوني أستجب لكم} ليس فيه شرط[1].

وهذا من عظيم فضل الله، فقد حثَّ عباده على الدعاء إشفاقا عليهم، ليوصل إليهم نفع الإجابة وعظيم الكرامة ووابل الفضل والإنعام، وجعل جزاء من استكبر عن الطلب منه نار جهنم، ومن كسل عنه كان مغبون الحظ، فإنه الخير الذي لا عوض عنه، والكنز الذي لا نظير له.

فعجبا لعبدٍ ذليل يحتفي به ربٌّ جليل، تدخل عليه بلا مواعيد، بل ولا حتى استئذان ولا حُجّاب، لتلقى ملك الملوك متى أحببت وأين ما أحببت! ولهذا كان سفيان الثوري رحمه الله يقول في مناجاته: "يا من أحبُّ عباده إليه مَن سأله فأكثر سؤاله، ويا مَن أبغضُ عباده إليه من لم يسأله، وليس كذلك غيرُك يا ربِّ"[2].

وكل من عرف ربه رجاه، وكل من رجاه أنعم عليه بفضله وأدناه، وقد عرفه حق المعرفة جعفر الصادق، فلما سئل: ما بالنا ندعو فلا يُستَجاب لنا؟!
فقال: لأنكم تدعون من لا تعرفونه[3].

ومعرفته بالأعمال والأحوال لا بالأقوال! ومن كان كذلك فهو واثق في إجابة دعائه دنيا وأخرى. قال ابن عباس: "كل عبدٍ دعا استُجيب له، فإن كان الذي يدعو به رزقا له في الدنيا أعطيه، وإن لم يكن رزقا له في الدنيا ذُخِر له"[4].


أركان وأجنحة وأسباب وأوقات
لكن للدعاء المجاب أركانا وأجنحة وأسبابا وأوقاتا. قال ابن عطاء: "إن للدعاء أركانا وأجنحة وأسبابا وأوقاتا، فإن وافق أركانه قوي، وإن وافق أجنحته طار في السماء، وإن وافق مواقيته فاز، وإن وافق أسبابه أنجح. فأركانه حضور القلب والرأفة والاستكانة والخشوع، وأجنحته الصدق، ومواقيته الأسحار، وأسبابه الصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم"[5].

ومن حقَّق هذه الشروط استجاب الله له، ولتكن على ثقة من هذا غير مرتاب، بل موقن تمام اليقين بوعد الله وسنته التي لا تتخلف، ولتتعلم ثقتك هذه من قَسَمِ أبي عثمان النهدي! يقول عنه أحد أصحابه: "كان أبو عثمان إذا دعا ودعونا يقول: والله لقد استجاب الله عز وجل. قال الله: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}[6].

وحسبك أن الله يغير مقادير الكون ويغيِّر الأقدار من أجلك إذا أخلصت في دعائك، وحديث ثوبان رضي الله عنه يبشِّر: «لا يردُّ القدرَ إلاَّ الدعاءُ»[7].
وهذا دليل على أنَّ الله سبحانه يدفع بالدعاء ما قد قضاه على العبد، وأن الدعاء من أعظم الأسباب التي يستند إليها العبد، وفي العصور المادية الزاحفة يغفل كثير من الناس عن القوة العظمى والجبروت الإلهي، فينسى الدعاء أو يحتقره.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ومن قال: أنا لا أدعو ولا أسأل اتِّكالاً على القَدَر كان مخطئا؛ لأنَّ الله جعل الدعاءَ والسؤال من الأسباب التي ينال بها مغفرتُه ورحمتُه وهداه ونصرُه ورزقُه، وإذا قدَّر للعبد خيراً يناله بالدعاءِ لم يحصل بدون الدعاء، وما قدَّره الله وعلِمَه من أحوال العباد وعواقبهم، فإنَّما قدَّره الله بأسبابٍ يسوقُ المقاديرَ إلى المواقيت، فليس في الدنيا والآخرة شيء إلاَّ بسبب، والله خالقُ الأسباب والمسبَّبات[8].

ولو بعد حين!
فائدة في الحكمة من تأخير الإجابة: تحت هذا العنوان كتب ابن الجوزي قائلا: نزلت بي نازلة، فدعوت، وبالغت، والبخل معدوم، فما فائدة تأخير الجواب؟!
فقلت له: اخسأ يا لعين! فما أحتاج إلى تقاض، ولا أرضاك وكيلًا.
ثم عدت إلى نفسي فقلت: إياك ومساكنة وسوسته، فإنه لو لم يكن في تأخير الإجابة إلا أن يبلوك المقدر في محاربة العدو، لكفى في الحكمة.
قالت: فسلني عن تأخير الإجابة في مثل هذه النازلة! فقلت:
​قد ثبت بالبرهان أن الله عز وجل مالك، وللمالك التصرف بالمنع والعطاء، فلا وجه للاعتراض عليه.
والثاني: أنه قد ثبتت حكمته بالأدلة القاطعة، فربما رأيت الشيء مصلحة، والحكمة لا تقتضيه، وقد يخفى وجه الحكمة في ما يفعله الطبيب من أشياء تؤذي في الظاهر، يقصد بها المصلحة، فلعل هذا من ذاك.
والثالث: أنه قد يكون التأخير مصلحة، والاستعجال مضرة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لايزال العبد في خير ما لم يستعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي!».
والرابع: أنه قد يكون امتناع الإجابة لآفة فيك، فربما يكون في مأكولك شبهة، أو قلبك وقت الدعاء في غفلة، أو تزاد عقوبتك في منع حاجتك لذنب ما صدقت في التوبة منه، فابحثي عن بعض هذه الأسباب، لعلك تقعي بالمقصود.
والخامس: أنه ينبغي أن يقع البحث عن مقصودك بهذا المطلوب، فربما كان في حصوله زيادة إثم، أو تأخير عن مرتبة خير، فكان المنع أصلح، وقد روي عن بعض السلف: أنه كان يسأل الله الغزو، فهتف به هاتف: إنك إن غزوت أُسِرتَ، وإن أُسِرتَ تنصرت.
والسادس: أنه ربما كان فقد ما فقدته سببًا للوقوف على الباب واللجأ، وحصوله سببًا للاشتغال عن المسؤول، وهذا الظاهر، بدليل أنه لولا هذه النازلة، ما رأيناك على باب اللجأ، فالحق -عز وجل- علم من الخلق اشتغالهم بالبر عنه، فلذعهم في خلال النعم بعوارض تدفعهم إلى بابه، يستغيثون به، فهذا من النعم في طَيِّ البلاء، وإنما البلاء المحض ما يشغلك عنه، فأما ما يقيمك بين يديه، ففيه جمالك.

وقد حكي عن يحيى البكّاء أنه رأى ربه عز وجل في المنام، فقال: يا رب! كم أدعوك ولا تجيبني؟ فقال: يحيى! إني أحب أن أسمع صوتك.
وإذا تدبرت هذه الأشياء، تشاغلت بما هو أنفع لك من حصول ما فاتك، من رفع خلل، أو اعتذار من زلل، أو وقوف على الباب إلى رب الأرباب[9].

[1] القرطبي 2/309
[2] تفسير القرآن العظيم 7/153
[3] الرسالة القشيرية 2/425
[4] تفسير القرطبي 2/30
[5] تفسير القرطبي 2/311
[6] صفة الصفوة 2/118
[7] حسن: صحيح الترغيب والترهيب رقم:1638
[8] مجموع الفتاوى (8/69 ـ 70).
[9] صيد الخاطر 1/82،83

من كتاب ينابيع الرجاء

المواضيع المتشابهه: