المعلومات الواردة في هذا البحث قد لا تتوافق مع احكام القانون الاردني ، لذا اقتضى التنويه

تأويل العقود


كتبها نوال الكرتي


مقدمة:

العقد كما نعلم جميعا هو توافق إرادتين على إحداث أثر قانوني معين ومن تم فالالتزامات الناشئة عنه تتحدد بما اتجهت إليه الإرادتين معا.

فالنص العام هو الذي يكون له الدور المهم باعتباره المرجع الأساس لتمييز كل العقود بحيث يتعين على القاضي أن يأخذ بالمعنى المألوف الذي يؤدي إليه اللفظ الوارد في العقد ولا يجوز له إذا كان اللفظ واضحا صريحا تأويله أو تمييزه وترك معناه الحقيقي إلى معنى غيره فإرادة العاقدين لا يمكن معرفتها إلا من عبارة العقد ذاتها. فإذا كانت هذه العبارة واضحة وجب أن تعد تعبيرا حقيقيا عن الإرادة المشتركة ولا يجوز الانحراف عن هذا التعبير عن طريق التأويل والتفسير. أما إذا كانت عبارة العقد غامضة بحيث تحتمل أكثر من معنى فيتعين اللجوء إلى التمييز لكشف الإرادة المشتركة للعاقدين لا الإرادة الفردية لكل منهما.

لكن فقد يحصل أن لا يتواصل القاضي من خلال بحثه عن الكشف عن الإرادة المشتركة للمتعاقدين بحيث يبقى الشك قائما حول حقيقة هذه الإرادة لذلك لا مناص من أن يعمد القاضي إلى حل هذا الإشكال عن طريق عدة تغييرات لمصلحة أحد المتعاقدين، فيما يخص عقد الاستهلاك فإن القاضي يؤول العقد لمصلحة المستهلك باعتباره هو الطرف الضعيف في العلاقة التعاقدية التي تجمعه بالمهني وهو ضحية المخالفة للقواعد القانونية من قبل المهني (بائع، منتج، تاجر…) وبالتالي لا يرى اعمال قاعدة أن العقد شريعة المتعاقدين وإذا كانت حماية المستهلك موضع اهتمام وغاية كل الأمم المتحضرة بما فيها المنظمات الدولية فإن ذلك يرجع إلى أهميتها وضرورتها فعدم التوازن بين المهني من ناحية والمستهلك من ناحية ثانية يتحقق ويتسع كل يوم.


المبحث الأول: تفسير العقد على ضوء قانون الالتزامات والعقود المغربي

حتى نتمكن من تفسير العقد لابد لنا من دراسته من خلال آليات تدخل القضاء في تأويل العقد (المطلب الأول) وفي (المطلب الثاني) حدود تدخل القضاء في تأويل العقد.

المطلب الأول: آليات تدخل القضاء في تأويل العقد

يستعين القاضي في تفسيره للعبارات والألفاظ المستخدمة من قبل طرفي العلاقة التعاقدية للتعبير عن إرادتهما على عوامل داخلية (فقرة أولى)، وأخرى خارجية (فقرة ثانية) في تفسيره.

الفقرة الأولى: العوامل الداخلية لتفسير العقد

تتجلى عوامل التغيير الداخلية في العبارات والألفاظ التي استخدمها أطراف العقد للتعبير عن إرادتهما وهذا مفاده أن القاضي يتعين عليه مراعاة نص العقد ذاته آخذا بعين الاعتبار جميع الظروف والملابسات التي صاحبت اللفظ، ذلك أن بنود العقد ترتبط ببعضها البعض لذلك كان من الضروري مراعاتها جملة وتفصيلا من أجل الوقوف على ما غمض من العقد بفعل التناقض الحاصل بين هذه البنود طبقا لما هو منصوص عليه في الفصل 464 من قانون الالتزامات والعقود. وقد يصطدم القاضي بوجود غموض حول مدلول العقد عند مراعاته لمجموع بنوده. ذلك أنه قد يحصل أن تكون بعض البنود واضحة المعنى إذا أخذت بمفردها، وتصبح غامضة إذا ما تمت مقابلتها مع بقية بنود العقد ففي هذه الحالة يتعين على القاضي إهمال مقتضيات الفصل 465 من قانون الالتزامات ولعقود الذي ينص على أنه إذا أمكن حمل عبارة بند معين على معنيين كان حمله على المعنى الذي يعطيه بعض الأثر أولى من حمله على المعنى الذي يجرده من كل آثر وذلك أخذا بالقاعدة الفقهية الأصولية القائلة "إعمال الكلام خير من إهماله" على اعتبار أن النص يجب أن يحمل على الوجه الذي يرتب آثرا قانونيا وهذا أمر طبيعي ذلك أنه من غير المعقول أن يدرج المتعاقدان في عقدهما بندا لا يرتب أي أثر قانوني[1].

كما قد يواجه القاضي غموض عدم ذكر بعض حالات يثور حولها النزاع وقد ظن المتعاقدان أو أحدهما أنها لاحقة بالاتفاق ضمنا وأنه ليس من الضروري التنصيص عليها لأنها من مشمولاته ويقع إغفالها وهو ما أرشد المشرع القاضي للرجوع إليه من خلال مقتضيات الفصل 496 من قانون الالتزامات والعقود ومفاده أن تخصيص حالة بالذكر لا يجعلها بالضرورة تنفرد بالحكم.

الفقرة الثانية: العوامل الخارجية لتفسير العقد

أحيانا يجد القاضي نفسه عاجزا عن استجلاء ما يعتري العقد من غموض وإتهام بالرغم من اعتماده على العوامل المرتبطة بصلب العقد محل النزاع، الأمر الذي يجعله ملزما بتجاوز العوامل والبحث في عوامل خارجية عن العقد التي قد تسعفه في توسيع تحرياته والخروج من دائرة الغموض والابهام[2].

وعموما فالعوامل الخارجية عن العقد إما أن تكون ذاتية أو شخصية وإما أن تكون موضوعية.

1- العوامل الذاتية.

وهي الحالة التي يكون عليها المتعاقدين وقت التعاقد فقد ينظر إلى صفة المتعاقد وشخصيته بحيث أن المثقف يتخلف عن تعاقد غير المثقف (الجاهل)، وقد ينظر إلى مهنة المتعاقد حيث أن التاجر المتخصص في تجارة معينة عن التاجر المبتدأ في هاته التجارة كما يمكن للقاضي الرجوع إلى العادات الشخصية خاصة ما يتعلق منها باللغة على أساس أن بعض الأشخاص يستعملون ألفاظا معينة ذات مدلول معين ويرجع ذلك إلى بيئته أو أسلوبه الخاص في التعامل.

2- العوامل الموضوعية:

نص المشرع المغربي على ثلاثة أنواع من العوامل الموضوعية التي يمكن أن تسعف القاضي في تحديد آثار العقد والمتمثلة أساسا في القانون والعرف والعدالة وذلك طبقا لما هو منصوص عليه في الفصل 231 من قانون الالتزامات والعقود ومعلوم أن كمال هذه المصادر في التفسير لا يكون ممكنا إلا بعد تحديد الطبيعة القانونية للعقد محل النزاع كما أن تحديد القاضي للصنف الذي ينتمي إليه العقد محل النزاع يفيد كثيرا في معرفة أي التدابير القانونية التي يعتمد عليها في تحديده لآثار العقد.

فالمشرع قد تناول بالتنظيم بعض العقود التي يكثر تداولها، وأن هذا التنظيم يختلف بحسب نوعية هذه العقود، لذلك كان من اللازم أن يعمد المفسر إلى تحديد نوع العلاقة التي تربط طرفي العقد قبل إعمال هذه القواعد القانونية من أجل سد ما يعتري العقد من نقص. إضافة إلى القانون يظهر العرف كعامل موضوعي يعتمد عليه القاضي في تحديده لآثار العقد. كما تشير إلى ذلك مقتضيات الفصل 463[3] من قانون الالتزامات والعقود. كما أن اعتماد القاضي على القانون والعرف قد لا يسعفه في تحديد آثار العقد إذ يواجه بالإضافة إلى سكوت الطرفين عن تنظيم الأمور المتنازع بشأنها بغياب التدابير القانونية المكملة وانعدام وجود عرف عام أو خاص يوكل إليه تنظيم الحالة المفروضة عليه في هذه الحالة يتم الاهتداء إلى إكمال قواعد العدالة. والمشرع المغربي من خلال إقحامه لفكرة العدالة في التفسير كان يهدف إلى حماية الطرف الضعيف في العلاقة التعاقدية (المستهلك) إلى جانب هذه القواعد الخارجية عن العقد المنصوص عليها في القانون والتي يهتدي بها القاضي في تفسيره للعقود الغير واضحة نجد هناك الكثير من الوسائل الأجنبية الأخرى عن العقد التي من شأنها أن تبني النية المشتركة للمتعاقدين والتي لم يتطرق إليها المشرع بالذكر. وتظهر أهم هذه الوسائل في التنفيذ اللاحق للعقد، ودور شهادة الشهود ،وأخيرا الخبرة.

‌أ- التنفيذ اللاحق للعقد:

أن تنفيذ العقد خير طريق لتفسير إرادة الطرفين، إذ بإرادتيهما يفسران شروطه عمليا، وكثيرا ما يخرج طرفا التعاقد على مضمون النص الصريح عن تنفيذ العقد فيتبعان طريقة معينة في التنفيذ تعدل مضمونه وتكشف عن نيتهما المشتركة بشأنه، فتنفيذ أحد المتعاقدين للعقد دون اعتراض من الطرف الآخر لمدة معينة قبل ظهور النزاع يعتبر عنصرا أجنبيا على العقد وتعتبر النية المشتركة للمتعاقدين وتظهر أهمية طريقة التنفيذ كعنصر خارجي في تحديد هذه النية عندما ينفذ الطرفان شروطا على نحو مخالف لما جاء به العقد ويستمر تراضيهما على هذا النحو مدة من الزمن دون أي اعتراض منهما[4].

‌ب- شهادة الشهود:

والمقصود بالشهادة أو البنية هي إخبار الإنسان في مجلس القضاء بواقعة ما يترتب عليها حق لغيره ويجب أن يكون الشاهد قد أدرك شخصيا بحواسه الواقعة التي يشهد بها بحيث يكون قدرها أو سمعها بنفسه وتجدر الإشارة أن المشرع المغربي لم يذكر أي شيء بخصوص الشهادة عند حديثه عن قواعد التأويل علما أن الفصل 444 من ق.ل.ع في فقرته الأخيرة اعتد بالشهادة كوسيلة لتفسير العقد.

‌ج- الخبرة:

نظم المشرع المغربي الخبرة في الفصول من 59 إلى 66 من قانون المسطرة المدنية ويلجأ القاضي إلى الخبرة إما من تلقاء نفسه أو بطلب من أحد الخصوم على أن تقرير الخبرة المنجز لا يمكن أن يقيد قاضي الموضوع حين النطق بالحكم، لأن الخبرة المأمور بها هي مسألة فنية يستأنس بها القاضي ولا تخرج عن كونها دليلا يحق لقاضي الموضوع تقديره دون أن يخضع لرقابة المجلس الأعلى والسؤال المطروح هو هل يمكن للقاضي الموضوع أن يأمر بإجراء خبرة للبحث عن نية المتعاقدين؟ لاسيما أن الخبرة كما هو معلوم من المسائل الفنية التي يأمر بها قاضي الموضوع حينما تتطلب طبيعة الدعوى اللجوء إلى أحد المتخصصين لإجراء تقرير يستأنس به هذا الأخير[5].

وعلى الرغم مما سبق ذكره فإن سلطة القاضي في تفسير شروط العقد الغامضة تعتبر من بين أهم الآليات التي يتمتع بها لتعديل هذه الشروط أو حتى إلغائها على اعتبار أن الشروط التعسفية غالبا ما تأتي في العقد غامضة وغير محددة، وعموما فالشروط الغامضة هي تلك التي لا يتم التوافق فيها بين الألفاظ والإرادة الحقيقية للمتعاقدين.

المطلب الثاني: دور القضاء في تأويل العقد

الفقرة الأولى: تقليص دور القضاء في تفسير شروط العقد الواضحة

بالرجوع إلى مقتضيات الفصل 461 من قانون الالتزامات والعقود المغربي الذي ينص على أنه "إذا كانت ألفاظ العقد صريحة امتنع البحث عن قصد صاحبها" وبناءا عليه متى كانت شروط العقد واضحة وصريحة تعين على القاضي الالتزام بهذه المعاني الظاهرة دون الانحراف إلى غيرها من الاحتمالات كتفسير النصوص القانونية فكلما كانت العبارات الواردة في العقد واضحة كلما اهتدى القاضي إلى الحكم الذي يرتضيه الأطراف وهو نفس الاتجاه الذي سار عليه المجلس الأعلى في العديد من قراراته[6]. وإذا كان الفصل 461 من ق.ل.ع أعلاه قد جاء بقاعدة عامة تقضي بمنع القاضي من تحريف معنى ومدى الشروط الواضحة والمحددة وإن كانت تعسفية فإن هناك استثناء يسمح بالخروج عن القاعدة السالفة كما ذهب جانب من الفقه[7] خاصة في الحالات التي ينشأ فيها تناقض بين العبارات الواضحة للعقد والإرادة الحقيقية للمتعاقدين، إذ بالرغم من وضوح العبارات المستعملة في العقد إلا أن المتعاقدين قد يسيئون استعمال هذا التعبير الواضح مما يؤذي إلى غموض الإرادة في هذا الصدد يسترجع القاضي دوره الإيجابي في التفسير الذي حرمه منه الفصل 461 من قانون الالتزامات والعقود، ومن هنا يمكن القول بجواز تفسير القاضي للشرط التعسفي الواضح ضد المشترط أو تعديله بل وحتى استبعاده حماية للطرف الضعيف في العلاقة التعاقدية الذي هو المستهلك.

الفقرة الثانية: اتساع سلطة القاضي في تفسير العقد الغامض

يبقى غموض عبارات العقد هو المجال الأكيد الذي لا تبخل نظرة سلطان الإرادة عن الترخيص فيه للقاضي لممارسة دوره الأكثر فعالية وايجابية في ميدان التأويل فعادة ما تكون الشروط التعسفية غامضة في العقود المحررة سلفا حتى لا ينبته إليها المتعاقد الآخر.

وتبقى الأوضاع التي تتطلب تدخل القضاء لتفسير مقتضيات العقد هي التي يكون الهدف من وراءها إظهار النية الحقيقية لطرفي العلاقة التعاقدية في حال غموض عبارات العقد ووضوح الإرادة وحالة غموض الإرادة ووضوح العبارة ثم حالة غموض العبارة والإرادة معا والحالة التي تثير الشكل في مدى الالتزام المتولد عنه وهو ما تنص عليه مقتضيات الفصل 462 من قانون الالتزامات والعقود[8]. هذه الحالات تبقى هي الإطار الواسع لتفعيل سلطة القاضي في التفسير أخدا بعين الاعتبار النية المشتركة للمتعاقدين معتمدا على التأويل للبحث عن هذه الإرادة المشتركة دونما حاجة للتقيد بالمعنى الحرفي للألفاظ ولا بتكوين الجمل، لنخلف إلى القول بأن تفسير شروط العقد الغامضة يدخل ضمن سلطة القاضي المطلقة[9].



المبحث الثاني: المظاهر القانونية لحماية المستهلك

كما هو معلوم، فإن العقد هو اتفاق إرادتين على إحداث أثر قانوني ويكون إما على أساس إنشاء التزام أو نقله أو تعديله أو إنهاءه، يستخلص من هذا التعريف أن العقد لا يقوم إلا بوجود إرادتين أو أكثر فإذا كان الالتزام ناشئا من إرادة منفردة فإننا لا نكون أمام عقد بالمفهوم القانوني وإنما تصرف قانوني بإرادة منفردة إذ القاعدة كل عقد اتفاق والإشكال هنا هل هذه القاعدة تنطبق على أطراف عقد الاستهلاك؟ وإلى أي حد يتمتع المستهلك بمبدأ الرضائية الواجبة في كل عقد؟ وكيف تتم حمايته من بعض الشروط التعسفية التي قد تفرض عليه أحيانا. هذا ما سنتطرق إليه من خلال المطلب الأول التي سنعالج من خلال مجال التراضي في عقود الاستهلاك ثم حماية المستهلك من الشروط التعسفية في المطلب الثاني.

المطلب الأول: مجال التراضي في عقود الاستهلاك

إن مبدأ سلطان الإرادة قد جعل القواعد القانونية المضمنة في القوانين المدنية غير كافية لتحقيق التوازن بين المتعاقدين لأنه بمجرد إبرام العقد يصبح هذا الأخير قانون الطرفين فلا يوجد في القانون المغربي مبدأ عام يقيم التوازن العقدي بصفة مباشرة.

من خلال ما سبق، سنحاول دراسة مجال التراضي في عقود الاستهلاك عبر تقسيم هذا المطلب إلى فقرتين.

الفقرة الأولى: أثر عدم التكافؤ بين المتعاقدين

يشترط في عقد الاستهلاك وفقا للقواعد العامة اقتران إرادتين على إحداث أثر قانوني أي صدور الإيجاب بالبيع من المهني وقبول المستهلك بالشراء لأن المهم هو اقتران الإيجاب بالقبول كقاعدة عامة.

وقد جرت العادة أن التجار قد يعلنوا عن سلعهم من خلال عرضها في واجهات محلاتهم مع كتابة أثمانها أو بإرسالها إلى عملائهم مع تحديد ثمنها أو يوزعونها على أفراد الجمهور وقد يحدث أن يقع المستهلك ضحية لنوع من الدعاية التي يعتمدها بعض المهنيين فيجد المستهلك نفسه أمام ما يسمى بالعقود النموذجية[10] معد سلفا من المنتج أو المورد أو التاجر ويحتوي هذا العقد النموذجي على بنود قلما يفهمها المستهلك[11].

بالرجوع إلى مبدأ سلطان الإرادة الذي نجده شبه منعدم في هذه العلاقة التعاقدية لأن المستهلك في هذه الحالة يكون عليه إما الموافقة أو الرفض دون التفاوض في بنود العقد.

خلاصة القول، عقد الاستهلاك هو العقد الذي يسلم القابل (أي المستهلك) بشروط مقررة يصفها الموجب التاجر (المهني) ويكون غير قابل للمناقشة فيتعلق إما بسلعة أو تقديم خدمة تكون محل احتكار قانوني أو فعلي وتكون مناقشة العقد محدودة فلا يقع إلا في دائرة محددة ومعينة وباعتبار المستهلك هو الطرف الضعيف في هذه العلاقة التعاقدية لكونه قد يجبر على التعاقد وذلك لحاجته للشيء محل العقد وبالتالي لا يطبق عليه مبدأ سلطان الإرادة[12].

المستهلك في هذا النوع من العقود يكون هو العنصر الضعيف في العلاقة التعاقدية التي يبقى للمهني الحق وحده في تحديد بنود العقد.

الفقرة الثانية: حماية المستهلك في ظل القواعد العامة وبعض القوانين الخاصة الأخرى

إن إرساء ثقافة حماية المستهلك مصطلح سعى إليه المشرع المغربي منذ مدة طويلة وقد بدأت الإرهاسات الأولى من خلال مشروع قانون حماية المستهلك.

أما فيما يخص حماية المستهلك في القواعد العامة، فإن المقتضيات القانونية التي يستشف منها تنظيم العلاقة التعاقدية بين المهني والمستهلك سواء تعلق الأمر بالتدابير الزجرية أو حماية رضا المستهلك أثناء إبرام العقد ويدخل في هذا الإطار عدة قوانين منها قانون الالتزامات والعقود، مدونة التجارة، قانون الشركات.

وتعتبر تصرفات المستهلك من الوجهة الاقتصادية غير مقيدة بميدان دون آخر وإنما تمتد لتشمل عدة ميادين (سلع، خدمات، منقولات وعقارات ومعاملات مدنية ومعاملات تجارية) إلا أن رجال القانون يختزلون كل هذا التنوع في تحليل فريد ألا وهو اعتبار التصرف إما عقد (شغل، بيع، كراء، قرض) أو انتفاع بخدمة مرفق عام كما لو تعلق الأمر بالاشتراك في توريدات الغاز، الماء، النور، الهاتف…

لقد تعامل المشرع المغربي بحذر مع وضعية المستهلك بالمفهوم الواسع سواء في قانون الالتزامات والعقود أو غيره من القوانين الأخرى.

باعتبار أن المستهلك متعاقد لكنه ليس ككل المتعاقدين لأنه في مواجهة مهني يمارس أنشطة من أجل الربح وهو ما يجعله في وضعية المضارب[13].

المطلب الثاني: حماية المستهلك من الشرط التعسفية

قبل التطرق لمظاهر حماية المستهلك من الشروط التعسفية لا بأس من تقديم نبذة تاريخية بسيطة عن بداية الشروط التعسفية في عقد الاستهلاك.

لقد كانت انطلاقة الشروط التعسفية في عقود الاستهلاك في الولايات المتحدة الأمريكية في سنة 1962 حيث ثم إعطاء القاضي سلطة إبطال أي شرط يتبين أنه تعسفي وانتقلت الفكرة بعد ذلك إلى الدول الأوربية في السبعينات حيث أصدرت السويد تشريعا خاصا لمواجهة الشروط التعسفية في عقود الاستهلاك سنة 1971 وأصدرت بريطانيا تشريعا هائلا سنة 1973 وكذلك الدانمارك… وقد أصدرت فرنسا بتاريخ 10 يناير 1978 والخاص بإعلام المستهلكين للسلع والخدمات وذلك في خمسة فصول وأعطى المشرع للفصل الرابع عنوان حماية المستهلكين من الشروط التعسفية.

إلا أن المستهلك المغربي وفي غياب نص قانوني يظل يفتقد الحماية القانونية لعدم وجود نصوص تشريعية خاصة بالمستهلكين وتوفير الحماية اللازمة من الشروط التعسفية إذ ظل وقتا من الزمن تحت رحمة المهنيين الذين لا يترددون في إدراج شروط تعسفية تقوية لمراكزهم التعاقدية.

إلا أن جمهور المستهلكين استبشروا أخيرا بالإعلان عن ميلاد مشروع قانون حماية المستهلك المغربي[14].

ما تجب الإشارة إليه فإن المشرع قد اتخذ بالمفهوم الواسع للمستهلك بالنسبة لجميع المعاملات التي يتضمن بيع السلع والخدمات ذلك أن التدخل التشريعي يجب أن ينصب أساسا نحو حماية فعالة للمستهلك بعض النظر عن شخصية هذا المستهلك وكذلك بصرف النظر عن طبيعة السلعة التي يرغب في اقتنائها، فالمشرع حرص دائما على أن يكون مبدأ حرية المنافسة التجارية المشروعة والحرة لمصلحة المستهلك بهدف حصوله على السلعة التي يرغب في شرائها أو الحصول على الخدمة بأفضل الأسعار والمواصفات والهدف هو منع الاحتكار وضمان تحديد الأسعار وفقا لقانون العرض والطلب[15].

لقد تكفل قانون الالتزامات والعقود بحماية رضا المشتري من عيوب البيع وذلك بنصه في الفصل 532 على أنه الضمان الواجب على البائع للمشتري، وقد أضاف الفصل 551 من نفس القانون على ان نفس البيوع التي تنعقد على مقتضى الانموذج يضمن البائع توفر صفات الانموذج في المبيع واذا هلك الانموذج أو تعيب وجب على المشتري أن يثبت أن البضاعة عين مطابقة.

خلاصة القول أن ق.ل.ع وفي حماية نسبية للمشتري (المستهلك) ضد العيوب الخفية إلا أن هذه الحماية ليست خاصة بالمستهلك لذاته وإنما باعتباره متعاقد يستفيد من هذه الحماية سواء كانت المعاملة تتعلق بحاجيات شخصية أم من أجل إعادة بيعها بنفسها أو بعد تحويلها.

أما فيما يخص بعض القوانين التي لها صلة بالمستهلك سوف نتطرق بداية إلى قانون 15 أكتوبر 1984 المتعلق بحبس الغش في البضائع ثم قانون 008.71 المتعلق بتنظيم الائتمان ومراقبتها وشروط إمساك المنتوجات والبضائع التي سيطرت عليه حماية المستهلك من المضاربة غير المشروعة وذلك بين الحاضر الواجب إتباعه عند تحديد الاثمان سواء بالاعتماد على القيمة المطلقة أو تطبيق نسبة من الربح أو مقدار خاص بصنف من المنتوجات أو الخدمات في إحدى مراحل التسويق.

مجمل القول فالمشرع من خلال قانون 008.71 السالف الذكر كان مشبعا بروح الفكرة التدخيلية لحماية رضا المستهلك أثناء إبرام عقود البيع أو الاقتناءات للبضائع والمنتجات.

ثم هناك قانون 06.99[16]. هذا القانون لا يتعلق فقط بحرية الأسعار والمنافسة وإنما يهدف إلى حماية المستهلك طبقا للمادة 47 التي يستفاد منها أن كل من يبيع منتوجات أو يقدم خدمات يلزم أن يعلم المستهلك عن طريق صنع علامة أو ملصق أو إعلان أو بأية طريقة مناسبة أخرى بالأسعار كما نجد في المادة 52 من نفس القانون التي تنص على أن كل مهني ملزم بتقديم جدول أسعاره وشروط بيعه لكل شخص طلب تقديم خدمة أو اشترى منتوجا من المهني.

انطلاقا مما سبق فإن المشرع المغربي من خلال الرسالة القانونية المهمة فإنه يحاول حماية المستهلك من خلال عدة نصوص ولو انها جاءت متفرقة.

أما فيما يخص مظاهر حماية المستهلك من الشروط التعسفية وفقا للقواعد العامة فنجد في ظهير الالتزامات والعقود عدة نظريات يمكن اعتمادها لتامين التوازن العقدي وتطبيقها في مجال عقود الاستهلاك والحد من الشروط التعسفية المصاحبة لها أحيانا ونشير إلى نظرية الغبن والتدليس وهي نظريات يمكن الاعتداد بها للحكم بالبطلان كما هو معلوم فاختلال التعادل بين الأداءات المتقابلة في العقد والغبن الذي بين المتعاقدين الرشداء لا يعتبر سببا للإبطال في قانون الالتزامات والعقود إلا إذا كان ناتجا عن تدليس المتعاقد الآخر أو نائبه و الشخص الذي تعامل من أجله.

والغبن يخول الإبطال إذا كان الطرف المغبون قاصرا أو ناقصا الأهلية ولو تعاقد بمعية نائيه أو وصيه أو مساعده القضائي.

وهناك في الفقه المغربي[17] من يرى بان المشرع المغربي في ق.ل.ع قد أقر الآخذ بنظرية الغبن الاستغلالي وذلك بالرجوع إلى المادة 54 من نفس القانون وقد اعتبر مأمون الكزبري أن النظرية الحديثة للغبن ترتكز على فكرة الغبن الاستغلالي هذا الأخير الذي يقوم على استغلال أحد المتعاقدين مرض أو ضعف أو حاجة المتعاقد الآخر إلى التعاقد استنادا إلى ما سبق نرى بأن المتعاقد المستهلك الذي ابرم عقدا يتضمن شروطا تعسفية أدت إلى إلحاق غبن استغلالي يمكنه الاستناد إلى مقتضيات المادة 54 من ق.ل.ع خاصة إذ اعتبرنا عدم دراية المستهلك بالخبايا الفنية أو القانونية اوالاقتصادية.

انطلاقا مما سبق فالشخص الذي لم يوجد في وضع يسمح له بتقدير حجم الالتزامات الواقعة عليه ويدخل في هذه الحالة، حالة المغبون المستهلك فيكون العقد الذي ابرمه مع المهني قابلا للإبطال[18].

أما بالنسبة لإبطال العقد للتدليس كحماية من الشروط التعسفية باعتبار أن المشرع المغربي يأخذ بالنظرية التقليدية في التدليس التي تعتمد على التدليس الجوهري الذي يدفع إلى التعاقد للقول بإمكانية الإبطال أما التدليس الثانوي الذي يتعلق ببعض شروط العقد فإنه لا يخول الإبطال وإنما يقتصر على مجرد منح التعويض وهو ما تشير إليه المادة 53 من ق.ل.ع[19].

ونرى إمكانية تقسيم الإبطال للتدليس الجوهري أو الثانوي مسايرة مع الاتجاهات الحديثة، في النظرية المعاصرة للتدليس بحيث يكفي التمسك بهذا السبب إذا كان الشرط المصاحب للعقد تعسفيا فهذه النظرية أكثر حماية للمتعاقد المستهلك من الشروط التعسفية[20].

يستفاد مما سبق أنه يجوز للمستهلك أن يتمسك بعيوب الارادة المنصوص عليها في قانون الالتزامات والعقود عندما تشوب إراداته عيب من هذه العيوب كاللفظ والإكراه والتدليس والغبن.




خاتمة:

في ختام قولنا نخلص إلى أن القواعد العامة لم تعد لوحدها قادرة على القيام بمهمة تفسير العقد من أجل حماية المستهلك باعتباره العنصر الضعيف في العلاقة التعاقدية الاستهلاكية ولهذا ندعو المشرع المغربي بالتسريع في المصادقة على مشروع قانون حماية المستهلك 31.08 حتى يتمكن المستهلك من الرجوع إلى قواعد قانونية ثابتة للمطالبة بحقوقه وحمايته من الممارسات التعسفية التي يمكن للمهني أن يمارسها عليه.


المراجع المعتمدة





& إبراهيم الدسوقي أبو الليل، العقد غير اللازم،الطبعة الأولى، 1994.

& السيد محمد السيد عمران، حماية المستهلك أثناء تكوين العقد، دراسة مقارنة مع دراسة تحليلية وتطبيقية للنصوص الخاصة بحماية المستهلك، منشأة المعارف بالإسكندرية 1997.

& حمد الله محمد حمد الله، حماية المستهلك في مواجهة الشروط التعسفية في عقود الاستهلاك دراسة مقارنة، دار الفكر العربي، القاهرة. 1997.

& أحمد شوقي محمد عبد الرحمان، قواعد تغير العقد، المطبعة الحديثة، 1977.

& المختار بن أحمد العطار، الوسيط في القانون المدني مصادر الالتزامات، الطبعة الأولى، 2002.

& العربي ميادي ، عقود الاذعان ،الطبعة الاولى ،2004 .





الرسائل والأطروحات:

& نور الدين الناصري، دور القاضي في تفسير العقد على ضوء قانون الالتزامات المغربي، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة في القانون المدني، جامعة الحسن الثاني، البيضاء، 1998/1999.

& مفيد الفارسي، حرية الأسعار والمنافسة في التشريع المغربي، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة في قانون الأعمال، جامعة محمد الأول وجدة 1999/2000.



المجــــــــــلات:

& إدريس الفاخوري: حماية المستهلك في الشروط التعسفية، المجلة المغربية للاقتصاد والقانون، عدد 3، 2000.

& جميل صبحي مرسوم، تأويل العقود بين القانون والقضاء والفقه في المغرب ومصر، مجلة القضاء والقانون، عدد 134.133، 1984.



مواقع الأنترنت:

& www.courapplfes.ma

& www.Droit civil.over-blog.com

















[1] - نور الدين الناصري: "دور القاضي في تمييز العقد على ضوء قانون الالتزامات المغربي" رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة في القانون المدني، جامعة الحسن الثاني الدار البيضاء، السنة الجامعية 1998/1999، ص، 77-78.

[2] - أحمد شوقي محمد عبد الرحمن، قواعد تفسير العقد، المطبعة الحديثة 1977، ص، 58.

[3] - الفصل 463 "من قانون الالتزامات والعقود" تعتبر لشروط العقد الشروط الجاري بها العمل في مكان إبرامه والشروط التي تقتضيها طبيعته".



[4] - نور الدين الناصري: م.س، ص، 81.

[5] - نور الدين الناصري: م.س،ص 82.

[6] - قرار الغرفة المدنية رقم 96 بتاريخ 13/11/1962، قضاء المجلس الأعلى لسنة 11 فبراير 1963 ص21.

[7] - ذ- جميل صبحي مرسوم: تأويل العقود بين القانون والقضاء والفقه في المغرب ومصر، مجلة القضاء والقانون، العدد 133- 134 يوليوز 1984، ص 141.

[8] - الفصل 462: يكون التأويل في الحالات الآتية:

1- إذا كانت الألفاظ المستعملة لا يتأتى التوفيق بينها وبين الفرض الواضح الذي قصد عند تحرير العقد.

2- إذا كانت الألفاظ المستعملة غير واضحة بنفسها أو كانت لا تعبر تعبيرا كاملا عن قصد صاحبها.=

=3- إذا كان الغموض ناشئا عن مقارنة بنود العقد المختلفة بحيث تثير المقارنة الشك حول حلول تلك البنود وعندما يكون التأويل موجب يلزم البحث عن قصد المتعاقدين، دون الوقوف عند المعنى الحرفي للألفاظ ولا عند تركيب الجمل.

[9] - نور الدين الناصري، م.س، ص، 90.

[10] - العقد النموذجي هو عقد مطبوع مهيأ مسبقا من طرف مؤسسة مهنية أو إرادية بغية التعاقد بموجب مقتضياته بدعوى توفير الوقت والنفقات حيث يقتصر دور الأفراد المتعاقدة فيها على ملء البيانات الناقصة سواء تعلق الأمر بشخص المتعاقد أو مدة التعاقد أو باقي البيانات التكميلية عند الاقتضاء.

[11] - السيد محمد السيد عمران: "حماية المستهلك أثناء تكوين العقد دراسة مقارنة مع دراسة تحليلية وتطبيقية للنصوص الخاصة بحماية المستهلك"، مطبعة منشأة المعارف، الطبعة الأولى، 1997، ص 21 وما بعدها.

[12] - السيد محمد السيد عمران، مرجع سابق، ص 23.

[13] - عربي المياد، عقد الاذعان ، الطبعة الاولى، 1994 ، ص 435 وما بعدها.

[14] - إدريس الفاخوري: حماية المستهلك في الشروط التعسفية، المجلة المغربية للاقتصاد والقانون، عدد 3، 2000.: ص: 67-68.

[15] - مفيد الفارسي: حرية الأسعار والمنافسة في التشريع المغربي، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة في قانون الأعمال كلية وجدة، السنة الجامعية 1999-2000، ص: 97 وما بعدها.

[16] - قانون 06.99 المتعلق بحرية الأسعار والمنافسة وقد صدر كظهير شريف رقم 1000 225 يونيو 2000 … للقانون السابق الذكر ونشر بالجريدة الرسمية عدد 4810 بتاريخ 6 يوليوز 2000 ولم يدخل حيز التنفيذ إلا بعد سنة.

[17] - من أهم الفقهاء الذين أخذا بهذه النظرية نجد أحمد شكري السباعي.

[18] - إدريس الفاخوري: مرجع سابق: ص: 75.

[19] - المادة 53 تنص على ما يلي: "التدليس الذي يقع على توابع الالتزام غير أن يدفع إلى للتحمل به لا يمنح إلا الحق في التعويض.

[20] - إدريس الفاخوري: مرجع سابق: ص: 79.


المواضيع المتشابهه: