المحامي د.محمد سالم ملحم - قال تعالى: ((هاأنتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً)) صدق الله العظيم (سورة النساء الآية 19)نظرا لأهمية مهنة المحاماة في الدفاع عن حقوق العباد، وتمثيل المتخاصمين أمام المحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها، ولأن مهنة المحاماة أصبحت مهنة عالمية بحيث لا تخلو دولة من دول الكون من نظام قانوني ينظم هذه المهنة، وسَرّنا جداً أن المملكه العربيه السعوديه أحدثت في تشريعاتها تنظيم مهنة المحاماة وللأهمية القانونية لهذه الدراسة ومستجداتها وأشخاصها ونظامها فإننا قسمناها إلى مساقات منها:1- كيف نشأت المهنة ومن أين بدأت فكرة المحاماة؟نشأت فكرة المحاماة من بريطانيا، عندما كانت دولة استعمارية تجوب العالم شرقاً وغرباً، وظهرت في بريطانيا طبقات اجتماعية غنيه جداً أهمها طبقة النبلاء، هذه الطبقة كانت هي الطبقة الأولى وصاحبة الامتيازات المالية والاجتماعية والثقافية والمهنية، حيث تبلورت الفكرة وحددت الشروط والحقوق والواجبات، ومن أهم ما جاء فيها أن النبلاء سيدافعون عن كل مظلوم في العالم بدون أجر، حيث ذهب قسم منهم إلى الهند إحدى مستعمرات بريطانيا، وقسم آخر أخذ يجوب العالم من خلال التنقلات البحريه حتى وصلوا إلى أميركا، وتقول الروايات إلى النقابات المهنية في الهند وخاصة المحاماة من نتاج من سافروا إليها من النبلاء وكذلك في كولومبيا وأميركا وفي الكثير من مستعمراتها، و الأمر المهم أن بريطانيا من خلال طبقة النبلاء نشأت فيها مهنة المحاماة ممن تنطبق علهم شروط العضوية مدافعين بكل ما أتوا من قوه عن كل مظلوم ومحتاج للدفاع، وتم الأمر مجانا حتى بداية القرن السابع عشر، إذ كان النبلاء يدفعون من جيوبهم كافة النفقات اللازمة وعندما أصبح حجم القضايا كثيراً جداً وبدأوا يضعفون مالياً وأصبحت أمورهم صعبة لجأوا إلى القبعة الخلفية برداء المحاماة، وأصبح العرف أن توضع الأتعاب في هذه القبعة، وذلك صيانة لكرامتهم حتى لا يروا ما يدفع لهم دون اشتراط، واستمر الأمر على هذا الحال حتى عام 1850.وفي بداية القرن التاسع عشر اجتمعت هذه الطبقه وتنادت فيما بينها لاجتماع عاجل من أجل الدفاع عن الطبقه الفقيرة ونتيجة لهذا النداء اجتمع معظم أعضاء طبقة النبلاء في قصر لأحد الأعضاء يسمى «MrGeneson» يقع في ضواحي لندن، وبعد المداولات قرر المجتمعون تأسيس ناد خاص يسمى «نادي الدفاع» ما لبث أن تطور الاسم إلى نادي المحاماة، وحيث أن بريطانيا بلا دستور فقد استلهم النبلاء هذا الأمر من وقائع الدستور العرفية التي تحض على الدفاع عن المظلومين والفقراء، وتم تنظيم هذه المهنة من خلال شروط خاصة جداً قبل أن تجتمع في الأشخاص العاديين والمحامين البريطانيين وفروعها ضمن أسس قانونية جديدة، ثم تحديد نسب الأتعاب والحقوق والواجبات للمهنة، وهكذا انتشرت مهنة المحاماة بشكلها الحالي في معظم دول العالم.2- شرعية مهنة المحاماةثار أكثر من تساؤل عن مهنة المحاماة ومدى شرعيتها أسلامياً، وهنا نقطتف من الفتاوى التي صدرت عن دائرة الإفتاء العام في المملكة العربيه السعودية، بعد أن تم توجيه السؤال التالي إليهم من أحد المحامين من إحدى الدول العربيه التي قوانينها تخالف الشرع الإسلامي.- ما هو الحكم الشرعي لمهنة المحاماة في بلد لا يحكم بشرع الإسلام؟ كان الجواب على النحو التالي:إن المهنة ليست محرَّمة لذاتها؛ لأنه ليس فيها حكم بغير ما أنزل الله، بل هي وكالة وإنابة في الخصومة، وهي من الوكالات الجائزة، لكن ينبغي للمحامي التحري والتثبت من القضية قبل الخصومة عنها، فإن كانت الدعوى حقّاً مسلوباً عن صاحبها وظلماً واقعاً عليه: جاز لك التخاصم عنه وإرجاع الحق له، ورفع الظلم، وهو من باب التعاون على البر والتقوى، وإن كانت القضية فيها سلب حقوق الناس والتعدي عليهم: فلا يجوز لك المرافعة عنه ولا قبول وكالته؛ لأنه يكون من باب التعاون على الإثم والعدوان، وقد توعد الله تعالى المتعاونين على هذا بالإثم والعقوبة، فقال تعالى: ( وَتَعَأونُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَأونُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَأن اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) المائدة/2.وزيادة في الاطمئنان فإن دائرة الإفتاء نقلت فتاوى صادرة عن كبار العلماء المسلمين في السعوديه منهم :- الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: ما حكم الشريعة الإسلامية في حرفة المحاماة ؟فأجاب :لا أعلم حرجاً في المحاماة؛ لأنها وكالة في الدعوى والإجابة إذا تحرى المحامي الحق ولم يتعمد الكذب كسائر الوكلاء.- الشيخ صالح الفوزان حفظه الله: ما رأي فضيلتكم من اشتغالي بالمحاماة من حيث الترافع أمام المحاكم المدنية للدفاع عن القضايا المدنية والتجارية التي بها شبهة الربا؟فأجاب: لا شك أن كون الإنسان ينوب عن غيره في الخصومة لا بأس به، ولكن الشأن في نوعية الخصومة :- فإذا كانت بحق والنائب إنما يدل بما عنده من حقائق ليس فيها تزوير ولا كذب ولا احتيال وهو ينوب عن صاحب القضية لإبداء ما معه من البينة والبراهين على صدق ادعائه أو دافع به فهذا لا بأس به.- أما إذا كانت الخصومة في باطل أو يخاصم النائب أو الوكيل عن مبطل فهذا لا يجوز، فالله جل وعلا يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: ( وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً )، وكلنا يعرف أنه إذا كانت القضية قضية حق ولا يستعمل فيها شيء من الكذب والتزوير فهذا شيء لا بأس به، خصوصاً إذا كان صاحب القضية ضعيفاً لا يستطيع الدفاع عن نفسه أو لا يستطيع إقامة الدعوى لحقه، فكونه ينيب من هو أقوى منه جائز في الشرع، والله تعالى يقول: ( فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أو ضَعِيفاً أو لا يَسْتَطِيعُ أن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْل) فالنيابة عن الضعيف لاستخراج حقه أو دفع الظلم عنه شيء طيب، إما إذا كان خلاف ذلك بأن كان فيه إعانة لمبطل أو دفاع عن ظلم أو بحجج مزيفة ومزورة والوكيل أو النائب يعلم أن القضية من أصلها باطلة، وكالنيابة في أمر محرم كالربا فهذا لا يجوز، فلا يجوز للمسلم أن يكون نائباً أو وكيلاً في باطل ولا محامياً في المعاملات الربوية لأنه معيناً على أكل الربا فتشمله اللعنة.وكونك في بلد لا يحكم بما أنزل الله وإنما يحكم بقوانين وضعية، لا يعني ذلك تحريم مهنة المحاماة إذا كان القصد هو الحصول على الحق ودفع الظلم، فإن المظلوم مضطر إلى التحاكم إلى هذه القوانين لأخذ حقه، وإلا لأكل الناس بعضهم بعضاً. وأضاف: ولذلك لا ننصحك بترك هذه المهنة، وإنما ننصحك باستمرار العمل فيها.هذه الاراء الفقهية الصادرة عن كبار علماء الأمه تدحض الافتراءات التي تقع بحق مهنة المحاماة والمحامين من أن اموال المحامين حرام والمهنة حرام إلى غير ذلك من أوصاف تصدر عن جهل بالعلم الحقيقي في شان الإفتاء آملين أن تتوحد الجهود في مسالة الإفتاء ككل وأن تناط بدائرة الإفتاء العام فقط وأن لا ينتظم للفتوى جاهل أو مغرور لاننا في الواقع نعاني من كثره المفتيين بغير علم وحيث أن دائرة الإفتاء العام منظمة بقوانين فإننا نأمل أن تكون المرجعيه الوحيده في أمر الإفتاء الشرعي كما هو حال في المملكة العربية السعودية.3- تاريخ وتطور المهنة في المملكة الأردنية الهاشميةأما في المملكة الأردنية الهاشمية فقد صدر قانون نقابة المحامين في 16/9/1950 بالقانون رقم لسنة 1950 وفي 16/4/1951 تم افتتاح دار المحاماة من قبل المغفور له الملك عبدالله الأول نورد بعضا من خطاب الافتتاح ((يسرني أن أرى من نذروا أنفسهم لخدمة الشرع وصون الحق والعدل معتزين بمجال قومهم من الفقه والتشريع وبيقينهم أن المحامي الحق هو الذي يقبل على الدعوى وفي برديه مدرة العدل ومقياس العلم وميزان العفة ونبراس اللسان وسيف الحجه. وأما القضايا فموضع شبه بين الحق والباطل والظن واليقين وعندما يسود الشك حق المدعي أو المدعى عليه تجلي المحاماة الحقائق، هذا في المدنيات وأما في الجنائيات فإن الدفاع عن الجاني هو من قبيل درء الحدود بالشبهات، إن البراءه هي الاصل)) وبالرجوع إلى قانون المحامين الأردنيين والذي جاء استنادا إلى نص المادة (16/2) من الدستور والذي جاء فيها: ((للأردنين الحق في تأليف الجمعيات والأحزاب السياسيه على أن تكون غايتها مشروعه ووسائلها سليمة وذات نظم لا تخالف أحكام الدستور)) فإن القانون نظم بشكل صريح وتام وشامل أحكام المهنة حيث حددت بوضوح ما للمحامي من حقوق، وما عليه من واجبات، وكذلك التدريب والقواعد المسلكية واللجان والخدمات، التي تقدمها النقابه لأعضائها وصناديق التعاون، ونأمل أن تسير النقابة قدماً في هذا الأمر لرفع سوية المهنة عالية ولأعضائها بالإجلال و الاحترام والتقدير.4- ماذا قالوا عن المهنة؟- قال (روجيسيو) رئيس القضاة الأعلى في فرنسا في عهد لويس الخامس عشر: «إن المحاماة عريقة كالقضاء، مجيدة كالفضيلة، ضرورية كالعدالة، هي المهنة التي يندمج فيها السعي إلى الثروة مع أداء الواجب، حيث الجدارة والجاه لا ينفصلان ،المحامي يكرس حياته لخدمة الجمهور دون أن يكون عبداً له، ومهنة المحاماة تجعل المرء نبيلاً عن غير طريق الولادة، غنياً بلا مال، رفيعاً دون حاجة إلى لقب، سيداً بغير ثروة».- (هنري روبير) نقيب المحامين في فرنسا سابقاً، قال: «ليس من وظيفة عدا وظيفة القضاء أشرف من المحاماة، وهذا الشرف هو المقابل لمجهود من يمارسها والموجب للصفات التي يمتاز بها عن غيره، والأصل فيها نيل الشرف وخدمة العدالة ومساعدة صاحب الحق على أخذه ومقاومة الباطل والمبطلين».- (جاز إيزورني) أحد كبار المحامين في نقابة باريس، قال: «إنه لفخر للمرء أن يكون محامياً ليبقى مستقلاً لا ينتظر من السلطة شيئاً، وأن يتكلم بصوت عالٍ دون أن يقصر في قول كلمة الحق، وألا ينتظر شيئاً إلا من ذاته».وعليه فإنه: «لابد أن يكون المحامي معداً إعداداً عقلياً ومهنياً وعلمياً وروحياً وأخلاقياً، ليحمل رسالته السامية على خير وجه، وليكون في ساحة العدالة صاحب الكلمة الصادقة في إحقاق الحق.ومن الفضائل النفسية التي لابد منها في المحامي:الحكمة والشجاعة، العفة والعدالة، فالحكمة فضيلة القوة العقلية التي تعين الذكاء أن وجد وتعويضه أن لم يوجد.والمبادئ القضائية الرفيعة التي تصدر عن المحاكم باختلاف درجاتها هي الغذاء المثمر في أنحاء العدالة وتطور القوانين والاقتراب بها إلى الحق.إضافة إلى ذلك، فالمحامي من كان أميناً شجاعاً ومستقيماً مخلصاً، إنه مؤتمن على أموال الناس وأسرارهم وأرواحهم.والمحامي من صفاته الأمانة المطلقة والشجاعة الكاملة والإستقامة التامة، والإخلاص الدائم، فمن أوتي هذه الفضائل فقد شرع في طريق المحاماة، قال تعالى: ((هآانتم جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل عنهم يوم القيامه أمن يكون عليهم وكيلا)) صدق الله العظيم .5- الدول التي أنشأت نقابات مهنية خاصة بالمحامين صدر في مصر أول لائحة تنظيم المحاماة عام 1884 وأول قانون كان قانون رقم 26/لسنة 1912، وفي السودان صدر عام 1906 مرسوم بمزاولة المحاماة، ثم صدر عام 1935 أول قانون ينظم مهنة المحاماة في السودان، وفي ليبيا صدر القانون رقم 44 لسنة 1952 وتأسست النقابة عام 1962، وفي تونس صدر القانون وتأسست النقابة فيها عام 1920، وصدر أول قانون لتنظيم المهنة عام 1975، في الكويت تأسست جمعية المحامين عام 1963 وصدر القانون رقم 42 لعام 1964 وفي البحرين عام 1973 وتأسست جمعية المحامين عام 1980.أن مهنة المحاماة مهمة للمجتمع، إنها المهنة الجليلة، لها قدسيتها ورسالتها السامية، وهي مهنة تشارك السلطة القضائية في تحقيق العدالة.إنها المهنة المقدسة التي تقف إلى جوار البريء الذي لم تثبت إدانته، فالمتهم بريء حتى تثبت إدانته.أن هناك الكثير من المهن التي لا تقل إجلالا وشرفا عن مهنة المحاماة، نجد من بين من يمارسونها من يسيئون إليها، فيستخدمون مهنتهم بغرض الكسب فقط دون مراعاة لأي قيم أو أخلاق دينية واجتماعية، إن ذلك ليس ذماً في المهنة أو خطأً منها، لكن الأمر يعود إلى الشخص الذي مارس المهنة والمطلوب منا جميعاً أن نعكس رسالة صادقه مبينه على العدل والمحبه في الدفاع عن الحقوق وفي طلبها والذود عنها بكل ما أوتينا من قوة.التوصياتإننا إذ نوصي أنفسنا قبل غيرنا أن نسلك طريق العلم الحقيقي لمهنة المحاماة، في مسائل البحث والتنقيب والدراسات والقياس والفهم الواقعي والموضوعي للنص وتطبيق روحه، وأن تكون العدالة هي الهدف، وأن ندرس القضية بعناية فائقة، وأن نعطي المشورة المجانية لطالبها، وأن ندافع عن المظلومين ونرفع الظلم عنهم، وأن لا نترك شاردة أو واردة إلا وضعناها أمام القاضي، وأن نطعن بالأحكام لآخر الدرجات، لأن الأمه لا تجتمع على ضلالة، ولا يمكن القرار إلا ما ندر أن يصدر من هيئة أولى ثم استئناف ثم تمييز، أن يكون فيه ضلالة أو خطأ.* مدير عام مركز عين شمس للدراسات القانونية والدستورية


_ جريدة الرأي


المواضيع المتشابهه: