القواعد الامرة والقواعد المكملة

مقدمة:
القانون ينظم سلوك الأشخاص في المجتمع، غير أن القانون لا يسلك سبيلا واحدا، بل تتعدد مسالكه ن فهو قد ينظم هذا السلوك على نحو معين لا يرتضي بغيره بديلا. وقد ينظمه على نحو يترك فيه الأفراد حرية تنظيمه على وجه قانوني آخر، و عليه نجد في بعض القواعد القانونية أن القانون يقيد حرية الأفراد بحيث بمنعه من مخالفة نصوصها و حينئذ تكون هذه القواعد آمرة، أما في بعضها الآخر فنجد أن القانون يمنح الفرد نوعا من الاختيار في تنظيم نشاطه، و حينئذ نكون أمام القواعد المكملة.
فما المقصود بكل من هذين النوعين من القواعد ؟ و ما معيار التفرقة بينهما ؟ هذا ما سنحاول الإجابة عنه في هذا البحث الذي يتضمن خطة تحتوي على مبحثين، و كل مبحث ينقسم بدوره إلى مطالب.
المبحث الأول: المقصود بكل من ؟
المطلب الأول: المقصود بالقواعد الآمرة règle impérative
هي تلك القواعد التي تأمر بسلوك معين، أو تنهي عنه بحيث لا يجوز للأفراد الاتفاق على خلاف الحكم الذي تقرره، فإن هذا الاتفاق لا يعد به و يعتبر باطلا، و يتضح من ذلك أن هذه القواعد تمثل القيود على حرية الأفراد و هي قيود ضرورية لإقامة النظام العام في المجتمع، و تفرض تحقيقا للمصلحة العامة...
و من أمثلة هذه القواعد:
- القاعدة التي تنهى عن القتل أو السرقة أو التزوير أو الرشوة أو غير ذلك من الجرائم.
- القاعدة التي تأمر بأداء الضرائب أو تلك التي تأمر بأداء الخدمة الوطنية
- القاعدة التي تضع حدا أقصى لسعر الفائدة و تنهي عن تجاوزه.
- القاعدة التي تنهي عن التعامل في تركة إنسان على قيد الحياة، فهي قاعدة آمرة لا تجيز للشخص أن يتعامل في المال على أساس أنه سيرثه في المستقبل، فمثل هذا التعامل يعد مضاربة على حياة المورث.
فاستخدام اصطلاح القواعد الآمرة لا يعني أن كل القواعد التي لا يجوز الاتفاق على مخالفتها و مخالفة الحكم الذي تقرره تتخذ صورة الأمر. فهناك قواعد تتخذ صورة النهي و تعد قواعد آمرة لا يجوز الاتفاق على مخالفتها كقانون العقوبات مثلا:
القانون الذي ينهى عن ارتكاب الجرائم المختلفة، و لذلك استعمل بعض الفقهاء اصطلاح القواعد المطلقة règle absolues و هو اصطلاح يظم داخله القواعد الآمرة و الناهية و رغم ذلك فنحن نستعمل اصطلاح القواعد الآمرة الأكثر شيوعا مع مراعاة أن المقصود به الأمر و النهي.
المطلب الثاني: المقصود بالقواعد المكملة règle supplétives :
الفرع الأول: معنى بالقواعد المكملة règle supplétives
هي تلك القواعد التي تنظم سلوك الأفراد على نحو معين، لكن يجوز للأفراد الاتفاق على ما يخالف حكمها، و من الواضح أن هذه القواعد على خلاف القواعد الآمرة لا تمثل قيودا على حرية الأفراد، إذ يجوز لهم الاتفاق على خلاف ما تقرره في تنظيم علاقاتهم في المجالات التي لا تمس فيها هذه العلاقات بمصلحة عامة، فالقواعد المكملة تنظم علاقات يترك تنظيمها في الأصل لإرادة الأفراد و لكن احتمال تصور إرادة الشعب عن تنظيم علاقاتهم سيشمل القانون على قواعد احتياطية يكمل
ما اتفاقات الأفراد من نقص، أي تنطبق حيث لا يوجد اتفاق على خلاف الأحكام التي تقررها تنظيما لمسائل تفصيلية كثيرا ما لا تنتبه الأفراد التي تناولها بالتنظيم في اتفاقاته و من أمثلة القواعد المكملة ما يلي:
- القاعدة التي تقرر أن الثمن يكون مستحق الوفاء في المكان و في الوقت الذي يسلم فيه المبيع ما لم يوجد اتفاق أو عرف يقضي بغير ذلك.
- القاعدة التي تفرض على المؤجر التزاما بصيانة المكان المستأجر ما لم يقضي الاتفاق بغير ذلك.
- القاعدة التي تجعل نفقات عقد البيع و التسجيل و نفقات تسليم المبيع على المشتري ما لم يوجد اتفاق أو عرف يقضي بغير ذلك.
فهناك قواعد و ما يماثلها يجوز الاتفاق على خلاف الأحكام التي تقررها. فيمكن مثلا الاتفاق على الوفاء بالثمن في وقت لاحق لتسليم المبيع أو الاتفاق على تحمل البائع كل النفقات عقد البيع أو جزء منه.
و يطلق عليها بعض الفقهاء القواعد النسبية règle relatives بالمقابلة لاصطلاح القواعد المطلقة الذي اقترحوه على القواعد الآمرة، و لا يعني جواز الاتفاق على خلاف أحكام القواعد المكملة أن تتحول لقواعد اختيارية موجهة للأفراد على سبيل النصح، و إنما هي قواعد قانونية بمعنى الكلمة لها صفة الإلزام التي تميز قواعد القانون و قواعد الأخلاق.
ملاحظة: فيما يتعلق بالقواعد المكملة يجب أن يكون موضوع الاتفاق مشروع.
الفرع الثاني: جدوى القواعد القانونية المكملة:
إذا كانت القاعدة القانونية المكملة هي التي يجوز للأفراد الاتفاق على مخالفتها فلماذا لم يترك لهم في بداءة أمر تنظيم علاقاتهم على النحو الذي يرغبون فيه ؟ أي ما هي الـغاية من وجـود هذه الـقاعدة التي تـتـرك حريـة مـخـالفـتها للأفـراد إن شاءوا ؟
إن الإجابة عن هذا السؤال تكون من زاويتين:
الأولى:
رغبة المشرع في جعل الأفراد يستغنون عن البحث عن المسائل التفصيلية التي تنظم علاقاتهم دفعته إلى إيجاد القواعد الكفيلة بحكم تلك العلاقات.
الثانية:
كثيرا ما قد يكون الأفراد على غير خبرة ببعض المسائل القانونية أو كثيرا ما لا ينتبهون إلى تنظيم بعض المسائل التفصيلية أو أنه لا وقت لديهم للبحث عن مثل هذه التفصيلات فما عليهم سوى الاتفاق على المسائل الجوهرية و ترك ما عداها من مسائل تفصيلية لحكم القواعد القانونية المكملة، فالقاعدة المكملة تطبق حيث لا يوجد اتفاق من الأفراد على مسألة معينة، فمن يرم عقد بيع مثلا: ما عليه سوى الاتفاق على المبيع و الثمن فقط، أما ما دون ذلك من يبان لم كان تسليم المبيع و زمانه و كيفية دفع الثمن و التزامات البائع بضمان الاستحقاق، أو بضمان العيوب الخفية، فكلها أمور وفرت القواعد المكملة على الأفراد مشقة البحث عليها.
الفرع الثالث: قوة الإلزام في القواعد المكملة:
سبق أن ذكرنا في خصائص القاعدة القانونية أنها قاعدة ملزمة و ها نحن نقول الآن
إن القاعدة المكملة يجوز الاتفاق على ما يخالفها أفلا يوجد تعارض بين ناحية إلزامية القاعدة القانونية و جواز مخالفة القاعدة القانونية المكملة ؟ و بعبارة أخرى هل تبقى القاعدة المكملة صفة القاعدة رغم إمكان الخروج على أحكامها باتفاق ذوي الشأن؟
لا نزاع بيت الشرّاح في أن القواعد المكملة شأنها في ذلك شأن القواعد الآمرة هي قواعد قانونية ملزمة و ليست قواعد اختيارية يجوز للأفراد مخالفتها مع عدم الاتفاق على تنظيم آخر غيرها لحكم علاقاتهم، غير أنهم بعد ذلك في كيفية التوفيق بين حقيقة أن القاعدة المكملة قاعدة قانونية بالمعنى الصحيح و إمكان مخالفة حكمها باتفاق الأفراد.
فذهب بعض الفقهاء: إلى أن القواعد المكملة تكون اختيارية إبتداءا و ملزمة انتهاءا. أي أن الأفراد إلى إبرام العقد أحرار في الاتفاق على ما يخالفها. و في هذه الفترة تكون القاعدة اختيارية بالنسبة إليهم و لكنهم متى أبرموا العقد دون أن يستعملوا حقهم في الاتفاق على حكم آخر يخالفها فإنها تصير ملزمة أي تنقلب من اختيارية إلى ملزمة بمجرد عدم الاتفاق على ما يخالفها
* الرد على هذا الرأي :
انتقد هذا الرأي من أغلب الشرّاح لأن القول بأن القاعدة المكملة اختيارية قبل العقد و ملزمة بعده. يعني أن تتغير طبيعة القاعدة القانونية تبعا لعنصر خارج عن القاعدة نفسها و هو عدم اتفاق الأفراد على ما يخالفها و هو ما لا يجوز.
2- و ذهب آخرون: إلى أنه و إن كانت جميع القواعد القانونية ملزمة فإن درجة إلزامها ليست واحدة فالإلزام أشد في القواعد الآمرة منه في القواعد المكملة و هذا ما يبرر جواز مخالفة هذه الأخيرة .
* الرد على هذا الرأي :
أخذ على هذا الرأي أن درجة الإلزام واحدة لا تندرج فالقاعدة إمّا أن تكون ملزمة أو لا تكون.
3- و ذهب غيرهم: إلى أن القاعدة القانونية المكملة قاعدة ملزمة و كل ما في الأمر
أنها على عكس القاعدة الآمرة، لا يمكن تطبيقها إلا إذا لم يتفق الأفراد على استبعادها بمعنى أنه إذا لم يستبعدوها أصبح ما تقرره ملزما لهم أما إذا اتفقوا على مخالفتها فإنها لن تطبق على علاقاتهم القانونية فالمشرع وضع شرطا لتطبيق القاعدة المكملة و هذا شرط هو عدم وجود اتفاق على مخالفتها. فإذا تحقق هذا الشرط أي لم يتفق الأفراد على مخالفتها طبقت القاعدة و إلا فلا. و عدم تطبيقها لا يرجع إلى كونها غير ملزمة بل يرجع إلى تخلف شرط تطبيقها.
و نخلص إلى أن كل القواعد القانونية ملزمة، غير أن المشرع وضع شرطا لتطبيق القاعدة المكملة دون القاعدة الآمرة و هو ألاّ يتفق الأفراد على حكم يغاير ما تقضي به تلك القاعدة.
المبحث الثاني: معايير التفرقة بين القواعد الآمرة و القواعد المكملة:
للتمييز بين هذين النوعين من القواعد أهمية بالغة، و ذلك لما يترتب على اعتبار القاعدة آمرة من إبطال الاتفاق المخالف لحكمها و هو جزاء خطير الأثر لا مجال لأعماله بالنسبة للقواعد المكملة إذ يجوز الاتفاق على خلاف الحكم الذي تقرره، و من ثم كان من الضروري التمييز بدقة من هذين النوعين من القواعد لحصر هذا الجزء في نطاق القواعد الآمرة.
و يمكن التمييز بين هذين النوعين من القواعد بوسيلتين:
المطلب الأول: المعيار اللفظي
وذلك بالرجوع إلى العبارات التي صيغت بها القاعدة و التي قد تفصح عن نوعها، فتعتبر القاعدة آمرة إذا نصت على عدم جواز الاتفاق على ما يخالفها.
و تعتبر القاعدة مكملة إذا كانت عباراتها منتهية بالصيغة التالية:
((... ما لم يقضي الاتفاق بغير ذلك، أو ما لم يوجد اتفاق أو عرف يقضي بغير ذلك، أو ما لم يوجد اتفاق أو نص قانوني يقضي بغير ذلك...)).
أمثلة للقواعد الآمرة في القانون الجزائري حسب المعيار اللفظي:
- كل قواعد العقوبات صريحة النص على صفتها آمرة، و ذلك بما تتضمنه من عقوبات على ما تحرمه من أفعال.
- نص 92/2 من التقنين المدني الذي ينص على أن التعامل في تركة إنسان على قيد الحياة باطل و لو كان برضاه.
- نص المادة 402 من التقنين المدني الذي يحرم على القضاة و المحاميين و الموثقين و كتاب الضبط أن يشتروا الحق المتنازع فيه، إذا كان النظر في النزاع يدخل في اختصاص المحكمة التي يباشرون أعمالهم في دائرتها.
- نص المادة 107/3 من التقنين المدني الذي يقرر أنه إذا طرأت حوادث استثنائية عامة لم تكن في الوسع توقعها و ترتب على حدوثها أن تنفيذ الالتزام تعاقدي و إن لم يصبح مستحيلا صار مرهقا للمدين بحيث يهدده بخسارة فادحة جاز للقاضي تبعا للظروف و بعد مراعاته لمصلحة الطرفين أن يرد الالتزام المرهق إلى حد معقول و يقع باطلا كل اتفاق يقضي بغير ذلك.
- نص المادة 454 من التقنين المدني الذي يقضي بأن القرض بين الأفراد يكون دائما بدون أجر أي بدون فوائد، و يقع باطلا كل شرط يخالف ذلك .
أمثلة للقواعد المكملة في القانون الجزائري حسب المعيار اللفظي:
- القاعدة التي تضمنتها المادة 277 من التقنين المدني التي تقضي بأن لا يجبر المدين الدائن على قبول وفاء جزئي لحقه ما لم يوجد اتفاق أو نص يقضي بغير ذلك.
- القاعدة التي قررتها المادة 387 من التقنين المدني بأن يكون الثمن مستحق الوفاء في المكان و في الوقت الذي يسلم فيه المبيع، ما لم يوجد اتفاق أو عرف يقضي بغير ذلك .
- القاعدة التي تضمنها نص المادة 479 من نفس التقنين التي تفرض على المؤجر التزام صيانة العين المؤجرة أي المكان المؤجر و إجراء الترميمات الضرورية أثناء فترة الإيجار ما لم يقضي الاتفاق بغير ذلك.
المطلب الثاني: المعيار المعنوي:
إن صياغة القاعدة القانونية قد لا تنبئ عن صفتها آمرة أو مكملة فيلزم في هذه الحالة البحث عن معيار آخر يمكن عن طريقه التوصل إلى نوع القاعدة، و هذا المعيار هو المعيار المعنوي، و هذا المعيار ليس حاسما كالمعيار اللفظي أو المادي فهو تقديري مرن يساعد إلى حد بعيد على تحديد نوع القاعدة، وذلك على أساس البحث في موضوع القاعدة ذاتها و مدى اتصالها بالأسس الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية التي يقوم عليها المجتمع لإمكان القول بأنها قاعدة آمرة أو مكملة.
و تسهيلا للفصل في هذا الأمر درج الفقه على القول بأن القواعد القانونية تكون آمرة إذا تعلقت موضوعاتها بالنظام العام ordre public أو بالآداب العامة و تكون مكملة إذا تعلقت بالمصالح الخاصة للأفراد.
غير أنه من المستحيل وضع قائمة جامعة مانعة لكل ما هو مخالف للنظام العام أو الآداب العامة، لذا فقد اكتفى المشرع الجزائري في نطاق الالتزامات بالنص في المادة 96 من التقنين المدني على أنه ( إذا كان محل الالتزام مخالفا للنظام العام أو الآداب العامة كان العقد باطلا)، كما نص في المادة 97 منه على أنه ( إذا التزم المتعاقد لسبب مخالف للنظام العام و الآداب العامة كان العقد باطلا).
و إذا كان النظام العام و الآداب العامة إذن هو المعيار الموضوعي المعنوي للتمييز بين القواعد الآمرة و المكملة حيث لا يمكن صياغة النص من ذلك، فما هو المقصود بالنظام العام وما معنى الآداب العامة؟.
الفرع الأول: النظام العام
أ- المقصود بالنظام العام:
لم يعرف المشرع الجزائري – على غرار غيره من المشرعين – النظام العام و لم يحدد فكرته بل ترك ذلك للفقه و القضاء بالرغم ما لهذه الفكرة من أهمية كبرى في التفرقة بين القاعدتين و مع أن فكرة النظام العام كانت دائما تستعصي على التعريف فقد حاول الفقه و القضاء فعل ما أغفله المشرع و قد اكتفى الشُرّاح بتقريبها من الأذهان بقولهم إن النظام العام هو الأساس السياسي و الاجتماعي و الاقتصادي و الخلقي الذي يسود المجتمع في وقت من الأوقات، بحيث لا يتصور بقاء مجتمع سليما من دون استقرار هذا الأساس و بحيث ينهار المجتمع بمخالفه المقومات التي تدخل ضمن هذا الأساس، لذا كانت القواعد القانونية المتعلقة بالنظام العام آمرة لا تجوز مخالفتها و ترجع صعوبة تعريف النظام العام تعريفا دقيقا إلى أن فكرته مرنة غير محددة بمعنى أنها فكرة نسبية تتغير وفقا للمكان و الزمان فهي تختلف من مجتمع إلى آخر، بل داخل المجتمع الواحد تختلف من زمان لآخر.
ب- تطبيق فكرة النظام العام :
جرى الفقه على استعراض فروع القانون المختلفة لتجري فكرة النظام العام في كل منها كما رأينا ينقسم إلى قسمين كبيرين هما القانون العام و القانون الخاص.
و إذا كان المجال الطبيعي للقواعد الآمرة هو القانون العام، فإن هذه القواعد نجدها أيضا- و إن كان مجالها أضيق – في نطاق القانون الخاص، و نتناول فيما يلي تطبيق فكرة النظام العام في مجال كل من القانون العام و القانون الخاص :
1- في مجال القانون العام :
تعتبر قواعد القانون العام كلها متعلقة بالنظام العام، و من ثم لا يجوز للأفراد الاتفاق على مخالفة أحكامها و تستوي في ذلك قواعد كل من القانون الدستوري و الإداري و المالي و الجنائي فقواعد كل فروع القانون العام تتعلق بالنظام العام لأنها تمس كيان الدولة السياسي و الاجتماعي و الاقتصادي و الخلقي .
فقواعد القانون الدستوري: تتعلق بالنظام العام لأن التنظيم السياسي للدولة و الحقوق و الحريات العامة التي كفّلها الدستور كلها من النظام العام لذلك يقع باطلا على اتفاق كل تنازل شخص عن حقه في التشريع و يقع باطلا الاتفاق الذي يقيد حق الشخص في اعتناق الدين الذي يريده.
و قواعد القانون الإداري: تتعلق بالنظام العام و بالتالي لا يجوز للأفراد على مخالفتها فلا يجوز للموظف أن يتنازل عن وظيفته للغير مقابل مبلغ من النقود أو بدون مقابل أو أن يتعهد بعدم القيام بواجبه الوظيفي تحقيقا لمصلحة أحد الأفراد، أو أن يتعهد بالقيام بهذا الواجب مقابل مبلغ من النقود.
و قواعد القانون المالي : أيضا تتعلق بالنظام العام فلا يجوز مثلا اتفاق شخص مع مأجور الضرائب على عدم دفع الضريبة لقاء مبلغ معين من النقود.
و قواعد القانون الجنائي : تعتبر أهم قواعد القانون العام المتعلق بالنظام العام فهي التي تكفل الأمن و الطمأنينة في المجتمع فيقع باطلا كل اتفاق على ارتكاب الجريمة أو النزول عنها من جانب المجني عنه، و لا يعتد برضائه بها، أو على تحمل الشخص المسؤولية الجنائية و العقوبة بدل شخص آخر ارتكب جريمة من الجرائم .
و نخلص إلى أن التفرقة بين القواعد الآمرة و القواعد المكملة إنما تقتصر على قواعد القانون الخاص دون قواعد القانون العام .
2- في مجال القانون الخاص :
و لئن كانت القواعد المتعلقة بالنظام العام، كما تقدم فيما سبق فإن القانون الخاص لا يخلو منها و خاصة في البلاد التي يسود فيها المذهب الاشتراكي حيث تكثر القيود على سلطان إرادة الأفراد في إبرام التصرفات القانونية، و قواعد القانون العام نتقسم إلى قواعد شكلية و قواعد موضوعية، و تنقسم القواعد الموضوعية إلى قسمين كبيرين هما:
- قواعد الأحوال الشخصية.
- قواعد المعاملات.
القواعد الشكلية:
كقاعد الرافعات ( الإجراءات )، و قواعد القانون الدولي الخاص يتعلق أكثرها بالنظام العام لاتصالها بالنظام القضائي للدولة، و كذلك القواعد المتعلقة بشكل التصرفات القانونية، و مثل ذلك ما نصت عليه المادة 882 من التقنين المدني أن ( لا ينعقد الرهن إلا بعقد رسمي ) فالشكل الرسمي في هذه الحالة هو من النظام العام بحيث يعتبر العقد باطلا إذا لم يتم في هذا الشكل.
القواعد الموضوعية:
و هي تنقسم _ كما سلف_ إلى قواعد الأحوال الشخصية و قواعد المعاملات أي الأحوال العينية :
فقواعد الأحوال الشخصية: هي القواعد التي تحكم الروابط التي تتعلق بحالة الشخص و أهليته و بنظام الأسرة بما فيه من زواج و طلاق و واجبات الأبناء ز لما كانت الأسرة هي أساس المجتمع كان من الطبيعي أن تتعلق كل قواعد الأحوال الشخصية بالنظام العام و بالتالي تكون قواعد آمرة و على ذلك لا يجوز للشخص أن يتنازل عن أهليته ( م 45 مدني) لأن السن التي يحددها القانون للرشد و هي 19 سنة ( م 45 مدني) لا يجوز إنقاصها أو زيادتها بالاتفاق كما أنه لا يجوز الاتفاق على حرمان الصبي المميز أي الذي بلغ سن التمييز التي يحددها التقنين المدني ببلوغ الشخص 16 سنة (م 42 ) من حقه في طلب إبطال التصرف الذي أجراه- و هو ناقص التمييز- بعد بلوغه سن الرشد.
و قواعد المعاملات: هي القواعد التي تحكم الروابط المالية التي تتم بين الأفراد و قوامها ما بينهم من العقود، و الأصل أن هذه القواعد لا تتعلق بالنظام العام لأنها تنشأ لسد حاجات الأفراد الخاصة لذلك تترك لهم حرية تنظيمها على أساس مبدأ سلطان الإرادة و بذلك تعتبر أغلب القواعد القانونية التي تتعلق بهذه الروابط مكملة.
غير أن المشرع استثنى بعض المعاملات المالية التي تمس كيان المجتمع من الناحية الاجتماعية و الاقتصادية للدولة، فلم يتركها للأفراد بل تدخل لتنظيمها تنظيما آمرا بحيث لا يجوز للأفراد الخروج عليها أي أنه اعتبرها متعلقة بالنظام العام.
و هذه أمثلة للروابط المتعلقة بالنظام العام:
1- القواعد الخاصة بنظام الملكية:
تعتبر هذه القواعد متعلقة بالنظام العام و ذلك على أساس أن حق الملكية من الحقوق الأساسية في المجتمع لذلك حرص المشرع على تنظيمه في صورة آمرة فنجده قد أورد على هذا الحق عدة قيود يجب احترامها و الهدف من هذه القيود هو رغبة المشرع في حسن استعمال حق الملكية و عدم التعسف فيه ومن هذه القواعد أيضا تلك التي تنظم مسألة شهر التصرفات المتعلقة بالملكية العقارية، و القواعد المتعلقة بالحقوق العينية الأخرى التي ترد على العقار كحق الارتفاق و الرهن الرسمي، فهي كلها حقوق تعلق بالنظام العام، و بالتالي لا يجوز الاتفاق على ما يخالف أحكامها.
2-القواعد الخاصة لحماية الطرف الضعيف في العقد:
لقد أورد التقنين المدني نصوصا آمرة كثيرة رعاية منه للطرف الضعيف في العقد و منعا لتحكم الطرف القوي فيه عن طريق فرض شروط تعسفية جائرة تلحق بالطرف الضعيف ضررا كبيرا، و مثال هذه النصوص القاعدة التي أقرتها المادة 110 منه لحماية المتعاقد في عقد الإذعان من الشروط التعسفية التي يفرضها الطرف القوي. و مثالها أيضا القاعدة التي تضمنتها المادة 107/3 من نفس التقنين التي ترعى مصلحة المتعاقد إثر الحوادث الطارئة، و منها كذلك القواعد التي أوردتها المواد من 81 إلى 90 منه لحماية المتعاقد الذي شاب إرادته أحد عيوب الإرادة و هي :
الغلط، التدليس و الاستغلال .
الفرع الثاني: الآداب العامة :
أ معنى الآداب العامة :
هي مجموعة القواعد الخلقية الأساسية و الضرورية لقيام و بقاء المجتمع سليما من الانحلال، أي هي ذلك (( القدر من المبادئ التي تنبع من التقاليد و المعتقدات الدينية و الأخلاق في المجتمع و التي يتكون منها الحد الأدنى للقيم و الأخلاقيات التي يعد الخروج عليها انحرافا و تحللا يدينه المجتمع ))، أي أن الآداب العامة هي التعبير الخلقي عن فكرة النظام العام.
و لما كانت الآداب كذلك، فإن القواعد القانونية التي تتصل بها لا يمكن أن تكون إلا آمرة يمتنع على الفرد مخالفتها، لأن في مخالفتها انهيار للكيان الأخلاقي للمجتمع، و الآداب العامة بهذا المفهوم تكون جزءا من النظام العام.
و على غرار فكرة النظام العام، نجد فكرة الآداب العامة أيضا غير محددة و غير واضحة و صعبة الوصول إليها من الناحية النظرية. و هي أيضا فكرة نسبية تختلف من مجتمع لآخر، كما تختلف في داخل المجتمع الواحد باختلاف الأزمان.
و ننتهي إلى أن الآداب العامة هي مجموعة من القواعد وجد الناس أنفسهم ملزمين بإتباعها طبقا لقانون يسود علاقاتهم الاجتماعية.
ب-تطبيقات فكرة الآداب العامة :
قضت المحاكم ببطلان الاتفاقات الخاصة لمخالفتها للآداب العامة في مسائل شتى تتعلق في الغالب بالعلاقات الجنسية و بيوت الدعارة و المقامرة، و من أمثلة التطبيقات القضائية التي حكم القضاء فيها بالبطلان لمخالفة الآداب العامة :
ما جرى عليه القضاء من إبطال الاتفاقات التي تهدف إلى إقامة علاقات جنسية غير مشروعة بين رجل و امرأة نظير مبلغ من المال.
الاتفاقات التي تعقد بخصوص أماكن الدعارة كبيعها و إيجارها، و لو كانت تلك الأماكن مرخصا بها من جهة الإدارة، لأن الترخيص إذا ينفي عن تلك الأماكن مخالفتها للنظام العام، فلا ينفي عنها مخالفتها للآداب العامة.
عقد الهتاف contrat de claque الذي يبرم بين مدير المسرح و جماعة من الهتافة، يستأجرهم المدير للتصفيق و ترويج ما يعرض على المسرح، لأن الغرض منه هو خداع الجمهور في قيمة المسرحيات، و يلاحظ أن المحاكم سواء في فرنسا أو في مصر أخذت تميل إلى إجازة عقد الهتاف و تصرفات كثيرة أخرى كانت تعتبر مخالفة للآداب العامة، و هذا يؤيد قولنا السابق بنسبة فكرة الآداب العامة، و تغيرها من دولة إلى أخرى، و من جيل إلى جيل داخل الدولة الواحدة.
عقد تلاوة القرآن الذي كان ينظر إليه على أنه تجارة بكلام الله تعالى و الذي أصبح ينظر إليه على أنه وسيلة للارتزاق .
سلطة القاضي في تحديد مضمون النظام العام و الآداب العامة:
لقد اتخذ المشرع من فكرة النظام العام و الآداب العامة معيارا موضوعيا للتمييز بين القواعد الآمرة و القواعد المكملة. غير أن هذه الفكرة لم يحددها المشرع فبسهل التعرف عليها، بل إن المشرع ترك أمر تحديدها للقاضي الذي تكون له في سبيل ذلك سلطة تقديرية واسعة، نظرا لعدم ثبوت مضمون هذه الفكرة و تغييره في الزمان و المكان.
غير أن القاضي لا يملك أن يحل آراءه أو عقائده الشخصية، في هذا الصدد، محل آراء الجماعة، فلا ينبغي أن يعتبر القاضي مصلحة ما مصلحة خاصة بالجماعة أو مصلحة خاصة بالأفراد بحسب رأيه الشخصي، بل يجب عليه أن ينظر إلى الاتجاه السائد في المجتمع و النظام القانوني الذي يحكمه، سواء اتفق مع رأيه الشخصي أم اختلف عنه، و لذلك فإن تطبيق فكرة النظام العام و الآداب العامة رغم مرونتها يعتبر عملا قانونيا يخضع فيه القاضي لرقابة المحكمة التي تراقب حسن تطبيق القانون، و هي المحكمة العليا أو محكمة النقض حسب التسميات.
الخاتمة:
و كخاتمة لموضوع بحثنا هذا المتواضع و بعد التطرق إلى ذكر أهم عناصره يجدر بنا الإشارة إلى القول بأن القانون يضبط سلوك الأفراد بقواعد آمرة و هذا حفاظا منه على المبادئ الأساسية التي تحمل حقوق و حريات الأفراد. هذه الحقوق و الحريات تضمن لها حقها أيضا بتركه لنصيب من القواعد يجسد الأفراد من خلالها و يعبرون عن إرادتهم ما لم يكن موضوع اتفاقهم غير مشروع و هذا بخلقه لقواعد مكملة

المواضيع المتشابهه: