انتفاضة السكاكين من منظور القانون الدولي


إذا كانت الانتفاضة الفلسطينية الثالثة قد أشعلت فتيل نزاع سياسي داخلي ودولي بشأن ما قد تفضي إليه هذه الانتفاضة الأخيرة فإن نزاعا قانونيا أكبر وأخطر يمكن أن يندلع حول مشروعية الوسائل المستخدمة فيها من منظور القانون الدولي كوسيلة من وسائل مقاومة الاحتلال الإسرائيلي.

فقتل جنود الاحتلال واستخدام السكاكين وأساليب الدهس التي لجأ إليها الفلسطينيون خلال هذه الانتفاضة يثيران جدلا قانونيا دوليا حول مدى مشروعية هذه الأفعال من وجهة نظر القانون الدولي، وقبل الخوض في ذلك لعله من المفيد بداية معرفة الوضع القانوني الدولي للأراضي الفلسطينية التي تحتلها إسرائيل منذ عام 1967، وتشمل قطاع غزة والضفة الغربية بما في ذلك القدس الشرقية.
وضع الأراضي المحتلة
عند الحديث عن الأراضي الفلسطينية المحتلة عادة ما تتم الإشارة إلى قراري مجلس الأمن الشهيرين 242 (1967)، و338 (1973) اللذين يضعان الأساس القانوني في تحديد أن إسرائيل قوة محتلة لقطاع غزة والضفة الغربية بما في ذلك القدس الشرقية، ويطالبانها بالانسحاب من الأراضي التي احتلتها خلال حرب 1967.
"بتطبيق قرارات الشرعية الدولية على الحالة الفلسطينية يتبين أن كل أشكال المقاومة التي يمارسها الفلسطينيون في الأراضي المحتلة منذ 1967 تعتبر حقا قانونيا دوليا غير منازع، خصوصا إذا أخذنا في الاعتبار أن الانتفاضة الحالية لم تكن فعلا بذاتها وإنما جاءت كردة فعل"
لكن واقع الأمر أن هناك العديد من قرارات مجلس الأمن التي تؤكد على أن الأراضي التي احتلتها إسرائيل بعد حرب يونيو/حزيران 1967 تعتبر أراضي محتلة في القانون الدولي، وتطالب إسرائيل بالانسحاب منها، بما في ذلك القدس الشرقية.

من ذلك على سبيل المثال قرارات مجلس الأمن: 237 (1967)، و248 (1968)، و252 (1968)، و258 (1968)، و259 (1968)، و267 (1969)، و271 (1969)، و298 (1971)، و339 (1973)، و368 (1975)، و446 (1979)، و452 (1979)، و465 (1980)، و468 (1980)، و469 (1980)، و471 (1980)، و476 (1980)، و478 (1980)، و484 (1980)، و497 (1981)، و500 (1982)، و592 (1986)، و605 (1987)، و608 (1988)، و636 (1989)، و641 (1989)، و672 (1990)، و673 (1990)، و681 (1990)، و694 (1991)، و726 (1992)، و1073 (1996)، و1397 (2002)، و1515 (2003)، و1850 (2008)، و1860 (2009)، حيث أكدت هذه القرارات في مجملها على أن الأراضي العربية التي سيطرت عليها إسرائيل بعد حرب 1967 هي أراض محتلة بما في ذلك القدس الشرقية، وأكدت على رفض مبدأ الاستيلاء على الأراضي بالقوة.

وبنفس الاتجاه أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة عددا من القرارات المشابهة، حيث أكدت جميع هذه القرارات عدم شرعية الاحتلال الإسرائيلي للأراضي التي وقعت تحت السيطرة الإسرائيلية بعد حرب 1967، منها على وجه الخصوص القرارات: 2253 (es-v) (1967)، و2254 (es-v) (1967)، و3236 (xxix) (1974)، و3237 (xxix) (1974)، و32/5 (1977)، و33/113 (1978)، و(es- 7\2) (1980)، و(es- 9\1) (1982)، و37\135 (1982)، و38\144 (1983)، و46\47 (1991)، و46\76 (1991)، و46\82 (1991)، و50\84 (1995)، و50\129 (1995).

إضافة إلى ذلك فهناك العديد من الوثائق القضائية والقانونية الدولية التي تؤكد صفة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية التي تشمل قطاع غزة والضفة الغربية بما في ذلك القدس الشرقية. من ذلك على سبيل المثال قرار مجلس حقوق الإنسان دأ-9/1 وتقرير بعثة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق بشأن النزاع في غزة 2009 المعروف بـ"تقرير غولدستون".

وفي الرأي الاستشاري الذي أبدته محكمة العدل الدولية حول مشروعية بناء إسرائيل الجدار العازل داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 أكدت المحكمة أن وضع هذه الأراضي في القانون الدولي هو أنها واقعة تحت "الاحتلال الإسرائيلي".
المشروعية القانونية للمقاومة
"حق المقاومة" يعتبر في القانون الدولي أحد أنواع الدفاع عن النفس، بحسب ما نصت عليه المواثيق والمعاهدات الدولية.

وقد أكدت العديد من المواثيق الدولية على شرعية حق المقاومة، كاتفاقية لاهاي لعامي 1899 و1907، وبروتوكول جنيف لعام 1925، وميثاق الأمم المتحدة لعام 1945، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948، واتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949، والبروتوكولين الإضافيين لعام 1977، وإعلان استقلال البلدان والشعوب المستعمرة لعام 1960، والعديد من قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وما تمثله هذه المواثيق والقرارات الدولية من شرعية قانونية دولية لحق المقاومة.

وبتطبيق قرارات الشرعية تلك على الحالة الفلسطينية الراهنة يتبين أن كل أشكال المقاومة التي يمارسها الفلسطينيون في الأراضي المحتلة منذ 1967 تعتبر حقا قانونيا دوليا غير منازع، خصوصا إذا ما أخذنا في الاعتبار أن الانتفاضة الفلسطينية الحالية لم تكن فعلا بذاتها، وإنما جاءت كردة فعل نتيجة للاعتداءات الإسرائيلية غير المبررة على المسجد الأقصى في الآونة الأخيرة.
دحض المنطق الإسرائيلي
الوجهة القانونية التي تتبناها إسرائيل رسميا هي أن ما تقوم به السلطات الإسرائيلية من قتل أو سجن للفلسطينيين في الأراضي المحتلة يدخل تحت باب الدفاع عن النفس المخول بموجب المادة الـ51 من ميثاق الأمم المتحدة، وأنه ونظرا لأن المواطنين الإسرائيليين يتعرضون لهجوم من قبل الفلسطينيين "الإرهابيين" فإن على الحكومة الإسرائيلية أن تقوم بواجبها في حماية مواطنيها.
"يجب على السلطة الفلسطينية ورئيسها أن يحيلا إلى المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية بموجب المادة 13(أ) حالة الاعتداءات الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني والتي يمكن أن ترقى إلى كونها "جرائم حرب""
ولكن ما تحاول السلطات الإسرائيلية عدم الحديث عنه هو صفة "الاحتلال" غير المشروع التي تنطبق على الحالة الفلسطينية هذه، ذلك أن حق الدفاع عن النفس المزعوم لا ينطبق في حالة تحتل فيها دولة أراضي ليست تابعة لها، بل إن حق الدفاع عن النفس في هذه الحالة يكون لمن هم تحت الاحتلال.

ففي الرأي الاستشاري الذي أبدته محكمة العدل الدولية حول مشروعية بناء إسرائيل الجدار العازل داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 قضت المحكمة بأن إسرائيل كدولة محتلة لا يمكن لها التذرع بالمادة الـ51 من ميثاق الأمم المتحدة الخاصة بمبدأ الدفاع عن النفس عن أي هجوم صادر من الأراضي التي تحتلها، وقالت "وهكذا تقر المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة بوجود حق طبيعي في الدفاع عن النفس في حالة شن دولة اعتداء مسلحا على دولة أخرى، بيد أن إسرائيل لا تدعي أن الاعتداءات عليها يمكن أن تنسب إلى دولة أجنبية".

وتلاحظ المحكمة أيضا أن إسرائيل تمارس السيطرة في الأرض الفلسطينية المحتلة، وأن التهديد الذي تعتبره حسب ما ذكرت إسرائيل مبررا لتشييد الجدار ينبع من داخل تلك الأرض وليس خارجها ومن ثم لا يمكن لها بأي حال الادعاء بأنها تمارس الحق في الدفاع عن النفس، وبالتالي تخلص المحكمة إلى أن المادة الـ51 من الميثاق لا علاقة لها بهذه الحالة.

وتبعا لذلك، فإن الترجمة الفعلية لفتوى محكمة العدل الدولية هي أنه من المبرر للفلسطينيين الذين يرزحون تحت الاحتلال الإسرائيلي أن يقاوموه بكل الوسائل بما في ذلك اللجوء إلى العنف بكل أشكاله وصوره، سواء كان قتلا أو طعنا أو دهسا.
المطلوب عمله
ما ينبغي عمله من السلطة الفلسطينية والأمتين العربية والمسلمة في الوقت الراهن هو التركيز على ثلاثة مسارات رئيسة:

أولا: المسار القانوني الدولي، حيث يمكن استثماره بثلاث طرق قضائية:

الطريق الأول هو طريق محكمة العدل الدولية، حيث تستطيع السلطة الفلسطينية بالتعاون مع جامعة الدول العربية التقدم بطلب استصدار فتوى من محكمة العدل الدولية بموجب المادة الـ65 (1) من الميثاق حول مشروعية المقاومة الفلسطينية في الأراضي التي تحتلها إسرائيل منذ عام 1967.

إذ إنه وبناء على ما تقدم فلدينا ما يعين على دحض المزاعم الإسرائيلية، وتأييد حق المقاومة كنوع من أنواع الدفاع عن النفس لمن هم تحت الاحتلال، وإذا ما تم ذلك كان للمقاومة الفلسطينية أن تحصل على الدعم المطلوب ماديا وعسكريا ولتقطع بذلك جهيزة قول كل خطيب يتفيقه في ما لا يعنيه.

الطريق الثاني هو طريق المحكمة الجنائية الدولية، إذ لا يليق بالسلطة الفلسطينية ورئيسها محمود عباس الذي طالما فاخر بانضمام بلاده إلى المحكمة الجنائية الدولية أن يغفلا هذا الطريق، لذا يجب على السلطة الفلسطينية أن تحيل إلى المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية بموجب المادة 13(أ) حالة الاعتداءات الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني والتي يمكن أن ترقى إلى كونها "جرائم حرب".

طريق ثالث هو أن تتقدم المملكة الأردنية الهاشمية بطلب مماثل إلى مكتب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية لإحالة حالة الاعتداءات المتكررة على المسجد الأقصى الذي يدخل هو وبقية الأوقاف والمقدسات في الأراضي الفلسطينية المحتلة تحت الوصاية الأردنية بموجب اتفاقية وادي عربة الموقعة عام 1994 بين إسرائيل والأردن، إذ تمثل الانتهاكات الإسرائيلية تجاه المسجد الأقصى "جرائم حرب" بموجب اتفاقية جنيف الرابعة 1994.
"لا بد لصوت الشعوب أن يرتفع ليجد صداه في المجتمع الدولي، ومن هنا يحسن تفعيل المؤتمرات الشعبية واستثمار وسائل التواصل الاجتماعي لنقل الصورة الكاملة إلى الشعوب الغربية التي تحرص حكوماتها ووسائل إعلام دولها على إخفاء حقائق الجرائم الإسرائيلية عنها"
ثانيا: المسار السياسي، إذ يجب تفعيل منظمة المؤتمر الإسلامي والجامعة العربية وغيرهما من المنظمات الدولية العربية والإسلامية لنصرة المقاومين الفلسطينيين في المحافل والمنظمات الدولية، والمطالبة الجادة بوضع نهاية للاحتلال الإسرائيلي عبر مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة.

في المسار السياسي أيضا لا يليق بالدول العربية أن تبقي يدها التي لا تزال ممدودة بالسلام منذ أن أطلقت جامعة الدول العربية مبادرتها المعروفة بمبادرة السلام العربية عام 2002، ليس لأن هذه المبادرة تعتبر عبئا على إسرائيل، إذ الأخيرة لم تكترث بها منذ ساعة إعلانها وإلى هذا اليوم، ولكن لأجل حفظ ما تبقى من كرامة الأمة العربية التي ما زالت إسرائيل تهرقها يوما بعد يوم.

وفي الوقت الذي لا ترى فيه الدول الغربية حرجا في الدفاع عن سياسات وتصرفات الدولة المارقة على القانون الدولي والشرعية الدولية فإن الأولى بالحكومات العربية أن تعين الشعب الفلسطيني الواقع تحت الاحتلال على نيل حريته عبر اللجوء إلى حقه القانوني الدولي في "المقاومة الشرعية"، لا أن تقف سدا ذريعا أمام الشعب الفلسطيني في نيل حرياته عبر هذا الحق القانوني الفطري، بل إنه من الذكاء السياسي أن تستخدم ورقة الانتفاضة الفلسطينية الحالية كوسيلة للضغط على الولايات المتحدة والدول الغربية لإجبارها على تغيير مواقفها تجاه أمتنا المهضومة حقوقها.

ثالثا: المسار الشعبي، إذ يحسن استثمار الهبة الجماهيرية العربية والمسلمة لنصرة المقاومين والمرابطين والوقوف مع المقاومة في الأراضي المحتلة بكل وسائلها. من جانب آخر، لا بد لصوت الشعوب أن يرتفع ليجد صداه في المجتمع الدولي.

من هذا الباب أيضا يحسن تفعيل المؤتمرات الشعبية واستثمار وسائل التواصل الاجتماعي لنقل الصورة الكاملة إلى الشعوب الغربية التي تحرص حكوماتها ووسائل إعلام دولها على إخفاء حقائق الجرائم الإسرائيلية عنها.
ختاما، ربما كان في هذه المسارات الثلاثة ما يكفي لتغيير الواقع الأليم من أجل القضية الفلسطينية، ولكن الأمر الأهم هو استمرار هذه الانتفاضة، إذ هي التكلفة الحقيقية للاحتلال الإسرائيلي. ولتعلم السلطات الفلسطينية أنها ربما استطاعت قمع بعض الشعب الفلسطيني بعض الوقت، ولكنها لا تستطيع أبدا مهما قويت شوكتها أن تقمع إرادة جميع شعبها كل الوقت.

محمود المبارك حقوقي دولي

المواضيع المتشابهه: