مرحبا عزيزي الزائر, هل هذه اول زيارة لك؟ اضغط على "انشاء الحساب" واستمتع بخدماتنا .

أهلا وسهلا بك إلى شبكة قانوني الاردن.

>>معلومات قانونية سريعة:: “هل هنالك اثر للفرق بين عمر الزوجين في انعقاد عقد الزواج ؟؟
ج. الاصل ان لا أثر لفرق العمر بتوافر التراضي ولكن منعاً لاجبار المرأءه من الزواج بمن يكبرها عمراً بفارق كبير نص قانون الاحوال الشخصيه الاردني على منع إجراء العقد عليها إذا كان خاطبها يكبرها بأكثر من عشرين سنة إلا بعد أن يتحقق القاضي من رضاها واختيارها.„


     

   ابحث في الموقع بكل سهوله وسرعة

 

شبكة قانوني الاردن

أهلا وسهلا بك إلى شبكة قانوني الاردن.

  + إنشاء موضوع جديد
النتائج 1 إلى 21 من 21
  1. #1
    شعلة متقدة .. وحماس دائم Array الصورة الرمزية صفاء الايمان
    تاريخ التسجيل
    Apr 2009
    الدولة
    ...
    المشاركات
    14,276
    Articles
    0
    Thumbs Up/Down
    Received: 8/0
    Given: 0/0
    معدل تقييم المستوى
    412




    بيانات اخرى

    الجنس :  انثى

    المستوى الأكاديمي :  تعليم ابتدائي

    الجامعة الحالية/التي تخرجت منها ؟ :  الجامعة الأردنية

    الحالة الاجتماعية :  اعزب

    Smile البحث عن امرأة مفقودة!..

    البحث عن امرأة مفقودة!..



    بسم الله الرحمن الرحيم
    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    أود أن أهديكم احدى أجمل الرويات التي قرأتها..
    وهي رواية " البحث عن امرأه مفقودة " للدكتور عماد زكي..


    الفصل الأول
    عندما رأيتها خفق قلبي بعنف ، وانبعثت الحياة في روحي دفعة واحدة ، وكأني طفل يولد الآن ..
    إنها هي!..
    إنها أحلام!..
    روحها التي تشعشع حولها أيقظت روحي ، وصوت خطواتها الواثقة التي تطرق الرصيف في وقار تنساب إلى سمعي كالإيقاع ..
    لقد عادت أحلام..
    عادت إلى المدينة التي هجرتها ، عادت إلى الناي الذين آمنوا بها ، وأحبوها ..
    كما يعود الصبح بعد ليل حالك..
    كما تشرق الشمس يعد خريف طويل..

    وانبثق الأمل في أعماقي كمارد خرج لتوه من قمقه الضيق ليعدني ببقية سعيدة لهذا العمر البائس الذي قضيته وأنا أعدو خلف أحلام..

    وتحركت في القلب أشواق ظمأى ، وجعلت ترفرف بأجنحة رشيقة من الفرح حتى كادت تحملني إلى فضاء بهيج..
    وانطلقت خلف أحلام بخطوات لهفى ، وأرسلت نحوها النداء تلو النداء..
    _ أحلام .. توقفي يا أحلام..
    لم تقف! لم تنتبه!.. صوتي المبحوح لم يبلغ أذنيها ، ومضت بخطواتها الواثقة وجلالها القديم ، وتابعت طريقها دون أن تلتفت!..
    كررت النداء غير عابئ بالعيون التي حاصرتني متسائلة أو مستنكرة ، ودفعت خطواتي خلف النداء لتلحق بها .. أردت أن أمسك بها قبل أن تضيع مني كما ضاعت أول مرة ، قبل أن تنسل كالشعاع ، ناديتها بحرقة الملهوف ولوعة المشتاق ، لكن ندائي أخفق مرة أخرى في إيقافها..
    لا أصدق أنها لا تسمعني وخطواتها تطرق سمعي كصوت المطر عندما يدق أبواب الأرض؟!..

    تمهلت قليلا .. هل تتجاهلني ؟ أم أنها وارتني حلف جدران النسيان!.. ولسعني خاطر كالعقرب .. لعلها تزوجت!.
    لعل قلبها قد اتصل بقلب رجل آخر ، فألغت كل إحساس بالغيرة!!..
    وألهبت خطواتي بسياط الذعر والقلق بجنون ، فاندفعت خلفها أصدم هذا وأتجنب تلك..
    -أحلام.. توقفي يا أحلام.. أنا صلاح.
    تجاهلتني!.. أو أنها لم تسمعني!.. لعلها ساهمة ذاهلة عما حولها ، تنبش الذكريات القديمة ، وتبحث فيها عن قصص عاشتها في هذه المدينة ، وأطياف عايشتها عبر رحلة الحب والعذاب التي أرهقت قلبها المرهف الرقيق أو أنها تستخرج حبها الخالص من تحت أنقاض الماضي ، لتنفض عنه غبار السنين ، وتقدمه لي طاهرا متوهجا عميقا كما كان..
    وحثثت الخطا خلفها حتى أدركها ، ناديتها بنبرة تقطر لهفة وشوقا..
    التفتت إليَّ كالتي بوغتت ، ورمقتني بنظرات يعيث فيها التساؤل والإنكار!..
    شعرت فجأة وكأني أهوي من شاهق إلى بلا قرار ، والنقبض قلبي فسحق بين جدران كل ما انبثق فيه من آمال ، واستحالت الفرحة الوشيكة دموعا تزدحم في عينين زائعتين!..
    إنها ليست هي ، إنها ليست أحلام!!

    رفعت الفتاة التي كنت أسعى خلفها حاجبيها دهشة وحيرة ، وتحولت نظراتها من الإنكار إلى الرثاء ، وهي ترى لهفتي تتحول إلى كآبة عميقة ، همست في إشفاق:
    - سيدي هل تشكو من شيء؟..
    حاولت أن أعتذر ، أو أوضح لها سبب ما حصل ، لكن لساني المثقل بالخيبة خانني ، لكأنَّ الماجأة المرة قد أصابته بالشلل!..
    وأدركت الفتاة أن في الأمر خطأ غير مقصود ، فهزت كتفيها بغير اكتراث ، ومضت في طريقها ، وتركتني ساهما غارقا في الحسرة والألم..
    ووقفت جامدا كتمثال ، أرمق الفراغ بعينين ذاهلتين ، فجعل المارة يعجبون لوقوفي وجمودي ، ويتنحون عني كما يتنحون عن جسم مهمل ملقى على قارعة الطريق!..
    واستيقظت من ذهلتي على صوت طفلة متسولة تشدني من يدي في إلحاح ، وهي تسألني أن أحسن له بشيء.. انتزعت نفسي من ثلاجة الذهول ، ودسست يدي في جيبي ، فأخرجت قطعة نقدية صغيرة ، وألقيتها في يد الطفلة فالتقطتها فرحة ، وانطلقت تعدو..
    وركبني إحساس ثقيل بأني ضائع بلا غاية.. متشرد بلا مأوى.. تائه بلا جذور.. وهمت على وجهي في دروب المدينة ألوك خيبتي وحزني..
    وفردت خواطري أشرعة الذكرى ، فأبحرت في خضم السنين لترسو على شاطئ بعيد .. ووجدتني أغوص في الماضي ، وكأني أقرأ سطوره في كتاب مفتوح أمامي..


    الفصل الثاني
    .. كنا ثلاثة... أنا ، وهاني ، وأحلام.. وكان قدرنا أن نجتمع بعد التخرج في مستشفى ابن النفيس الذي كان يستقطب المتفوقين من الأطباء..

    كنا يومها مندفعين متحمسين للمهنة التي أحببناها وآمنا بها ، وكنا نقبل على العمل بمتعة بالغة ، فنقوم بم يطلب منا ، وما لا يطلب ، ونُقْدم على أصعب الحالات ، لنصقل خبراتنا ، ونحقق ذواتنا ، ونثبت قدراتنا كأطباء متميزين..
    وذات ليلة من ليالي الشتاء البارد ، كانت نوبتنا ـ نحن الثلاثة ـ في قسم الطوارئ ، وكان ليلة حافلة فلم نخلد إلى الراحة إلا في الساعة الخامسة صباحا ، فاتجهت أنا وهاني إلى غرفة الأطباء المقيمين ، وذهبت الدكتورة أحلام إلى غرفة الطبيبات المقيمات.

    كنت في حالة إرهاق شديد ، فمنيت نفسي النفس بساعة من النوم أتخفف خلالها من التعب والإجهاد ، لأسمح بعدها لهاني بقسط مماثل ، لكن هاني ـ كعادته ـ وضعني أمام الأمر الواقع ، وأسرع فألقى بنفسه فوق السرير ، وراح في نومه غير عابئ بمحاولاتي لإثنائه.
    وسمعت شخير هاني يتعالى ، فأدركت أنه لم يعد لي خيار ، وكان لابد أن أبقى مستيقظا ، استعداد لكل طارئ.

    وغالبني النوم بقوة ، فهربت من النعاس إلى القراءة ، فلم تنجدني ، فلذت بالماء البارد ، وغسلت وجهي.
    شعرت بشيء من النشاط ، لكن منظر هاني النائم بجواري ، كان يوهن عزيمتي ، ويحبط طل محاولاتي لمقاومة النعاس.
    "ليس أفضل من قهوة العم درويش".
    هكذا قلت في نفسي ، وأنا أفرك عينيَّ بشدة ، ثم حملت جهاو الإنذار الذي ينقل إلينا عادة نداءات الطوارئ ، ومضيت إلى العم درويش أنشد قهوته الساخنة اللذيذة.
    وصلت إلى بداية الممر الذي يقوم في نهايته مقصف المستشفى المتواضع ، فلمحت الدكتورة أحلام وهي تجلس شارة ساهمة ، وقد نزلت مثلي لتدفن أرقها عند العم درويش نادل المقصف..
    وارتحت لوجود أحلام ، لكني قررت بيني وبين نفسي ، ألا أترك ارتياحي يتمادى في الظهور ، لأكثر من سبب!..
    ألقيت عليها تحية الصباح ، وقلت لها وأنا أرقب خيوط الفجر وهي تسلل من نافذة قريبة:
    - لم أتوقع أن أجدك هنا ، لو كنت مكانك لخلدت إلى النوم بعد ليلة متعبة.
    تساءلت في مرح:
    - لماذا لم تنم إذا كنت متعبا إلى هذا الحد؟!
    - أنام؟ وهل يترك هاني دورا لأحد؟
    ابتسمت وقالت:
    - علاقتك بهاني تثير دهشتي وإعجابي في آن واحد!
    - لم أفهم!
    - أنت وهاني نقيضان في الشخصية ، مختلفان تماما في الأفكار والطباع!
    قلت لها منكرا:
    - لا. لا. ليس إلى هذا الحد ، أنت تبالغين بعض الشيء.
    علقت تدافع عن وجهة نظرها..
    - قد أكون مبالغة ، لكنكما تبدوان لي هكذا..
    - ومع هذا نثير إعجابك!..
    - ما يثير إعجابي هو علاقة الود والصداقة التي تجمعكما ، فألمحها في أحاديثكما معا ، وفي دعابتكما الطريفة التي أستمتع بمتابعتها..
    - نحن نجمان مضحكان إذن!!.
    ضحكت وهي تشيح بيدها معتذرة ، ثم قالت:
    - عفوا لم أقصد ، إنما أردت أن أقول إن علاقتكما من العلاقات اللطيفة التي أحبذها بين الأصدقاء..
    قلت وأنا أقاوم التثاؤب الذي داهمني فجأة:
    - أنا وهاني صديقان قديمان ، قضينا المرحلة الثانوية في مقعد واحد، ودخلنا كلية الطب معا ، وها نحن نعمل هنا معا ، جمعت بيننا الآمال والذكريات اللطيفة ، فتوطدت بيننا صحبة حميمة ، نحن مختلفان نعم لكن الود بيننا استطاع أن يطفو فوق كل خلاف..
    وداهمني التثاؤب..
    - لقد شغلنا الحديث ، ونسيت أن أطلب شيئا يساعدني على مقاومة النعاس.
    والتفت إلى العم درويش:
    -أبن قهوتك يا عم درويش؟ أدركني بفنجان من قهوتك السحرية اللذيذة..
    أفاق العم درويش من كبوة قد ألمت به ، وهتف وهو ينهض في نشاط:
    - تكرم عينك يا دكتور ، سوف أصنع لك فنجانا لن تنسى طعمه أبد الدهر.
    ثم تابع بلهجته المرحة الغنية بالطيبة:
    - قهوة عمك درويش ماركة عالمية لا تضاهى..
    قالت أحلام وهي ترنو إلى العم درويش في ود:
    - العم درويش فخور بقهوته!
    وأردفت:
    - هذا الرجل ، كم هو طيب ولطيف!
    كانت أحلام تحب العم درويش كثيرا ، لم تكن وحدها تحبه ، كلنا كنا نحبه ونرتاح إليه.. حتى الدكتور مأمون صاحب المستشفى وجراح القلب المشهور ، كان كثيرا ما يهرب من أعبائه إلى مقصف العم درويش ، ليجلس معه ، يبثه همومه ومشاكله ، ويستمتع بأحاديثه اللطيفة التي تنساب إلى النفس في رفق ، وتمسح آلامها كالبلسم.
    في شخصيته جانب مريح لطالما اختلفنا في تفسيره!.. البعض كاك يقول: بساطته ، آخرون كانوا يقولون: طيبته..
    أحلام كانت تقول بأنه إنسان عاطفي يملك حسا مرهفا يستطيع من خلال تعابير وجهك ، ونظرات عينيك!..
    هاني كان يقول مازحا: بأنه رجل يملك الحاسة العاشرة ويقصد الحاسة السادسة طبعا.
    أما أنا فأعتقد أن الجانب المريح في شخصية العم درويش ، جانب مركب.. إنه مزيج من الطيبة والبساطة والصراحة الظرافة.. مزيج لطيف قد أضيف إليه ذكاء فطري حاد ، صقلته السنون ، وزادته تجاربها قدرة على فهم الناس والتقاط إحساساتهم الخفية ، ثمة شيء آخر كان يجعل العم درويش أشد إحساسا بالآخرين ، إنه المعاناة ، فالعم درويش يعاني من عدم الإنجاب ، تؤرقه الأبوة الجائعة إلى الأطفال ، كانوا يقولون: إن امرأته هي السبب ، وهكذا كانوا يقولون دائما عندما كان العقم يضرب أسرة ما!..

    قالت أحلام فجأة بصوت كالهمس:
    - ما رأيك بالعم درويش؟
    - إنسان طيب.
    - لو أنه أنجب ، لشعر أبناؤه بدفء وحنان لم يبذله أب لأبنائه!
    - الحرمان يبعث في النفس رقة فريده.
    صمتت مليا ثم قالت:
    - هل أبوح لم بشيء؟
    - تفضلي...
    ترددت قليلا ، ثم قالت:
    - أحيانا أتمنى لو كان العم درويش أبي!..
    أدهشتني كلماتها ، وحرت في تفسيرها ، ووجدتني أسألها لأول مرة:
    - أليس الوالد على.....
    - بلى .. إنه حي يرزق..
    - عذرا .. كلامك أوحى لي بالسؤال!..
    ابتسمت في سخرية وقالت:
    - لا يكفي للأب أن يكون أبا ، أن يكون على قيد الحياة!.
    كلامها غامض وحزين ، أحسست أنها تمر بأزمة!.
    - تبدين متعبة!.
    - أبدا.
    - بإمكانكِ أن تنامي إذا أردتِ.
    - هل يضايقك وجودي؟
    لسعني سؤالها ، أجبت كمن يدافع عن نفسه:
    - أبدا.. أبدا.. كل ما في الأمر أني أريد راحتك.
    - ليت النوم يريح ، لنمت ليل نهار.
    - لستِ سعيدة فيما أرى!.
    - أنت على حق.
    - غريب!!.
    - فيم الغرابة؟
    - مبلغ علمي أنك تملكين أسباب السعادة.
    - تقصد المال والثروة؟
    - مثلا.
    صمتت وأطرقت ، وزحفت الكآبة إلى عينيها. قالت في مرارة:
    - عندما لا يملك الإنسان مالا ، يظن أن السعادة تكمن في المال والقصر والسيارة.. لكنه عندما يمتلك كل هذه الوسائل لا يجد السعادة فيها ، يشعر بالخيبة .. يشعر بالغربة .. يفقد ثقته بالحياة ، ولهذا ينتحر بعض الناس...
    حديثها عن الانتحار لم يرحني! ساورني القلق .. لأول مرة أراها بهذه الكآبة ، وهذا الحزن!.. وأردت أن أخفف عنها ، لكني لم أعرف ماذا أقول؟!!..
    وأقبل العم درويش بقهوته الشهية وهو يختال ، وما كاد يضعها أمامي حتى أطلق جهاز الإنذار إشارات متقطعة تدعونا للالتحاق بعيادات الطوارئ فهرعنا نلبي ، وكل غارق في أفكاره وأسراره!..


    أود أن أرى رأيكم في الموضوع وانتقاداتكم..


    المواضيع المتشابهه:



    0 Not allowed! Not allowed!




    [ame="http://www.youtube.com/watch?v=yxzoplqtmHk&feature=related"]http://www.youtube.com/watch?v=yxzoplqtmHk&feature=related[/ame]


  2.  

     

    استخدام حساب الفيس بوك الخاص بك للتعليق على الموضوع (جديد)

     


  3. #2
    شعلة متقدة .. وحماس دائم Array الصورة الرمزية صفاء الايمان
    تاريخ التسجيل
    Apr 2009
    الدولة
    ...
    المشاركات
    14,276
    Articles
    0
    Thumbs Up/Down
    Received: 8/0
    Given: 0/0
    معدل تقييم المستوى
    412




    بيانات اخرى

    الجنس :  انثى

    المستوى الأكاديمي :  تعليم ابتدائي

    الجامعة الحالية/التي تخرجت منها ؟ :  الجامعة الأردنية

    الحالة الاجتماعية :  اعزب

    افتراضي رد: البحث عن امرأة مفقودة!..



    الفصل الثالث

    عندما وصلنا إلى قسم الطوارئ ، صدم أسماعنا صوت بكاء شديد لطفل ، وتعلقت نظراتنا بشرطي يحتضن طفلا ملفوفا بغطاء صوفي فد اتسخت بعض جوانبه بالطين!..
    تبادلت مع الدكتورة أحلام نظرة ، ثم بادرت الشرطي بالسؤال:
    ـ خيرا.
    تقدم الشرطي خطوات وقال:
    ـ لقد وجدنا هذه الطفلة ملقاة في حديقة مسجد الإخلاص ، وجدها أحد المصلين وهو خارج من صلاة الفجر ، وأحضرها إلى قسم الشرطة ، وقد أرسلت بها لتفحصوها وتعدوا تقريرا عن حالتها الصحية ، ثم تحولوها على ملجأ الحنان للأيتام..
    صدمني منظر الطفلة اللقيطة ، وثقب صوت بكائها الشديد فؤادي ، فشعرت بالحزن يتسرب إلى أقصى أعماقي ، أما أحلام ، فقد طغى عليها التأثر والانفعال ، فلم تملك دموعها التي انسابت في صمت..
    تناولت أحلام الطفلة ، فضمتها إلى صدرها ، وراحت تهدهدها حتى تسكت وتهدأ ، ثم أمرت إحدى الممرضات بتنظيفها ، وشرعت بإجراء الفحوصات اللازمة لها.
    ووقفت أرقب الطفلة اللقيطة في إشفاق.. كانت طفلة وديعة جميلة ، ورثت عن أبويها براعم جمال باهر بدت طلائعه في شعرها الذهبي ، وعينيها الزرقاوين ، ومحجريها الواسعين ، وبشرتها الناعمة البيضاء وقسماتها الدقيقة المنسقة..
    ولفت نظري شيء مهم ، فسألت الدكتورة أحلام:
    ـ كم تقدرين وزن الطفلة؟
    ـ إني أدرك ما تفكر به.. وزنها وملامحها يدلان على أن عمرها يبلغ بضعة أشهر.
    ـ هذا ما لاحظته فعلا ، إنها لم تولد للتو كما يبدو!..
    ـ لقد تأخروا بوأد الفضيحة!..
    قلت وأنا غارق في الشرود:
    ـ وراء هذه الطفلة سر غامض أتمنى لو أكتشفه!..
    ـ العالم مليء بالأسرار..
    ـ لو كنت حاكما يملك ناصية الأمور ، لأمرت بإعدام أبويها فورا..
    تمتمت أحلام وهي تضع الطفلة في الميزان:
    ـ لم يعد الناس يفكرون إلا بجيوبهم وغرائزهم!..
    وأحضرت إحدى الممرضات طعام الطفلة ، فجعلت أحلام تطعمها ، بينما كنت موغلا في التأمل ، أفكر في مستقبل طفلة فقدت جذورها ، لتنمو وحيدة وسط رياح الحياة العاتية ، عرضة للشقاء والضياع ، ولمعت في خاطري مقارنة طريفة بين أطفال ربتهم الوحوش في الغابة ، وبين بشر يتخلون عن أطفالهم بهذه السهولة والبشاعة التي تترفع عنها الوحوش..
    وأثارني الحادث إلى حد الكآبه ، فغلى الغضب في عروقي ، وشعرت أمام ضميري بأني مطالب بشيء أقوم به من أجل هذه الطفلة البريئة.. مكلف بمهمة خاصة تخولني ملاحقة الجناة ، وبدأت أسعى وراء التفاصيل..

    كان الشرطي الذي أحضر الطفلة ما زال ينتظر ، فتقدمت منه ، وسألته بعض الأسئلة ، فشرح لي كل الظروف التي أحاطت بالعثور على الطفلة اللقيطة ، وأضاف إليَّ معلومة مهمة زادت القصة إثارة!..
    قال الشرطي : لقد وجدنا مع الطفلة مبلغا من المال ، وضعه الذين تخلوا عنها في كيس من القماش ، وعلقوه في رقبتها!..
    مبلغ من المال؟!.. وهل تحركت في قلب الذين تخلوا عن الطفلة بقية من عاطفة أو ضمير ، فتركوا للطفلة ما يساعد من يعثر عليها على الاعتناء بها؟!..
    أم أن وراء هذه الطفلة قصة أعمق من حادثة تقليدية لوليدة لقيطة تخلى عنها الجناة خوفا من الفضيحة؟!..
    واقتحمت إحدى الممرضات أفكاري فجأة ، لتنبهني إلى حالة جديدة فد وردت إلى قسم الطوارئ ، وهي تشير إلى امرأة شابة تقف لدى الباب ، وتتلفت حولها وكأنها تبحث عن شيء!..

    الفصل الرابع

    ـ تفضلي..
    ـ يدي يا دكتور..
    ـ ما بالها؟..
    ـ مجروحة..
    ـ أرني ..
    بسطت المرأة راحة كفها الأيسر أمامي ، فوجدتها قد أصيبت بجرح بسيط ، سألتها في حيرة:
    ـ هل جئت من أجل هذا الجرح؟!..
    أجابت في تلعثم ، وعيناها تجوبان أرجاء المكان:
    ـ أجل ، لقد خشيت أن يؤثر النزيف على صحتي ، فأنا مريضة..
    ـ مريضة؟!.. بماذا؟!
    ـ أقصد صحتي سيئة..
    تأملتها جيدا ، كانت امرأة في العشرينات من العمر ، وصحتها الظاهرة جيدة ، بل إن جسمها يميل إلى الامتلاء ، فأي سوء في الصحة تقصد؟
    وخطر لي أنها مريضة نفسية مصابة بالوهم والوسوسة ، وقد هرعت إلى المستشفى مذعورة ، عندما رأت بضع قطرات من الدم تسيل من يدها الجريحة ، وخطر استمرار النزيف ، فجاءت إلى المستشفى تنشد المساعدة..
    سألتها وأنا أبلل قطعة من القطن المعقم بالكحول:
    ـ هل سبق أن أصبت بمرض دموي.
    ـ لا.
    ـ مرض نفسي؟
    ـ أبدا.
    ـ يبدو أنك كثيرة الوهم!..
    لم تكترث بملاحظتي ، تركت يدها في يدي لأعالج جرحها ، وراحت ترنو إلى الطفلة اللقيطة بنظرات لاح فيها الإشفاق ، لم أحفل بنظراتها ، فالذي يمارس مهنة الطب ، يستطيع أن يدرك معنى الفضول الذي يطل من عيون الناس عندما يزورون عيادات الطوارئ..
    ولفتت نظري ملاحظة طريفة!.. سألتها وأنا أتأمل الجرح الذي يمتد عبر راحة كفها الأيسر:
    ـ بأي شيء جرحت يدك.
    كانت ذاهلة عني غارقة في الشرود ، ونظراتها مازالت معلقة بالطفلة..
    أعدت عليها السؤال فانتبهت وأجابت في ارتباك واضح:
    ـ آه ، جرحتها ... جرحتها بسكين..
    تعجبت لهذه السكين الكليلة التي يمكن أن تحدث مثل هذا الجرح ، فالمعروف أن الأدوات الحادة مثل الشفرات والسكاكين تحدث جرحا مستقيما منتظم الحواف ، أما جرح يدها فكان مشرشرا ، وكأنه قد أحدث بأداة كليلة ، كرأس مسمار أو...
    سألتها ثانية وقد استولى عليَّ الفضول:
    ـ ماذا كنت تعملين في هذا الوقت المبكر.
    أجابت بلهجة أكثر تماسكا:
    ـ كنت أعمل في المطبخ..
    ـ في المطبخ؟!..
    ـ أجل.
    ـ هل أنت عاملة في فندق؟..
    ـ بل ربة منزل.
    تساءلت في سري عن السبب الذي يدعوها للعمل في المطبخ بعيد الفجر بقليل!.. خمنت أنها زوجة عامل من الذين ينطلقون إلى أعمالهم مبكرين..
    في الحقيقة لولا مظهرها القلق ، لما تماديت في الأسئلة ، ذلك القلق أثار فضولي ، ليس القلق وحده ، كانت حزينة أيضا..
    وفاجأتني بسؤال أثار انتباهي ، قالت:بينما كنت أحكم ربط الضماد حول يدهشة:
    ـ ما هو مرض تلك الطفة؟..
    تساءلت في دهشة:
    ـ طفلة؟! ما أدراك أنها طفلة!..
    بوغتت بالسؤال ، ابتسمت وقالت:
    ـ مجرد تعبير عفوي ، هل هي طفلة حقا؟!..
    ـ هي طفلة فهلا ، لكن ما الذي دفعك للاعتقاد بأنها طفلة؟!..
    ـ قلت لك لم أقصد ، كل ما في الأمر أن النساء عادة يميلون لتأنيث الأشياء ، مثلما يميل الرجال لتذكيرها..
    ـ هل أنت جامعية؟..
    كنت طالبة في كلية الآداب ، لكني لم أتم تعليمي..
    قلت لها بعد أن انتهيت من تضميد جرحها:
    ـ سأكتب لك بعض المضادات الحيوية لوقاية الجرح من الالتهاب.
    قالت وكأنها تريد أن تتخلص مني:
    ـ لا. لا داعي ، أنا بخير الآن..
    نظرت إليها في دهشة..
    ـ لا داعي!..
    وانتبهت لنفسها:
    ـ اكتب ما تراه مناسبا.
    وانتظرتني ريثما كتبت الوصفة ، ثم تناولتها ، ومضت مسرعة!..

    الفصل الخامس

    انتهت الدكتورة أحلام من معالجة الطفلة ، وكتبت تقريرا مفصلا حول حالتها الصحية ، أبلغت الشرطي الذي حمَّلته التقرير ، بأن الطفلة بحاجة إلى بعض الرعاية قبل تحويلها إلى الملجأ..
    كانت آثار الحزن والإرهاق بادية عليها ، جلست كالمنهكة ، وأطرقت في كآبة ، ثم راحت في تأمل عميق..
    قلت لها:
    ـ بإمكانك أن ترتاحي إذا أردتِ..
    همست بنبرة واهنة:
    ـ اذهب أنت ، سأبقى هنا حتى نهاية الدوام.
    ـ كيف حال الطفلة؟
    ـ تشكو من بعض المغص ، البرد أثر فيها..
    ـ الجاني ترك مع الطفلة مبلغا من المال!..
    ـ كيف عرفت؟
    ـ سألت الشرطي.
    ـ ابتسمت أحلام ابتسامة ساخرة ، ثم قالت:
    ـ ما زال بعض الأغبياء يظنون أن المال يمكن أن يكون بديلا للحنان..
    قلت وأنا أمضي:
    ـ إذا احتجتِ لشيء ، فأنا فوق.

    كان النوم قد طار من أجفاني ، لكني شعرت بحاجة ماسة لأن أكون وحدي ، توجهت إلى غرفتي فوجدت هاني ما زال نائما ، ألقيت نفسي على السرير ، ورحت أفكر في هذه الطفلة المسكينة التي كانت والشقاء توأمين في رحم واحد..
    وانتبهت لهاني وهو يتقلب على فراشه ، ثم ما لبث أن أفاق وقال وهو يفرك عينيه بظاهر سبابتيه:
    ـ نمت كثيرا؟..
    ـ اسأل نفسك..
    ـ هل من جديد؟
    ـ طفلة لقيطة.
    سأل وقد توقفت أصابعه عن العبث بشعره:
    ـ ماذا؟..
    ـ طفلة لقيطة وجدت عند الفجر ملقاة في حديقة جامع الإخلاص القريب من هنا..
    قال وهو يعاود الاستلقاء:
    ـ يبدو أن أمها غير مدربة!..
    ـ مدربة؟!..
    ـ أقصد أنها لا تتقن فنون منع الحمل..
    ـ ما الذي أودى بنا إلى هذا الانحدار؟..
    ـ ما أدراني.. أنا لا أفكر في الأسباب مثلك ، أكتفي بالسماع..
    خالي محام ، وأنا مغرم بحكاياته البوليسية..
    قلت وقد غاظني البرود الذي استقبل به هاني الخبر:
    ـ هل يكفي أن تستمتع بما يحدث؟..
    ـ ماذا نفعل؟
    ـ هذا يحيرني!
    قال وهو ينفض عنه الغطاء:
    ـ يبدو عليك التعب ، خذ قسطا من النوم..
    ـ لا أشعر بالنعاس..
    ـ لماذا أنت مهموم هكذا؟..
    ـ منظر الطفلة اللقيطة يعذبني..
    ـ تبدو روما نسيا هذا الصباح!..
    ـ أنت لم ترها يا هاني..
    ـ ولا أريد أن أراها ، هذه الحوادث تبعث في نفسي القرف..
    ـ ما يحيرني أن عمر الطفلة يبلغ بضعة شهور ، يزيد عن أربعة شهور..
    ـ أربعة شهور؟! الحكاية فيها (إنَّ)!..
    ـ أريد أن أعرف هذا (الإنَّ)؟..
    قال هاني وهو يبتسم:
    ـ فضولك الجارف يدهشني ، دائما تريد أن تعرف كل شيء..
    ـ وأنت؟.. ألا تريد أن تعرف؟!..
    ـ أنا يا صديقي أحب المعلومات الجاهزة ، قصة في رواية ، تحقيق في صحيفة ، دراسة في مجلة ، أمي تقدم لي الفواكه دائما مقشرة ، والجامعة لم تكلفنا يوما بإجراء بحث أو دراسة ، دائما تطالبنا بحفظ المعلومات..
    لا أدري من تسربت إليك لوثة البحث والتنقيب؟ ، لعلك من أحفاد الرازي أو ابن سينا!..
    ضحكت رغما عني ، كلام هاني فيه ظرافة وعمق ، وسمعته يقول:
    ـ حاول أن تنسى يا صديقي ، فلا شيء في هذه الحياة يهم..
    أجبته وأنا ساهم:
    ـ لا أصدق أنك تعني ما تقول!..



    0 Not allowed! Not allowed!




    [ame="http://www.youtube.com/watch?v=yxzoplqtmHk&feature=related"]http://www.youtube.com/watch?v=yxzoplqtmHk&feature=related[/ame]

  4. #3
    شعلة متقدة .. وحماس دائم Array الصورة الرمزية صفاء الايمان
    تاريخ التسجيل
    Apr 2009
    الدولة
    ...
    المشاركات
    14,276
    Articles
    0
    Thumbs Up/Down
    Received: 8/0
    Given: 0/0
    معدل تقييم المستوى
    412




    بيانات اخرى

    الجنس :  انثى

    المستوى الأكاديمي :  تعليم ابتدائي

    الجامعة الحالية/التي تخرجت منها ؟ :  الجامعة الأردنية

    الحالة الاجتماعية :  اعزب

    افتراضي رد: البحث عن امرأة مفقودة!..



    الفصل السادس

    جاءت الساعة الثامنة صباحا ، وانتهى وقت نوبتنا ، فارتديت ملابسي استعداد لمغادرة المستشفى بصحبة هاني.
    قال هاني مداعبا:

    ـ أما زالت سيارتك في التصليح؟
    ـ لم تبرأ من أمراضها بعد..
    ـ سأحملك معي لليوم الثاني على التوالي ، ليت معروفي ينفع معك..
    ـ لا تمن عليَّ بالمساعدة ، سيارات الأجرة تملأ البلد..
    مد هاني كفه كالمتسول ، وقال:
    ـ اعتبرني سائق أجرة يومين..
    قلت ، دون أن أستجيب لدعابته:
    ـ انتظرني في السيارة ، سألحق بك بعد قليل..
    ـ إلى أين ستذهب؟
    ـ سأطمئن على الطفلة..
    استوقفني هاني وقال في ضيق:
    ـ لن أنتظر..
    ـ سأغيب دقائق فقط..
    ـ مالك ولهذه الطفلة؟
    ـ قلت لك لن أتأخر..
    تأفف هاني وقال:
    أنت تضخم الأمور دائما ، آلاف الأطفال يقذفون في العراء كل يوم ، الملايين منهم يتضورون جوعا في أفريقية هذه الطفلة ليست أفضلهم!..
    قلت محاولا إقناعه:
    ـ ليست أفضلهم طبعا ، لكنها واحدة منهم ، وعلى كل من يصادف هذه المخلوقات البريئة أن يقوم بواجبه نحوها ، ويهتم بها ، ليعوضها بعض العطف والرعاية التي حرمت منها..
    قال هاني وهو يطامن من لهجته الحادة:
    ـ أنا يا عزيزي ليت ضد اهتمامك بالطفلة ، لكنك متعب الآن ، ويمكنك أن تراها فيما بعد..
    قلت ، وأنا أسبقه بخطوات حاسمة:
    ـ قلت لك : لن أتأخر..
    ثم توقفت والتفت إليه مستدركا:
    ـ تعال معي لو أردت..
    هز رأسه في يأس وهتف وهو يصر على أسنانه:
    ـ أنت عنيد كالمتنبي ، سيقتلك أحدهم ذات يوم من شدة الغيظ ، وسيجتث رأسك بسيف مأجور..
    ـ هل ستأتي؟
    ـ سآتي .. سآتي وأمري لله..
    وصلنا إلى جناح الأطفال ، فوجدنا الدكتورة أحلام عند الطفلة تقدم لها وجبتها الصباحية ، خفق قلبي وأنا أرى أحلام وهي تحتضن الطفلة كأم رؤوم ، وقد أمسكت زجاجة الحليب بيدها ، ومالت برأسها الجميل ذات اليمين وتركت نظراتها الوادعة تدثر الطفلة بحنان سابغ ، وعطف يتوهج من عينيها كأشعة الشمس الدافئة..
    قلت لهاني وأنا ألكزه بكوعي:
    ـ انظر كيف تهتم أحلام بالطفلة؟
    والتفت إلى هاني في نظرة خاطفة ، فلمحت في وجهه تعبيرا غامضا ، وظننت أنه مازال غاضبا لأني أخرته ، فقلت له مازحا:
    ـ ابتسم ، ولاتكن نكدا إلى هذا الحد..
    قال هاني بلهجة تطفح بالضيق:
    ـ صلاح أرجوك .. ألق نظرة على طفلتك ودعنا نمضي..

    تقدمت من أحلام وجعلت أنظر إلى الطفلة من خلف كتفها الأيسر..
    كانت الطفلة تمتص حلمة الرضاعة في شهية ، وتنظر إلى أحلام نظرة بريئة ، وكأنها تقدم لها الشكر على ما تبديه نحوها من رعاية!..
    ووجدتني أقول لها دون أن تشعر بوجودي:
    ـ من لا يعرف أنك طبيبة ، يظنك أم الطفلة..
    التفتت أحلام ، وقد ارتسمت على شفتيها ابتسامة رقيقة ، لكنها ما إن رأت هاني يقف عند الباب حتى طوت ابتسامتها العذبة ، وقالت وهي تتكلف الجد:
    ـ حالة الطفلة مرضية الآن!..
    التفت نحو هاني وقد مر بخاطري شيء فوجدته يتململ في مكانه ، ولم يلبث أن قال وهو يهم بالمضي:
    ـ أنا بانتظارك في السيارة..
    ثم مضى بعصبية ظاهرة!..
    هذا الفتور بين هاني وأحلام يقلقني منذ أيام!.. ثمة شسء لا أدريه قد حدث ، وخلف في نفسيهما جمودا ونفورا بدأ يتمادى بالظهور..
    شيء غامض لا يسر استطاع أن يمتص روح البساطة والمرح التي كانت تخيم على علاقة الزمالة التي جمعتنا في مهنة واحدة ومستشفى واحدة!..
    واستأذنت أحلام مودعا ، ثم مضيت خلف هاني..
    ماذا وراءك من يا هاني من أسرار؟!..

    الفصل السابع
    قال هاني متذمرا وهو يدير المفتاح في المحرك:
    ـ لقد تأخرت ، يبدو أن أحاديثكما كثيرة هذه الأيام..
    ـ أحاديثنا؟!.. من تقصد؟!..
    ـ أنت تعرف من أقصد..
    ـ الدكتورة أحلام؟
    ـ أجل.. إنها مهتمة بك!..
    ـ حقا؟!..
    نظر إليَّ نظرة خاطفة ثم تابع قائلا ، وهو يرقب الطريق أمامه:
    ـ يعني لم تلاحظ!..
    ـ الدكتورة أحلام مهذبة ولطيفة مع الجميع..
    قال هاني وهو يمسك بطرف شاربه الكثيف الذي يهتم به كثيرا:
    ـ أحلق شاربي هذا إن لم تكن قد لاحظت..
    ـ ماذا تريد أن تقول؟..
    ـ أريد أن أقول مبروك..
    ـ على ماذا؟..
    ـ لقد أحسنت الاختيار..
    ـ هاني .. أنت تتسرع في فهم الأمور.
    تنهد هاني متحسرا ، وقال بنبرة باردة:
    ـ ستكون غبيا إذا خسرتها..
    ـ من هي حتى أخسرها؟..
    ضحك هاني ضحكة غريبة ، وهو يحملق بالأفق الممتد أمامه ، عبر نافذة السيارة الأمامية ، ثم قال وهو يفخم الكلمات كالساخر ، مستعينا بحركة يده وتعابير وجهه الممتعض:
    ـ إنها الدكتورة أحلام ابنة الملياردير عبد الغني الذهبي.. شركات وصفقات وعقارات وأرصدة هائلة في البنوك.. مال وجاه وقوة ونفوذ..
    حاكم بلا حكومة ، وملك بلا تاج.. أو كما يسمي نفسه الإمبرطور!..
    ثم التفت هاني إليَّ متهكما وقال:
    ـ ألم تسمع بالإمبروطورية الذهبية؟
    ابتسمت وقلت:
    ـ معلومات مهمة!.. من أين حصلت عليها؟
    ـ تحريات خاصة..
    ـ لعلك فكرت بالزواج منها..
    ـ ورفضت؟
    ـ رفضت!.. هل تقدمت إليها ورفضت؟!..
    ـ أجل ، فأنا لا أليق ببنت السلطان..
    ـ هذه الأسرار تنشر لأول مرة.!..
    ـ لا تقل بأنك لا تعلم ، لابد أنها قد أخبرتك..
    خرجت عن طوري قليلا ، وقلت معاتبا:
    ـ هاني أنت تتصور أمورا غريبة لا وجود لها إلا في خيالك ، أنت تعلم أني شديد التحفظ في تعااملي مع الجنس الآخر ، أرجوك أن تنظر إلى الأمور بمنظار آخر..
    إذا كنت قد سمعت منى تحوها بعض الثناء والإطراء فهذا لأنها تستحقه ، وليس مناورة لأحيطها بشباكي ، الدكتورة أحلام بالذات لا أستطيع إلا أن أكون لطيفا معها ، لأنها تعاملني معاملة طيبة ، وتبدي نحوي كل احترام..
    هتف هاني وكأنه أمسك دليلا على أوهامه:
    ـ ها أنت تعترف ، في علاقتكما شيء أكثر من الزمالة ، هناك خيط من الود والتفاهم المستور بالاحترام..
    قلت وقد نفذ صبري على اتهاماته:
    ـ هاني أرجوك ، لقد ضقت ذرعا بهذا النقاش ، أنت متوتر بعض الشيء لظروف قد لا أعرف تفاصيلها ، حاول أن تتخلص من أوهامك حتى لا تعكر صفو ما بيننا..

    مال هاني بسيارته إلى جانب الطريق ، فأوقفها ، ثم ألقى برأسه على المقود في هددوء حزين ، واستمر كذلك برهة ، ثم التفت إليَّ وقال في ندم:
    ـ صلاح إني أعتذر ، هل تقبل اعتذاري؟
    قلت وأنا أشد بكفي على كتفه مواسيا:
    ـ لست مضطرا للاعتذار ، أستطيع أن أتفهم موقفك..
    استرخى هاني على كرسيه ، واستسلم لتيار من الكآبة ، ثم همس بنبرة حزينة:
    ـ نعم ، من الصعب أن تجد نفسك مرفوضا من فتاة أحلامك التي اخترتها لتكون شريكة لك في الحياة ، لا أخفيك ، لقد زلزلتني الصدمة ، وقوضت أحلامي ، لشد ما أنا حزين..
    قلت في محاولة للتخفيف عنه:
    ـ هاني تماسك ، أحلام ليست الفتاة الأخيرة في العالم..
    ـ تصورت أن فتاة غنية مثلها لابد أنها تبحث عن شاب ثري مثلي ، ولاسيما أننا زميلان في اختصاص واحد!..
    ـ العواطف لا تخضع لحسابات العقل..
    ـ ما آلمني أنها هي التي رفضتني!..
    ـ ووافق أبوها؟..
    ـ قالت : إني أحترمه كأخ وزميل ، لكني أعتذر عن الزواج منه.
    ـ حاول أن تنساها..
    ـ أحاول..
    ـ ابتسم الآن..
    أضاءت ملامحه نصف ابتسامة ، وغاب برهة في صمته ، ثم التفت إليَّ قائلا:
    ـ سأكون سعيدا لو فزت بها أنت..
    ـ هاني ، دعنا من هذه الحديث..
    تابع هاني وكأنه لم يسمع رجائي:
    ـ أنا أعلم أن أحلام ستذهب إلى غيري ، وأنت الإنسان الوحيد الذي أرضى أن تفضله عليَّ..
    لأنك أفضل مني فعلا..
    شعرت بالخجل أمام بوح هاني وتواضعه الفريد ، وهزني إخلاصه من الأعماق ، همست في حياء:
    ـ هاني أرجوك ، لا تكرر هذا الكلام على سمعي بعد الآن..
    ربت هاني على كتفي ، ثم أدار المفتاح ، وانطلق بسيارته في هدوء ، وقد ران علينا صمت مفعم بالمشاعر الرقيقة..
    ما حيرني فعلا هو كتمان هاني لميله إلى أحلام عني ، وهو الذي لا يخفي عني سرا من أسراره!..
    هاني كان يحبها منذ زمن بعيد؟ أم أن قرار مرتجلا دفعه إلى خطبتها فجأة؟..
    أحيانا لا أستطيع أن أفهمه!.. إنه شاب مزاجي ، لكنه طيب جدا ، أطيب شاب عرفته في حياتي..
    وداهمني سؤال..
    هل أصبح اهتمامي بأحلام ، واهتمامها بي واضحا إلى الحد الذي جعل هاني يفصح عن غيرته مني..
    وأنا أعز أصدقائه وأقربهم إلى نفسه؟..
    الأشياء الكبيرة دائما تبدأ بسؤال!..

    الفصل الثامن

    ـ ما الذي دفع الجناة لأن يلقوا بالطفلة في العراء؟
    قل هاني وهو يرتدي راءه الأبيض:
    ـ أما زلت نفكر في تلك الطفلة؟
    ـ لغزها يتحدى كل طاقاتي العقلية..
    ـ آرسين لوبين في ثياب طبيب!..
    ـ يقولون : إن آرسين لوبين خرافة لا وجود لها إلا في خيال المؤلف الذي اخترعها..
    ابتسم هاني وقال في دعابة:
    ـ وأنت خرافة لا تصدق ، أريد أن أسألك سؤالا ، وأرجو أن تجبني عنه بصراحة!..
    ـ أسأل؟
    ـ من الذي نصبك مسؤولا عن هذا العالم؟
    ـ هل أبدو هكذا حقا؟..
    ـ ماذا تقول إذن في طبيب يحقق في جريمة التقى صدفة بأحد عناصرها؟..
    ـ سم ذلك فضولا..
    ـ فضولك يتعبني ، يرهقني بالتساؤلات ، تسألني وكأني أنا الذي أنجبت تلك الطفلة وألقيتها فريسة للمجهول..
    قلت أستفزه:
    ـ كيف لم يخطر هذا ببالي؟..
    لماذا لا تكون أنت والد الطفلة؟
    هتف في إنكار:
    ـ أنا؟!..
    ثم ابتسم ساخرا وأردف:
    ـ أنا كثيرا الأخطاء ، نعم ، ولكني أتحمل مسؤولية أخطائي..
    أعدت عليه السؤال:
    ـ ما الذي دفع بالجناة لأن يتخلصوا من الطفلة؟
    ـ ها أنت تعود إلى السؤال نفسه!.. ، حسنا ، سأجيبك..
    ثم تابع وهو يجلس على حافة السرير:
    ـ الاحتمال الأول هو الخوف من الفضيحة.
    ـ هذا الاحتمال ضعيف ، لأن عمر الطفلة يزيد عن أربعة أشهر..
    ـ مهما يكن ، يظل الخوف من الفضيحة دافعا واردا..
    ـ فكر بدافع آخر..
    ـ الفقر والجوع إذن!..
    ـ لا أعتقد أن في مجتمعنا فقرا يجعل الأسرة تلفظ أطفالها وتلقيهم فريسة للشقاء بهذه الوحشية..
    ـ لا تكن متفائلا ، الفقر والجوع في لبنان دفع بعض العائلات يوما لأن تعلن عن حاجتها لبيع أبنائها من أجل ثمن الخبز..
    ـ هذه حالات خاصة ومحدودة!..
    ـ ما أدراك أنها تتسع؟
    نظرت إلى هاني في قلق ، هل عاد الفقر ليضرب مجتمعاتنا من جديد؟
    أفي عصر الثروات العربية يوجد من يجوع ويعرى ويضطر لبيع أطفاله من أجل لقمة طعام؟..
    وقلت بعد صمت وتأمل:
    ـ لا أعتقد أن الجوع أو الفقر يمكن أن يكون دافعا للتخلي عن هذه الطفلة بالذات ، لا تنس المبلغ الذي وجد بحوزتها ، إنه مبلغ لا يتوافر لفقير يضطره الجوع لأن يتخلى عن أطفاله..
    قال هاني كالحائر:
    ـ أنت على حق..
    ثم أردف كمن يريد التخلص:
    ـ هذا كل ما عندي ، فلا تسألني بعد الآن..
    ضحكت ثم قلت:
    ـ هاني ، أنا لا أريد أن أشغلك بقضية لا تهمك ، لكني أحاول التفكير بصوت مسموع..
    ثم أردفت بعد صمت قصير:
    ـ ألا يعقل أن يكون وراء هذه اللقيطة قصة إرث كبير ضن به الطامعون عليها حتى لا تشاركهم الميراث؟
    هتف هاني ، وقد راقت له الفكرة:
    ـ آه .. هذه هو ، بدأت أعتنق أفكارك كمحقق ذكي ، القصة أصبحت واضحة الآن..
    رجل ثري عجوز تزوج من صبية جميلة طمعا بالإنجاب ، بعد أن يئس من إنجاب زوجته الأولى ، وعندما أنجبت الزوجة الثانية طار صواب الزوجة الأولى وقررت أن تتخلص من ابنة ضرتها التي جاءت تزاحمها على التركة الثمينة ، فتسللت تحت جنح الظلام وخطفت الطفلة ثم ألقتها في حديقة المسجد بعد أن تركت قربه مبلغا من المال..
    لقد تابعت مسلسلا عربيا حول قصة كهذه..
    فكرت قليلا ، ثم قلت:
    ـ قد لا يكون الأمر بهذه الصورة تماما ، لكن قضية الصراع على الميراث ، قد تدفع بعض من أعمى بريق المال بصائرهم ، لأن يلغوا إنسانيتهم ويقترفوا إثما كهذا..
    ثم استدركت وقد لمعت في بالي فكرة:
    ـ لكن الأم الحقيقة في هذه الحالة ستسأل عن طفلتها بكل وسيلة ، ستطرق أبواب المستشفيات وأقسام الشرطة وملاجئ الأيتام ، ستقلب الدنيا بحثا عن طفلتها..
    الأم عندما تفقد أحد أطفالها تصبح كاللبؤة الجريحة التي لا يقف في وجه ثورتها شيء..
    فكرهاني وقال:
    ـ هل تريد أن تقول...
    ـ نعم ، إن الأم تبحث الآن عن أي خيط يقودها إلى طفلتها المفقودة..
    جلس هاني قربي ، وقال في حماس:
    ـ لقد بدأت أستمتع بلعبتك البوليسية!..
    ـ هاني أنا لا ألعب..
    ـ حسنا حسنا ، ماذا تريد أن تفعل الآن؟..
    ـ يجب أن نعمم خبر وجود الطفلة عندنا في المستشفى بأية وسيلة..
    ـ من خلال الصحافة مثلا..
    ـ هل تعرف أحد يعمل في الصحافة؟..
    ـ أعرف صحفيا مشهورا لا يشق له غبار..
    ـ من هو؟
    ـ الأستاذ سعيد الناشف ، صاحب جريدة الأيام..
    ـ أمعرفتك به قوية؟..
    ـ إنه صديق قديم لوالدي ، وهو يزورنا باستمرار..
    وقفت وقلت بنبرة متفائلة:
    ـ سنزوره بعد انتهاء الدوام..
    ـ ولكن على شرط..
    ـ ما هو؟
    قال هاني في مكر:
    ـ تملأ خزان سيارتي بالبنزين..



    0 Not allowed! Not allowed!




    [ame="http://www.youtube.com/watch?v=yxzoplqtmHk&feature=related"]http://www.youtube.com/watch?v=yxzoplqtmHk&feature=related[/ame]

  5. #4
    شعلة متقدة .. وحماس دائم Array الصورة الرمزية صفاء الايمان
    تاريخ التسجيل
    Apr 2009
    الدولة
    ...
    المشاركات
    14,276
    Articles
    0
    Thumbs Up/Down
    Received: 8/0
    Given: 0/0
    معدل تقييم المستوى
    412




    بيانات اخرى

    الجنس :  انثى

    المستوى الأكاديمي :  تعليم ابتدائي

    الجامعة الحالية/التي تخرجت منها ؟ :  الجامعة الأردنية

    الحالة الاجتماعية :  اعزب

    افتراضي رد: البحث عن امرأة مفقودة!..



    الفصل التاسع

    ضحك الأستاذ سعيد وقال وهو يسترخي بجسده فوق كرسيه الجلدي الدوار:
    ـ هل تقومان حقا بحل لغز هذه الطفلة؟
    حاول هاني أن يبرئ نفثه وقد أحس في كلام الأستاذ سعيد سخرية من خطوة كهذه ، قال وهو يشير إليَّ:
    ـ إنه الدكتور صلاح ، هو صاحب الفكرة..
    كرر الأستاذ سعيد سؤاله لي كمن فوجئ بمعرفة شيء لا يتوقع:
    ـ هل أنت مهتم فعلا بحل لغز الطفلة إلى هذا الحد يا دكتور صلاح؟
    قلت وأنا مندهش للسؤال:
    ـ نعم هل هي ذلك خطأ؟
    فرقعت ضحكة الأستاذ سعيد في أرجاء الغرفة الأنيقة ، ثم قال وهو يعبث بيده في جيوبه باحثا عن شيء:
    ـ لا أصدق..
    ـ ما الذي لا تصدقه؟
    لا أصدق أن في شباب اليوم من يفكر مثلك ، كنت أظن أن زماننا قد انتهى ، ولكن..
    ها أنت تذكرني بشبابي..
    همست في حيرة:
    ـ أستاذي الكريم ، أنا لا أفهمك!..
    عثر الأستاذ سعيد عما كان يبحث عنه ، فأخرج غليونه الأسود الفاخر وقال ، وقال وهو يحشو بالتبغ الذي فاحت رائحته في أرجاء المكان:

    ـ قصدت أن أقول بأن موقفك هذا ينسجم تماما مع روح الشباب المتوثبة المشبعة بالفضول ، الشباب المسؤول المتحمس قضية نبيلة..
    شبابنا اليوم للأسف مصاب بالإحباط المزمن ، ومن أخطر أعراض هذا المرض اللامبالاة التي ينظر بها شبابنا إلى الأمور والأحداث التي تجري حولنا ، وأنت يا دكتور صلاح ظاهرة صحية مبشرة..
    عندما كنت في سنك كنت هكذا مثلك ، تثيرني الأحداث ، وتدفعني للمبادرة ، كنت أحب أن يكون لي موقف من كل حدث مهما كان صغيرا ، وكنت أحب دائما أن أترجم الموقف إلى فعل..
    قال هاني ، وقد أحب أن يشمله الأستاذ سعيد بمدحه:
    ـ في الحقيقة ، لقد أثارنا لغز الطفلة اللقيطة ، وأثرت فينا قصتها المحزنة ، فأتينا نطلب مساعدتك في معرفة الأشخاص الذين يقفون وراء هذه الجريمة..
    قال الأستاذ سعيد في صراحة تشف عن مدى العلاقة الحميمة التي تربطه بوالد هاني:
    ـ اسكت أنت ، أنت انتهازي كأبيك ، منذ قليل كنت تتبرأ من اهتمامك بالطفلة ، وها أنت تدعي الآن أن لغز الطفلة قد أثارك وحدا بك لأن تحضر إلى هنا!..
    أقطع ذراعي إن لم يكن الدكتور صلاح هو الذي قادك إلى هنا..
    ابتسمت لكلمات الأستاذ سعيد التي لا تخلو من الدعابة ، وأدركت أنه إنسان ذكي قد عركته التجارب وحدت نظرته للناس..
    سأل الأستاذ سعيد هاني وعلى شفتيه ابتسامة ماكرة:
    ـ أما زال أبوك صديقا لوزير التموين والتجارة؟
    ـ نعم ، علاقتهما طيبة كما تعرف!..
    ـ قل لأبيك ألا يسرف في الولائم ، فمعالي الوزير على وشك الإقالة ، هناك تعديل وزاري سوف يشمله عما قريب..
    ابتسم هاني في خبث ولاذ بالصمت ، إنه يدرك ما رمى إليه الأستاذ سعيد ، فقد حدثني كثيرا فيما مضى عن التكتيكات الوصولية التي يتبعها أبوه من أجل تطوير أعماله التجارية ، والعلاقات الحميمة التي يسعى لإقامتها مع المسؤولين طمعا بمساعدتهم..
    قال الأستاذ سعيد بعد أن أرسل تنهيدة طويلة:
    ـ هذا زمان مختلف ، زمان عجيب ينطوي على تناقضات صارخة مثيرة ، في هذا العصر الذي نعيشه ليس هناك مكان للحقيقة ، لا قيمة للمبادئ والمثل ، لا معنى لأن تكون إنسانا..
    ثم بعد ابتسامة ساخرة:
    ـ لأنك إذا أردت أن تكون إنسانا فستكون الإنسان الوحيد وسط مجتمع من الذئاب..
    لكنه استدرك فجأة وقال:
    ـ لا أقصد أنك الإنسان الوحيد ، أبدا.. فمجتمعنا لا يخلو من النماذج الخيرة الرفيعة ، بل عنيت إنك إذا أردت أن تكون إنسانا نبيلا ، فسوف تبدو غريبا ، سينظر إليك المجتمع وكأنك كائن عجيب قادم من عالم منقرض ، ستكون منبوذا لا يكاد يلتفت إليك أحد ، وستعيش غربة قاتلة..
    وليت الأمر يقف عند هذا الحد!.. إذن لهان الأمر ، لكن المصيبة أن الناس لن يتركوك في وحدتك تمارس النظافة التي ترتاح إليها ، بل سيلومونك ويثبطونك ويحذرونك من مسلك النبيل ، لأن قدرتك على السمو ستعريهم وتكشف ضعفهم ، سيتهمونك بالسذاجة والمثالية الفارغة..
    هكذا نحن اليوم ، نسمي النبل والتطوع والإحساس بالآخرين والالتزام بالقيم مثالية فارغة ، وتطلق على هذا النوع من السلوك "التعامل الرومانسي مع الواقع"..
    أنا صرت أكره كلمة الواقع هذه ، لقد أصبحت تعني الهزيمة ، تعني الاستسلام لهذا لفساد الذي يجتاحنا كالطوفان..
    التفكير الواقعي قاموسنا الملوث أصبح يعني الانصياع للواقع المريض ، واتخاذه مقياسا للسلوك والتصرف ، صار يعني أن تكون كما يريد هذا الواقع لا أن يكون الواقع كما تريد..
    حتى تكون واقعيا في هذه الأيام يجب أن تكون (شاطرا)..(ملحلحا)..(فهلويا).. يجب أن تكون ذئبا.. نعم ، فهذا العصر عصر الذئاب!..

    كان الأستاذ سعيد يتحدث بمرارة ، وصمت لحظة ثم تابع ، وهو يهز غليونه الذي كان يحتضنه داخل قبضة يده اليسرى:
    ـ صار لي في هذه المهنة أكثر من أربعين عاما ، أربعين عاما وأنا أراقب المجتمع ، وأسجل ملاحظاتي عليه ، كنت ألاحظ بداية الانهيار وأقاومها بقلمي ، عاصرت الانهيارات والهزائم الكبرى التي تعرضت لها الأمة ، فوقفت أعري أسبابها وأحذر من آثارها ، كنت أؤمن أن الحياة موقف ، وكانت مواقفي واضحة صريحة..
    ثم ماذا كانت النتيجة؟ حاربتني الدنيا.. حاصرني الجوع.. خنقتني الغربة وذات يوم تقهقرت ، وقعت أسيرا لليأس ، فكسرت سيفي وركعت.. وأجرت قلمي ، وصرت أكتب ما أريد وما لا أريد ، وأصفق للجميع..

    كان في كلام الأستاذ سعيد نوع من البوح.. شيء من كالاعتراف ، وتأملت الشيب الذي توج رأسه ، فأدركت أن تحت كل شعرة بيضاء قصة حزينة ، أو تجربة مريرة ، وشعرت بالرثاء لرجل يروي قصة سقوطه أمام التحديات..
    "هل يمكن أن تكون هذه نهاية المخلصين؟!"..
    شعرت بالفزع من أمام هذا التساؤل الذي داهمني فجأة ، وأنا أنصت للأستاذ سعيد وهو يتابع بوحه المثير:
    ـ لقد انتهى عصر المثل والمبادئ والقيم العظيمة ، وبدأ عصر مختلف ، عصر يحكمه قائد واحد اسمه الدولار..
    كلنا نلهث وراءه ونصفق له بإعجاب ، إنه الوثنية الجديدة التي استعبدتنا وألغت عواطفنا وجردتنا من القيم..
    أنا لو كنت الآن مكانك لما هزتني حادثة هذه الطفلة!.. عفوا.. أنا لست متبلد الحس ، أرجو ألا تفهمني خطأ..
    لكن ، ما أردت قوله أن أطفالنا اليوم يدمرون بألف طريقة ، وهذه الطفلة ليست أسوأهم حظا..
    ماذا تقول مثلا في أطفال يموتون جوعا في الصومال أو العراق؟..
    ماذا تقول في أطفال تزهق أرواحهم في الأرحام بعمليات الإجهاض الظالمة التي يجريها أطباء أقسموا اليمين الطبي المغلظ؟..
    ماذا تقول في جيل كامل تدمره الأفلام والمسلسلات الهابطة ، ويستهلك فكره وإبداعه الفن الرخيص؟..
    ماذا تقول في آباء وأمهات يتركون أطفالهم للخادمة الغربية من هنا وهناك ، من أدل أن يستمتعوا بأوقاتهم في حفلات اللهو والثرثرة والمتعة الزائفة؟..
    أطفالنا اليوم يا دكتور يربيهم جهلة سريلانكا والفلبين..
    ثم أرسل تنهيدة ساخرة وقال:
    ـ ماذا تقول في أم تحرم طفلها من حليب ثدييها الطبيعي خوفا على نهديها من الذبول؟.. إنهن يبعن الطفولة من أجل لحظة إغراء.. من أجل كلمة إطراء.. هذا هو البغاء الجديد الذي نمارسه اليوم بعد أن أصبح جمال الجسد عندنا قبل سلامة الروح..
    وأنت تعرف أكثر مني يا دكتور عن أهمية حليب الأم لأرواح الأطفال وأجسادهم..

    ومرت هنيهة صمت ، غاب الأستاذ سعيد خلالها في شرود عميق ، ولم يلبث أن قال:
    ـ لقد ضاق بنا هذا العالم على رحابته!.. ضاق بنا ولم يعد يتسع لزفراتنا الأليمة..
    وأردف بنبرة ألم:
    ـ أحيانا أتمنى أن أصرخ ، أن أنزل إلى الشارع وأهتف كالمجانين ، لألفت العالم إلى تناقضاتنا الصارخة الغبية..
    ثم التفت إليَّ وقال كالمستدرك:
    ـ أنت يا عزيزي حزين من أجل طفلة تخلى عنها أبواها ، وتبنتها الهيئة الاجتماعية ، حسنا ، لنقل إن هذه الطفلة ستعيش يتيمة وتشق طريق حياتها متأقلمة مع هذه الحقيقة ، لكن..
    ماذا عن أطفال ينضجون وسط جحيم الأسرة ، عندما تفقد الأسرة إلى روح الحب والتفاهم التي تبعث فيها الحياة؟.. ينامون على صراخ آبائهم وأمهاتهم ، ويستيقظون على صوتهم الهادر بالشتائم واللعنات..
    ماذا عن أطفال يربيهم آباء وأمهات لا يعرفون معنى التربية السليمة ولا طرائقها؟ لا يعرفون من التربية إلا القمح المرهق أو الدلال المفسد..يتبوءون مقاعد الأبوة والأمومة وهم لا يعرفون عن الزواج سوى أنه إطار المتعة الحلال ، ووسيلة للتناسل والإنجاب..
    ووسائل إعلامنا غافلة عن هذه الأمراض المدمرة.. لا تكاد تجد فيها برنامجا أو حتى توجها لتثقيف الآباء ، أو تربية الأبناء..
    وأطلق الأستاذ سعيد آهة عميقة وشت بالكرب ، وقال كمن يخاطب نفسه:
    ـ لكم ترهقني الحقائق!.. تجثم على صدري كالكابوس ، تنشب أظافرها في نفسي ، وكأني أنا الجاني الوحيد..
    أي عالم هذا الذي نعيش فيه؟!..

    ثم صمت الأستاذ سعيد ، وقد اعترته كآبة واضحة.. تبادلت أنا وهاني نظرة حائرة ، ثم عدنا بأعيننا إليه ، تبوح نظراتنا بلهفتنا لسماع بقية الحديث.. تستحثه أن يتابع سرد خلاصة تجاربه العميقة ، لكن الأستاذ سعيد أوغل في الصمت ، واغتسلت نظراته الشاردة بأنداء من الدمع..

    تساءلت في سري عن المعنى الذي يختفي وراء هذا الصمت الحزين.. لكن الأستاذ سعيد خرج عن صمته فجأة ليروي لنا قصة مؤلمة من القصص التي عاصرها أثناء حياته الصحفية الحافلة..
    قال الأستاذ سعيد وهو يعيد إشعال النار في غليونه الأنيق:
    منذ سنوات ، أبلغني محرر صفحة الحوادث بأن طفلة صغيرة قد وجدت مغتصبة ومقتولة في بناء مهجور..
    صعقني يومها النبأ..
    من هذا الوحش الذي يجرؤ على قتل طفلة؟!!.. قلت له: "أعطني العنوان.. سأغطي هذا الحادث بنفسي"..
    أردت أن أعرف ملابسات هذه الجريمة الغريبة!.. وصلت إلى مكان الحادث ، وعرَّفت المحقق بنفسي ، وسألته أن يريني الجثة..
    رفع الضابط الغطاء عن جثة الطفلة ، فصدمني منظر فظيع لا أنساه!.. هل رأيت الورد عندما يداس؟..
    كانت طفلة وديعة.. جميلة كالزهر.. بريئة الطيف.. رقيقة كالنسمة.. طاهرة كالندى.. على شفتيها أشلاء ابتسامة..
    تجمدت نظراتي الثائرة على الجسد الغض الذي سحقه المجرم تحت جسده القذر ، وأججت ثورتي تلك الدماء الطاهرة التي كانت تغرق الطفلة ، وشعرت بالغثيان وأنا أرى أبشع صورة للانحطاط البشري..

    كان الغضب يغلي في عروقي كالبركان.. نظرت إلى المحقق فلم أجده أحسن مني حالا ، قال لي وكأنه يجيب عن سؤال نطقت به ملامحي الشاحبة: لقد تم اغتصابها بوحشية ، والتقديرات الأولى تشير إلى أنها ماتت بسبب النزيف المهبلي الحاد الذي خلفه الاغتصاب الغادر..
    سألته : والجاني؟ هل عرفتم الجاني؟!..
    أجاب وهو يهز رأسه في أسف: مازال مجهولا ، لكننا نأمل أن يتم اكتشافه عما قريب حتى ينال العقاب المناسب..
    قلت له : تقصد الإعدام!..
    أجاب: هذا شيء تقرره المحكمة..
    قلت له وأنا في ذروة الغضب: إذا لم تعدموه أنتم ، فسأقتله بنفسي مع سبق الإصرار والترصد ، كن شاهدا على هذا الكلام..
    ابتسم المحقق يومها ، وأشفق عليًّ من ثورة الغضب والحزن ، وظن أن كلامي عن انفعال طارئ ولًّده منطر الطفلة القتيلة ، لكني أؤكد لكما أني لم أكن جادا في حياتي مثلما كنت جادا في تلك اللحظة..
    ثم دار الأستاذ بكرسيه ربع دورة ، وقال:
    ـ بعد أيام اكتشفوا الجاني ، كان واحدا من شباب الحي ، شاب عاطل عن العمل ، يقضي وقته متسكعا في الطرقات ، يتردد على دور السينما الهابطة ليأخذ جرعت عالية من الإثارة وحمى الجنس ، ثم يخرج منها كالكلب المسعور ليلاحق هذه ويعتدي على تلك..
    ذات يوم كان هذا الشاب يتجول في أزقة الحي كعادته ، فداهمه المطر فجأة ، فلجأ إلى عمارة قريبة قيد الإنشاء ليحتمي من الأمطار الغزيرة التي انهمرت بشدة..
    راح يتسلى بتدخين سيكارة حشيش ، فلعب المخدر برأسه ، فانفصل عن عالم الوعي ، وغاص في الوهم والزيف ، فماعت في خياله الأفكار والمدركات ، واختلطت ، وتحولت إلى هلام , وتربع على عرش النشوة الكاذبة ، فتراءى له الكون وهو يركع عند قدميه..
    ورأى هذا المأفو الطفلة البريئة وهي تركض تحت المطر باحثة عن ملجأ ، وقد التصقت ثيابها المبللة بجسدها الغض ، فبدت له غانية حسناء كاللواتي أدمن على مشاهدتهن في الأفلام الرخيصة المسمومة ، فبدد الدخان الأزرق إرادته ، وحرك غرائزه الكامنة ، فعربدت في أعماقه رغبة بهيمية مجنونة ، وسولت له نفسه السوء ، فدعا الطفلة لتلوذ بالمكان الذي يحتمي به من المطر ، فاستجابت الطفلة المسكينة لدعوته ، دون أن تفهم ما يراد بها..
    كان وعيها ما زال غضا لم ينضج بعد ، كانت تنظر إلى العالم ببراءة ، خيالها الصغير ما زالت أجنحته ضعيفة لا تقوى على الطيران بعيدا في فهم نوايا الناس ونزعاتهم ، خيالها الطاهر لم يتخط بعد أسوار الخير ، وحدود الفرح ، ليحلق فوق مساحات الشر التي تتسع في النفوس المريضة عندما تفقد إنسانيتها وأصالتها..
    وانقض الوغد عليها كالوحش ، وافترسها ببهيمية منقطعة النظير..
    كانت الفتاة تصرخ وتستغيث ، وهي ترى الإنسان الوديع الذي يشبه أباها وأخاها يتحول إلى ذئب مفترس ، وضاعت صرخاتها بين هدير الرعد وطرقا المطر ، وبدأت أفراحها تنزف رويدا... رويدا ، حتى ذوت منها الروح ، وخبت ، وفارقت الحياة..
    وعاد الأستاذ سعيد إلى صمته يحملق في المجهول ، وترك العنان لدموعه الصامتة لتغسل نظراته الزائعة الكئيبة..
    كان في نظراته حزن وثورة ، وغضب متوقد كالنار ، واجتاحتنا كآبة فظيعة ونحن نصغي لأبشع قصة يمكن أن تدنس الأسماع..
    سألت الأستاذ سعيد وأنا في لهفة لمعرفة نهاية هذا المجرم:
    ـ هل أعدموه؟
    أجاب الأستاذ سعيد وهو ذاهل:
    ـ نعم ، كانت جريمة بشعة هزت الرأي العام ، وكانت الظروف المحيطة بالقضية تحكم حبل المشنقة حول رقبته ، فأعدم في ميدان عام ليكون عبرة لغيره من الشاذين والمنحرفين..

    ثم ارتسمت على شفتي الأستاذ سعيد ابتسامة ساخرة ، قال وهو يتذكر:
    ـ حرصت على حضور كل جلسات المحكمة التي مثل أمامها ذلك المجرم ، كنت أحاول دراسة هذه الشخصية المنحرفة ، ورصد المدى الذي وصلت إليه الجريمة في بلادنا ، وكان مما أثار غيظي في هذه المحاكمة ذلك المحامي الذي وقف ليدافع عن المتهم ، ويطالب المحكمة أن ترأف بحاله ، وتقدر دور الفراغ والبطالة في الجريمة ، واتكأ على سيجارة الحشيش ليخفف الحكم على المتهم ، مدعيا أنه كان مدفوعا إلى جريمته تحت تأثيؤ المخدر الذي لعب بعقله وشل عنده القدرة على التمييز..
    وعندما انتهت المحاكمة وصدر الحكم بالإعدام على المجرم ، سألت ذلك المحامي : "كيف سمح لك ضميرك بأن تدافع عن هذا الوغد؟" استغرب المحامي سؤالي وسألني عن اسمي وصفتي ، فعرفته بنفسي..
    فضحك ساخرا وقال : "أنت؟" قلت له :"نعم ، قل يبدو اسمي مضحكا إلى هذا الحد؟" قال:"لا ، أبدا ، فقط فاجأني سؤالك!." نظرت إليه مشدوها ، وقد أثارني تصرفه ، فسارع يقول:"في الماضي يا أستاذ كنت أقرأ مقالاتك بشغف ، وأعجب بصراحتك وحماسك ، لكني لم أعد ألمس بلك الروح في مقالاتك الأخيرة! لم تعد تكتب يا عزيزي ما تريد"..
    ثم أردف وهو يرمقني بخبث:
    ـ "بين المحامي والصحفي يا صديقي شبه واضح ، كلاهما يضطران أحيانا للدفاع عن الباطل من أجل لقمة العيش".
    هز الأستاذ سعيد رأسه في مرارة ثم امتص بعض الدخان من غليونه ، ونفثه كمن يزفر من شدة الألم ، وقال:
    ـ "كان المحامي ذكيا ، صفعني بكلماته ، ومضى ، وتركني فريسة للذهول!.. منذ ذلك التاريخ كسرت أقلامي وألقيتها في بحر اليأس والهزيمة ، امتنعت عن كتابة مقالي اليومي ، وحولت صحيفتي إلي صحيفة حوادث وقصص وتسليات ، صرت أنقل اخبار الفنانين وأسعى وراء النجوم ، خصصت صفحة للتعارف ، وأخرى للبحث عن النصف الآخر ، وثالثة للأبراج ، رابعة للأزياء وخامسة لآخر الصرعات.. وآلمني أن الناس أقبلوا على جريدتي بعد أن كانوا زاهدين فيها ، وارتفعت مبيعاتي من خمسة آلاف إلى خمسين ألفا..."

    كان كلام الأستاذ سعيد صريحا صادقا ، وكان يقطر مرارة وألما ، وكأنه حديث إنسان ينعى نفسه ، ويعلن هزيمته بشجاعة نادرة..
    وتساءل هاني كالمازح:
    ـ أيؤلمك يا سيدي أن يقبل الناس على جريدتك؟
    ابتسم الأستاذ سعيد في مرارة وقال:
    ـ ما آلمني هو الحقيقة المرة التي تقف خلف هذا الإقبال ، فقد أكدت لي هذه التجربة أننا أمة هاربة ، ترهبها الحقائق ، وترهقها الصراحة ، نحن مجتمع لا يريد أن يواجه نفسه ، يخشى أن يرى وجهه في المرآة حتى لا تفجعه التشوهات الدميمة التي تتسع مساحتها فينا يوما بعد يوم ، نحن مجتمع يريد أن يبقى مخدرا نائما مغمض العيون ، مجتمع يخشى أن يسترد وعيه.. يخشى أن يصارحه المعالجون بأنه مصاب بالسرطان ، أنه بحاجة إلى جراحة عاجلة لاستئصال الأورام الخبيثة من جسده المريض!..
    ثم أردف الأستاذ سعيد بعد صمت قصير ، وهو يلقي نظراته نحوي :
    ـ اطمئن يا دكتور ، صحيح أني صحفي فقد حماسه ، لكني ما زلت إنسانا ، اطمئن سأتعاطف مع مشاعرك النبيلة , وسأنشر لك خبر الطفلة اللقيطة عدا في الصفحة الأولى..
    ثم أرسل الأستاذ سعيد تنهيدة طويلة ، وأغمض عينيه إغماضة من ألم به ألم حاد اخترق جسمه ، ولم يلبث أن قال:
    ـ أرجوكما أن تتركاني لوحدي الآن ، فقد أثارت زيارتكما في نفسي شجنا كنت أظن أني قد برأت منه!..
    كان طلب الأستاذ سعيد مفاجئا وغريبا ، أوحى لي بعمق الغربة التي يحياها..
    شكرناه ، وغادرناه في هدوء ، تطاردنا تلك الصورة المخيفة التي رسمها لنا لهذا العصر الرديء..
    قال هاني وهو يتأبط ذراعي:
    ـ هذا الإنسان يخيفني..يرسم أمامي صورة قاتمة للمستقبل!..
    ـ لكن كلامه لا يخلو من الحقيقة!..
    ـ عندما يزور هذا الإنسان والدي ، أتجنب الجلوس مع ، أهرب من البيت كله حتى لا أسمع كلامه ، لاأدري كيف سمعته اليوم حتى النهاية..
    قلت وأنا أستذكر كلمات الأستاذ سعيد:
    ـ ألم يقل لك الأستاذ سعيد؟.. أنت من مجتمع هارب ، لا يريد أن يسمع ، لا يريد أن يعرف ، يريد أن يظل نائما مخدرا ممعنا في الهروب..
    قال هاني كالهازئ:
    ـ وأنت؟ من أي مجتمع؟..
    ـ أنا أريد أن أعرف..
    ـ ستتألم..
    ـ الألم من علامات الحياة..
    ـ ستتعذب..
    ـ العذاب يزيدنا إحساسا بالواقع ، وتصميما على التغيير..
    ـ يبدو أنك قد أصيب بالعدوى!..
    ـ ممن؟
    ـ من سعيد الناشف..
    ضحكت وقلت:
    ـ أنت المسؤول ، أنت الذي عرفتني به..
    ـ لم أعرف أنك تستعذب التشاؤم مثله..
    ـ تشخيص أمراض المجتمع ، والبحث عن أسباب السقوط ليس تشاؤما ، إنه الطريق إلى الخلاص..
    هتف هاني في توسل وإنكار:
    ـ رحماكم أيها المصلحون ، هل تريدون مني أن أشخص أمراض المجتمع ، أم أشخص أمراض الناس؟..
    ثم أردف في ضراعة ودعابة:
    ـ أرجوك.. أرجوك يا صديقي اللدود ، دعنا من هذا الحديث..
    وكالعادة ، استطاع هاني أن يزيل بدعابته الجو الكئيب الذي وضعنا فيه الأستاذ سعيد..
    ومضينا نثرثر ونمزح ، ونمعن في الهروب...



    0 Not allowed! Not allowed!




    [ame="http://www.youtube.com/watch?v=yxzoplqtmHk&feature=related"]http://www.youtube.com/watch?v=yxzoplqtmHk&feature=related[/ame]

  6. #5
    شعلة متقدة .. وحماس دائم Array الصورة الرمزية صفاء الايمان
    تاريخ التسجيل
    Apr 2009
    الدولة
    ...
    المشاركات
    14,276
    Articles
    0
    Thumbs Up/Down
    Received: 8/0
    Given: 0/0
    معدل تقييم المستوى
    412




    بيانات اخرى

    الجنس :  انثى

    المستوى الأكاديمي :  تعليم ابتدائي

    الجامعة الحالية/التي تخرجت منها ؟ :  الجامعة الأردنية

    الحالة الاجتماعية :  اعزب

    افتراضي رد: البحث عن امرأة مفقودة!..




    الفصل العاشر


    صدر العدد الجديد من جريدة الأيام في اليوم التالي ، قرأ الناس فيه خبر الطفلة اللقيطة على الصفحة الأولى ، وتناقلت الألسنة قصة هذه الطفلة البائسة باستنكار ، قال هاني وهو يقلب صفحات الجريدة:


    ـ لقد وفى الأستاذ سعيد بوعده ، وأورد الخبر بكل تفاصيله ، وها هي الخطة تمضي كما رسمناها..


    قلت وأنا ساهم:


    ـإذا كانت والدة الطفلة بريئة مستغفلة كما توقعنا ، فسوف تأتي إلى هنا ، لتسأل عن طفلتها ، وإلا فسوف نعود إلى نقطة البداية..


    ضحك هاني وقال وهو يرمي الجريدة خلف ظهره:


    ـ تتحدث وكأنك محقق حاذق يقف أمام قضية معقدة ، لا أدري كيف أقنعتني بهذه اللعبة!..


    قلت له بنبرة جد:


    ـ أنا لا ألعب ، إذا كنت تظن الأمر لعبة ، بإمكانك أن تنسحب..


    قال هاني ضاحكا:


    ـ ولماذا أنسحب؟ أنا استمتع باللعبة ، وأنت تؤدي واجبك كما تعتقد ، كلانا في موقع واحد ، لكن كلا منا ينظر إلى الأمر من زاويته..


    واستنفرنا لصد كل من يسأل عن الطفلة ، وانضمت ِإلينا أحلام ، بعد أن شرحت لها الغاية من الخبر الذي نشرنها ، ومضى النهار سريعا دون أن يسأل عن الطفلة أحد ، قال هاني بعد أن انتهى دوامه:


    ـ اعذرني يا صديقي ، يجب أن أمضي..


    ـ ألن تبقى معي لتكمل اللعبة كما تسميها؟


    قهقه هاني عاليا ، وقال:


    ـ عفوا ، أنا لا ألعب في الوقت الضائع ، تابع مهمتك يا بطل ، وأخبرني بالنتائج..


    ومضى هاني ، فأشعرني انسحابه بأني أعبث ، وكدت أستسخف ما أقدمت عليه لولا أحلام التي أبدت تعاطفا واهتماما ، فقررت أن تمد نوبتها لتراقب نهاية التجربة..


    ومضى اليوم الأول دون أن نظفر بنتيجة ، فشعرت بخيبة مؤلمة ، لكني لم أيأس ، استقبلت اليوم التالي بحماس شديد ، ورحت أترقب حضور الأم لتسأل عن طفلتها ، لكن شيئا من هذا لم يحدث!..


    شعرت بالإحراج أمام هاني وأحلام ، وكل الذين تعاطفوا معي ، وحاصرني شعور مزعج بأني إنسان مبالغ ينخ الاهتمام في الأمور الصغيرة فتكبر وتنو وتتورم حتى تنفجر ، وتحدث حولها دويا مزعجا يلفت نحوه الأسماع والأنظار..


    وانهال هاني عليَّ بتعليقاته اللاذعة ، يتهمني بالمراهقة تارة ، وبالبحث عن تسلية تارة ، ثم راح يرثى لحالي ، ويحذرني من طيبتي الزائدة التي تورطني في مواقف محرجة..


    وبعد أيام ، تماثلت الطفلة اللقيطة للشفاء ، وأصبحت حالتها الصحية تسمح لها بالانتقال إلى ملجأ الأيتام..


    قالت أحلام:


    ـ لقد قدمت تقريرا مفصلا عن حالة الطفلة إلى مدير المستشفى ، ليقوم بتحويلها رسميا إلى ملجأ الحنان للأيتام..


    قلت بنبرة آسفة:


    ـ كنت أتمنى أن نصل إلى نتيجة..


    ابتسمت أحلام وقالت مازحة:


    ـ كانت مغامرة فاشلة هذه المرة ، ابحث عن مغامرة جديدة..


    لم أجد ما أقوله ، تهالكت على كرسي قريب ، وجلست كالمهزوم..


    قالت أحلام بلهجة تشي بالمواساة:


    ـ على أية حال ، لقد قمت بجهد نبيل يستحق الاحترام..


    شكرتها بإيماءة صامته ، ثم همست وأنا أهم بالنهوض ثانية:


    ـ يبدو أني أبالغ كثيرا في اهتماماتي!..


    ـ لا تؤنب نفسك ، أردت أن تقدم شيئا مفيدا ، فكان الأمر يفوق طاقتك..


    لم تستطع كلمات أحلام الرقيقة أن تخفف عني ، تركتها وهي ترمقني في إشفاق ، وغادرت المكان..


    استوقفتني أحلام بعد أن مضيت خطوات وسألتني:


    ـ إلى أين؟


    ـ إلى العم درويش..


    ـ دائما تذهب إليه..


    ـ لقد اشتقت إلى قهوته..


    ـ بل قل أنك ذاهب لتبوح له بما يثقل صدرك..


    ـ كيف عرفتِ؟


    ـ كلنا نذهب إليه..


    ـ معك حق..


    ومضيت مثقلا بالخيبة ، يجتاحني شعور بالتفاهة ، ولم تلبث أحلام أن استوقفتني مرة أخرى:


    ـ على فكرة...


    ـ ماذا؟


    ـ لقد أحضر العم درويش زوجته بالأمس ، وأراها الطفلة..


    حملقت في الأرض ، وتصورت للحظة كل المعاني التي تكمن خلف هذه الزيارة، أردفت أحلام:


    ـ لقد كان موقفا مؤثرا ، إني أرثي لهذين الزوجين العاثرين..


    قلت وأنا أمضي:


    ـ يبدو لي أنا جميعا بحاجة إلى رثاء..



    الفصل الحادي عشر


    قال العم درويش وهو يقدم لي فنجانا شهيا من القهوة:


    ـ لم يسألوا عن الطفلة ، أليس كذلك؟


    ـ ها أنت مطلع على آخر الأنباء..


    تنهد العم درويش وقال وهو يسحب كرسيا ليجلس معي:


    ـ هناك أمر يختمر في بالي منذ أيام ، وأريد أن أشاورك فيه..


    تناولت رشفة من فنجاني ، وقلت وأنا أرنو إليه في إشفاق:


    ـ أعرف ما تريد قوله ، الطفلة ؟ أليس صحيحا؟


    ـ هل أستطيع أن آخذها وأربيها؟


    ـ تفعل خيرا لو أقدمت على ذلك..


    سرت في جسد العم درويش شحنة من الحماس ، وأشرق وجهه بالبشر والحبور ، هتف كالحالم:


    ـ سأربيها أحسن تربية ، وسأدللها دلالا تغار منه بنات القصور ، لكم أنا في شوق إلى الأطفال يا دكتور!..


    ـ أتفهم مشاعرك ، أنت تستحق كل خير يا عم درويش..


    قال العم درويش وهو يستجيب لشحنة جديدة من البشر والنشاط:


    ـ لعلك لا تتصور مقدار حماس زوجتي للفكرة ، إنها تلح عليَّ في الصباح والمساء على أخذ الطفلة لنربيها ونرعاها ، وهي تغرق الطفلة بالقبلات والدموع ، وتشبعها ضما ولثما وتقبيلا ، إننا نحيا حياة قاسية بلا أطفال..


    كان المسكين يتكلم بحرقة وأسى ، وأحسست بلسع الحرمان الذي يعانيه هو زوجته فقلت أواسيه:


    ـ لا تحزن يا عم درويش لعل الله قد شاق الطفلة إلينا لتقر بها عينا أنت وزجتك..


    قال العم درويش في لهفة طاغية:


    ـ كيف أستطع أخذها؟


    ـ عليك أن تتقدم بطلب إلى ملجأ الأيتام الذي ستحول إليه..


    ـ ولماذا لا أستلمها من هنا؟ سأوقع على كل الضمانات والتعهدات اللازمة..


    ابتسمت مشفقا ، وقلت:


    ـ أنت مستعجل أكثر مما يجب!..


    أطرق العم درويش وهو يهز رأسه في حزن ، ثم قال بنبرة تنم عن لهفته وأشواقه الملتهبة:


    ـ العمر يمضي يا دكتور ، ولم يبق منه سوى القليل ، وأنا أريد أن أودع الدنيا على صوت طفل يقول لي بابا... بابا ، ماما... أغنية جميلة تعطر البيوت الحزينة ، وترد إليها الروح .. أغنية عذبة حرمناها واشتقنا إليها..


    نريد أن نسمعها ولو من طفلة لم ننجبها ، وزوجتي يا دكتور صلاح امرأة طيبة ، قدمت لي الحب والإخلاص ولا أستطيع أن أرفض لها طلبا ، لقد ولعت بالطفلة وتعلق قلبها بها ، ويجب أن أحقق لها أمنيتها ، أرجو ألا تفهم أني رجل ضعيف الشخصية أو كما يقول أخي أبو رشيد: رجل محكوم على أمري أصغي لكلام النساء ، الأمر ليس كذلك ، كل ما في الأمر أني أحب زوجتي وأحترمها وأقد الأيام الطيبة التي عشناها معا ، أريد أن أقدم لها خدمة تكافئ تضحيتها من أجلي ، سأعترف لك بشيء..


    أنا أعرف أن العيب فيَّ ، أعرف أني الذي لا أنجب ، وهي تعرف ، لكنها امرأة وفية ، رفضت أن ننفصل وتتزوج غيري ، قالت لي يومها والدموع في عينيها: لقد قضينا أجمل سنيَّ العمر محرومين من رائحة الأطفال ، فحمدنا الله ، ورضينا بالمكتوب ، فلماذا تريد أن توقظ الجرح الآن وقد كاد أن يلتئم؟د


    دعنا من هذه السيرة الله يخليك..


    ومسح العم درويش دمعة أفلتت منه رغما عنه ثم أردف قائلا:


    ـ يجب أن أكافئها يا دكتور ، أليس كذلك؟..


    أثار حديث العم درويش مشاعري ، همست وأنا أرنو إليه بانفعال:


    ـ أنت مثال طيب للإخلاص والوفاء ، يا عم درويش!..


    هتف في ضراعة:


    ـ لم تقل لي بعد ، متى أستطيع أخذ الطفلة؟


    تناولت رشفة أخرى من فنجاني الذي كاد أن يبرد ، ثم قلت موضحا:


    ـ جرت العادة يا عم درويش أن يبقى الطفل اللقيط مدة في الملجأ حتى تكون هناك فرصة لمعرفة أبويه الشرعيين ، وقد تصل هذه المدة إلى بضعة أشهر ، ثم يصبح الباب مفتوحا لمن أراد أن يتول رعاية الطفل أو تربيته..


    هتف العم درويش:


    ـ هل تعني أن الطفلة يمكن أن...


    ـ من يدري؟ قد يظهر أهلها في آخر لحظة..


    علته كآبة وقلق ، ولاذ بالصمت ، ابتسمت ، وقلت له:


    ـ لماذا أنت واجم؟ لو كان أهلها حريصين عليها لما تخلوا عنها..


    قال العم درويش بنبرة حائرة:


    ـ لا ادري لماذا تعلق قلبنا بهذه الطفلة بالذات!!..


    ثم استدرك قائلا:


    ـ هل يتركون لنا حرية اختيار اسمها؟..


    ـ أتفكر لها باسم؟


    سرح العم درويش ببصره ، وقال كمن داعبه حلم لذيذ:


    ـ نعم سأسميها أمل ، فهي الأمل العذب الذي راودنا منذ زمن بعيد..


    ثم راح العم درويش يردد الاسم وكأنه يختبر وقعه على الأسماع:


    ـ أمل.. أمل.. يا سلام ، إنه أسم لطيف أليس كذلك؟ أمل سأسميها أمل ، وسألحقها بنسبي..


    قاطعته محذرا:


    ـ إلا هذه يا عم درويش!..


    ـ لماذا؟


    ـ حتى لا تخدع الطفلة مرة أخرى..


    ـ أخدعها؟ كيف؟..


    ـ يكفي أن الطفلة قد جاءت إلى الوجود ضحية خطيئة ، وليس من العدل أن تعيش فيه ضحية كذله ، أن تلحقها بنسبك يعني أنها ستنشأ وهي تظن أنك أبوها الحقيقي ، وسيتفتح وعيها على هذا الوهم ، وفي منتصف الطريق تكتشف الحقيقة ، وتعرف أنك لست أباها الشرعي ، وعندها ستعيش الطفلة مأساة حقيقية ، ستلاحقها الشكوك وتحاصرها التساؤلات ، وتخنقها الأوهام..


    كن واضحا منذ البداية ، جرعها الحقيقة رشفة رشفة ، وكن واثقا من أن حنانك وحبك ورعايتك لها في الوشيجة الحقيقية التي ستجمع بينكما ، الأنساب وحدها يا عم درويش لا تصنع الحب ، الحب هو الذي يصنع الأنساب..


    فكر مليا ثم همس:


    ـ صدقت..


    وغرق العم درويش في خواطره فانتشلته منها قائلا:


    ـ ثمة حقيقة أخرى يا عم درويش يجب أن أصارحك بها..


    ـ تفضل..


    قلت في دعابة:


    ـ لقد بردت قهوتي قبل أنت أنهيها ، وأنا أحب أن أشرب قهوتك ساخنة ، كيف سنعالج هذه المشكلة؟..



    0 Not allowed! Not allowed!




    [ame="http://www.youtube.com/watch?v=yxzoplqtmHk&feature=related"]http://www.youtube.com/watch?v=yxzoplqtmHk&feature=related[/ame]

  7. #6
    شعلة متقدة .. وحماس دائم Array الصورة الرمزية صفاء الايمان
    تاريخ التسجيل
    Apr 2009
    الدولة
    ...
    المشاركات
    14,276
    Articles
    0
    Thumbs Up/Down
    Received: 8/0
    Given: 0/0
    معدل تقييم المستوى
    412




    بيانات اخرى

    الجنس :  انثى

    المستوى الأكاديمي :  تعليم ابتدائي

    الجامعة الحالية/التي تخرجت منها ؟ :  الجامعة الأردنية

    الحالة الاجتماعية :  اعزب

    افتراضي رد: البحث عن امرأة مفقودة!..



    الفصل الثاني عشر

    كفكفت السماء دموع الشتاء ، وأطلت على الأرض بعيونها الزرقاء ، كحسناء تحضن العالم بنظرتها الصافية الحنون ، وأزاحت الشمس بأشعتها الدافئة بقايا الغيوم ، وتدلت وسط القبة الزرقاء كالقنديل ، وراحت تضيء العالم بالأفراح..
    وبدأ الربيع يزحف بهدوء وجلال ، فاستعدت الطبيعة لاستقباله بكل ما أوتيت من فتنة وبهاء وجمال..
    وانضمت حديقة المستشفى إلى مهرجان الربيع ، فاكتست برداء أخضر ، وزينت صدرها بالزهور ، واغتسلت بأريج فواح ، يملأ النفس ببهجة فريدة ، ويزرعها بالأشواق..
    وهبت نسائم الأصيل ناعمة رقيقة معطرة بعبق الطبية ، فأحسست في مداعبتها اللطيفة همسا خفيا يدعوني لزيارة الحديقة الغناء التي تربطني بها صداقة قديمة..
    كان النهار يتسرب رويدا رويدا من جعبة الزمن ، فطفقت الشمس المتعبة تلملم أشعتها الذهبية استعداد للرحيل ، وتوهج الأفق بألوان الغروب الرائعة ، وران على الحديقة هدوء شامل ، وصمت عميق..
    ألقيت نفسي في أحضان الحديقة الخضراء ، واسترخيت فوق بساطها العشبي الطري ، كطفل ينام على صدر أمه ، وأرسلت نظراتي إلى الأفق الوردي ، لأمتعها بلوحة الأصيل الساحرة التي رسمتها يد القدر في أحسن صورة وأروع تشكيل..
    لم تدم خلوتي الحالمة طويلا ، ثمة همس رقيق اقتحم عليَّ عالمي ليزيده أنسا وبهجة..
    ـ يا للروعة!.. ها هي الحديقة تستعيد جمالها القديم!..
    التفت إلى أحلام في لهفة ، وحييتها بابتسامة ، ثم عدت بنظراتي إلى الشمس الغاربة وهي تغوص خلف الأفق ، وأقبلت أحلام تقول:
    ـ تبدو منسجما مع الطبيعة إلى أبعد حد لكأنكما صديقان!..
    نهضت جالسا ، ثم قلت وأنا أجوب بنظراتي أرجاء الحديقة الغناء:
    ـ الطبيعة عالمي وملاذي..
    ـ سألتني بلهجة لا تخلو من الدعابة:
    ـ قل تسمح لي بالاقتراب من عالمك الجميل؟..
    ابتسمت لدعابتها اللطيفة ، وقلت:
    ـ الطبيعة للجميع..
    جلست أحلام على كرسي قريب وقالت:
    ـ بم تفكر؟..
    ـ أشياء كثيرة..
    ـ الطفلة؟..
    ـ ممكن..
    ـ أمازلت تفكر بها؟
    ـ آلمني أني لم أستطع أن أقدم لها شيئا..
    ـ إنما الأعمال بالنيات..
    ـ نعم نملك النوايا الطيبة ، لكنا لا نعرف كيف نترجمها إلى عمل.
    ـ عدت تؤنب نفسك!
    ـ لكم يعذبني العجز!
    ـ لطاقة الإنسان عتبة لا يملك أن يتجاوزها..
    ـ لكنا نملك أن نحاول..
    ـ حاولتَ بما فيه الكفاية..
    ـ أنسلم الطفلة إلى الشقاء؟
    ضحكت أحلام ، وقالت:
    ـ تتحدث عن الطفلة وكأنك الذي أنجبتها!
    لم أنبس ، زحفت إلى شجرة قريبة ، واستندت بظهري إلى جذعها النحيل..
    قالت أحلام وهي ترنو إلى الأفق:
    ـ ليتني أحمل ريشتي وألواني..
    نظرت إليها في دهشة:
    ـ أتحبين الرسم؟
    افتر ثغرها عن ابتسامة عذبة ، وقالت:
    ـ أنا رسامة ماهرة ، ألا تعرف؟
    ـ أجهل عنك الكثير؟
    ـ وأنا أيضا..
    ـ تجهلين نفسك!
    ـ بل أجهل عنك الكثير..
    ـ عنيَّ أنا؟!
    ـ أجل ، من أنت؟
    ـ يا له من سؤال!
    ـ أهو محرج؟
    ـ أبدا..
    ـ من أنت؟..
    ـ شاب كسائر الشباب..
    ضحكت وقالت كالمتوعدة:
    ـ لا تفسر الماء بالماء..
    تذكرت ملاحظة هاني عن اهتمام أحلام بي ، وميليها إليَّ ، فأحببت أن أستغل الفرصة لأعطيها صورة صادقة عني ، لتعرف من أنا؟ وما حقيقة ظروفي؟ فلا تتمادى في الاقتراب من شاب قد لا يصلح لها أو يستطيع إسعادها ، وعادت تقول:
    ـ إذا كان سؤالي محرجا فلا تجب..
    تنهدت وقلت:
    ـ إذا كنت مصرة فلا بأس.. سأقول لك من أنا.. أنا شاب عادي جدا.. شاب مثل كل الشباب.. له طموحاته وأحلامه ، وله همومه وآلامه.. قد أكون جديا أكثر مما يروق للبعض! وقد أكون متمسكا بالقيم العليا أكثر مما صار يطلبه مجتمعنا في شبابه.. أو كما يقول هاني: أنا (حنبلي) أكثر من اللازم.. لكني أعتقد أني طبيعي جدا ، ولست معقدا كما يتهمني هاني أيضا ، هذا أنا ببساطة.. أما إذا أردت بسؤالك أن تعرفي شيئا عن بيئتي وأسرتي فلك ذلك.. لقد ولدت وترعرت في أسرة بسيطة.. ربها إنسان مكافح كرس حياته من أجل أبناءه الستة ، وقضى عمره كالجندي المجهول.. يعمل بصمت ليوفر لأسرته العيش الرغيد ، ويملك قدرة عجيبة على كتم آلامه وأحزانه ، على شفتيه دائما ابتسامة وادعة لا تكاد تغيب ، ابتسامة صامدة في أوقات الحزن والفرح ، فعندما يكون حزينا يخفي حزنه وراء تلك الابتسامة وعندما يفرح يطلق العنان لابتسامته لتتسع وتشرق وتضيء.. يحب أن يمارس حزنه سرا.. ضبطته أكثر من مرة في حديقة المنزل وهو يبكي ، لكني لم أستطع أن أقترب منه لأسأله عن سر حزنه.. كنت أتوارى بسرعة حتى لا أشعره بأني قد كشفت ضعفه ، والدي لا يحب أن يبدو أمامنا ضعيفا ، يريد دائما أن يبدو أمامنا قويا صامدا حتى يشعرنا بالأمان.. إنه قدوة لنا في كل شيء ، ما نهانا عن منكر قط ثم أتى مثله ، حريص على سمعتنا.. حريص على سعادتنا.. يضحي بضرورياته من أجل رفاهيتنا ، ويوجهنا دائما بالابتسام.. صورة فريدة للتواضع وإنكار الذات ملأتنا دائما بالاحترام لهذا الأب المكافح الذي يذوب كالشمع لينير لنا الدروب..
    هذا أبي.. أما أمي ، فهي سيدة طيبة فهمت الحياة عطاء وتضحية.. اتخذت من أبنائها الستة قضية نذرت لها العمر ، ورصدت لها أمومتها الفياضة بالحنان لتروي بها براعمها الصغيرة ، ثم راحت ترقبها وهي تنمو وتنضج وتستوي على عودها وسط أعاصير الحياة..
    فهمت أمي الزواج على أنه شراكة ، فتقاسمت مع زوجها الأدوار ، أعتقد أن أمي لم تتزوج أبي بعد قصة قيس وليلى ، لكن قصة الحب التي نشأت بينهما بعد الزواج أجمل من قصة قيس وليلى ، وأروع من حب روميو لجولييت ، لأنه حب قائم على التضحية والإخلاص الإيثار.. حب قائم على التكامل بين رجل وامرأة ، والدي كان يكافح في الخارج ليلتقط الحَبّ , وأمي كانت تكافح داخل العش لتفرشه بالحُب..
    بيتنا بسيط الأثاث ، لكن أمي استطاعت أن تصنع منه أثاثا أنيقا متجددا لا تبلى أناقته مع الأيام ، فإذا جربت أن تزوري هذا البيت شدتك رائحة النظافة الممزوجة برياحين الزهور ونباتات الزينة التي تربيها أمي كما تربي أولادها ، وإذا صادفت زيارتك لبيتنا وقت الغداء ، فتحت شهيتك رائحة الأصناف اللذيذة التي تنهمك أمي في صناعتها كما ينهمك الفنان في تشكيل لوحته ، أنا لست ضد عمل المرأة ضمن الشروط الاجتماعية المناسبة ، لكني أعتقد أن البيت الذي لا تخلع عليه المرأة اهتمامها ، بيت بلا روح.. بيت كالبيوت المهجورة التي تصفر فيها الريح ، وتعيث فيها الأشباح..
    وانتبهت إلى أحلام فوجدتها ترنو إليَّ بنظرات حالمة أحرجتني ، واشتبكت نظراتنا للحظة ، فسحبت نظراتي برفق ، وأرسلتها إلى الأفق لأغسلها بألوان الشفق..

    قالت أحلام وهي تمسد بأناملها خصلات شعرها الأشقر المنسدل على صدرها كالوسام:
    ـ لا أدري لماذا أتمنى لو كنت أختك؟
    فاجأتني كلماتها بكل ما تفوح به من ود!. همست بنيرة تخنق بالانفعال:
    ـ أنت أختي فعلا يا أحلام ، هل تشكين في ذلك؟
    أطرقت في حياء ، وتضجرت وجنتاها بحمرة فاتنة ، ثم قالت بنبرة كئيبة وهي ترنو بنظراتها إلى لوحة الغروب:
    ـ أما أنا فقد ولدت وفي فمي ملعقة من ذهب ـ كما يحلو لوالدي أن يعبر دائما ـ ونشأت نشأة مدللة مغرقة في الترف ، فلا أذكر أني طلبت شيئا أو تمنيته إلا حصلت عليه..
    كان عندي من الألعاب أصناف لم يرها طف في بلادي.. ومن الملابس الأنيقة الجميلة ما يكفي أطفال مدرسة أبي من جديد.. وكان لي في قصر أبي جناح كامل خاص بي.. جناح واسع يتسع لعائلة من عشرة أشخاص ، وكان مؤنثا بأجمل وأحدث أنواع الأثاث المصمم للأطفال ، وقد استورده لي والدي خصيصا من إيطاليا..
    وكان لي ثلاث خادمات.. واحدة تعنى بنظافتي ، وثانية تهتم بطعامي ، وثالثة ممرضة تشرف على صحتي ، وكانت لي مربية إنكليزية تدعى المس روز.. استوردتها لي أمي لتربيني على أسس التربية الحديثة ، لأنها ليست على قناعة بطرائق التربية العربية.. وهكذا نشأت مدللة مرفهة لا ينقصني شيء سوى الحنان!..
    هتفت في إنكار:
    ـ الحنان؟!..
    ـ نعم الحنان.. افتقدت الحنان الدافئ الندي منذ نعومة أظفاري ، وعشت في هذه الدنيا كنباتات الصحراء ، تراها قوية صامدة في وجه الظروف العاتية ، لكنها جافة خاوية من داخلها ، لا تكاد تجد فيها قطرة ماء..
    وأردفت أحلام:
    ـ بعض الآباء يظنون أن الحنان بالنسبة للطفل لعبة جميلة ، وغذاء كامل ، ومصروف وفير!.. لا يدركون أن أموال الدنيا وكنوزها لا تغني عن كلمة ودودة من أب أو قبلة غامرة من أم.. لا يدركون معنى أن ينزل الآباء من عليائهم ، ويحنوا هاماتهم ليصغوا إلى ثرثرة أطفالهم ، ويتفهموا مشاكلهم وحاجاتهم ، ويشاركوهم همومهم وأحلامهم.. لا يعرفون معنى أن تروي الأم لطفلها حكاية المساء ، وهي تهدهده قبل أن ينام.. لا يريدون أن يفهموا أن الطفل كائن كامل له كيانه ومشاعره وأحاسيسه وحاجاته العميقة التي تحتاج إلى تلبية واهتمام , لأنها إذا لم تلب على الوجه السليم تحولت إلى قنابل مدمرة.. قنابل مؤقتة مزروعة في خبايا النفوس لا يدري أحد متى ستنفجر؟!..
    نعم.. نشأت وترعرعت في بيت كالجنة ، لكنها جنة كاذبة ، أشجارها وأزهارها صناعية جامدة بلا روح ، ميتة لا تجود بقطرة ندى ، ولا تفوح برحيق شذي.. جنة خانقة هواؤها ساكن ساخن جاف لا تلوح فيه نسمة رقيقة ، أو يغرد فيه طير..
    أبي تاجر مشهور ورجل أعمال ناجح ، وثري كبير من الأثرياء الذين يعدون على أصابع اليد الواحدة ، وأمي سيدة مشهورة من سيدات المجتمع الذين يحلو لعشاق الثرثرة الاجتماعية أن يسموه بالمجتمع الراقي..
    أمي تقول بأن أبي تزوجها طمعا بثروتها التي ورثتها عن أبيها وزوجها السابق ، وأبي يدافع عن نفسه أمام اتهاماتها الجارحة ، فيؤكد بأنه كان يحبها منذ أن كانت صبية في بيت أبيها ، وأنه كاد يعلم خبر وفاة زوجها في حادث طائرة ، حتى سارع إليها ليقف معها في محنتها ويحميها من الطامعين ، وانتهى الأمر بهما إلى الزواج..
    أمي تقول بأنها قد رفعت أبي من وضاعة الأصل ، وحملته بيديها إلى صفوف الطبقة الراقية ، وأبي يقول بأنه قد حمى لها ثروتها من الضياع ، ونماها لها أضعافا مضاعفة..
    أمي تقول وأبي يقول ، وأنا ضائعة بين والدين جمع بينهما الزواج ، وفرق بينهما الخصام ، ولم تستطع الأيام أن تشد أحدهما إلى الآخر ، وكنت أنا القاسم الوحيد بينهما..
    وانهمك أبي في أعماله الواسعة ، فكان يقضي نهاره في الشركات والصفقات والاجتماعات ، ويمضي ليله ساهرا مفكرا مقطبا قلقا مشغول البال بمستقبل مشاريعه التي لا تنتهي ، وأحيانا كان يغيب في أسفاره فلا أره لمدة طويلة..
    وأسرفت أمي في علاقاتها وزياراتها وحفلاتها واهتماماتها النسائية ، فكانت لا تكاد تحضر حتى تغيب ، وكأن البيت وحش يطاردها وتطارده..
    عندما كنت في الصف الثاني الابتدائي تعلقت بالمعلمة آنذاك تعلقا شديدا ، لأني وجدت عندها عطفا واهتماما لم ألمسه عند أمي المشغولة بطقوس المجتمع الراقي ، أو أبي الذي تحول إلى آلة حاسبة ، لا تنطق إلا بالنسب والأرقام..
    لاحظت أمي تعلقي بالمعلمة ، وكثرة حديثي عنها ، فدعتها لزيارتنا ، ولما تيقنت من شدة تعلقي بها عرضت عليها أن تعمل مربية خاصة لي إلى جانب المس روز الإنكليزية ، وعرضت عليها أجرا يفوق أجرها في مهنة التعليم ، اعتذرت المعلمة لأمي بأن لها طفلين توفق بصعوبة بين متطلبات تربيتهما ، ومهنتها كمعلمة ، رفعت أمي الأجر إلى الضعف مرة أخرى.. لكن المعلمة أصرت على موقفها..
    ذات يوم لاحظت المعلمة أني أوزع النقود على بنات صفي ، فأدركت أني أشتري الحب والحنان والاهتمام بالنقود السخية التي تمنحها لي أسرتي كمصروف يومي..
    زارت المعلمة أمي وأخبرتها بهذه الظاهرة التي تكررت مني ، ونصحتها أن توليني المزيد من العطف والاهتمام ، شعرت أمي بالإهانة ، وقالت للمعلمة بأنها أم مثالية لا تضن على ابنتها بعطفها وحنانها ، وأنها توفر لي ظروفا تربوية خاصة لا تتوافر لغيري من الأطفال ، حاولت المعلمة أن توضح لها وجهة نظرها ، لكن والدتي أنذرتها بأنها لا تسمح لها بالتدخل في شؤونها الخاصة ، وأعلمتها بأن الزيارة قد انتهت..
    بكيت بشدة وأنا أرى المعلمة المسكينة ، تغادر البيت مطرقة كسيرة ، لحقت بها لأتعلق بها وأستبقيها ، لكن الخادمة حجزتني كما يحتجز الشرطي أسيره عندما يهم بالهرب..
    وبعد أيام انتقلت المعلمة من المدرسة ، وانقطعت عني أخبارها!..

    ودارت السنون بسرعة ، فم تستطع أن تمحو تلك المعلمة الطيبة من ذاكرتي ، وشاءت الأقدار أن ألتقيها أثناء امتحانات الشهادة الثانوية حيث كانت مكلفة بمراقبة القاعة التي كنت أقدم فيها امتحاناتي ، شاهدتها وهي تدخل القاعة بصحبة زميلاتها من المراقبات ، فخفق قلبي ، واندلع فيه الشوق والحنين إليها ، فتقدمت منها والدموع تترقق في عيني ، وذكرتها بنفسي ، فاحتضنتني في لهفة وحب ، كما تحتضن الأم ابنتها ، وهي تستقبلها بعد غربة طويلة ، وانتبهت لصديقاتي ، وهن يرقبن الموقف المؤثر في تساؤل وحيرة ، فالتفتُّ إليهن وقلت: هل تعرفن من هذه؟.. إنها أروع وأعظم معلمة مرت في حياتي ، ثم أردفت وأنا أرمقها بود وإكبار وقد خنقتني العبرات "إنها أمي الثانية"..
    شدت المعلمة على يدي وقالت كالخجلى: التفتي لامتحانك الآن ، وسنلتقي فيما بعد لنتحدث.. وجلسنا في مقصف المدرسة ، تأملت وجهها الطيب ، فوجدتها قد تقدمت في السن ولمحت في محياها بعض الأخاديد الصغيرة ، التي نحتها الزمن في بشرتها الصافية بدقة ، فأضافت إلى ملامحها اللطيفة وقارا آسرا مريحا ، سألتها عن الماضي فأخبرتني بكل ما كان..
    لأول مرة في حياتي اصطدمت بالوجه الآخر لأبي ، عندما علمت أنه بنفوذه الواسع استطاع أن ينقل معلمتي من المدرسة التي كنت فيها لإرضاء رغبة أمي وغرورها..

    هل أنا قاسية في حديثي عن أسرتي يا دكتور؟!..

    داهمتني أحلام بالسؤال ، فانتزعتني من شرودي وأنا أصغي لذكرياتها الحزينة ، ما بال القشور الهشة تتساقط أمامي لتواجهني الحقائق المرة بوجهها القبيح!. أهذه هي أحلام التي عاشت في خيالي أميرة سعيدة كأميرات الحكايات والأساطير؟!.. هل يمكن أن تتحول جدران القصور المنيفة إلى أسوار سجن كئيب؟. وشعرت أن في بوح أحلام رسالة خاصة لي يجب أن أستقبلها باهتمام ، وأرد عليها بمثل الصدق الذي وردتني به..
    قلت بنبرة هادئة:
    ـ دكتورة أحلام ، إني أتفهم ما تعانيه من آلام أرجو أن تستمري في بوحك هذا إن كنت تجدين فيه راحة لك ، وتأكدي بأن هذه الأسرار ستبقى دفينة في ذاكرتي لا يطلع عليها أحد..
    همست أحلام وهي ترنو إلىَّ بنظرة دامعة:
    ـ لا أدري لماذا أنا مشدودة للبوح لك؟.. لك أنت بالذات!..
    همست لها بالشكر على هذه الثقة ، بينما تابعت بوحها الهادئ الحزين..
    قالت:
    ـ اعتذرت للمعلمة عن كل ما بدر من أسرتي نحوها ، ووعدتها بأني سأقيم الدنيا وأقعدها من أجلها ، فرجتني بكل ما بيننا من ود ألا أنكأ جرحا قديما قد اندمل ، ثم قالت لي وهي تحتضن يدي بين راحتيها الحانيتين:
    "أريدك يا أحلام أن تحفظي عني هذه الحكمة ، إن المال والجاه والنفوذ لا يصنع السعادة ، السعادة يا ابنتي لا تأتي من حولنا إنها تنبثق من داخلنا عندما تكون نفوسنا طاهرة نظيفة ، النفوس النبيلة يا ابنتي كالجوهر المشع ، دائما تتوهج بالسكينة والرضى والسلام ، هل فهمت هذا الدرس يا أحلام؟ إنه الدرس الأخير من معلمة نظرت إليك دائما كواحدة من بناتها.."
    قلت لها وأنا في ذروة التأثر والنفعال: "لقد فهمت جيدا ، سأتخذه شعارا في حياتي ، سأحتفظ به كذكرى لأم عظيمة لم تلدني ، وصديقة غالية لن أنساها "..

    وتقاطرت الدموع من عيني أحلام ، كما يتقاطر الندى من عيون الزهر ، فبدت كوردة غسلتها السماء بماء المطر فطهرتها من غبار الأرض ، وأدركت أن هذه الذكريات مغروسة في وجدانها ، ضاربة الجذور في أعماقها الطاهرة ، وتأثرت لمنظرها الباكي فملأني الشجن ، وأطرقت مليا ، فانتظرتها ريثما استوعبت دفقة الحزن التي أثارها حديث الذكريات القديمة ، ثم أصغيت إليها وهي تقول بعد صمت قصير:
    ـ منذ ذلك اليوم وأصبح همي أن أكون نظيفة من الداخل ، احتقرت المظاهر الفارغة والبذخ المجنون ، استعليت على المادة بكل صورها وأشكالها..
    وشعرت أمي بانقلاب مدهش في حياتي ، لم أعد حريصة على آخر موضة ، لم أعد مهتمة بموديل السيارة ، لم أعد متمسكة بالمظاهر ، صرت زاهدة بكل شيء..
    ذات يوم زارنا ابن خالتي ، فقال لأمي : تبدين يا خالتي أجمل من ابنتك أحلام! نعم.. أمي ما زالت شابة! كرست حياتها لجمالها ، وحافظت عليه بكل ما أوتيت من وسائل ، وضحت في سبيله بأمور أهم بكثير من الزيارة اليومية لصالون الحلاقة ، ونادي اللياقة البدنية ، ومعارض الأزياء ، أما أنا فقد كرست حياتي للبحث عن السعادة التي لا تزول بزوال جمال البشرة وانهدام الوجه وترهل الجسد وفقدان الرشاقة..
    كرست حياتي للبحث عن الإنسان.. الإنسان الذي تخفق داخله المشاعر العليا ، وتسمو اهتماماته عن حاجات الغريزة ، وصرخات الأنا.. ترى هل أجد هذا الإنسان؟!..
    ورنوت إلى أحلام.. لأول مرة شعرت بأن القدر قد جمع بيني وبينها لحكمة بدأت أدركها!..
    وهبطت العتمة على الحديقة الهادئة ، فمضينا إلى الداخل في صمت وقد غرق كل منا في خواطره..
    كان في أعماقي شيء يولد..
    شيء مبهم ، لكنه لذيذ!..



    0 Not allowed! Not allowed!




    [ame="http://www.youtube.com/watch?v=yxzoplqtmHk&feature=related"]http://www.youtube.com/watch?v=yxzoplqtmHk&feature=related[/ame]

  8. #7
    شعلة متقدة .. وحماس دائم Array الصورة الرمزية صفاء الايمان
    تاريخ التسجيل
    Apr 2009
    الدولة
    ...
    المشاركات
    14,276
    Articles
    0
    Thumbs Up/Down
    Received: 8/0
    Given: 0/0
    معدل تقييم المستوى
    412




    بيانات اخرى

    الجنس :  انثى

    المستوى الأكاديمي :  تعليم ابتدائي

    الجامعة الحالية/التي تخرجت منها ؟ :  الجامعة الأردنية

    الحالة الاجتماعية :  اعزب

    افتراضي رد: البحث عن امرأة مفقودة!..



    هاكم الفصل الجديد

    الفصل الثالث عشر

    وصلت إلى البيت بعيد العاشرة بقليل ، فوجدت الأسرة ملتفة حول جهاز التلفزيون المعتاد. ألقيت تحية المساء ، فردت عليَّ الشفاه بحركة آلية ، بينما ظلت العيون مشدودة إلى الشاشة الفضية تراقب ما يدور عليها بشغف. هذا الجهاز الأناني المغرور بات يثير حنقي ، إنه يستطيع أن يلفت الأنظار إليه بقوة ، ويستأثر بها!! قديما.. عندما كنت طفلا صغيرا ، كنت نجم العائلة ، كان الجميع يلتفون حولي ، ويراقبون حركاتي وتصرفاتي.. جدي وجدتي.. أبي وأمي.. وعمي.. حتى عني الثاني الذي كان يدعي بأنه لا يحب مخالطة الأطفال ، كان يستثني من هذا الموقف ، ويقول: " إلا صلاح.." ، ثم يمضي الوقت في محادثتي ومداعبتي..
    وعندما ددخل التلفزيون بيتنا انسحبت من تحت الأضواء وتركت الساحة للنجم الجديد الذي يملك قدرة على التسلية والإبهار تفوق تصرفاتي الطفولية البريئة ، وانضممت إلى حلقة المتفرجين. أشاهد بباي وميكي ودونالد دك ، وأتعدى على برامج الكبار ، فأشاهد التمثليات العربية وأفلام الكاوبوي ونشرات الأخبار ، وكبرت قليلا ، فتوطدت علاقتي بصديقي الجديد ، وصرت أرافقه من الافتتاح حتى الختام ، ثم أوقظ جدي الذي كان يكبو وهو جالس أمام الشاشة الصغيرة ، فينهض من كبوته ، ثم يودعني ويمضي لينام..
    منذ أن دخل بيتنا عصر التلفزيون أصبحت الروابط العائلية فيه ضعيفة ، انحسرت من حياته سهرات الأنس ، وليالي السمر ، وغادرت منه أحاديث العائلة المفعمة بالحياة ، واختفت النقاشات المحببة التي كانت تدور حول الحي والمدينة والوطن الكبير.. حتى الأقرباء عندما كانوا يزوروننا ، كانوا يتبادلون معنا كلمات الود والمجاملة على عج ، ثم ينضمون إلى حلقة المتفرجين ، فيجلس الجميع أمام التلفزيون بصمت وهدوء ، وكأنهم يؤدون الطقوس البوذية..

    اخترت مكانا بين أمي وأبي ، وكثيرا ما كنت أزاحمهما ، لأجلس بينهما ، فيتكلف أبي التأفف مداعبا ، وتضحك أمي وهي تفسح لي مكانا بينهما..
    سألني والدي عما مر بي في المستشفى من حوادث وحالات ، شرعت أحدثه عن حالة طفل تناول علبة دواء كاملة في غفلة من والديه ، فأصيب بالتسمم ، غير أن والدي لم ينتظر حتى يستمع إلى بقية القصة ، فقد شده مشهد من مشاهد الفلم العربي الذي كانت تعرضه الشاشة ، وهمت أمي بالنهوض لتعد لي طعام العشاء ، فأمسكت بيدها ، ورجوتها أن تبقى..
    قلت لها وأنا أرتاح برأسي فوق كتفها:
    ـ لا أشعر بالجوع ، ابق بجانبي..
    ربتت أمي على يدي في حنان ، وقالت وهي ترمقني بنظرات متفحصة:
    ـ ما بك؟.. تبدو مهموما مشغول البال!..
    التفت أخي الأوسط الذي يصغرني مباشرة ، وقال بنبرة احتجاج:
    ـ بعض الصمت يا جماعة.. دعونا نتابع الفلم..
    نظرت إليه وابتسمت.. إنه دائما مشدود إلى التلفاز.. تنتزعه المسلسلات والأفلام من محيط العائلة لتضعه في أجوائها الخاصة ، قلت لأمي:
    ـ ابنك مهووس بهذه الشاشة ، ولن يتخلص من شغفه حتى يتزوج..
    ابتسمت أمي وقالت في حزم وهي تشملني بنظرة ودوددة:
    ـ لن يتزوج أحد قبلك..
    التقط أخي الأصغر كلمات أمي فقال مداعبا:
    ـ أخي الكبير طيب القلب ، وسيمنحني دورة بلا شك..
    لكزه أخي الأوسط بمرفقه وقال:
    ـ اصمت ، دعنا نتابع الفلم...
    ـ إنه فلم سخيف..
    ـ إذا كان لا يعجدبك فاذهب إلى الغرفة الأخرى..
    ـ أريد أن أسهر في هذه الغرفة..
    واحتدم بينهما النقاش ، وكاد يتفاقم ، لولا أن تدخل والدي ، فحسمه بصرخة رادعة ، وقالت أمي في إنكار غاضب:
    ـ بدأت أكره هذا الجهاز الذي يثير الصراع بين الأشقاء!..
    قلت لأمي مهدئا:
    ـ دعيهما ولا تكترثي بملاسناتهما ، إياك أن تظني بأن أولادك نسخة واحدة..
    عاد أخي الأوسط يرجونا في ضراعة:
    ـ أرجوكم يا جماعة ، هذا أول فلم ممتع أراه منذ أشهر ، دعوني أشاهده بهدوء..
    أشفقت على أخي ، وذهبت إلى غرفتي ، لحقت بي أمي بعد قليل وهي تحمل فنجانا من الشاي ، قالت وهي تغلق الباب خلفها:
    ـ أنت اليوم لست أنت!..
    ضحكت:
    ـ هل هذه أحجية؟
    ـ أتشكو من شيء؟
    ـ أبدا!
    ـ أنت عاشق..
    ـ عاشق؟!..
    ـ هل تنكر؟
    جلست كالمستسلم وقلت:
    ـ قلب الأم أدق رادار في العالم!
    وضعت الشاي ، وأقبلت تقول بنبرة فرحة:
    ـ يعني كلامي صحيح!
    ـ لا أدري يا أماه.. قد تكونين على حق ، لعلك تفهمينني أكثر مما أفهم نفسي ، لعل روحي تبوح لك بما تخفيه عني.. لا أدري يا أماه ، لا أدري ، الحيرة تأكلني!.. قد أكون عاشقا ، وقد أكون تائها ، في الحقيقة أنا حائر!..
    جلست بقربي ، وقالت:
    ـ أخبرني من هي التي تشغلك ، وأنا سأبدد حيرتك..
    همست وأنا أستحضر في خيالي طيف أحلام:
    ـ فتاة جميلة تقتحم قلبي بقوة.. فتاة رقيقة لها نفس كبيرة وخلق نبيل.. لكأنَّ كل المعاني السامية قد اجتمعت فيها ، وشكلت جوهرها الطاهر البريْ..
    ـ ما اسمها؟
    ـ أحلام.
    ـ اسم جميل.
    ـ حقا؟
    ـ كيف تعرفت عليها؟
    ـ زميلتي في المستشفى.
    ـ لا أذكر أنك حدثتني عنها!
    قلت وأنا ألقي برأسي على مسند الكنبة:
    ـ كنت لا أهتم بها كثيرا ، أو لعلي لم أرد أن أهتم بها من قبل!.. كنت أنظر إليها على أنها مجرد زميلة في العمل ، ألقاها كل يوم كما ألقى كل زملائي في المستشفى ، وأبادلها احتراما باحترام ، لكني انتبهت أخيرا إلى شيء ، شعرت أنها مهتمة بي إلى حد أكثر من عادي..
    لاحظت أنها تلاحقني بنظراتها ، تراقب تصرفاتي ، تلتقط كلماتي ، تريد أن تعرف عني كل شيء!!.
    حاولت أن أتهرب منها ، لكني لم أفلح ، ثمة شيء يشدني إليها ، وآخر يشدني منها ، ليتني لم أعرفها من قبل!..
    عاثت الحيرة في وجه أمي ، فقالت كالشاردة:
    ـ أنا لا أفهمك ، لماذا تهرب منها إذا كانت خلوقة وجميلة؟ ماذا تريد أكثر من ذلك؟
    ـ ليست هنا المشكلة..
    ـ ألا تجد في نفسك ميلا إليها؟
    ـ بل أميل إليها بقوة..
    ـ حيرتني معك!
    ـ قد لا أكون لائقا بها ماديا..
    ـ ماديا؟!.. أفصح بوضوح ، وكفاك ألغازا؟؟
    رنوت إليها وأنا أبتسم:
    ـ كلامي واضح ، ظروف أهلها المادية أفضل من ظروفنا ، ولا أستطيع أن أوفر لها العيش الرغيد الذي تعودت عليه..
    ـ لماذا؟ هل هم أغنى منا بكثير؟
    ـ أنعد نحن في الأغنياء؟
    ـ الحمد لله على كل حال..
    ـ لو شعر الناس جميعا بأنهم أغنياء لعاشوا في سعادة!
    أردفت أمي فيما يشبه السؤال:
    ـ أغنى منا؟
    ـ بكثير.
    أطرقت متفكرة ، ثم قالت فجأة ، وكأنها وضعت يدها على الحل:
    ـ إذا كانت فتاة عاقلة وأصيلة ـ كما تصفها ـ فستصبر على ظروفك ، وتكافح معك حتى تصنعا المستوى اللائق الذي ترتاحان إليه.
    ابتسمت كالحالم ، وقلت:
    ـ في حديثها اليوم استعداد واضح للصبر والكفاح..
    هتفت أمي وقد أضاءت وجهها ابتسامة عذبة:
    ـ آه.. فهمت ما الذي أثار تفكيرك بها الليلة ، لا شك أنك قد خضت معها في حديث خاص..
    أبدت ملاحظتها بابتسامة ، ثم تناولت فنجان الشاي ، ورحت أرشف منه في صمت ، وأردفت أمي قائلة:
    ـ ماذا كان موضوع الحديث؟
    ـ حدثتها عنكِ.. عن أبي.. عن ظروفنا وأحوالنا.. أردت أن أضعها في الصورة الصادقة حتى لا تذهب بعيدا في تطلعاتها.. قلت لها بأننا عائلة بسيطة راضية من هذه الحياة بالحد الأدنى من السعادة المادية ، وتعوض عنه بقدر كبير من السعادة النفسية..
    قالت أمي وهي ترمقني بنظرة فيها دعابة واختبار:
    ـ ماذا قلت لها عني؟
    ـ قلت بها بأنك أمهر طباخة في العام..
    ـ ألا يعجبك في أمك سوى طبخها؟!..
    ـ بل يعجبني فيها كل شيء..
    ـ ماذا قلت لها أيضا.
    ـ قلت لها بأنك أم مثالية ، وسيدة من الطراز الأول ، تحبين النظافة حتى وجه الوسوسة ، وتصنعين من بيتك جنة صغيرة ، أزهارها من الحب ، وأنهارها من الحنان..
    ضحكت أمي في فخر ، وتساءلت وهي تشير إلى نفسها:
    ـ أأنا أصنع كل هذا؟
    قلت في مكر:
    ـ هكذا أوهمتها..
    ـ تقصد أني لست هكذا؟
    ـ أنت التي لا تريدين أنت تصدقي..
    ـ وماذا قالت لك؟
    ضحكت فجأة.. ضحكة وأنا أجد نفسي أمام تحقيق نسائي طريف..
    سألت أمي وعلى شفتيها ابتسامة حائرة:
    ـ ما الذي يضحكك؟..
    ـ لا شيء.
    ـ بل هناك شيء!..
    ـ مجرد خاطر..
    ـ حدثني به.
    ـ هل سيطول هذا التحقيق؟
    ـ لم تقل لي..
    ـ ماذا؟
    ـ ماذا قالت لك؟..
    تنهدت وسرحت بخيالي ، وكأني أغيب في حلم لذيذ ، قلت وأنا أسترجع الأثر العذب الذي أحدثته كلمات أحلام في نفسي:
    ـ قالت: إنها تتمنى لو كانت أختي..
    هتفت أمي في فرح ، وقد طغت على وجهها ابتسامة عميقة:
    ـ البنت تحبك يا صلاح ، فماذا تنتظر؟
    ـ ما أدراك؟
    ـ كفاك تجاهلا وخبثا ، أنت تعرف ذلك ، لكنك لا تريد أن تعترف..

    ودخلت علينا أختي الكبرى في البنات ، فصمتنا ، تراجعت فجأة إلى الخلف ، وتوارت خلف الباب الموارب قليلا ، فلم يعد يبدو منها سوى رأسها المائل إلى الأمام ، قالت وهي تهم بالانسحاب:
    ـ فهمت.. اجتماع مغلق!
    ثم أغلقت الباب ، فناديتها:
    ـ لماذا لا تدخلين؟
    ـ ملامحكما تشي بأنكما تتداولان سرا!
    ـ قالت أمي ضاحكة:
    ـ الأمر ليس سرا ، أخوك صلاح يخطط لاستقبال أخت جديدة لكم في البيت..
    هتفت أختي متظاهرة بالذعر ، كمن فوجئ بأمر صاعق:
    ـ هل كان أبي متزوجا من امرأة أخرى؟!..
    دوت ضحكاتنا في أرجاء الغرفة ، وقالت لي أمي من خلال الضحكات:
    ـ أختك هذه لا تفكر غلا في الأمور السيئة..
    قالت أختي وهي تجلس على يميني:
    سأكون سعيدة لو عرفت من هي أختي الجديدة.
    ثم أردفت وهي تقرصني من يدي:د
    ـ لابد أنها مغرمة بأخي الكبير..
    قبضت على شعرها المتدلي خلف رأسها كذيل الحصان ، ثم قلت وأنا أشده في رفق:
    ـ هل بدأت حرب التعليقات السخيفة؟
    صاحت وهي تتظاهر بالألم:
    ـ اطمئن لن أبوح بالسر.
    أطلقت خصلات شعرها الناعمة ، فنهضت وأسرعت خارجة ، وأنا أشيعها بنظرات تفيض بالود ، وأرادت أمي أن تعود بالحديث إلى مجراه ، وما كادت تفعل ، حتى أطبق أخوتي على الغرفة وهم يهتفون "مبروك.. مبروك"..
    وأقبل والدي خلفهم والابتسامة تضيء وجهه الطيب ، قال وهو يجلس على كرسي قرب الباب:
    ـ أيها المتآمرون!.. أنت وأمك تتآمران على صنع الأخبار السعيدة ، هل صحيح ما تناقلته وكالات الأنباء؟
    قلت وأنا أرمق أختي الواشية كالمتوعد:
    ـ لا أعلم في بيتنا سوى وكالة واحدة للأنباء ، ثم نهضت إليها لأمسك بها ، لكنها أفلتت مني ولاذت بأبيها وهي تقول:
    ـ أنا أحب السبق الصحفي ، خشيت أن تسبقني أمك إلى إعلان قرارك بالزواج..
    ضحك أبي وسأل:
    ـ من هي صاحبة الحظ السعيد؟
    تبادلت مع أمي نظرة باسمة ، ثم أجبت:
    ـ الأمر ما زال فكرة فجة لم تنضج بعد..
    ـ أليس لهذه الفكرة بطلة معروفة؟
    ـ إنها الدكتورة أحلام زميلتي في المستشفى..
    ـ ابنة من؟
    ـ والدها رجل الأعمال المعروف عبد الغني الذهبي..
    وجم أبي ، وتقلصت ملامحه ، قال وهو يضع إبهامه تحت ذقنه ، ويطوي أصابعه فوقها كالقبضة:
    ـ هل فكرت في هذا الأمر جيدا يا بني؟
    ـ ما زلت أفكر..
    ـ هل تريد رأيي؟..
    ـ لا غني لي عن رأيك..
    قال والدي بنبرة حاسمة:
    ـ هذا زواج لن تكتب له الحياة..
    هزتني كلمات أبي بشدة ، فانقبض لها قلبي ، همست متوجسا:
    ـ لماذا؟
    ـ أنت تعرف.
    ـ هذا ما كنت أحدث فيه أمي!.
    قالت أمي كالمغضبة:
    ـ المال ليس كل شيء ، خذوا الأمر ببساطة ، نريد أن نفرح..
    التفت إليها والدي كالساخر ، وقال:
    ـ أنت دائما هكذا ، كل شيء عندك ممكن.
    ردت عليه أمي وهي تشيح بيدها:
    ـ أنت لا تعرف شيئا ، البنت تريده ، وهي مستعدة للحياة معه ، والصبر على ظروفه.
    ـ يبقى القرار بيد أبيها..
    ـ أبوها لن يقف في وجه رغبتها.
    ـ أبوها معروف بجشعه ، وسيظن ابننا طامعا بثروته..
    تبادل الجميع نظرات ملؤها الخيبة ، وشعروا نحوي بالإشفاق ، نهض والدي وقال وهو يمضي:
    ـ الأمر ليس بهذه السهولة ، فكروا به جيدا.
    ولم يلبث أخي الأوسط أن خرج خلفه وهو يقول:
    ـ سأعود لأكمل الفيلم ظننت أن الأمر قد نضج على نار هادئة!..
    قال أخي الأصغر ، وهو يجلس بجانبي:
    ـ لو أنك اخترت عروسا قليلة التكاليف ، لتزوجنا معا في آن واحد ، دون أن نرهق الأسرة بالمصاريف..
    ضحكت أختي الوسطى ، وقالت له:
    ـ أيها الانتهازي.. دائما تبحث عن الفرص السهلة.
    قالت الكبرى وقد أحست بأنها تسرعت في إعلان النبأ:
    ـ كنت أظن أن أختي المرتقبة سهلة المنال..
    ثم أردفت في دعابة:
    ـ قلت لك أكثر من مرة دعني أخطب لك صديقتي ميادة ، فلم ترض ، إنها فتاة كالسكر.
    وتسللت أختي الصغيرة ذات السبع سنوات إلى حضن أمها ، وسألتها في براءة ، وكأنها لم تفهم شيئا مما دار:
    ـ ماما ، ماما.. هل ستشترين لي ثوبا جديدا في عرس أخي؟
    رنوت إلى أختي الصغيرة في حنان ، همست وأنا أهم بالنهوض:
    ـ كم هو الشبه كبير بيني وبينك يا صغيرتي!..
    كلانا نحلم كالأطفال..



    0 Not allowed! Not allowed!




    [ame="http://www.youtube.com/watch?v=yxzoplqtmHk&feature=related"]http://www.youtube.com/watch?v=yxzoplqtmHk&feature=related[/ame]

  9. #8
    شعلة متقدة .. وحماس دائم Array الصورة الرمزية صفاء الايمان
    تاريخ التسجيل
    Apr 2009
    الدولة
    ...
    المشاركات
    14,276
    Articles
    0
    Thumbs Up/Down
    Received: 8/0
    Given: 0/0
    معدل تقييم المستوى
    412




    بيانات اخرى

    الجنس :  انثى

    المستوى الأكاديمي :  تعليم ابتدائي

    الجامعة الحالية/التي تخرجت منها ؟ :  الجامعة الأردنية

    الحالة الاجتماعية :  اعزب

    افتراضي رد: البحث عن امرأة مفقودة!..



    الفصل الرابع عشر

    لم أصدق ما رأيت!.. كانت مجزرة حقيقية ضحاياها جميعا من الأطفال..
    هرعنا إلى الجرحى الصغار نرمم أجسادهم الممزقة.. نتشبث بأرواحهم البريئة حتى لا تفلت منا ، وتغادرنا إلى العالم الآخر ، تسربت روح الطفل لأول من بين أيدينا بسرعة ، ومضت إلى خالقها تشكو له عالمنا المجنون ، بكت أحلام وهي تسبل جفني الطفل الشهيد فوق عينيه اللتين جال فيهما الرعب والذعر ، حضرت مجموعة أخرى من الأطباء لتساهم في إنقاذ هذه الكائنات المسكينة ، واجتمع الأهالي في الخارج ينوحون ويولولون ، وتعالى نحيب الأمهات وهن يتدافعن أمام غرفة العمليات.. يتسقطن الأخبار حول أطفالهن الذين ذهبوا ضحية الطيش والسرعة المجنونة..
    ووصل الدكتور مأمون مدير المستشفى قادما من سفر بعيد ، فانضم إلينا على عجل في محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه..
    اةقف قلب طفل آخر عن الخفقان ، وانسلت روحه من بين أيدينا ونخن ننظر في مرارة وعجز ، لم تحتمل أحلام هذه المناظر المرهقة ، فسقطت مغشيا عليها ، وهي الطبيبة التي ألفت أجواء غرف العمليات ، فالموقف كان مؤثرا صعب الاحتمال ، ولم تلبث أن عادت إلى وعيها بعد أن صفعتها إحدى الممرضات ، فاستجمعت قواها ، وغسلت وجهها ، ثم انضمت إلينا ثانية ، لتتابع أداء واجبها في إنقاذ الجرحى من الأطفال..
    ثمة روح ثالثة تتملص من بين أيدينا ، تريد أن تهاجر ، تريد أن تغادر هذا العالم الضيق الذي لم يتسع لأفراحها ، استنفرنا لمنعها من الرحيل ، استخدمنا الصدمات الكهربائية ، ومنحناها قبلة الحياة ، لكنها رفضت أن تبقى ، ومضت في عناد ، تلعن عالمنا الذي لم يعد يحترم أرواح الأطفال..
    وتراكم التعب والإرهاق في أوصالنا ، وتفاقم الحزن في داخلنا حتى طفح من عيوننا وملامحنا ، وقضينا يوما ضاريا ، ونحن نصارع الموت الذي حاصر الأجسام الصغيرة ، وراح ينهشها ويفترسها جسدا بعد آخر..
    وانتصف الليل ، فهدأت المعركة قليلا ، لكنها لم تحسم بعد ، فما زالت بعض الإصابات بالغة الخطورة ، وتحتاج إلى حراسة شديدة..
    قرر الدكتور مأمون أن يوزعنا إلى فئتين ، فئة ترابط حول الأطفال الجرحى ، وأخرى تخلد للنوم والراحة ، لأننا قمنا بالعبء الأكبر في غرفة العمليات..
    قال هاني:
    ـ دعونا نخرج من الباب الخلفي ، فأنا لا أطيق رؤية وجوه الأهالي المنكوبين..
    وهمست أحلام بعد أن مضينا خطوات:
    ـ لا أصدق ، أرأيتما الذعر في عيون الأطفال؟ أي مجرم هذا الذي كان وراء الحادث؟!..
    هتفت في غيظ:
    ـ مراهق في العشرين ، فعل فعلته النكراء ، ثم هرب..!
    تساءلت أحلام:
    ـ كيف استطاع أن يهرب ، وهو يرى الأطفال أمامه يتحولن إلى كومة من الأشلاء؟ ألم تتحرك فيه ذرة من الشهامة ، فينزل ويساهم في إنقاذ الضحايا؟
    ومضينا في الممر الطويل نفرغ شحنات الحزن والغضب ، ونتبادل انطباعاتنا الأليمة ، ونحن نسعف الجرحى من الأطفال ، وسمت صوتا ينادينا من الخلف..
    صوت أذكر أني سمعته من قبل!.. والتفتنا إلى صاحب الصوت..
    قال هاني:
    ـ هذا هو الأستاذ سعيد.. لقد جاء ليغطي الحادث بنفسه.
    صافحنا الأستاذ سعيد الناشف بحرارة ، وقال في لهفة وقلق:
    ـ طمئنوني.. ما هي آخر الأخبار؟..
    قلت له:
    ـ ثلاثة قتلى ، وإصابتان خطيرتان ، والأطفال العشرة الباقون تتراوح إصاباتهم بين الكسور والرضوض ، لكنهم جميعا يعانون من صدمة نفسية فظيعة أحدثها الرعب الذي اندلع في قلوبهم الغضة ، وهم يواجهون الموت في أبشع صوره..
    قال الأستاذ سعيد:
    ـ سأفرد لهذا الحادث البشع عددا خاصا يهز الرأي العام ، خبروني بربكم.. كيف حدث هذا؟
    قال هاني:
    ـ كل ما علمناه أن الأطفال كانوا عائدين إلى بيوتهم في باص المدرسة ، كان الباص يسير ضمن السرعة القانونية ، وفجأة خرجت سيارة مسرعة من شارع فرعي ، واستقرت وسط الباص كالقذيفة ، فانقلب الباص بمن فيه ، وتطايرت أجساد بعضهم من النوافذ ، وارتطم الآخرون بجدران الباص المعدنية ، فأصيبوا برضوض وكسور مختلفة ، واخترق الزجاج المحطم أجساد عدد منهم..
    همست وأنا في ذروة الألم:
    ـ لقد كانت كجزرة حقيقية يا أستاذ سعيد..
    قال الأستاذ سعيد وهو يمضي معنا متثاقلا:
    ـ حوادث الطرق في بلادنا تبتلع من الضحايا أكثر مما تبتلع الكوارث والحروب..
    علقت أحلام بنبرة قاسية:
    ـ لو ذهب هؤلاء الأطفال ضحية حرب أو زلزال لكان الأمر أهون ، لكن أن نقتل أطفالنا بأيدينا ، بطيشنا وغرورنا ، فهذا قمة الجنون والإجرام!..
    لفتت لهجة أحلام لمنفعلة انتباه الأستاذ سعيد ، فقال وهو يرمقها باهتمام:
    ـ أنا أعرف الدكتور هاني ، والدكتور صلاح ، لكني لم أتشرف بمعرفتك بعد..
    بادرت ، فعرفت كل منهما على الآخر ، فلاحظت عليهما تغيرا ووجوما مثيرا ، تساءلت في حيرة:
    ـ أتعرفان بعضكما من قبل؟
    همس الأستاذ سعيد وهو يبتسم في غموض:
    ـ إذا كانت الدكتورة أحلام ابنة رجل الأعمال المشهور عبد الغني الذهبي ، فهي تعرفني بلا شك!..
    سألته أحلام بنبرة حائرة:
    ـ لماذا توقعت مباشرة أني ابنة عبد الغني الذهبي؟
    أجاب كالواثق:
    ـ كنت أعرف أن له ابنة وحيدة تدرس الطب.
    قلت في محاولة لفض الغموض:
    ـ أنت تعرف أباها إذن!
    هز الأستاذ سعيد رأسه مؤكدا ، ثم همس وهو يسد إلى أحلام نظرة غامضة:
    ـ صديق قديم..
    أحرجت نظرة الأستاذ سعيد أحلام ، فرمشت في ضيق ، واستأذنتنا في الانسحاب متعللة بالتعب ، وانسحب هاني خلفها مبديا العذر نفسه ، سألني الأستاذ سعيد ، وهو يشيع أحلام بنظرة شاردة:
    ـ كيف تجدها؟
    ـ من؟
    ـ الدكتورة أحلام..
    ـ إنها فتاة طيبة ومهذبة ، وذات شخصية جادة..
    رفع حاجبية دهشة ، وقال:
    ـ أمتأكد أنت؟
    ـ جدا..
    ـ شوكة خلفت وردة!..
    ـ ماذا تقصد؟
    قال متهربا من الإجابة:
    ـ دعك من قصدي ، وأخبري.. ما هي أخبار طفلتك اللقيطة؟
    ـ النتائج سلبية..
    ـ كما توقعت..
    ـ لم تقل لي..
    ـ ماذا؟..
    ـ ما رأيك بوالد أحلام؟..
    ابتسم في دهاء ، وسأل:
    ـ هل تهمك كثيرا.
    ـ مجرد فضول..
    ـ لماذا لا تعمل معي؟
    ـ أين؟
    ـ في الصحافة طبعا!
    ابتسمت رغما عني..
    ـ أنا؟
    ـ سأجعل منك صحفيا مشهورا.
    ـ ولكن..
    ـ لست أول من يقدم على هذه المغامرة.
    ـ لماذا أقدم عليها؟
    ـ لأنك تملك أهم مقومات الصحفي الناجح: فضول المحقق ، وحماس المؤمن..
    قلت وأنا أنوء تحت أثقال الهم والنعس والإرهاق:
    ـ أستاذ سعيد.. كنت أتمنى لو كان حديثا في غير هذه المناسبة ، لكني مضطر للانسحاب الآن ، فأمامي غدا عمل طويل..
    ربت الأستاذ سعيد على كتفي وقال:
    ـ فكر بالأمر ، تصبح على خير..
    عندما وضعت رأسي على الوسادة ، تذكرت شيئا.. لقد استطاع الأستاذ سعيد بدهائه أن يتهرب من سؤالي عن رأيه بوالد أحلام!..
    ماذا يعرف عنه يا ترى؟..

    الفصل الخامس عشر

    ـ "محكمة.."
    ضج الكون فجأة بهذه الكلمة ، وارتج لها حتى كاد يميد ، وانتشر دويها القاصف كالرعد في الآفاق المترامية ، فامتدت أصداؤها إلى ما لا نهاية ، حتى خفتت وتلاشت ، وحل مكانها صمت رهيب مثقل بالخوف والقلق والرعب..
    ـ "هل هي القيامة المنتظرة قد قامت في غفلة من البشر؟.."
    والتفت حولي كالمأخوذ! هذه دنيا غير الدنيا!.. عالم عجيب كل ما فيه غريب غير مألوف. الغيوم تحيط بالمكان كالجبال ، وقد حجبت خلفها كل معالم الكون المألوفة!.. والسماء فوقنا ليست هي السماء.. إنها قبة هائلة من الضباب الكثيف المفعم بالغموض.. والأرض تحتنا!. أين الأرض؟.. لكأني أقف فوق فراغ ، مدفوعا إلى الأعلى بقوة مجهولة كدافعة أرخميدس!..
    وشعرت بجسمي يـرجح كريشة معلقة في الهواء ، وتساءلت في نفسي وأنا أرقب جسدي وهو يترنح فوق الفراغ بلا وزن : "أأنا في رحلة فضائية أجوب أعماق الكون السحيقة؟!!"..
    وانتبهت فجأة إلى أني لست وحدي! ها هي أحلام تقف بجانبي ، وهي تتلفت حولها مبهورة.. وذاك هو هاني يقف قريبا مني وقد أغمض عينيه في خشوع ، ورفع كفيه إلى السماء في ضراعة ، وراح يسأل الله العفو والمغفرة ، وذلك هو الأستاذ سعيد وقد شخص ببصره الحائر إلى قمم الغيوم الشاهقة التي أحاطت بالمكان كأسوار سجن عظيم..
    والناس.. الناس حولنا قد ارتصوا في كتلة واحدة ، وشخصوا بأبصارهم في كل اتجاه ، يرمقون المكان بعيون قلقة وقلب واجف..
    ـ "محكمة!"..
    وعادت الصرخة الهائلة تدوي في أرجاء الكون ، فخفق الهلع في القلوب وجمدت العيون في المحاجر ، وراحت تحملق في ذعر ، وكأنها ترقب مجهولا مخيفا قد فغر فاه ليبتلعها ويغيبها في جوفه العظيم.
    وهتف هاتف : "انظروا هناك!.." فاتجهت الأبصار الخائفة المترقبة إلى كائنات بيضاء تحلق في الفضاء ، وقد سدت الأفق بأسرابها الكثيفة ، وجعلت تقترب في هدوء ، ولم تلبث هوية هذه الكائنات الغريبة أن انكشفت ، فسرت في جموع الناس همهمة غامضة ، ولغط كبير ، عندما تبين لهم أن هذه المخلوقات الطائرة ، ما هي إلا أسراب هائلة من الأطفال المجنحين..
    وحط الأطفال المجنحون فوق ذرى الغيوم المحيطة بنا ، وضربوا حولنا حصارا محكما ، بينما حلقت فوقنا مجموعة منهم ، يتقدمها طفل يضع فوق رأسه تاجا أحمر بلون الدم.. طفل أذكر أني رأيته من قبل!.. آه.. إنه أحد الأطفال الذين ذهبوا ضحية لحادث باص الأطفال!..
    التفت إلى أحلام وقلت وأنا أشير إلى الطفل المتوج:
    ـ هل تعرفين هذا الطفل ياأحلام؟..
    قالت أحلام والدموع تغرق عينيها الوادعتين:
    ـ وكيف أنساه يا صلاح.. لقد أسدلت جفنيه بيدي هاتين!..
    سألتها وأنا غارق في الحيرة والذهول:
    ـ هل قامت القيامة فعلا ، وبعث الناس من جيد؟
    همست أحلام بنبرة واهنة:
    ـ لقد قامت في غمضة عين!..
    وقال هاني وهو يهز رأسه في حسرة وندم:
    ـ ليتني قضيت العمر فيما يفيد.. إذا لم يغفر لنا الله ذنوبنا ، ويشملنا برحمته ، فسنواجه نهاية فظيعة..
    ثم أردف وهو يرتعش:
    ـ سوف تشوى أجسادنا في نار جهنم يا جماعة.. ألم تسمعوا بالنار؟..
    حك الأستاذ سعيد ذقنه متفكرا ، وقد استفز الموقف الغامض كل حواسه ، ثم قال:
    ـ لا أظن أنها القيامة!.. فللقيامة أشراط ومقدمات لم تتحقق بعد.. أعتقد أنها حرب النجوم الملعونة قد دمرت الكون ، وحشرت ما تبقى من البشر في هذه المكان..
    قلت له:
    ـ وهؤلاء الأطفال المجنحون الذين يحلقون فوقنا كالعصافير ، من أين انبثقوا. وكيف نبتت لهم هذه الأجنحة البيضاء القوية التي يطيرون بها؟
    وعقبت أحلام:
    ـ عذرا يا أستاذ سعيد ، أنا لا أوافقك الرأي ، إنها القيامة المرتقبة ، وقد حان موعدها ، والدليل على قيامها هؤلاء الأطفال الذين بعثوا من جيد ، وعادت إليهم الروح ، بعد أن ماتوا بين أيدينا في غرفة العمليات!..
    قال الأستاذ سعيد ساخرا:
    ـ إذا كانت القيامة قد قامت فعلا ، فسوف يواجه أبوك مصيرا أسوادا لا يحسد عليه.
    صاحت به أحلام غامضة:
    ـ انشغل بمصيرك أيها العجوز ، وكف عن التجريح بوالدي ، تكفيك إساءتك البالغة له في الحياة الدنيا!.
    وعاد الصوت الهائل يهدر من جديد..
    ـ "محكمة!"..
    عرفنا أخيرا مصدر الصوت ، إنه أحد الأطفال المجنحين ، ولكن!.. ما بال صوته الطفولي هادر مجلجل إلى هذا الحد؟.. هل يساعد الفراغ الكوني على تضخيم الأصوات؟!.. وهذه الكلمة التي رددها للمرة الثالثة ، ماذا تعني؟.. محكمة؟!.. هل نحن متهمون تجب محاكمتنا؟ أم أنا متفرجون حشرنا القاضي في هذا الكون الغريب ، لنشاهد أحداث محاكمة غامضة ستجري؟.. ورحنا نرقب الموقف في دهشة وفضول مشفوع بالهواجس والمخاوف..
    اقتلعت مجموعة من الأطفال المجنحين قطعة من الغيوم ، وطارت بها نحو الطفل المتوج ، فصفق بجناحيه ، وحط فوقها بهدوء ، ووقف يرمقنا من علٍ بنظرات صارمة مستطلعة فاحصة ، وكأنه قائد منتصر يستعرض أسراه!..
    وهمس هاني كمن اكتشف شيئا مثيرا:
    ـ الآن فهمت كل شيء!.. إنها مسرحية أطفال!.. نعم مسرحية أطفال!..
    ثم وهو ينظر حوله كمن يبحث عن شيء:
    ـ لكني لا أرى المخرج!.. أين هو حتى أشكره على هذه المسرحية الرائعة التي تأخذ بالألباب؟
    لوى الأستاذ سعيد شفتيه في حيرة وقال:
    ـ إذا كان ما يجري أمامنا مسرحية أطفال ، فهذا يعني أن مسرح الطفل في بلادنا قد خرج من أزمته ، وتطور تطورا مدهشا يستحق التقدير ، سأفرد عددا خاصا عن هذا الموضوع..
    قلت وقد أوحى لي هذا التفسير بفكرة مثيرة:
    ـ لا.. لا.. هذه ليست مسرحية أطفال ، إنها فلم أطفال عربي يضاهي بمستواه أفلام الأطفال الأمريكية والغربية ، هذا أول فلم عربي يبرع في توظيف الخدع السنمائية ، وينجح في إطلاق خيال الأطفال..
    قال الأستاذ سعيد وهو يشير إليَّ بسبابته في شك:
    ـ لست معك في هذا يا صديقي.. لا يمكن أن يكون هذا فلما عربيا للأطفال ، ولا حتى تمثيلية تلفزيونية.. لقد استأثر الكبار في بلادنا بهاتين الوسيلتين الخطيرتين ، ووظفوهما لتسليتهم وإرضاء أنانيتهم ، وتركوا أطفالهم فريسة لأفلام الأطفال المستوردة ، ومسلسلات الكرتون التجارية التي تجذب الأطفال بالإثارة الفارغة ، والعنف المريض..
    هتفت أحلام في احتجاج غاضب:
    ـ لقد ذهبتم بعيدا يا سادة.. المسرحيات والأفلام لا يؤديها أطفال قتلى أو أشباح!..
    ثم التفتت إليَّ وقالت:
    ـ وأنت يا صلاح.. تأمل وجه هذا الطفل المتوج الذي يقف فوق غيمته ، وبرمقنا بعيني صقر ، ألم تقل لي بأنك قد عرفته؟ أم أن ما يجري قد أفقدك قدرتك على التركيز؟!..
    دلكت جبيني بأنامل أصابعي المشدودة ، ورحت أتأمل وجه الطفل وأنا أعتصر ذاكرتي بقوة..
    قلت لأحلام بنبرة شك:
    ـ أأنا قلت بأني أعرف هذا الطفل؟!.. لا أذكر أني قلت شيئا كهذا!..
    شهقت أحلام ، وفغرت فمها مشدوهة ، وهي تنظر إليَّ نظرة غامضة قرأت فيها ريبة واتهاما ، وأرادت أن تقول شيئا ، لكن صوتا مباغتا اقتحم علينا حوارنا ، فالتفتنا مستطلعين..
    ـ أتنساني يهذه السرعة يا دكتور؟ ألا تذكر هذا الوجه عندما كان مضرجا بدمه؟ ويلكم أيها الكبار من أنفسكم.. لقد أدمنتم على النسيان حتى أمسى خبزكم ، تريدون لو حتى أسماءكم..
    سرت في جسدي رعشة ، وأيقظت نبراته العاتبة حزنا مكبوتا داخلي فبكيت ، وكان هاني يراقب ما يدور ، فقال بعد أن سمع الطفل يذكرنا بنفسه:
    ـ إنها القيامة إذن ، ولا شيء غير القيامة ، ليتني عبدت الله حق العبادة!..
    وجاءنا الصوت عميق من الخلف ، فاستقر في أسماعنا كالقذيفة:
    ـ هكذا أنتم أيها البشر ، لا تذكرون الله إلا في الملمات ، أين كان الله في حياتكم عندما كنتم قادرين على طاعته؟.. انتظرو ا مصيركم أيها الناس ، فاليوم تنصب موازين الحق ، ويلقى كل فرد منكم جزاءه العادل..
    هتف هاني وهو يصيخ السمع:
    ـ أسمعتم ، هذا هو صوت جبريل!.. جبريل الذي حمل رسالات ربه إلى الأرض ، فرفضناها ، ونسيناها..
    قال الأستاذ سعيد وهو يفرك يديه فرحا:
    ـ لقد انتظرت هذا اليوم طويلا لأرى الظالمين وهم عراة من كل قوة..
    ثم تلفت حوله وتساءل في حيرة:
    ـ ولكن.. أين فرعون ، وكسرى , وقيصر؟.. أين بلفور وبن غوريون وهتلر؟.. أين ستالين وجونسون وسوموزا؟.. أين؟..
    ولم يكد يكمل حتى عاد الصوت المجلجل الهادر يطرق الأسماع ويزلزل القلوب:
    ـ "محكمة!"..
    ساد صمت وسكون ، وتعلقت العيون بالطفل المتوج ، وتلهفت الأسماع لمعرفة ما سيصدر عنه ، لكنه لم ينبس ، وراح يسدد إلينا نظرات قاسية وكأننا مجرمو حرب، وطال صمته ، فسرى الرعب في النفوس ، وأيقنا بالهلاك ، خرج الطفل المتوج عن صمته أخيرا وقال:
    ـ باسم الأطفال المضطهدين والمهملين والمقتولين ظلما وعدوانا ، باسم الأطفال الأبرياء الذين لا حول لهم ولا قوة ، أفتتح اليوم محكمة الأطفال الكونية ، لينال الكبار جزاءهم العادل على ما اقترفوه في حق الصغار من جرائم ، وأخطاء..
    أفلتت من هاني ضحكة هستيرية عالية ، ثم قال:
    ـ لا تقنعوني بعد الآن ، هذه ليست القيامة ، إنها مسرحية أطفال ، مسرحية رائعة من أنجح المسرحيات التي شاهدتا في حياتي..
    ثم أخذ يصفق ويهتف في حبور:
    ـ (برافو)..(برافو)..
    قلت لهاني ، وقد أرهقتني ثرثرته:
    ـ أرجوك يا هاني ، اصمت ودعنا نفهم ما يجري..
    أدخل هاني سبابته في زاوية فمه ، وأطلق صفيرا مزعجا ظل صداه يتردد مدة ، ثم قال وهو يعود إلى التصفيق:
    ـ ارحمني من ملاحظاتك السخيفة الآن ، ودعني أعبر عن إعجابي بهذه الرائعة الفنية التي تفوق كل ما أبدعه الكتاب من مسرحيات وقصص وروايات..
    طار الطفل إلى هاني ، وقال له بلهجة متوعدة ، وهو يمسك يناصيته:
    ـ إذا لم تلتزم الهدوء أيها الكبير المشاغب ، فسوف أحكم عليك بالحرمان من الإنجاب مدى الحياة..
    بهت هاني وانتابه الهلع ، فربط التهديد لسانه ولاذ بالصمت..
    عاد الطفل ذو التاج الأحمر إلى مكانه ، ونادى في أصحابه:
    ـ فلتتقدم هيئة المستشارين..
    تقدمت مجموعة من الأطفال المجنحين ، ووقفت فوق الغيمة التي يقف عليها الطفل المتوج..
    قال الطفل المتوج ، وهو يشير إلى الأطفال الذين انضموا إليه:
    ـ هؤلاء الأطفال هم القضاة الذي سيساعدوني في إصدار الأحكام العادلة ، وقد اخترتهم من بين آخر الأطفال الضحايا الذين قتلتهم الكبار على الأرض..
    الطفل الأول مات جوعا في الصوما..
    والثاني قتل بقذيفة حمقاء ألقيت عليه أثناء حرب من حروب الأشقاء الأعداء..
    والثالث مات ضحية لجهل أم حرمت ابنها من التطعيم ضد الأمراض السارية..
    والرابع قتله طبيب محترف في رحم أمه تنفيذا لرغبة الأم التي قررت إجهاض جنينها ، وحرمانه من حقه في الحياة..
    أما أنا ، فقد كنت أحد ضحايا مجزرة دامية كان وراءها شاب أرعن قاد سيارته دون أدنى شعور بالمسؤولية ، فصدم بها باص المدرسة الذي كنت أستقله أنا وأصحابي ، وحولنا إلى أشلاء..
    همست أحلام:
    ـ ألم أقل لكم؟ إنه أحد ضحايا باص الأطفال..
    قال هاني محذرا:
    ـ اصمتي يا أحلام ، فقد يعاقبك قاضي الأطفال بعدم الإنجاب..
    انتبه قاضي الأطفال إلى هاني وهو يخطب أحلام ، فتعكرت ملامحه بحمرة الغضب..
    هتف وهو بشير إلى هاني بسبابته:
    ـ أنت.. أيها المشاغب الكبير ،لقد أنذرتك ، ووجب عليك العقاب..
    ركع هاني على ركبتيه فرقا وصاح متوسلا في ضراعة:
    ـ الرحمة أيها القاضي.. لم أكن أقصد الشغب..
    أشار القاضي الصغير لأتباعه من الأطفال المجنحين بحركة من رأسه ، ففهمنا للتو بأنه قد أصدر حكمه الصارم ، وسرعان ما انقضت الكائنات المجنحة على هاني ، وقبضت عليه ، وكادت تطير به ، فتشبثنا به ، ورحنا بشده إلينا ، ونحن نرجو القاضي الصغير أن يرحمه ويعفو عنه ، وصاحت أحلام وهي تبكي بمرارة:
    ـ أنا السبب أيها القاضي.. أنا التي بدأته بالكلام.. عاقبني أنا إذا شئت..
    وأردفت متوسلا:
    ـ أرجوك أيها القاضي.. امنحه الفرصة الأخيرة..
    أشاح القاضي المجنح بوجهه عنا ، وقال:
    ـ أنتم لا تمنحون الأطفال فرصتهم ، وليس من العدل أن تنالوا أية فرصة..
    قلت للقاضي الصغير في محاولة أخيرة لإثنائه عن عزمه:
    ـ لكن هاني كان من الأطباء الذين شاركوا في إنقاذ أصدقائك من الجرحى ، وقد بذل في سبيل إنقاذهم كل مستطاع..
    التفت القاضي الصغير إليَّ ، ورماني بنظرات قاسية زرعت قلبي بالخوف ، ثم قال بلهجة ثائرة:
    ـ اعلموا أيها الكبار أن الظلم الذي يوقعه بعضكم بالأطفال ، لن يعود بالنتائج الوخيمة على من ظلمهم فقط ، بل إن نتائجة المدمرة ستطال البقية الطبية منكم ، وستدمر ثورة الأطفال حياتكم ، وتحولها إلى شقاء..
    ثم أردف وهو يشيح بوجهه عني ثانية:
    ـ عندما تشوهون أرواحنا الصغيرة ، بالتربية الخاطئة والممارسات الرعناء ، فيجب أن تنتظروا من كل شيء..
    ثم صمت القاضي الصغير ، وهز رأسه بإيماءة صارمة ، فانتزع أتباعه هاني منا ، وطاروا به بعيدا..
    وجعلت أصرخ وأنادي ملتاعا:
    ـ هاني.. هاني..

    ولم ألبث أن شعرت بيد هاني وهي تهزني برفق ، فاستيقظت من حلمي العصيب ، ورحت أفرك عيني ، وأنا ألهث ، ثم نظرت حولي في قلق ، وكأني أطمئن على العالم قبل أن ينهار!..
    قال هاني وهو يبتسم في دهشة:
    ـ هل كان حلما جميلا؟
    تنفست الصعداء ، وقلت:
    ـ بل كان كابوسا مزعجا!..
    صفعني هاني بالوسادة ، وقال:
    ـ ظننتك تناديني في الحلم من أجل شيء بهيج!..
    استرخيت على السرير ورحت أسترجع الحلم الذي رأيت ، فضحكت بعد أن تذكرت كل ما كان ، وقلت لهاني وأنا غارق في الضحكات:
    ـ تصور يا هاني.. أنت محكوم عليك بعدم الإنجاب!..
    ـ أنا؟ من الذي أصدر الحكم؟..
    رئيس محكمة الثورة!..
    ـ اقترب هاني مني ، ووضع يده على جبهتي ، ثم قال:
    ـ حرارتك طبيعية!.. عن أي ثورة تتحدث؟!..
    أجبته وأنا أوغل في الضحك:
    ـ ثورة الأطفال!..
    ـ ثورة الأطفال؟!..
    ـ ألا ثصدق؟..
    ـ هذه أول مرة أراك تضحك في أوقات الجد!..
    لسعتني ملاحظة هاني ، تذكرت فجأة ضحايا باص المدرسة ، فغارت الضحكات من وجهي ، وحل مكانها هم وقلق على مصير البقية الباقية من الأطفال..







    0 Not allowed! Not allowed!




    [ame="http://www.youtube.com/watch?v=yxzoplqtmHk&feature=related"]http://www.youtube.com/watch?v=yxzoplqtmHk&feature=related[/ame]

  10. #9
    شعلة متقدة .. وحماس دائم Array الصورة الرمزية صفاء الايمان
    تاريخ التسجيل
    Apr 2009
    الدولة
    ...
    المشاركات
    14,276
    Articles
    0
    Thumbs Up/Down
    Received: 8/0
    Given: 0/0
    معدل تقييم المستوى
    412




    بيانات اخرى

    الجنس :  انثى

    المستوى الأكاديمي :  تعليم ابتدائي

    الجامعة الحالية/التي تخرجت منها ؟ :  الجامعة الأردنية

    الحالة الاجتماعية :  اعزب

    افتراضي رد: البحث عن امرأة مفقودة!..



    الفصل السادس عشر

    ضحكت أحلام عندما حدثتها عن الحلم الذي شاهدته في الليلة السابقة ، وقالت:
    ـ هذا الحلم يصلح لأن يكون مسرحية أو فلما ، ينبه الناس إلى أخطار ممارساتهم الخاطئة مع الأطفال..
    قلت وأنا أمضي معها خارجين من غرفة العلميات:
    ـ يقولون بأن الأحلام مصدر من المصادر التي يعتمد عليها الكاتب في إثراء خياله..
    هتفت أحلام في حماس وهي تقف قليلا:
    ـ أما أنا فقد أثار حلمك في خيالي موضوع لوحة رائعة..
    ثم تابعت وهي تمضي:
    ـ سوف أذهب اليوم لأرسم الأطفال المجنحين وهم يحلقون فوق رؤوس البشر ، ويرفرفون بأجنحتهم كالعصافير.. وسأرسم القاضي الصغير وهو يقف فوق غيمة العدالة ، ويرمق البشر بنظرات صارمة فيها عتاب الطفولة وآلامها ممزوجة بالاتهام الصارخ للآباء الذين شوهوا أرواح الأبناء..
    تذكرت الغموض الذي لاحظته في حديث الأستاذ سعيد عن والد أحلام ، قلت في تردد:
    ـ ثمة سؤال يراودني ، لكني أشعر بالحرج في طرحه عليك..
    تضاحكت وقالت:
    ـ اسأل ما بدا لك..
    ـ هل كان الأستاذ سعيد حقا صديقا لوالدك؟..
    فاجأها السؤال ، أطرقت قليلا ، ثم قالت وهي تعبث بسماعتها الطبية المتدلية على صدرها كالقلادة:
    ـ هل قال لك شيئا؟
    ـ في الحقيقة لم يكن الوقت يتسع للحديث ، لكني لاحظت على وجهيكما وجوما غامضا ، عندما عرَّفت ُ كلا منكما على الآخر!..
    تنهدت وقالت:
    ـ تلك قصة قديمة..
    ـ يبدو لي أن الحديث في هذا الأمر لا يريحك!..
    ـ صدقت..
    ـ لا داعي إذن للخوض فيه..
    ـ هل تقبل دعوتي إلى فنجان شاي؟..
    ـ بكل سرور..
    شعرت بأني قد تطفلت على أحلام ، واقتحمت بسؤالي حياتها الخاصة ، فندمت على تسرعي وفضولي ، وقدرت أن دعوتها لي ما هي إلا تهرب لبق من الجواب..
    ووصلنا إلى مقصف العم درويش ، فرحب بنا في استراحته ، وسألنا عما نشتهي ، فطلبت أحلام منه أن يحضر لنا فنجانين من الشاي المعطر بنكهة النعناع ، ثم اختارت ركنا قريبا من النافذة ، وجلست ساهمة حزينة تكتسي نظراتها بكآبه عميقة..
    جلست وأنا أكابد شعورا بالذنب ، فلم أكن أعلم أن سؤالي سيعكر صفوها إلى هذا الحد..
    وأدركت أن في الأمر سرا مؤلما لا ينبغي لي نبشه ، ووجدت من واجبي أن أخرج أحلام من الجو الذي وضعتها فيه ، قلت وأنا أرسل نظراتي من النافذة إلى حديقة المستشفى:
    ـ الحديقة تزداد جمالا ، بعد أن خلع عليها الربيع فتنته..
    نظرت أحلام إلى الحديقة ، وأطالت النظر ، وهي تتأمل قمم الأشجار وأحواض الزهور ، ثم لملمت نظراتها الكئيبة ، وألقتها نحوي متوهجة بالحزن ، وقالت بنبرة هادئة عميقة:
    ـ منذ سبعة عشر عاما تقريبا ، انهارت عمارة سكنية فوق رؤوس ساكنيها ، وذهب ضحية لهذا الحادث ستة أطفال ، وتسع نسوة ورجل واحد ، هذا غير الذي أعيقوا أو تشوهوا.. من حسن الحظ أن العمارة لم تكن مكتظة بالسكان ، فقد سقطت أثناء النهار ، حيث كان معظم السكان خارجها ، منصرفين إلى شؤونهم في أماكن العمل والدارسة والتسوق.. لكنها كانت كارثة على كل حال..
    هل تعرف من هو المقاول الذي قام ببناء هذه العمارة؟..
    لم أجب ، ولم أفهم مناسبة هذا الحديث الغامض عن العمارة المنهارة!.. تركتها تتابع الحديث بانتظار معرفة ما ستصل إليه ، أطرقت أحلام ، وقالت تجيب عن سؤالها ، وهي تعبث بأصابعها كمن أربكه أمر:
    ـ لقد كان والدي..
    ثم صمتت برهة ، وداومت الإطراق كالخجلى ، ثم أرسلت زفرة طويلة وشت بما يعتمل في صدرها من ألم وهم وقالت:
    ـ طبعا بدأ التحقيق القضائي في هذه القضية ، واتجهت أصابع الاتهام إلى المهندس المسؤول عن تنفيذ بناء العمارة ، لأنه كان قد وقع على عقد يلتزم فيه بمسؤوليته الكاملة عن أي خلل يحدث في البناء..
    دافع المهندس عن نفسه بقوة ، ادعى بأن والدي هو الذي أمره بأن يقتصد ويوفر في استهلاك المواد الأولية..
    رفض والدي ادعاء المهندس ، وذكره بأن العقد الذي وقع عليه معه ينص على أن تقدير كميات المواد اللازمة للبناء من مسؤولية المهندس ، وأن والدي لم يكن سوى ممول للمشروع ، يسدد الفواتير التي كان يحولها إليه..
    وكان رد المهندس بأن العقد الذي وقع عليه كان مجرد خدعة ، وأنه كان مليئا بالشروط المغرية التي وضعها له والدي كطعم يجذبه للقبول بالشروط القاسية الأخرى ، وأن الأمور سارت في كثير من الأحيان على غير ما جاء في العقد ، وأن المهندس اضطر للسكوت عن هذه التجاوزات حتى لا يفقد الامتيازات التي حصل عليها من خلال العقد..
    كذَّب والدي أقول المهندس ، واتهمه بالمراوغة ، وقال له أمام هيئة المحكمة التي فصلت في الأمر: "لم تكن مضطرا للتوقيع على عقد تجد فيه شروطا ليست لصالحك"..
    قال القاضي كلمته: المهندس مذنب ، ويستحق الإعدام..
    سألت أحلام وأنا أتابع القصة باهتمام:
    ـ ووالدك؟
    قالت أحلام بنبرة غامضة توحي بأنها غير مقتنعة بما تقول:
    ـ أثبت والدي أن دوره في عميلة البناء كان مقصورا على التمويل والاستثمار ، وشهد المحاسب الخاص بمشروع العمارة إلى جانب والدي..
    قال المحاسب بأن المهندس كان يشتري المواد الأولية اللازمة للمشروع ، ثم يقدم الفواتير لوالدي ليسددها ، ولم يكن والدي يتدخل في تحديد كميات هذه المواد ، ومع هذا لم ينج والدي من المسؤولية ، فقد حكمت عليه المحكمة بتعويض المتضررين عن خسائرهم المادية..
    وأقبل العم درويش يحمل الشاي ، فوضعه أمامنا ، وقال ببشاشته المعهودة:
    ـ الشاي يا دكاتره..
    شكرناه وعندنا للحديث ، قالت أحلام:
    ـ كان المهندس شابا حديث التخرج ، قليل الخبرة ، طموحا يبحث عن فرصة كبيرة تدر عليه المال ، وتحرق أمامه المراحل نحو القمة التي يحلم بها ، فوجد فرصته في العرض الذي قدمه له والدي ، ووافق عليه بكل شروطه..
    علقت منكرا:
    ـ جميل أن يكون الإنسان طموحا ، متحمسا للوصول إلى أهدافه بسرعة ، لكن أن يتسلق على أشلاء الآخرين ، فهذه قمة الدناءة والأنانية والجشع!..
    تلقت أحلام كلامي بتأثر واضح ، وكأني أعنيها به ، فلمعت عيناها برقاقة من الدمع ، وشعت نظراتها ببريق حزين ، همست كالحائر:
    ـ دكتورة أحلام.. هل قلت كلاما أزعجك؟..
    انتبهت أحلام لملاحظتي ، فابتسمت لتخفي الحزن الذي ألم بها فجأة ، وقالت:
    ـ أبدا.. كنت أفكربكلامك فقط..
    ـ وهل يحزنك التفكير بكلامي إلى هذا الحد؟.
    ـ ما يحزنني أن كلامك لا ينطبق على المهندس فقط!..
    صمتت أحلام برهة ، ثم قالت:
    ـ لم يكن المهندس وحده الذي تسلق على أشلاء الآخرين..
    ـ ما زلت لم لا أفهم..
    ـ إذا عرفت بقية القصة ، فستفهم كل شيء..
    ـ ألم تنته القصة بإدانة المهندس؟..
    تناولت أحلام رشفة من فنجانها ، ثم قالت:
    ـ كادت القصة تطوى عند هذا الحد لولا أن فجرها الأستاذ سعيد الناشف من جديد..
    ـ سعيد الناشف!..
    ـ ألا تريد أن تعرف نوع العلاقة التي تربط والدي بالأستاذ سعيد؟..
    أدركت أخيرا أن لقصة العمارة المنهارة علاقة بسؤالي ، وظننت أن أحلام تجيب عن السؤال مكرهة ، قلت لها:
    ـ لست متمسكا بالسؤال..
    ـ لكني متمسكة بالإجابة..
    ـ فهمت أن الحديث في هذا الموضوع لا يريحك!..
    أمالت أحلام رأسها في هدوء حزين ، وعادت غلالة الدمع تلمع في عينيها ، قالت وهي تزحزح فنجانها بحركة رتيبة وكأنها تداعبه:
    ـ ثمة أحاديث كثيرة ، لا يرتاح الإنسان للخوض فيها ، لكن هذه الأحاديث لا ينبغي أن تبقى مكتومة في الصدر إلى ما لا نهاية.. يجب أن تخرج إلى الهواء قليلا ، لتنفث آثارها السامة خارج الجسد ، حتى لا تنفجر داخله فتدمره.. يجب أن نخرجها من خلف الضلوع ليسمعها إنسان قريب منا ، فيألم لألمنا ، ويشاركنا أحزاننا ، ويحمل معنا همنا الثقيل..
    ثم رفعت أحلام إليَّ عينين مخضلتين بالدموع ، وهمست:
    ـ هل ترضى أن تكون هذا الإنسان يا دكتور؟..
    تأثرت لمرآها الحزين ، سارعت وقدمت لها منديلا تمسح به دموعها ، ثم قلت مواسيا:
    ـ إني أسمعك.. أرسلي ما يؤرق صدرك ، واعلمي بأنه سيكون محفوظا بين جنبي صديق.. كلنا بحاجة إلى أن نبوح بما يرهق صدورنا ، وكلنا بحاجة لمن يسمعنا في لحظات الضيق..
    جففت أحلام دموعها ، واستنشقت بعض الهواء الذي هب من النافذة معطرا بشذا الياسمين ، ثم قالت:
    ـ بعد انتهاء المحاكمة بأشهر طلع الأستاذ سعيد الناشف على الناس بمقال مثير.. قال في مقاله: إن المحاسب الذي شهد إلى جانب والدي لم يقل الحقيقة ، وأنه قد زور شهادته أمام المحكمة ، بعد أن كان قد شهد أمام الشرطة بأقوال مختلفة تدين والدي ، وتثبت مسؤوليته المباشرة عن حادث سقوط العمارة ، وتابع الأستاذ سعيد سلسلة اتهاماته لوالدي ، فادعى أن الشهادة الحقيقة التي أدلى به المحاسب قد سرقت من ملفات التحقيق ، وأن المحاسب قد اعترف في شهادته الأولى بأنه سمع والدي أكثر من مرة وهو يطالب المهندس بعدم الإسراف في تسليح البناء ، والاقتصاد في استهلاك المواد الأولية ، حتى يقوم البناء بأقل تكلفة ، ويباع بأربح ثمن ، مما جعل المهندس يبالغ بالاقتصاد والتوفير إرضاء لوالدي ، ويحرم البناء من الحد الأدنى من التسليح الذي يساعده على الصمود ومقاومة السقوط..
    ثم أكد الأستاذ سعيد أن المحاسب قد هاجر إلى الولايات المتحدة ، وأنه يقوم هناك بمتابعة دراسته العليا في إحدى الجامعات الأمريكية ، واستدل من هذه المعلومات بأن المحاسب ما كان ليستطيع متابعة دراسته العليا وتكاليفها الباهظة ، لولا أن قبض ثمنا غاليا لسكوته!..
    ـ وماذا كان رد والدك على كل هذه الاتهامات؟
    ند عني هذا السؤال دون إرادة مني ، وأنا أصغي إليها باهتمام.. قالت أحلام:
    ـ لم يسكت والدي طبعا على اتهامات الأستاذ سعيد ، فاتهمه بالطعن والقذف ، وطلب من القضاء أن ينصفه ، ونشبت بين الطرفين معركة قضائية حامية ، كسبها والدي في النهاية ، وتم إيقاف جريدة الأيام التي يملكها الأستاذ سعيد لمدة ثلاثة أشهر ، لأنها تنشر أنباء كاذبة تمس الجمهور ، وتستغل صفحاتها للتشهير بالناس..
    قلت لأحلام:
    ـ إدانة المحكمة للأستاذ سعيد الناشف تعني أن والدك بريء من كل ما نسب إليه..
    قالت أحلام بلهجة غاضبة:
    ـ هذا ما يبدو للناس..
    ـ هذا ما يبدو للناس؟!..
    هكذا قلت في دهشة ، بعد أن أثارت كلماتها فضولي!.. هل يبدو لها الأمر على غير الوجه الذي يبدو فيه للناس؟!.. وحرت في فهم المعنى الغامض الذي يستتر خلف كلماتها ، وانتظرت أن تستأنف أحلام بوحها لتسكت فضولي ، لكنها صمتت ، وعادت إلى فنجانها تهدهده ، قالت وهي تمعن النظر في الفنجان الذي برد قبل أن تكمله:
    ـ هل تعلم ما أقسى شيء في الوجود؟
    ابتسمت في مرارة وقلت:
    ـ في هذا العالم ألوان من القسوة ، فأيها تريدين؟
    اغتسلت عيناها ثانية بالدمع ، فتوهجت خضرتهما الصافية بأشعة حزينة تحرك قلبي ، وخفق إشفاقا على هذه الفتاة التي تقطر حزنا وكآبة ، قالت أحلام وهي تمسح دموعها المنثالة فوق خديها بهدوء:
    ـ أقسى ما في الوجود أن تصدم فيمن تحب.. أن ترسم في خيالك صورة مشرقة لإنسان عزيز ، ثم يأتي الواقع القذر ليلطخ تلك الصورة الزاهية الجميلة بالأوحال.. فما بالك إذا كان هذا الإنسان العزيز عليك هو قدوتك ومثالك؟.. ما بالك إذا كان هذا الإنسان أباك؟..
    قلت وأنا أشفق عليها من آلام الاعتراف:
    ـ دكتورة أحلام.. لعلك متعبة!..
    قالت في توسل حازم:
    ـ أرجوك.. دعني أكمل.. منذ زمن بعيد وأنا أبحث عن إنسان أبوح له بسري.. أريق أمامه ما في صدري.. أتكلم إليه بصدق وصراحة.. فكن هذا الإنسان ، ولو للحظة ، ثم انس ما سمعته مني أو احتفظ به ، لا فرق..
    همست مستسلما:
    ـ تفضلي وأكلمي.. إني أحترم بوحك هذا ، وأصغي إليه..
    أخذت أحلام نفسا عميقا ، ثم أرسلت زفرة ملتهبة ، وقالت:
    ـ عندما حدثت كارثة العمارة المنهارة كنت فتاة صغيرة لا أكترث بمثل هذه الأحداث ، ولا ألقي لها بالا ، وعندما كبرت ونضج وعيي وجدتني أحاول فهم ما حدث..
    روت لي أمي قصة العمارة ، وما انتهت إليه المحاكمات بشأنها ، وحدثتني بما كان من الأستاذ سعيد ، وأقنعتني بأن والدي كان مظلوما في هذه القضية ، وأن الصحفي سعيد الناشف كان مغرضا في اتهاماته له ، وعلمتني أن قدر الناجحين والمشهورين أمثال أبي أن يجدوا في طريقهم الحاسدين والحاقدين والأعداء..
    وبقيت هذه القصة بكل تفاصيلها هاجعة في ذاكرتي ، تستيقظ بين الحين والحين في مناسبات عابرة ، ثم تعود إلى أعماق الذاكرة ، وتغيب فيها كحدث عادي كان ومضى ، ولم يتطرق إليَّ الشك يوما بأن والدي نظيف بريء من كل ما ألصقه به الآخرون من اتهامات ، حتى قامت حرب حزيران ، واكتشفت حقيقة أبي!..
    ستسألني: ما علاقة حرب حزيران باكتشاف حقيقة أبي؟!..
    عندما قامت إسرائيل بعدوانها الغادر علينا عام 1967م ، كان والدي يعقد صفقة مهمة في اليابان ، وكنا نعيش هنا في ذعر ، خوفا من القنابل الإسرائيلية التي كانت الطائرات العدوة تلقيها على الأحياء السكنية بوحشية..
    قلت لأحلام وقد نالت ذكرى الهزيمة من هدوئي ، وأورثتني ألما وحسرة:
    ـ أنت تذكرينني الآن بأيام سوداء ، امتزج فيها الألم بالصدمة والذل والهزيمة..
    تابعت أحلام بنبرة حزينة:
    ـ اتصل بنا والدي أثناء الحرب ليطمئن على أحوالنا ، فتحدثت إليه ، وأخبرته بأن إسرائيل تقصف السكان الآمنين ، وتدمر البيوت فوق ساكنيها ، ولا تميز بين منزل أو مدرسة أو مستشفى.. تريد لو تستأصلنا بقذائفها الحاقدة ، وتمحونا عن الوجود..
    هدأ والدي من روعي ، ونصحنا أن نحتاط جيدا من الغازات الإسرائيلية ، فلا نغادر الملجأ إلا للضرورة القصوى ، وطلب مني أن أفتح خزينته ، وأخرج كل ما فيها من أوراق وأموال ، وأحتفظ بها معي ، وأخفيها عن العيون جيدا ، فقد خاف والدي آنذاك أن تدمر قذائف الأعداء بيتنا ، وتتلف أوراقه الهامة التي تحوي على عقود ، وأوراق ملكية ، وسندات وإيصالات وغير ذلك من الوثائق الهامة إضافة إلى مبلغ كبير كان يحتفظ به والدي في خزنته للطوارئ العاجلة.. ثم ذكر لي الرقم السري الذي اختاره مفتاحا لخزنته ، وحذرني من أن تقع أوراقه في يد مخلوق ، حتى لو كان أمي..
    ونفذت ما طلبه والدي بالحرف ، فجمعت أوراقه ونقوده في حقيبة ، وحفظتها في مكان أمين من الملجأ ، وأخفيت الأمرعن والدتي ، حتى لا أكون سببا في شجار من الشجارات العنيفة التي كانت تندلع بين أمي وأبي حول مصالحهما وأعمالهما المشتركة..
    وعشنا في الملجأ الفسيح الذي بناه أبي تحت منزلنا أياما قاسية.. نخوض في أخبار الحرب ، ونتلقى أنباء الهزائم بألم وذهول كمن يتلقى أنباء مصرع أفراد أسرته واحدا بعد واحد..

    وابتليت بالأرق والسهاد ، فلم أعد أذوق للنوم طعما ، وجثمت الآلام على صدري كجبل من الشوك ، ووجدت نفسي ذات ليلة في حالة عارمة من اليأس والألم والملل والضجر والضيق.. بحثت عمن يبدد وحشتي بحديث أو حوار ، فألفيت الجميع قد ناموا بعد أن أرهقهم السهر الطويل والقلق المرهق.. فتحت المذياع ، فخدشت سمعي أخبار الهزيمة ، واعتصرت فؤادي الأغاني الحماسية التي تتحدث عن الانتصار في لحظات الانهيار ، وتبشر بالمد المتعاظم في عصر الانحسار.. أغلقت المذياع بعصبية وحنق ، ولولا إشفاقي على النائمين ، لقذفت به على الأرض ، وحولته إلى حطام..
    وخطر لي أن أتفقد أوراق والدي ونقوده ، فمضيت إلى المكان الأمين الذي أخفيتها فيه ، ورحت أتسلى بقراءة الأوراق ، مدفوعة بفضول عادي لمعرفة أملاك أبي وحدود ثراءه..
    وسألتني أحلام فجأة:
    ـ هل كان تصرفي خاطئا؟..
    ـ لا أعتقد..
    ـ كان فضولي بريئا من أية نية سيئة..
    ـ أتفهم ذلك تماما..
    ـ ليتني لم أفعل..
    ـ لماذا؟
    أطرقت أحلام وقالت:
    ـ لأني عثرت بين أوراق والدي على شهادة المحاسب التي اتهم الأستاذ سعيد والدي بسرقتها من ملفات الشرطة!..
    وفهمت كل شيء ، أدركت كم كانت صدمة أحلام بحقيقة أبيها قاسية وأليمة ، سألتها بلهجة مترددة:
    ـ وماذا جاء فيها؟
    قالت أحلام ، وقد توهج وجهها بالحياء ، خجلا مما أتاه والدها من آثام:
    ـ اعترف المحاسب في شهادته بأن والدي كان وراء شح المواد الأولية التي رصدت للمشروع ، وأنه طلب من المهندس المنفذ أكثر من مرة ، ألا يسرف في تسليح البناء ، وروى المحاسب أنه سمع والدي يقول للمهندس بالحرف: "أجدادنا كانوا يعيشون في بيوت من الطين ، فلم تسقط عليهم ، لا أدري لماذا يجب أن نحول بيوتنا إلى قلاع؟!".. , أضاف المحاسب في شهادته بأن المهندس صارحه ذات مرة بأنه غير مرتاح للطريقة التي تسير بها الأمور ، لكنه مضطر للاستمرار في العمل حتى يجمع المهر الباهظ ، وثمن الشقة والسيارة التي وضعتها أسرة فتاته شروطا صارمة لا بد منها للرضاء به كزوج لابنتهم المدللة.
    وصمتت أحلام مستسلمة لتيار متدفق من الدمع ، فرجوتها أن تتمالك أعصابها خشية أن يراها أحد على هذه الصورة ، فيفهم الأمر على غير حقيقته..
    ولا حظ العم درويش بكاء أحلام ، فخف إليها بلهفة الأب الحاني ، وهو يحمل كأسا من الماء ، قال العم درويش وهو يميل نحوها برفق:
    ـ خيرا يا ابنتي ، لماذا كل هذه الدموع؟
    جففت أحلام دموعها ، وقالت:
    ـ لا شيء يا عم درويش ، اطمئن..
    ـ كيف أطمئن وأنا أراك دامعة حزينة؟..
    وأشرت للعم درويش أن اترك الأمر لي ، فانصرف بهدوء ، ولم يلبث أن عاد وهو يحمل كأسا من الليمون ، فوضعه أمام أحلام ، ثم مضى في صمت ، وجلس بعيدا يرمقنا في قلق ، قلت لأحلام:
    ـ أرجو أن تملكي دموعك بعد الآن ، نحن في مجتمع يحب الثرثرة ، ويصغي إليها ، ولن يفهم أحد حقيقة دموعك الطاهرة..
    لمست أحلام في كلامي حرصا وحنانا ، فأومأت شاكرة ، وجعلت تلم شتات مشاعرها ، وتستعيد هدوءها ، تماسكت وقالت بعد صمت قصير:
    ـ منذ العام المشؤوم.. عام الهزيمة ، وأنا أحمل هذا السر في صدري.. لشد ما عذبتني الحقيقة.. فقدت احترامي لوالدي.. فقدت إيماني به.. انكسر داخلي كتمثال من الزجاج ، وتحول إلى شظايا حادة ، تمزقني وتدميني من الداخل.. حاولت أن أنسى.. ضميري رفض أن يسكت.. ظل يلسعني بسياط اللوم والتعنيف.. يهتف بي أن أفع شيئا.. أي شيء ، لكني ضعفت.. انهزمت.. عشت أيامي التالية كريشة تائهة.. شعرت بأني غصن مكسور.. أحسست بأني لقيطة.. نعم ، لقيطة.. كلقيطتك التي شغلتنا به منذ أسابيع.. عندما كنت أعالج تلك الطفلة كنت أحسدها لأنها أسعد مني حظا ، فهي لم تعرف أباها ، وقد لا تعرفه أبدا ، أما أنا فأعرف من هو أبي وأعرف ما حقيقته.. كان في نظري ملاكا ثم هوى.. هوى كما تهوي الشهب المضيئة ، وتنطفئ في قاع الأرض..
    وسألت أحلام:
    ـ ألم تفكري بمواجهته بالحقيقة؟
    ـ لم أجرؤ..
    ـ إلى متى ستسكتين؟..
    ـ لا أدري..
    ـ معك حق ، إنه أبوك على كل حال..
    ـ يبدو أن هناك فرقا بين ما يجب أن يكون ، وما يمكن أن يكون..
    ثم تساءلت أحلام:
    ـ لماذا لم يعد الناس يطيقون البراءة؟..
    ابتسمت كالساخر ، وقلت:
    ـ لأنها سيء غير محسوس.. شيء لا يؤكل ولا يشرب ولا يلبس ولا يصرف ولا يوضع في البنك!.. لقد آمن الناس بالمحسوس وكفروا بالمعاني..
    شعورهم بالحياة أمسى حسيا غليظا.. القيم الجميلة لم تعد تبعث الأشواق في نفوسهم.. إنها العودة إلى البدائية الأولى عندما كنت مشاعر الناس بليدة جامدة قاسية كالأدوات الحجرية التي كانوا يستعملونها..
    وأرسل جهاز الإنذار الذي تحمله أحلام عدة إشارات ، فنهضت لتلبي النداء ، قلت لها قبل أن تمضي:د
    ـ اغسلي وجهك قبل أن تذهبي ، فالحزن ما زال عالقا فيه..
    ابتسمت ، ومضت ، وأنا أشيعها بنظرات ملؤها الحب والإكبار..
    هذه هي الفتاة التي تستحق أن يموت من أجلها الرجال ، ويقطعوا في سبيلها مفازات المستحيل!..



    الفصل السابع عشر



    بذرة الحب التي ألقتها أحلام في قلبي بدأت تنفض عنها غبار الحيرة والتردد ، وتشق طريقها إلى النور ، وما فتئت تنمو وتكبر حتى أورقت بالأمل ، وأزهرت بالفرح ، وأفعمت أعماقي بعبق ساحر لذيذ.. بشيء كالنشوة.. كالحلم.. شيء غامض يدغدغ النفس بأشواق مبهمة ، ويمنح الروح رقة وخفة وقدرة على التحليق ، وكأنها طائر رشيق يرفرف بأجنحته في دنيا مسحورة ، كل ما فيها جميل وبهيج..


    أهكذا يفعل الحب؟..


    هذا ما راودني ، وأنا أستيقظ صباح اليوم التالي على طيف أحلام ، وهو يمس روحي مسا لطيفا ، ليوقظها من رقادها ، ويطلقها في عالم من الصفاء الحبور..


    وانبثق في أغواري تفاؤل عارم ، فشعرت برغبة للانطلاق .. للعمل.. للقاء الناس.. للضحك.. للطيران.. دخلت على أمي في المطبخ ، ورحت أساعدها في تحضير الطعام ، ثم حملت الأطباق إلى المائدة في خفة ونشاط ، وجلست مع والدي نتبادل الأحاديث كالأصدقاء.. لكأني أتذوق الحياة للمرة الأولى ، منذ متى لم أشهد اجتماع العائلة حول مائدة الإفطار!..


    قالت أمي وهي تنضم إلى المائدة : لو كنت أعلم أنك ستكون ضيفا علينا هذا الصباح ، لأعددت لك فطورا يليق بك يا دكتوري العزيز..


    وأردف أبي : يا لك من محظوظ.. تعيش في البيت كالضيف المدلل ، ونعامل نحن كمواطنين من الدرجة الثانية..


    ضحكت في زهو كاذب ، وأقبلت على الأكل بشهية عجيبة أثارت دهشة أمي ، ولم يلبث إخوتي أن توافدوا وهم يضحكون ، وانهالوا عليَّ بتعليقاتهم ودعاباتهم..


    ـ انظروا من سيفطر معنا اليوم..


    ـ الدكتور صلاح معنا على مائدة واحدة؟.. غير معقول!..


    ـ لم نرك منذ أسبوع ، فما الذي ذكرك فينا اليوم؟!..


    ـ لا تخاطبوه وهو يأكل ، فقد يغص بالطعام..


    ـ تبدو سعيدا هذا الصباح!.. هل منحك مدير المستشفى مكافأة جديدة؟


    ـ بل قولوا : إنه مفلس ، وقد جاء يتقرب إلى أبيه من أجل بعض النقود.


    ـ أطباء آخر زمن.. تراهم منفوشين كالطاووس ، وجيوبهم فارغة كجيوب الفقراء..


    ـ صدقة لله يا محسنين..


    لم أستسلم لدعاباتهم المفعمة بالود ، فكلت لهم الصاع صاعين ، وأمطرتهم بمزاح ثقيل ، فتعالت الضحكات البريئة الصافية ، وساد جو صاخب أليف مفعم بالبهجة والسرور..


    واقترب موعد دوامي في المستشفى ، فمضيت إلى غرفتي ، واخترت أجمل ملابسي ، فارتديتها ، وأسرفت في التأنق حتى رضيت عن مظهري وهندامي ، ثم أقبلت على أمي وأنا أصفر في مرح ، فقبلت يدها ورجوتها أن تدعوا لي ، فضحكت ، ووضعت كفا على كف ، وعلى شفتيها ابتسامة حائرة ، وسؤال صامت عن سر هذا التصرف المرح الذي قمت به..


    قال والدي وهو يحتسي قهوته : ما هذا الأدب الجم الذي هبط عليك من السماء..


    ردت عليه أمي : بني مؤدب دائما ، أتغار لأنه قبل يد أمه ، أهمل يد أبيه؟..


    قلت له : لا تحزن ، سأقبل يدك أيضا..


    ودنوت لأقبل يده ، فسحبها ، وأخفاها خلف ظهره..


    قال وهو يميل إلى الجد:


    ـ لا أحب أن أرى الرجال وهم يحنون هاماتهم ليقبلوا الأيادي..


    قلت له أحاوره:


    ـ إلا أيادي الآباء..


    ـ ولا حتى أيادي الآباء..


    ـ سأكتفي إذن بالجبين..


    وانحنيت عليه لأقبل منه الجبين ، فمال برأسه إلى الخلف متهربا ، وهو يضحك ، لكني قبلته عنوة ، فارتسمت على شفتيه ابتسامة فيها حياء وامتنان..


    قالت كبرى أخواتي متخابثة وهي ترمقني بنظرات ثاقبة:


    ـ تصرفاتك اليوم عسيرة الفهم!


    عطف أخي الأوسط على كلامها قائلا:


    ـ بل قولي عسيرة الهضم..


    قلت كالمرتاب:


    ـ أيها اللئيمان.. ألا تطيقان أن تريا أخاكما الكبير سعيدا هذا الصباح؟..


    قالت أمي وهي ترنو إليَّ في ود:


    ـ الله يسعد أيامك كلها ، اذهب إلى عملك ولا تلق بالا لدعاباتهم السخيفة..


    قال والدي وهو يتجه إلى أختي بحديثه متظاهرا بالغيظ:


    ـ لكم أكره التحيز.. أمك وأخوك الأكبر دائما متفقان!..


    قالت أختي وهي تحاول الاصطياد في الماء العكر:


    ـ هذا حلف لن يدوم ، غدا تأتي بنت الحلال ، فتخطف صلاح وتجره إلى جانبها ، وتضطر أمي للانحياز إلينا..


    هتفت أمي وهي ترمي أختي بوسادة كانت بجانبها:


    ـ أيتها البومة ، كلامك دائما يقطر بالتشاؤم.. أعاذنا الله من أفكارك السوداء..


    وودعتهم وهم يضحكون ، ثم انطلقت بسيارتي في شوارع المدينة ، وأنا أحس في حياة لم ألمحها من قبل!..



    *************



    وصلت إلى المستشفى ، وأسرعت إلى غرفتي في جناح الأطباء المقيمين ، فارتديت ردائي الأبيض على عجل ، ثم مضيت في حماس ، ورحت أهبط الدرج بخفة ومرح ، وفي أعماقي شوق جارف لرؤية أحلام..


    واستقبلني هاني ببشاشته المعهودة ، وراح يثني عل أناقتي فيما يشبه اللمز ، ويسألني في خبث عن سر اهتمامي الزائد بنفسي!..


    تجاهلت تعليقات هاني ، ورحت أتجول في الممرات والغرف باحثا عن أحلام.. ولكن أين أحلام؟ لقد مضى على بدء الدوام أكثر من نصف ساعة ، ولم تظهر!.. لو أنها حضرت لصادفتها وهي داخلة أو خارجة أو مشغولة بالمرضى والمصابين!..


    وشعرت بانقباض ممض يقرصني من الداخل ، وتحولت نظراتي من التفاؤل إلى القلق.. سألت عنها ، فأخبروني بأنها قد اتصلت بمدير شؤون الموظفين ، وأعلمته بأنها لن تحضر هذا اليوم ، لماذا غابت يا ترى؟ شغلني هذا السؤال برهة وأنا أفكر في أمر غيابها.. هل تشكو من مرض؟ أم شغلتها مناسبة طارئة؟ إنها طبيبة مثابرة وقلما تغيب! لماذا غابت اليوم بالذات؟..


    ولسعني خاطر مزعج أثار حفيظتي ، وبدد هدوئي.. لعلها نادمة لأنها تسرعت بالبوح لي بما يؤرق صدرها من حقائق وأسرار!.. هذا ممكن جدا.. فأحلام الرقيقة المرهفة ، لا تستطيع أن تبدو أمامي ابنة مجرم.. هذا الإحساس لابد أنه يعذبها.. قد يجعلها تندم على اعترافها لي ، ولكن.. أنا لم أجبرها على الاعتراف!.. كان بإمكانها أن تحتفظ بالسر الخطير الذي أطلعتني عليه ، وتدفنه في صدرها ، لكن أعماقها الطاهرة لفظت هذا السر.. لم تستطع أن تخفيه إلى ما لا نهاية ، أرادت أن يحمله معها إنسان آخر ، وكنت أنا هذا الإنسان..


    وتفاقم القلق في أعماقي ، وعصف غياب أحلام بكل الأفراح التي كانت ترفرف داخلي ، فأظلم المستشفى في عيني ولم أعد أطيق البقاء فيه..


    انتبه هاني إلى التغير الذي طرأ عليَّ ، فراح يسألني عن سر اضطرابي ووجومي ، لم يكن هناك ما أجيب به.ز


    قلت له فجأة:


    لن أداوم اليوم ، سأذهب لأوقع إجازة..


    نظر هاني إليَّ في دهشة ، وتساءل:


    ـ لماذا الإجازة؟ منذ قليل حضرت إلى المستشفى بنفس مفتوحة ، وحماس للعمل!..


    رمقت هاني بغضب ، شعرت بأنه قد فهم سر اضطرابي فأراد أن يحرجني بالسؤال ، هتفت بعصبية ظاهرة:


    ـ لا أريد أن أداوم اليوم ، هل هناك مانع؟


    ضحك هاني وقال:


    ـ أنت تتصرف اليوم كطفل ، أحلق شاربي هذا إن لم يكن وراءك سر..


    قلت وأنا أمضي:


    ـ أنت لا تتقن سوى الثرثرة..


    هتف هاني وهو يتحول على الجد:


    ـ صلاح لا تستطيع أن تغيب اليوم ، بعد ثلاث ساعات سينتهي دوام الأطباء الذين يعملون معي ، ولن يبقى في القسم أحد غيري..


    استدرت ووقفت مترددا ، قلت له بعد تفكير قصير:


    ـ ثلاث ساعات تكفي.. سأعود..



    وغادرت المستشفى بغير الوجه الذي جئت به إليه ، تطاردني وحشة خانقة ، أحسست لأول مرة في حياتي أني وحيد ، لا تربطني بهذا العالم سوى فتاة واحدة اسمها أحلام..


    وانطلقت بسيارتي في شوارع المدينة الصاخبة أبحث عن مخرج من هذه الوحدة القاتلة التي راحت تضيق ، وتضيق ، حتى كادت تسحق فؤادي بين جدارنها المظلمة..


    هل حدث كل هذا لأني افتقدت أحلام؟..


    وعادت الهواجس المزعجة تجوس في نفسي ، وتزرعها بالقلق والضيق..


    لماذا غابت أحلام؟.. أتكون حقا نادمة على بوحها لي؟.. مسكينة هذه الفتاة ، كم تعاني!..


    وقفزت إلى ذاكرتي كلمات أحلام الحزينة ، فرحت أسترجعها كلمة كلمة.. "حاولت أن أنسى لكني لم أقدر.. ضميري رفض أن يسكت.. ظل يلسعني بسياط اللوم والتعنيف.. يهتف بي أن أفعل شيئا.. أي شيء.. لكني ضعفت.. انهزمت.. عشت أيامي التالية كريشة تائهة.. شعرت بأني غصن مكسور.. أحسست أني لقيطة!.. نعم لقيطة.. كلقيطتك التي شغلتنا به منذ أسابيع"..


    وتداعت خواطري فحملتني إلى الطفلة اللقيطة التي شغلني لغزها زمنا غير قصير ، وراودتني فكرة زيارة الطفلة فتحمست لها ، واتجهت بسيارتي إلى ملجأ الحنان للأيتام ، لأطمئن عليها..


    وصلت إلى الملجأ ، ومضيت إلى مكتب الإدارة ، فوجدت فيه امرأة كهلة تقوم على إدارته ، رمقتني المديرة من فوق نظارتها المنكسة ، ثم رفعت نظارتها ، وأحكمت وضعها فوق عينيها ، وهمست فيما يشبه السؤال:


    ـ تفضل..


    قلت وأنا أتقدم منها بهدوء:


    ـ الدكتور صلاح الحكيم..


    ـ أهلا بك ، هل من خدمة؟


    تلعثمت فجأة ، ولم أجد الصيغة المناسبة لإبداء رغبتي:


    ـ أريد أن.. في الحقيقة.. جئت في الواقع للسؤال عن طفلة لقيطة حدث أن حولناها لكم منذ أسابيع ، أريد الاطمئنان عليها فقط!..


    سألتني بلهجة حازمة:


    ـ هل أتيت لتطمئن عليها بصفة رسمية؟


    بوغت بالسؤال ، فأجبت:


    ـ لا . أبدا..


    رمقتني بنظرة لا تخلو من الشك ، فضولي ليس من النوع المستساغ!..


    سارعت لتبديد شكوكها..


    ـ كل ما في الأمر أني كنت موجودا عندما أحضروها إلى المستشفى ، وكان لقصتها أثر في نفسي ، فجئت اليوم لأطمئن عليها..


    كلماتي لم ترفع وشاح الشك عن نظراتها.. قالت وهي تشملني بنظرة فاحصة:


    ـ شعور طيب منك يا دكتور أن تسأل عن طفلة بريئة أهملها أبواها.. هل تعرف اسمها؟


    ـ في الحقيقة جئت إلى هنا عفوا دون سابق تخطيط ، لكني إذا راجعت استمارات النزلاء لعرفتها على الفور..


    قالت وهي تطوي ورقة كانت قد انتهت من لتوها من كتابتها:


    ـ لكن استمارات النزلاء سر من أسرار الملجأ ، لا يجوز لأحد الإطلاع عليها..


    قلت في محاولة أخيرة:


    ـ على أية حال هي طفلة معروفة ، إنها الطفلة التي وجدت ملقاة في حديقة مسجد الإخلاص ، وقد أعلن عن اكتشافها في جريدة الأيام ، لابد أنك تذكرينها..


    نظراتها لم تمنحني صك البراءة بعد ، لكنها دخلت معي في هدنة مؤقتة حتى تعرف نهاية فضولي ، ضغطت على زر كهربائي بجانبها ، فانطلق من خارج الغرفة رنين قريب ، ما لبث أن جاء على صوته رجل كهل يعمل مستخدما في الدار..


    ألقت المديرة أوامرها بلهجة صارمة:


    ـ محمود.. دل الدكتور على الطفلة بارعة . إنها في القاعة الثالثة عند الآنسة نورا..


    تساءلت بغير قصد:


    ـ هل سميتموها بارعة؟


    قالت المديرة بنبرة جافة وهي تعود إلى أوراقها:


    ـ لابد لكل إنسان من اسم يعرف به..


    لهجتها لم تعجبني ، شكرتها ببرود ، ومضيت مع العم محمود إلى المكان الذي ذكرته له ، فقادني إلى قاعة فسيحة ، تصطف على جانبيها أسرة الأطفال.


    استقبلتنا الآنسة نورا المشرفة ، شيء ما تحرك داخلي نحو الآنسة نورا!.. وجدت في ملامح وجهها ملامح وتعابير مألوفة أذكر أني رأيتها من قبل!.. ولكن أين؟ لا أدري!.. رحبت بنا الآنسة نورا بابتسامة لطيفة سرعان ما خبت عندما رأتني ، مما عزز عندي شعوري بأننا قد التقينا في مناسبة سابقة!..


    قال العم محمود للآنسة نورا:


    ـ الدكتور يريد الاطلاع على حالة الطفلة بارعة ، المديرة أوصت بذلك..


    تقلصت ملامح الآنسة نورا ، وعاث القلق في عينيها ، وبدت كالتي وخزها مغص أو ألمَّ بها وجع!.. وند عنها تساؤل هامس لم أجد له معنى:


    ـ بارعة؟


    تدخلت موضحا:


    ـ نعم . الطفلة التي جاءتكم من مستشفى ابن النفيس ، لقد كنت أحد الأطباء الذين ساهموا في الإشراف على علاجها ، وقد أحببت أن أطمئن عليها..


    كان استقبال الآنسة نورا لكلماتي غامضا! بدت مستاءة أو مضطربة ، استرجعت كلماتي لأتأكد إن كان فيها ما يسيء ، فلم أجد أني قد تفوهت بكلمة نشاز!..


    قالت الآنسة نورا بنبرة شابها شيء من الارتباك:


    ـ تفضل معي..


    مضيت خلفها وأنا أكابد حيرة مزعجة ، حملت الآنسة نورا الطفلة بارعة برفق ، وقدمتها لي ، تناولت الطفلة ، وجعلت أتأملها بإعجاب.. لقد تحسنت صحتها تحسنا واضحا ، وأشرق وجهها بوسامة فاتنة وجمال باهر.


    رنت الطفلة بعينيها الزرقاوين وكأنها ترنو إلى صديق ، ورفرفت على شفتيها ابتسامة عذبة.. لكأنها تعرف من أنا ، وتدرك مدى اهتمامي بها!.. وانتظمني تيار من الحنان ، فانحنيت على الطفلة وقبلتها ، ثم التفت إلى الآنسة نورا لأشكرها على رعايتها الممتازة لأطفال الملجأ ، فوجدتها ترمقني بعينين دامعتين..


    تعلقت نظراتي بدموع الآنسة نورا.. هذا الوجه ليس غريبا عني ، وهذا الجمال الذي يتوهج بأشعة الحزن له جذور في ذاكرتي! ولكن.. متى كان اللقاء وأين؟.. انتبهت الآنسة نورا لنفسها ، فاستدارت ، ذات اليمين ،وكفكفت دموعها بصمت ، همست مثنيا:


    ـ أنت رقيقة أكثر مما ينبغي يا آنسة.. شيء جيد أن توفر الدار مشرفات يملكن هذا القدر من الحنان ورهافة الحس.


    شكرتني الآنسة نورا بصوت متهدج ، وانفلتت هاربة تخنقها الدموع..


    قلت للعم محمود:


    ـ هل أنا أول إنسان يقبل طفلة في ملجئكم هذا؟!..


    ضحك العم محمود وقال:


    ـ لست الأول ولا الأخير ، لكن الآنسة نورا فتاة رقيقة ، ودمعتها سريعة.. إنها فتاة طيبة تعمل بجد ونشاط ، وتمنح الأطفال رعاية فائقة ، وكأنها أمهم التي أنجبتهم..


    قلت وأنا أعيد الطفلة إلى سريرها:


    ـ هذا الملجأ يقوم بجهد مشكور..


    ثم مضيت بصحبة العم محمود إلى مكتب المديرة ، لأشكرها ، وأودعها..


    طرقت باب المدرية ، ودخلت ، فوجدت الآنسة نورا عندها , شعرت بأن دخولي قد زرع الصمت في أرجاء الغرفة ، وقمع شفاها كانت تتداول حديثا خاصا ما كنت لألحظ أهميته ، لولا الاضطراب الذي طرأ على كلتا المرأتين لدى دخولي المفاجئ!..


    فما إن دخلت حتى تشاغلت المديرة بالكتابة ، وراحت الآنسة نورا تداري ارتباكها بتقليب صفحات مجلة التقطتها فجأة من فوق منضدة قريبة!..


    قلت وأنا أكابد شعورا بالذنب:


    ـ آسف , لقد دخلت دون استئذان ، أرجو أن تعذراني..


    قالت المديرة:


    ـ ليس هناك ما يدعو للاعتذار ، هل اطمأن قلبك على الطفل’؟..


    ـ أريد أن أعبر عن تقديري للعناية الفائقة التي يلقاها الأطفال في هذا الملجأ..


    تبادلت المديرة نظرة مع الآنسة نورا ، ثم قالت:


    ـ الفضل يعود إلى المشرفات القديرات اللواتي يقمن بواجبهن على أتم وجه..


    قلت وأنا أرمق الآنسة نورا باحترام:


    ـ إني أعترف.. من خلال الآنسة نورا على الأقل!..



    0 Not allowed! Not allowed!




    [ame="http://www.youtube.com/watch?v=yxzoplqtmHk&feature=related"]http://www.youtube.com/watch?v=yxzoplqtmHk&feature=related[/ame]

  11. #10
    شعلة متقدة .. وحماس دائم Array الصورة الرمزية صفاء الايمان
    تاريخ التسجيل
    Apr 2009
    الدولة
    ...
    المشاركات
    14,276
    Articles
    0
    Thumbs Up/Down
    Received: 8/0
    Given: 0/0
    معدل تقييم المستوى
    412




    بيانات اخرى

    الجنس :  انثى

    المستوى الأكاديمي :  تعليم ابتدائي

    الجامعة الحالية/التي تخرجت منها ؟ :  الجامعة الأردنية

    الحالة الاجتماعية :  اعزب

    افتراضي رد: البحث عن امرأة مفقودة!..




    الفصل الثامن عشر


    انتهت إجازتي القصيرة ، فعدت إلى المستشفى وقد تخففت من بعض الغم الذي أصابني به غياب أحلام..


    وجدت هاني يتجول بين المرضى ، ويتفقد أحوالهم ، فلما رآني ، أقبل نحوي ، وهو يبتسم في مكر ، قال كالشامت:


    ـ أنا سعيد لأنك لم تحظ بإجازة أطول..


    ابتسمت لدعابته ، وسألته:


    ـ هل هناك حالات جديدة؟


    أجاب وهو يمضي معي في الممر الطويل:


    ـ الأمن مستتب في أرجاء المستشفى ، وعزرائيل في هدنة مع البشر ، في هذه النقطة من العالم على الأقل..


    ـ يا لك من متشائم! ألم تفكر إلا في عزارئيل؟..


    ـ الموت حق يا عزيزي..


    ـ لن تحزر أين كنت منذ قليل!.


    رمقني هاني برهة ثم قال:



    ـ لن تصل إلى المريخ في ثلاث ساعات طبعا ، أين كنت؟


    ـ في دار الحنان للأيتام..


    هتف هاني في دهشة:


    ـ دار الحنان!.. هل تقصد..


    ـ نعم ، كنت في زيارة الطفلة اللقيطة..


    ـ أمازلت تذكرها؟..


    ـ خطرت على بالي فجأة ، فذهبت لزيارتها..


    قال هاني وهو يهز رأسه في حيرة:


    ـ أحيانا لا أستطيع فهم تصرفاتك!.. أتيت هذا الصباح فرحا ، وخرجت غاضبا ، وها أنت تعود لتقول لي بأنك كنت في زيارة الطفلة اللقيطة. وراءك قصة خطيرة يا فتى!.. أتمنى لو أعرفها..


    ثم أردف هامسا ، وهو يميل على أذني:


    ـ لعلك والد الطفلة اللقيطة! اعترف ، فسرك محفوظ..


    لكزته في صدره وقلت:


    ـ كف عن هذرك ، وتكلم بجد..


    تضاحك وقال:


    ـ في الحقيقة أصبحت أشك فيك.. ثمة قاعدة علمية يتبعها المحققون لمعرفة الجاني ، تكاد تنطبق عليك..


    ـ وما هذه القاعدة أيها المحقق الأريب؟


    قال هاني في تردد قبل أن ينفجر ضاحكا:


    ـ المجرم يحوم دائما حول جريمته.


    تهيأت للانقضاض عليه للي ذراعه وإجباره على التوقف عن هرائه ، لكنه أحس بنيتي فلاذ بالهرب ، قال وهو يتراجع أمامي بخطوات حذرة:


    ـ إياك أن تلجأ إلى العنف ، كن ديموقراطيا وتقبل النقد بروح رياضية. زيارتك للطفلة تحمل أكثر من تفسير!.


    ضحكت وسألته:


    ـ لماذا ملت إلى هذا التفسير السيء؟.


    توقف ، وقال ، وقد آنس مني الأمان:


    ـ في زمان كهذا لا ينفع الظن الحسن ، حتى تفهم الناس يجب أن تسيء بهم الظن.


    تنهدت وقلت بنبرة تميل إلى الجد:


    ـ هاني.. لاحظت اليوم في الدار شيئا غريبا لم أستطع تفسيره!.


    توقف هاني فجأة وقال:


    ـ إياك أن تكون قد انشغلت بلغز طفلة جديدة!.


    ـ لا ، لا ليس كذلك.. الموضوع يتعلق بالمشرفة التي تتولى رعاية بارعة.


    ـ بارعة!.. من بارعة؟..


    ـ إنها الطفلة اللقيطة ، سموها بارعة.


    ـ وما بال المشرفة؟.


    ـ لقد اضطربت كثيرا عندما عرفت أني أتيت للاطمئنان على الطفلة ، كان في عينيها قلق مبهم ، شعرت وكأنها تتهرب مني ، كأنها لا تريد أن أراها أو أحادثها..


    سألني متخابثا:


    ـ هال هي جميلة؟


    هتفت مغتاظا:


    ـ كف عن هذرك يا هاني ، لا يستطيع الإنسان أن يبحث معك في أمر!


    ـ أنا لا أمزح ، لعلها كانت جميلة فأربكتها نظراتك..


    ثم قال وهو يغمز بعينه اليمنى ويهز رأسه كالنشوان:


    ـ لابد أنها جميلة ، أراهن على ذلك.


    ـ لا أنكر أنها جميلة ورقيقة ، لكني مؤدب أكثر منك ، ولا أحب محاصرة الفتيات الجميلات بنظراتي مثلك.


    ضحك هاني وقال:


    ـ ما الذي يجعل إنسانه لا تعرفها ولا تعرفك تشعر بالاضطراب لرؤيتك وتتهرب منك؟!..


    ثم أردف وقد ظن أنه أوقع بي بسؤاله:


    ـ أجب دون إبطاء..


    ابتسمت وقلت:


    ـ ليس الأمر هكذا تماما ، افهمني جيدا يا هاني ، أعتقد أن هذه الفتاة تعرفني ، أذكر أنا التقينا من قبل!..


    قال هاني في دعابة:


    ـ مبلغ علمي أنك لا تقابل النساء إلا في هذا المستشفى ، إلا أن تكون قد..


    لم أدع هاني يكمل ، فقد أيقظت كلماته ذاكرتي ، هتفت وأنا أمسك بهاني من كتفيه:


    ـ هاني ، إنها هي.


    تساءل في حيرة:


    ـ من هي؟


    أعتقد أني قد أمسكت بطرف خيط.


    ـ عم تتحدث؟


    قلت وأنا أمضي بخطوات متسارعة:


    ـ إن صدق ظني فهذه الفتاة لها علاقة بالطفلة اللقيطة ، يجب أن أتحقق من ذلك.


    توقف هاني ، وقال حانقا:


    ـ والدوام؟


    ـ لن أتأخر.


    ـ صلاح.. أنت مجنون.


    ـ حتى يثبت العكس.


    أردف هاني بصوت أعلى:


    ـ أنت مجنون.. مجنون..


    لم أحفل بكلمات هاني . كان همي الوحيد أن أصل إلى دار الحنان للأيتام لمعرفة سر الآنسة نورا.. إنها هي بلا شك ، لقد تذكرتها تماما ، هي ذاتها المرأة الشابة التي زارتني في المستشفى بعيد قدوم الطفلة اللقيطة بدقائق, نظارتها يوم ذاك لم ترتفع عن الطفلة ، تزامن وصولها إلى المستشفى مع وصول الطفلة تقريبا ، والجرح البسيط الذي تذرعت به للحضور إلى المستشفى قبل شروق الشمس ، وأنداء الدمع التي كانت ما تزال عالقة بعينيها الحزينتين ، ثم الاضطراب الواضح الذي اعتراها عندما رأتني في دار الأيتام ، والتأثر الذي فاض بها عندما لاحظت حنوّي وإشفاقي على الطفلة.. كل هذه الملاحظات تحيط الآنسة نورا بدائرة قوية من الشك!!.


    وانطلقت بسيارتي أطوي المسافات إلى دار الحنان ، لأضع حد للغز الطفلة اللقيطة ، وأنهى دوامة الفضول الجارف الذي استغرق وقتي وتفكيري ، ثمة سؤال داهمني وأنا في ذروة الاندفاع.. افرض أنها هي ، ماذا ستفعل؟ ماذا ستستفيد من مواجهتها بالحقيقة؟ وإذا أنكرت.. كيف ستدفعها إلى الاعتراف؟ رفعت قدمي عن دعسة البنزين ، وتركت السيارة تتهادى على الطريق ، شعرت فجأة بأني أعبث ، أمارس لونا من المراهقة ، أحشر نفسي في أمور شائكة ليست من شأني..


    وخطرت لي فكرة..


    لماذا لا أتجه إلى الشرطة ، وأضع شكوكي بين يديها ، وأترك لها مسؤولية معالجة هذا الأمر بما تملكه من وسائل وسلطات؟..


    وسرعان ما تهاوت هذه الفكرة أمام مبرر قوي ومقنع.. ماذا لو كانت شكوكي مجرد أوهام؟.. في هذه الحالة سأنسب للآنسة نورا إساءة بالغة تمس سمعتها وكرامتها ، فالشبهة في مجتمعنا أضحت إدانة ، والناس يبحثون عن قصة للثرثرة ، وليس من العدل أن أعرض سمعة هذه الإنسانة للخطر قبل أن أتأكد من حقيقتها ، وترددت طويلا ، وكدت أدور بسيارتي باتجاه العودة ، ولكن طيف الطفلة اللقيطة لمع في خيالي فجأة ، تراءت لي وهي تمد يدها إليَّ في توسل ، والدموع تغرق وجهها الباكي الحزين ، ترجوني أن أنقذها من الشقاء الذي ينتطرها ، تسألني أن أصلها بجذورها المفقودة ، فلا أقسى من أن يتفتح وعي هذه الطفلة البريئة ، لتجد نفسها بلا جذور!..

    واخترت طريقي هذه المرة في حزم..

    الفصل التاسع عشر
    وصلت إلى دار الحنان للأيتام ، واندفعت إلى الداخل بخطوات سريعة ، لأواجه الآنسة نورا بشكوكي ، وأفجر الاعتراف في فمها المغلق..
    صادفت العم محمود في طريقي فنظر إلي في دهشة ، ورحب بي ترحيبا باردا لا يخلو من الدهشة!.. منذ قليل كنت معه ، فماذا عدت؟ سؤال منطقي لا ألومه عليه ، جاملته بتحية سريعة ، وانعطفت إلى ممر جانبي حيث تقع القاعة الثالثة التي تشرف عليها نورا ، دخلت القاعة ، فلم أجدها ، وجدت مشرفة أخرى!..
    أدركت أن الآنسة نورا ما تزال في غرفة المديرة ، الحديث الغامض الذي دفن بالصمت عندما دخلت على المديرة آخر مرة ، أوحى لي بأن المديرة قريبة من نورا ومطلعة على أسرارها..
    طرقت باب المديرة ودخلت ، لا يوجد في الغرفة سوى المديرة!.. حدجتني المديرة بنظرة تفيض بالدهشة والغضب ، سألتها دون مقدمات:
    ـ أين أجد الآنسة نورا؟
    ـ ماذا تريد منها؟
    ـ موضوع خاص..
    قالت بنبرة فيها جد وصرامة:
    ـ دكتور.. أرجو أن تلاحظ بأن هذه مؤسسة رسمية ، والتردد عليها دون مبررات واضحة شيء غير مستحب!.
    صدمتني المديرة بكلماتها ، ووقفت حائرا لكن فضولي دفعني للمغامرة..
    ـ سيدتي إني أتفهم كل ما تقولين ، لكني مصر على مقابلة الآنسة نورا..
    ـ الآنسة نورا مجازة.
    ـ مجازة؟!.. متى تعود؟.
    ـ قد لا تعود..
    ـ لكنك قلت بأنها مجازة!
    ـ هي مجازة لدراسة إمكانية استمرارها في الدار أو عدمه.
    ـ لماذا؟..
    نفذ صبر المديرة ، قالت وهي ترمقني بنظرة قاسية:
    ـ لديها ظروفها.. هل من خدمة أخرى؟..
    غادرت غرفة المديرة مهزوما ، أكابد شعورا مزعجا بالخيبة والإخفاق ، هل أصل إلى طرف الخيط ثم يضيع مني؟.. لا أستطيع التسليم بهذه النتيجة!.. وجدت العم محمود جالسا أمام الباب يتفحصني بنظرة متطفلة تريد أن تفهم سر تصرفاتي..
    "آه.. العم محمود يمكن أن يساعدني"..
    هذا ما خطر لي ، وأنا أتجه نحوه ، قلت له وأنا أقف أمامه كالحائر:
    ـ عم محمود.. أريد أن أقابل الآنسة نورا ، كيف السبيل إلى ذلك؟
    أجاب العم محمود بلهجة صادقة:
    ـ الآنسة نورا غادرت الدار منذ ساعة تقريبا ، بعد خروجك بقليل.
    ـ هل تعرف عنوانها؟
    ـ لا أحد يعرف عنوانها ، إنها مشرفة جديدة ، ولا نعرف الكثير عن حياتها خارج الملجا.
    هذه معلومة جديدة!. إذا كانت نورا حديثة العهد بالدار ، فلماذا تفكر في ترك العمل. هل أكون أنا السبب في خشية نورا من الاستمرار؟..
    أردت أن أكشف بعض الغموض الذي بدأ يزداد ، سألت العم محمود وأنا أجلس بجانبه:
    ـ هل هي قريبة المديرة؟
    ـ لا.. ليست قريبتها.. لكن المديرة تعاملها معاملة خاصة.
    ـ لماذا؟!.
    قال العم محمود وهو يبدي جهله ببواطن الأمور:
    ـ كل ما أعرفه أن الآنسة نورا جاءتنا منذ أسابيع ، وطلبت مني أن أدلها على مكتب المديرة ، ثم دخلت عليها وجلست معها قرابة نصف ساعة ، نادتني المديرة بعدها ، وطلبت مني أن أدل الآنسة نورا على القاعة الثالثة ، لتستلم فيها عملها كمشرفة متطوعة.
    أحسست أن المديرة تخفي أمورا دقيقة ، وتصدني عن بوابة الحقيقة بقسوة..
    ضربت فخذي بكفي ، والغيظ يأكل صدري ، قلت بنبرة قهر:
    ـ مديرتكم هذه قاسية وشديدة!..
    قال العم محمود:
    ـ هي شديدة كما تقول ، لكنها طيبة جدا.. أطيب امرأة شاهدتها في حياتي..
    هتفت حانقا:
    ـ لكنها لا تهضمني.. تضطهدني.. تعاملني بقسوة!.
    ـ أنت مخطئ يا دكتور ، السيدة المديرة تحترمك جدا.
    فاجأني بهذا القول! كيف تسنى للعم محمود أن يلاحظ هذا الاحترام ويستنتجه ، ومعرفتي بمديرته لا يتجاوز عمرها ساعات قليلة؟!..
    ظننت أن العم محمود من النوع الطيب الذي يأخذ على عاتقه تبديد الشكوك بين الناس ، والتقريب بين النماذج المتنافرة ، نظرت إليه في دهشة ، لكنه أمعن في التأكيد ، وقال:
    ـ بعد أن خرجت من هنا قبل ساعة تقريبا ، طلبت مني المديرة أن أحضر فنجاني قهوة ، لها وللآنسة نورا ، وعندما دخلت عليهما بالقهوة ، سمعت المديرة تقول للآنسة نورا:
    "هذا الدكتور إنسان نبيل فعلا ، كيف تخطر له طفلة كبارعة دون أن تمت له بقرابة أو صلة؟."
    تساءلت في دهشة ، وأنا لا أكاد أصدق:
    ـ أهي قالت ذلك حقا يا عم محمود؟!.
    رمقني العم محمود في عتاب ، وقال:
    ـ سامحك الله.. هل تعتقد بأني أخترع كلاما من عقلي؟
    ـ عفوا.. لم أقصد.
    قاطعني وتابع يروي:
    ـ ردت الآنسة نورا على المديرة قائلة: "لأول مرة في حياتي أصدق بأن هناك رجلا طيبا في هذا العالم!".
    تساءلت في حيرة:
    ـ لماذا تظن الآنسة نورا بأني أول رجل طيب تصادفه في حياتها؟!..
    ضحك العم محمود وقال:
    ـ هي هكذا.. تكره الرجال وتحقد عليهم ، ولولا أني في سن والدها لم نجوت من معاملتها الفظة التي تعامل بها الرجال!.
    أطرقت مستسلما لتيار من الفكر ، فانتهز العم محمود فرصة صمتي ، وغاب قليلا ثم عاد يحمل لي فنجانا من القهوة ، قال وهو يصل ما انقطع من حديثه:
    ـ اطمئن يا دكتور.. المديرة طيبة جدا والآنسة نورا طيبة أيضا ، لكنها مسكينة.. لقد قابلت في هذه الدار مشرفات كثيرات ، فلم أجد فيهن من هي أكثر عطفا وحنانا على هؤلاء الأيتام.. إنها بنت رقيقة ، دمعتها غلابة تبكي لأبسط الأمور ـ كما لاحظتها اليوم ـ وهي تقضي وقتها في رعاية الأطفال ، ترعاهم وتهتم بهم وكأنهم أبناء رحمها ، وتحنو عليهم كأم رؤوم..
    معلومات العم محمود قدمت لي أجزاء مهمة من الحقيقة ، ثمة بعض المعالم الضائعة التي تنقصني حتى تكتمل أمامي الصورة ، وتنسجم أجزاؤها المتناثرة ، وحضرني سؤال:
    ـ ألم تلاحظ بأن الآنسة نورا كانت تهتم بطفل أو طفلة دون غيرها من الأطفال؟..
    رفع العم محمود حاجبيه دهشة ، وقال:
    ـ هذا سؤال لم يخطر لي ببال..
    ثم أردف في حيرة وقد لاحت في نظارته بوادر شك:
    ـ ولكن.. لماذا تسأل كل هذه الأسئلة؟
    ـ أسئلتي تجاوزت حدود المعقول. بدأت تثير فضول العم محمود وشكوكه.. شعرت بأن أزمة ثقة توشك أن تنشب بيننا ، بيد أني ارتحت قليلا عندما أدركت أن تفكير العم محمود ذهب باتجاه بعيد..
    قال العم محمود وهو يميل نحوي كمن يناجي صديقه بسر:
    ـ هل في الأمر موضوع خطبة أو زواج؟..
    استفدت من هذا الاتجاه الخاطئ ، الذي فكر به العم محمود ، فقلت وأنا أهم بالنهوض:
    ـ لا أحد يعرف أين يكون النصيب يا عم محمود!.
    انفرجت أسارير العم محمود ، ورفت على شفتيه ابتسامة وادعة ، ثم همس في أذني بنبرة ودودة:
    ـ لقد أحسنت الاختيار ، أنت تستحق كل خير.
    شكرت العم محمود ، وغادرته بسرعة قبل أن يقذفني بسؤال آخر..
    بت الآن أكثر اقتناعا بأن نورا هي والدة الطفلة اللقيطة ، ولكن.. أين نورا؟!..


    الفصل العشرين




    قضيت بقية النهار بنفس عاث فيها الكدر ، وتنازعتها الأسئلة والأفكار ، فتمزقت بين الشوق إلى أحلام التي غابت فجأة دون سبب مفهوم ، والتفكير بنورا المغلقة بالغموض!. وشعرت بحاجة ملحة للوحدة والراحة والاسترخاء ، لكن كثرة الحالات التي وردت إلى قسم الطوارئ لم تسمح لي بوقت هادئ ، وحانت فرصة الأصيل ، فحملت جهاز الإنذار الذي يصلني بالمستشفى ، ومضيت إلى الحديقة ، لألقي بجسدي المتعب فوق صدرها الأخضر الموشى بالأزاهير


    ثمة عصفور زاهي الألوان يلجأ إلى الحديقة مثلي.. يزورها بين الحين والحين.. ينتقل بين أغصانها المتعانقة ، ويعزف ألحانا عذبة تنساب من منقاره الدقيق لتطرب القلوب والأسماع. أين أنت يا عصفوري الجميل؟.. هلم إلي لتثري هذا الأصيل بلحن عذب من ألحانك الرقيقة.. الصمت الثقيل يحول هدوء الحديقة إلى طقس من طقوس الموت.. هلم يا صديقي الطائر ، تعال وغرد ، وبدد بألحانك الجميلة هذا الصمت الذي يكتم الأنفاس!..


    ـ وست وست.. وس وس وس وست..


    ها هو صديقي العصفور قد جاء ، وفي صدره باقة جديدة من الألحان ، جاء في الوقت المناسب وكأن روحه الصغيرة قد أصاخت السمع لاستغاثات روحي ، فاستجابت لندائها الصامت م حديث الأرواح لا تسمه إلا الأرواح الصديقة الودودة..


    تعال أيها العصفور لنعقد صداقة من نوع فريد..


    ـ وست وست..


    هل أفهم من هذه الجملة الموسيقية أنك موافق؟!..


    ـ وست وست..


    موافق إذن ، لكنك ـ للأـسف ـ لن تفهمني!.. ما قيمة الصديق إذا لم يفهم صديقه ، ويستشف ما وراء صدره من آلام وأحلام!؟.. إذا بحت لك أيها العصفور بما يثقل صدري ، لظننتني أغرد مثلك على طريقة البشر؟.. ليت العصافير تتكلم مثلنا.. تحدثنا ونحدثها.. نبثها أحزاننا ، ونشكو لها آلامنا.. نبوح لها بما يؤرقنا.. نبوح بطلاقة وحرية دون أن تثقل بوحنا المخاوف والمحاذير والاعتبارات البشرية المعقدة.. نبوح وكأننا نتحدث مع أنفسنا ونخاطب ذواتنا..


    آه من هذا العالم. نضب منه الأصدقاء ، غاروا كالماء الذي ينسرب في رمل الصحراء ، هل تفهم يا عصفوري معنى أن يبحث إنسان عن صديق له في عالم العصافير؟ لن تفهم.. خير لك أن لا تفهم ، فروحك الصغيرة لن تتحمل الحقائق المرة التي تقذف بها الحياة أرواحنا المتعبة ، لن تطيق ظلم الإنسان لأخيه الإنسان.. روحك الصغيرة أيها العصفور الصغير الوديع سترفض عالمنا المريض الذي سادته الذئاب.. ستنفجر وتتمزق وهي ترى الوجه الآخر لحضارة المادة. ستستعذب الموت على حياة أقفرت من القيم ، وتحجرت فيها المشاعر ، ونعقب فيها الغربان..


    ظن العصفور أني أداعبه بهذه الكلمات ، فدب فيه المرح ، وجعل يقفز من غصن إلى غصن ، وهو يغرد مزهوا بنفسه ، فتركت مسامعي تغتسل بغنائه العذب وبالغت في الاسترخاء..



    ثمة صوت آخر غرد في سمعي فجأة ، فأيقظت همساته الرقيقة قلبي ، وحركت في نفسي أشواقا لذيذة. نهضت واستدرت برأسي نحو مصدر الصوت ، ثم هتف كالملوف الذي العطش:


    ـ أحلام!!.. أهلا بك..


    لهفتي وجدت صداها على الفور ، قالت وهي تداعب بين أناملها الرقيقة وردة حمراء اللون:


    ـ كنت أعرف أني سأجدك هنا.


    سألتها في عتاب رقيق:


    ـ لماذا غبتِ؟.


    ـ لعلك تقصد لماذا أتيت؟


    ـ حقا!.. فهمت أنكِ لن تأتي اليوم.


    اختارت أحلام كرسيا قريبا من الكراسي المتناثرة في أرجاء الحديقة ، فجلست عليه..


    ـ أما لماذا غبت اليوم فلست أدري السبب!.. شعرت هذا الصباح بكآبة ممضة ، ولم أجد في نفسي حماسا للعمل ، فاعتذرت عن الحضور.


    ـ ثم قطعت إجازتكِ فجأة!..


    ـ هذا ما حدث.. حاصرني ملل وضيق ، فأحسست بأن جدران البيت تلفظني ، فلجأت إلى المستشفى لأبدد الفراغ بعمل مفيد.


    قلت وأنا أتربع فوق بساط الحشيش الأخضر:


    ـ لقد كان هذا اليوم صعبا عليَ أيضا.


    ـ قالوا لي : أنك غادرت المستشفى مرتين هذا الصباح ، وأخبروني بأن هاني كان غاضبا جدا.


    ضحكت..


    ـ لقد قسوت عليه فعلا ، اغتصبت من وقت راحته أكثر من ساعتين ، لكني وعدته أن أناوب عنه في مناسبة قادمة.


    سألت أحلام:


    ـ هل وردت اليوم حالات كثيرة..


    ـ كان الصباح هادئا كما أخبرني هاني ، لكن ساعات الظهر كانت حافلة بالعمل.. استقبلنا ثلاث حوادث طرق في أقل من ساعة!.


    قالت وهي ترنو إليّ في إشفاق:


    ـ تبدو متعبا جدا..


    ـ لم يكن معي سوى طبيب واحد كيف لا أتعب؟.


    ـ وعندما هدأت الحركة جئت إلى هنا.. مثل كل مرة!.


    شملت الحديقة بنظرة باسمة ، ولم أنبس ، أردفت أحلام:


    ـ أنت دائما تهرب إلى هنا!. ما الذي يشدك إلى الطبيعة إلى هذا الحد؟


    ـ البحث عن السلام.


    ـ وهل وجدته؟


    ـ وجدت منه قطرات لا تسمن ولا تغني من جوع.


    ابتسمت أحلام ، وطافت بنظراتها في أرجاء الحديقة ، كان العصفور قد ابتعد ، والشمس قد توارت خلف جدار الأفق ، والصمت قد ران من جديد..


    قالت أحلام:


    ـ ألا يزعجك هذا الصمت..


    ـ ثمة عصفور لطيف يتردد إلى الحديقة من حين لآخر ، ويسليني بألحانه العذبة..


    رنت إلي وقالت:


    ـ عصفور واحد لا يكفي.. مهما غرد فستبقى ألحانه حزينة ، تملأ النفس بالشجن ، وتحرك في الأعماق الظمأ إلى صديق أنيس..


    ـ حاولت أن أعقد معه صداقة فلم أفلح!..


    ـ ليست كل الصداقات تغني..


    ـ لو رضي العصفور بمصادقتي ، لوجدت في صداقته ما يغنيني!..


    همست أحلام بنبرة غلت عليها الود:


    ـ هل ضن عليك الناس بصديق حتى ذهبت تطلب أصدقاءك في العصافير؟..


    ـ لذت بالصمت ، هذه هي الحقيقة ، إني أفتقد إلى صديق..


    لم يعجبها صمتي ، قالت بلهجة عاتبة:


    ـ يعني لم تجب!.


    ـ صمتي كان هو الجواب.


    ـ جوابك فيه بعض المبالغة..


    ـ هل تقصدين أني يمكن أن أفوز بالصديق الذي أرجو؟


    قالت وهي تغض طرفها في حياء:


    ـ انظر حولك..


    في كلماتها رسالة واضحة التقطتها بسرعة. ركبني حرج وارتباك. لكني تجاهلت المعنى الذي أرادته أحلام ، وتحايلت عليه بالدعابة ، فأخذت أتلفت حولي متصنعا السذاجة وعدم الإدراك ، فرنت إلي بنظرة باسمة:


    ـ ليس بعينيك يا دكتور..


    ـ بم ينظر الناس إذن؟


    ـ بقلوبهم!.


    ـ لم أقرأ في كتب التشريح أن للقلب عيونا!..


    ـ لأنك لا تقرأ إلا السطور..


    ـ وهل تخفي السطور خلفها غير السطور؟!..


    أجابت وهي تمس وجنتها بوردتها مسا خفيفا:


    ـ خلف السطور كلمات ومعان لا تخفى على لبيب مثلك.


    قلت وأنا أمعن في الهروب:


    ـ ذكائي يخونني في كثير من الأحيان..


    البسمة الوادعة التي كانت تضيء وجهها الجميل أَفَلَتْ فجأة ، وخبت ومضات الفرح التي كانت تشع من عينيها ، لم تتوقع أن أقابل لعبتها الذكية بهذا البرود. صمتت وأطرقت إطراقة المحزون ، وتململت فوق ثغرها ابتسامة باهتة تحتضر. وتشاغلت بتأمل وردتها ، فاحتوتها بنظراتها الحزينة ، وكأنها نظرات محب يودع حبيبه الوداع الأخير.. حزنها أصابني بالغم ، قلت في محاولة لتبديد الأثر السيئ الذي خلفه الحديث السابق:


    ـ هل تذكرين الطفلة اللقيطة؟


    أجابت وهي مطرقة تدق الأرض برأس قدمها:


    ـ ما شأنها؟


    ـ لقد زرتها هذا الصباح.


    ـ رفعت إليّ نظرات متسائلة وهمست:


    ـ ما الذي دعاك لهذا؟


    ـ طافت ذكراها ببالي ، فأحببت أن أطمئن عليها.


    قالت أحلام ، وهي تفسح الطريق لابتسامتها الفاتنة لكي تعود لتضيء أسنانا كاللؤلؤ:


    ـ فضولك يثير الفضول!


    ـ حقا؟!


    ـ كيف هي؟


    ـ بصحة جيدة..


    ـ لابد أنها تلقى رعاية ممتازة..


    ـ كيف لا تلقى رعاية ممتازة ، وهي تنمو في أحضان أمها الحقيقية؟


    حدجتني أحلام بنظرة ملؤها الدهشة:


    ـ هل قلت أمها الحقيقة؟!!.


    ـ أجل.. هذا ما يغلب على ظني..


    ووريت لأحلام قصة الآنسة الغامضة نورا ، وحدثتها بآخر ما توصلت إليه من استنتاجات..


    قالت أحلام ، وقد عادت إليها ابتسامتها الوادعة اللطيفة:


    ـ اهتماماتك يا دكتور تدعو للاحترام..


    ـ هذا ثناء لا أستحقه..


    ـ أبدا. هذه كلمة حق.


    ـ يزعجني أحيانا أن ننظر إلى الواجب على أنه تطوع نبيل..


    ـ في زمن قل فيه حرص الناس على واجباتهم ، يصبح مجرد أداء الواجب إنجازا رائعا يستحق التقدير..


    ـ لا معنى للحياة إذا لم يعشها أحدنا كإنسان..


    تنهدت وأرسلت إلى الأفق رنوة حالمة ، ثم قالت:


    ـ إني أبحث عن ذلك الإنسان!..


    ـ وهل وجدتِه؟!..


    أرسلت زفرة ساخرة ، وقالت في تحسر:


    ـ وجدته. وجدته منذ زمن بعيد ، لكنه يمعن في الهروب مني.. يحاول أن يضلل خطواتي.. أمد له يدي ، فيخفي يديه.. أعترف له بودي ، فيصفعني بجفائه.. لكأنه يرفضني ، ويغلق قلبه في وجه روحي..



    ما الذي يمكن لفتاة عفيفة أن تفعله حتى تعلن حبها دون ابتذال؟.. ماذا تفعل فتاة رفضت كل الناس من أجل فتاها الذي اختارته وأغلقت قلبها على حبه ، ثم لا تجد منه سوى الصد والهروب والتجاهل؟!..



    لقد ضاقت أحلام ذرعا بترددي وهروبي ، وها هي تتهيأ للاقتحام. تحاول أن تدك أسوار الحيرة التي تفصل بيني وبينها. لم أستطع أن أرفع نظراتي إلى عينيها اللتين كانتا تلهبان لوما وعتابا.. ماذا أقول لها؟.. هل أعترف له بالحب الجارف العميق الذي يضطرم في صدري؟.. أم أكتم هذا الحب وأقمعه حتى لا أتورط في شراكة غير متكافئة وزواج يبدو لي أنه محكوم بالموت؟!.. من قال بأن الحب يخضع لحسابات المادة؟.. من الذي زرع هذه الخرافة فينا؟.


    هزت أحلام رأسها في حزن ، وقالت كاليائسة:


    ـ من الحكمة أن يرضى الإنسان ببعض الحقائق المؤلمة ف هذا العالم..


    أثارت كلماتها في نفسي شعورا غريبا فقلقل هدوئي.. شعور من أوشك على فقد عزيز.. وخشيت أن تكون أحلام قد يئست مني ، وفهمت مشاعري على نحو خاطئ ، سارعت إلى تبديد فهمها الخاطئ ، فقلت وأنا أتهرب من نظراتها العاتبة الحزينة:


    ـ أحلام. أنت تستعجلين الأمور.


    لم تكترث بكلامي. سألت فجأة:


    ـ هل قرأت عن خديجة؟


    ـ بنت خويلد؟


    ـ أجل. زوجة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ .


    ـ قرأت.


    ـ ماذا فعلت عندما أحبت محمدا؟


    ـ أرسلت إليه من يخبره بأنها تحبه.


    ـ ماذا لو أقدمت فتاة على فعل هذا الفعل في مجتمعنا اليوم؟


    ـ نحن في عصر مختلف..


    قالت في إصرار:


    ـ نعم. نحن في عصر مختلف ، لكن المرأة والرجل ما زالا هما كما كانا أول مرة. الشفرات الوراثية لا تؤمن بالعصور.. إنها رسالة خالدة منذ الأزل.. رسالة ثابتة تحمل خصائص الأنثى وخصائص الذكر.. الظروف تختلف ، ووسائل الحياة تتبدل ، لكن جوهر الإنسان ثابت لا يتغير..


    إنها محاورة عنيدة تعرف ما تريد!.. هذه المناظرة الفكرية بدأت تفسد جمال الأصيل. لابد أن يصل الحوار إلى نهاية مفيدة ، ولكن.. هل ستنتصر علي بالضربة القاضية ، وتعلن حبها لي في صراحة حاسمة؟.. هل ستتراخى إرادتي وتسمخ للحب الذي يشتعل بين ضلوعي أن يفصح عن نفسه ، ويتحدى كل معادلات العقل الذي يقف حاجزا بيني وبين من أحب؟!.. أيتها الفتاة الرقيقة التي وضعها القدر في دربي.. دعيني أفكر في قراري بهدوء. لا تلجئيني إلى قرارات حظ القلب فيها يفوق حظ العقل..


    وأدركت بأنه لا مفر من المواجهة ، فوجدتني أسألها فجأة بلا مقدمات:


    ـ ماذا عن هاني؟


    فوجئت بسؤالي ، قالت بلا تردد:


    ـ لقد اعتذرت له.


    ـ إنه أقدر على إسعادك.


    ـ لماذا تعتقد ذلك؟


    ـ لأنه أقرب إليك طبقيا.


    تعكرت ملامحها بحمرة الغضب ، قالت بحدة:


    ـ لم أتوقع منك أن تفكر بهذه الطريقة!..


    أربكني العتب الذي أطل من عينيها ، قلت موضحا:


    ـ المادة تلعب دورا حاسما في حياتنا ، شئنا أم أبينا.


    رفعت رأسها في كبرياء وقالت بثقة:


    ـ أنا لا أبحث عن المادة.


    ـ قد لا تبحثين عنها ، لكنك لن تستغني عنها..


    هتفت في إصرار:


    ـ بل أستغني عن كل أموال الدنيا وجواهرها من أجل أن أفوز بإنسان نبيل يفهم الحياة كما أفهمها.. بمعانيها السامية وآفاقها الرحيبة.. الحياة النظيفة الرفيعة التي تليق بإنسان له عقل وقلب وروح.. لا حياة الحيوانات الشاردة في الغابة التي تحركها الغرائز والأطماع. لقد ذقت سعادة المادة فلم أجد لها طعما!. خذ كل ملاييني وأملاكي ، وأعطني كلمة حنان صادقة تشعرني بأن من حولي بشر أسوياء ، وليسوا تماثيل أو آلات مبرمجة تؤدي دورا رتيبا محددا لم يخلق له الإنسان.. نعم.. البشر من حولنا تحولوا اليوم إلى آلات تتحرك وفق برنامج مرسوم.. برنامج كبرامج الكمبيوتر التي يزود بها الإنسان الآلي .. هذا البرنامج يحمل رسالة واحدة.. رسالة تتلخص بكلمتين: اكسب أكثر.. اربح أكثر.. اجمع أكثر.. بأية وسيلة؟.. لا يهم.. على حساب من؟.. لا يهم.. على أشلاء من؟.. لا يهم.. الحياة فرصة فاهتبلها.. احصد الفرص فقد لا تعود.. لا يهم من زرع ، المهم من يحصد في النهاية.. الشاطر من يضحك في الآخر.. هكذا نحن الآن.. حصادات بشرية عمياء.. لا تعرف على ماذا تدوس ، لكنها يجب أن تصل إلى نهاية الشوط وقد جمعت أقصى ما أمكنها من الحصاد..


    كانت أحلام تتحدث بتدفق وحماس.. وكان جوهرها النقي يتوهج بالصدق ويلمع بالبراءة.. شعرت وأنا أستمع إليها بأني أمام ملاك طاهر يحمل رسالة السماء إلى الأرض.. أمام داعية جليل ألقى الدنيا خلف ظهره ، وجاء يبشر بعالم فاضل لا تستعبده المادة.. رنوت إليها بنظرات ولهى تفيض بالوجد ، ورحت أصغي إليها وهي تتابع هدرها العذب.


    كانت تقول وهي في ذروة الانفعال:


    ـ لو كانت الملايين تصنع السعادة ، لكنت أسعد فتاة أنجبها أب ، لكن كل الملايين التي تنتظرني.. كل العقارات والشركات والأملاك التي ستؤول إلي.. كل هذه الثروة العريضة التي يجنيها لي أبي ، لا تساوي عندي كلمة حب خالصة منزهة عن المصالح والرغبات.. ثم صمتت أحلام ، وجعلت ترتعش من فيض التأثر والانفعال ، ولم تلبث أن انفجرت باكية ، فأخفت وجهها الباكي خلف كفيها ، وبقيت كذلك برهة ريثما هدأت ، ثم انزلقت بكفيها ، فأسفرت عن وجه مخضل غسلته الدموع ، وقد أغمضت عينيها إغماضة من ينشد الراحة والخلاص ، وألقت برأسها إلى الخلف ، فبدت كعابدة متبتلة تستغرق في خشوع عميق..


    أدركت أخيرا بأني أسير يحاول عبثا أ ن يهرب من قدره.. عاشق يقمع صوت قلبه بقسوة.. مكابر عنيد يذوب حبا ويأبى أن يعترف.. من يستطيع أن يصمد أما فتاة لها رقة الأنثى وروح الملائكة؟!..


    قالت وهي تستيقظ من إغماضتها الخاشعة:


    ـ أنت تفهمني.. أليس كذلك يا دكتور صلاح؟


    قلت وأنا مستسلم لطغيان حبها الجارف:


    ـ هل تعتقدين أن أباك سيوافق على زواجنا؟


    أشرقت عيناها بنظرة باسمة يتألق فيها الفرح ، فقد أدركت أني لم أخذلها ، فاحمرت حتى حاكت حمرتها الفاتنة لون وردتها الجميلة ، قالت وهي توشح كلماتها بابتسامة وادعة تنطق بالرضى:


    ـ أحقا.. أحقا أنت تبادلني نفس المشاعر؟!..


    أجبتها بابتسامة مطمئنة ، وقلت:


    ـ أريد أن أعرف رأي والدك..


    ـ أنا لا أعرف رأي والدي ، لكني أنا التي سأتزوج وأنا صاحبة القرار..


    ـ الأمور في مجتمعنا لا تجري بهذه البساطة..


    ـ سأمهد للأمر مع أبي..


    ـ وإذا رفض؟


    ـ سأرفض رفضه..


    ـ وإذا رفض؟!..


    رمقتني بطرف عينيها ، وتساءلت:


    ـ هل هذا هو سبب ترددك؟


    ـ أريد أن أعد للأمر عدته..


    دمعت عيناها وقالت مشفقة:


    ـ لابد أن ينتثر الحب في النهاية..


    علقت كالحالم:


    ـ ليت الحب ينتصر في هذا العالم!..


    تساءلت وقد عاثت في عينيها نظرة متوجسة:


    ـ هل يمكن أن يقف أبي في وجه سعادتي؟..


    ـ قد يقاوم اختيارك باسم مصلحتك ومستقبلك!..


    قالت في ضراعة:


    ـ صلاح.. أرجوك.. لا تعكر هذه اللحظات الرائعة بالهواجس المزعجة..


    ـ ما زلت أريد أن أعرف..


    ـ ماذا؟..


    ـ ماذا لو كان رفض أبيك قاطعا؟!..


    اربد وجهها فجأة ، وغشيته كآبة خفيفة ، ولم تلبث أن نهضت ودارت حول كرسي الحديقة الذي كانت تجلس عليه ، وقالت بعد صمت وتفكر ، وقد لمعت عيناها بأنداء من الدمع:


    ـ صلاح.. إذا لم يوافق والدي على زواجي منك ، فلن تجمعني الحياة برجل من بعد..


    ثم استدارت نصف استدارة ، وجعلت تداعب غصنا قد تدلى من إحدى الأشجار ، وكأنها تداري حياء وانفعالا جديدا أججته كلماتها المفعمة بالإخلاص ، وران علينا صمت لذيذ ، وهبت على الحديقة نسمات ربيعية رقيقة ، تهمس لنا بقصيدة لم يلقها شاعر ، ولم يغرد بها عصفور!..






    0 Not allowed! Not allowed!




    [ame="http://www.youtube.com/watch?v=yxzoplqtmHk&feature=related"]http://www.youtube.com/watch?v=yxzoplqtmHk&feature=related[/ame]

  12. #11
    شعلة متقدة .. وحماس دائم Array الصورة الرمزية صفاء الايمان
    تاريخ التسجيل
    Apr 2009
    الدولة
    ...
    المشاركات
    14,276
    Articles
    0
    Thumbs Up/Down
    Received: 8/0
    Given: 0/0
    معدل تقييم المستوى
    412




    بيانات اخرى

    الجنس :  انثى

    المستوى الأكاديمي :  تعليم ابتدائي

    الجامعة الحالية/التي تخرجت منها ؟ :  الجامعة الأردنية

    الحالة الاجتماعية :  اعزب

    افتراضي رد: البحث عن امرأة مفقودة!..




    الفصل الحادي والعشرون




    أخرجت البطاقة التي أعطتني إياها أحلام ، وأعدت قراءة عنوان شركة أبيها.. شركة عبد الغني الذهبي للتجارة العامة ـ شارع البرج ـ عمارة البرج الأزرق. روحت أبحث عن البرج الأزرق الذي يضم مكاتب الشركة بعينين مستطلعتين ، لم أعرف في البداية سبب تسمية هذه العمارة بالبرج لكني عندما وصلت إليها ، أدركت سببا لهذه التسمية!.
    كانت عمارة شاهقة ترتفع كأسطوانة هائلة مثمنة المحيط ، تصل بين أضلاعها الثمانية ألواح كبيرة من زجاج خاص. وكان خيال السماء ينعكس على ألواح الزجاج ، فيشملها بزرقة داكنة ، تعطي المبنى مظهرا بديعا وروعة لا تنكر..
    "لابد أن الذي يستخدم مثل هذا البناء الفخم مقرا لشركته ، يدير أعمالا واسعة تحتاج إلى جيش من الموظفين!.".. هكذا حدثني نفسي وأنا أقرأ اسم الشركة الذي كتب بأحرف برونزية نافرة..
    وقفز إلى ذاكرتي حديث أحلام عن مسؤولية والدها عن حادث انهيار العمارة السكنية ، فدخل في روعي أن هذا البناء العتيد يقوم على أشلاء الضحايا وجماجم الأبرياء الذين ذهبوا ضحية الجشع البغيض ، والأنانية الكريهة..
    أوقفت سيارتي في مكان قريب ، ثم ترجلت منها ، ووقفت أتأكد من سلامة هندامي ، ثم تقدمت من مدخل البرج الأزرق بخطوات بطيئة..
    ثمة شيء كان يجذبني إلى الخلف بقوة ، يعرقل خطواتي ، يزلزل كياني ، يهزني بعنف ، يسألني بلهجة لوامة تنطق بالاتهام : "إلى أين أنت ذاهب؟.. تضع يدك في يد مجرم لتخطب منه ابنته؟.. أأعمال الحب عن حقيقة هذا الرجل؟.. أم هو الطمع وبريق الثروة والغنى والمال؟..".
    تسمرت في مكاني ، وكادت إرادتي تتهاوى ، لكن طيف أحلام شد من أزري ، وعزز ثقتي بما عزمت عليه ، هدرت في أغواري وكأني أحاجج خصما قاسيا يحدجني بنظرات ملؤها الشك والريبة : "بل جئت لأنقذ أحلام من الوحل الذي نبتت فيه.. جئت لأحمي هذه الفتاة الطاهرة الرقيقة من الريح المجنونة التي تحطم الأغصان الخضراء وتعصف بها.. جئت لأحملها إلى عالم الطهر والبراءة الذي تحلم به.. فلتذهب ملايين أبيها إلى الجحيم.. لا أريد منه سوى قلب ابنته النبيل الذي يخفق بمشاعر الإنسان.. لا أبتغي سوى أحلام التي لم تستطع المادة أن تقتل روحها ، وتلوث جوهرها..".
    عاد ذلك الخصم العنيد يمطرني بأسئلته ، وأطلق في أعماقي ضحكة مجلجلة تسخر من كل المبررات التي تدفعني للإقدام على خطبة أحلام.. كدت أضعف ثانية!.. راودتني نفسي على الانسحاب ، لكن كلمات أحلام اندلعت في ذاكرتي فجأة ، ووضعت حدا لهذا التردد الذي اعتراني.. "صلاح إذا لم يوافق أبي على زواجي منك ، فلن تجمعني الحياة برجل من بعدك..".
    ملأتني كلماتها بشحنة جديدة من الثقة والحماس ، تخيلت نفسي فارسا عنيدا جاء ينقذ فتاة من الأسر ، وكدت أهتف كما في الحكايات "لبيك يا أميرتي.. ها أنا قد جئت على صهوة جوادي لأقتحم هذه الأسوار ، وأحملك معي إلى دنيانا الجديدة..". لكن رجلا كان قد خرج لتوه من الشركة ، صدمني فجأة ، فانتشلني من أوهام الخيال ، وأعادني إلى دائرة الوعي ، ثم ما لبث أن اعتذر قائلا وهو يعض على فوهة غليونه بأسنانه البيضاء: "سري.. آسف"!.
    ابتسمت لهذا الاعتذار المشفوع بالترجمة العربية ، وتقدمت من الباب ، فانفتح بشكل آلي. حكاية علي بابا لم تكن خرافة إذن!!.. كانت تنبؤ ذكيا بالمستقبل! هاهو الباب يفتح لي حتى دون أن أهمس له بكلمة السر ، انفتح دون أن أقول له : "افتح يا سمسم".
    اتجهت إلى مكتب الاستعلامات ، فوجدت فيه موظفا وسيما يرتدي بذلة أنيقة جعلتني أشعر بالخيبة.. متى يفرغ الناس لشراء هذه الملابس المسرفة في الأناقة؟ وأين يجدونها؟ لعلهم يستوردونها خصيصا.. ما علينا.. بذلتي أنيقة أيضا.. لا تشكو من شيء ، لكني أعترف بأنها أقل أناقة من بذلة موظف الاستعلامات! قلت في نفسي: "لعل مهمة موظف الاستعلامات تستدعي هذا المظهر المسرف في الأناقة لأنه أول من يستقبل العملاء والزوار الذين يقصدون الشركة".
    سألته عن مكتب السيد عبد الغني الذهبي صاحب الشركة ، فأجابني بلسان إنكليزي مبين : "نمبر سفن".. ما بال الناس يستثقلون استعمال لغتهم العريقة التي تتربع على عرش اللغات!.. شكرت الموظف بإيمائة مجاملة ، ومضيت إلى المصعد ، فانتظرت هبوطه حتى يحملني إلى الطابق السابع لأقبل السلطان ، وأسأله يد أميرتي الأسيرة.. ولكن.. لماذا اختار والد أحلام الشركة مكانا للقائنا؟.. هذه المناسبات ـ فيما أعلم ـ لا تناقش في أماكن العمل.. تراه هل سيوافق على زواجنا؟ أم أنه.. آه.. لعله اشترط أن يلقاني في الشركة ، ليصارحني يرفضه.. وشعرت برجة عنيفة بين الضلوع.. أتضيع مني أحلام بعد أن أودعت كل آمالي على أعتاب قلبها الكبير؟!.. ورحت أرمق اللوحة الرقمية التي تعلو بوابة المصعد بغيظ. كانت الأرقام تمضي في عدها التنازلي ببطء شديد. 6، 5، 4 ... ها هو المصعد يتوقف عند الطابق الرابع.. أسرعوا أيها الركاب ، فها هنا قلب يتمزق بين الهواجس والآمال.. ارحموا هذا القلب الولهان الذي يتطلع إلى مصيره بقلق ، لم يستجب المصعد لتوسلاتي ، قفز إلى الطابق السابق فجأة ، في حركة غادرة ، لبث في السابع قليلا ثم عاد يهبط ببطء مثير... 7، 6، 5، 4، 3، 2 ..... آه ها قد وصل. أسرعت إليه ، فانطلق بي على مهل. كانت مرآة المصعد وسيلة مفيدة للتأكد من سلامة هندامي. كل شيء على ما يرام ، عريس بدرجة مقبولة. هذا قصارى ما كنت أحلم به.. ثمة راكب اعترض مسيرة المصعد في الطابق الخامس.. أهلا وسهلا.. تابع المصعد طريقه إلى الطابق السابع ، فلفظني هناك ، ثم أغلق بابه خلفي وعاد يتابع رحلته المكوكية التي لا تنتهي..
    اقتربت من مكتب السيد عبد الغني بخطوات بطيئة يثقلها قدر من الحياء ، ومقدار من الرهبة والتردد ، استقبلتني فتاة جميلة ، أنيقة الملبس ، فاتنة البسمة ، سألتني وهي تقضم قطعة بسكويت وتغيبها خلف شفتيها الغارقتين في حمرة كفثية:
    ـ هل من خدمة؟
    ـ أنا الدكتور صلاح الحكيم.. أريد مقابلة الأستاذ عبد الغني..
    هتفت السكرتيرة بلهجة مرحبة أحسست أن فيها قدرا كبيرا من المبالغة:
    ـ أنت؟!.. أهلا.. أهلا وسهلا.. تفضل بالجلوس..
    جلست وأنا مندهش من هذا الترحيب الذي يشي بإطلاعها على دقائق الأمور ، قالت:
    ـ أنت دقيق في مواعيدك كما وصفك لي السيد عبد الغني..
    سررت لأن صورتي في ذهن والد أحلام صورة مشرقة ، لابد أن أحلام هي التي أوحت له بها..
    شعرت بشيء من الارتياح وجلست أنتظر..
    غابت السكرتيرة قليلا ، ثم عادت تحمل فنجانا من الشاي ، وانحنت لتقدمه لي.. تناولت الفنجان وشكرتها ، وأنا أغض الطرف عن صدرها الذي بدا من تحت سترتها الواسعة عاريا صارخا الفتنة. لم تعد ملابس اليوم كافية لستر مفاتن المرأة!.. يبدو أن عباقرة الموضة يقتصدون في استعمال القماش ، ليوفروا منه بعض ما يلزم لتمدين العراة في مجاهل أفريقية!.. صبرت على ما رأيت ، وقمعت شحنة الإثارة التي سرت في جسدي إزاء هذا المنظر ، ورحت أحتسي الشاي في صمت ، وأنا مشغول البال باللقاء المرتقب..
    قالت مضيفتي وهي تلف رجلا شبه عارية على رجل:
    ـ لقد حدثني عنك السيد عبد الغني قبل قليل عن موعده معك ، وطلب مني أن أخبرك بأنه مشغول مع بعض الخبراء الأجانب وأنه مضطر لتأخير موعده معك حوالي نصف الساعة..
    أزعجني تأخير الموعد ، لكني عذرت الرجل ، فرجال الأعمال معرضون لمثل هذه الاجتماعات الطارئة!.
    كانت نظرات السكرتيرة الفاتنة تقتحمني بجرأة وقحة ، مما جعلني أشعر بالارتباك ، لكني تشاغلت عنها بتأمل لوحة جميلة معلقة على الحائط المغلف بورق الجدران النفيس ، ابتدرتني السكرتيرة قائلة:
    ـ أنت طبيب طبعا..
    ـ هذا صحيح.
    ـ تعمل في نفس المستشفى الذي تعمل فيه أحلام.
    ـ كيف عرفتِ؟
    ـ السيد عبد الغني لا يخفي عني أمرا.. أنا سكرتيرته وأمينة أسراره.
    ابتسمت ولم أنبس.. هذه الآنسة أو السيدة ـ لا أدري ـ تحب الثرثرة ، ولا أريد أن أخوض معها في حديث لا طائل وراءه ، فأنا بحاجة إلى بعض الهدوء والتركيز في هذه المناسبة الحاسمة في حياتي.
    لكنها تابعت تقول:
    ـ قلت لي طبيب إذن..
    ـ لعلك تشكين بذلك!.
    ضحكت في دلال ، وقالت:
    ـ لا ، لا ، أبدا.. لكني أريد أن أستشيرك في أمر طبي.
    قلت مجاملا:
    ـ أنا في خدمتك.
    قالت وهي تتظاهر بالقلق:
    ـ في الحقيقة يا دكتور.. أشعر أحيانا بآلام شديدة في الخاصرة اليمنى.. آلام شديدة لا تطاق ، تداهمني فجأة دون سابق إنذار.
    ـ لماذا لم تراجعي طبيبا؟
    ـ الحقيقة أني مشغولة.. مشغولة جدا.. السيد عبد الغني يملأ وقتي بالأعمال المرهقة.
    قلت وأنا أستغرب هذا الإخلاص الزائد والمبالغة المختلقة:
    ـ مع ذلك لن تعدمي ساعة في الأسبوع تذهبين فيها إلى الطبيب!..
    ـ ما حاجتي إلى الطبيب وأنت هنا؟
    نظرت إليها في دهشة:
    ـ ماذا تقصدين؟
    ـ أقصد أن تسدي لي خدمة كبيرة لو فحصت لي موضع الألم الآن ، وشخصت لي الداء في هذا الوقت الضائع ، ريثما يتفرغ السيد عبد الغني لك.
    الأمور تسير بطريقة ملتوية ، هذا النوع من النسوة المراوغات ليس غريبا عن طبيب مثلي. لقد صادفت من أمثالها الكثيرات ، ولكن ، كيف أتخلص من هذه في هذا الوقت الحرج؟!. واسترقت إلى الساعة المعلقة في صدر الغرفة نظرة خاطفة لأرى إن كان الوقت يساعدني على التخلص منها ، لكنها ضبطت نظرتي تلك ، فالتفتت إلى الساعة في خبث وقالت وقد ارتسمت على شفتيها ابتسامة ماكرة:
    ـ اطمئن يا دكتور ، نصف ساعة في عرف مديري قد تعني ساعة أو أكثر ، لكنه مهما تأخر في مواعيده فإنه يفي بها أخيرا.. هه ماذا قلت؟
    ـ في ماذا؟
    أدركت بذكائها أني أتجاهل طلبها ، فما لبثت أن صرخت متظاهرة بالألم:
    ـ آه.. ها هي نوبة الألم تعاودني.. آي.. يا لها من آلام فظيعة!
    تساءلت في سري إن كان هذا تمثيلا متقنا أم حقيقة صادقة ، ضعت بين الشك واليقين ، واستنفر في أعماقي الطبيب الذي أقسم اليمني الطبي المغلظ ، فوضعت فنجان الشاي ، واقتربت منها لأقدم لها بعض العون ، فازدادت صرخاتها حدة وقالت:
    ـ أرجوك يا دكتور.. ساعدني.. من حسن حظي أنك هنا.
    سألتها أن تصف لي الألم الذي تشعر به ، فقالت:
    ـ إنه ألم شديد يبدأ من خاصرتي اليمنى ، ثم ينتشر إلى صدري وظهري ، فيضيق نفسي ، وأشعر بورم كبير ينمو في المنطقة التي يبدأ منها الألم.
    تساءلت في حيرة:
    ـ ورم!!.
    ـ أجل.. ورم كبير.. أخشى أني مصابة بالسرطان!..
    ابتسمت رغما عني:
    ـ لا تتوهمي كثيرا.. الأمر أبسط مما تتصوري.
    همست في ضراعة:
    ـ أرجوك يا دكتور.. بإمكانك أن تساعدني.. أليس كذلك؟
    شعرت بالحيرة والحرج ، قلت وأنا أنظر حولي:
    ـ المشكلة أن هذا المكان عام.. كيف يمكن أن أساعدك؟
    هتفت وهي تشير إلى أحد الأبواب:
    ـ هنا توجد غرفة للاجتماعات ، وهي فارغة الآن.. تستطيع أن تعالجني فيها.
    قلت في تردد:
    ـ لكن السيد عبد الغني.. أليس مجتمعا مع ضيوفه فيها؟
    قالت في ثقة:
    ـ لا ، لا.. في غرفة مكتبه ، أرجوك.. لم أعد أستطيع الاحتمال.
    لم تترك لي فرصة للتفكير ، سحبتني من يدي وأدخلتني إلى الغرفة ، ثم ألقت نفسها على إحدى الكنبات ، وهي تتلوى من الألم.. هدأت من روعها ، وطلبت منها أن ترفع طرف سترتها لأتبين موضع الألم ، ففعلت ، وما كدت أنحني لأفحص منطقة الشكوى حتى طوقتني بذراعيها بقوة ، وقبلتني!..
    تملصت من بين يديها ، وبصقت عليها في احتقار.
    قلت لها ، وأنا في ذروة الغضب:
    ـ أنت أقذر امرأة صادفتها في حياتي.
    أطلقت ضحكة معربدة ، وقالت وهي تصلح من شأنها:
    ـ يبدو أنك ما زلت عذراء!..
    هتفت في ثورة:
    ـ كيف تجرئين على هذه التصرفات الداعرة في مكان كهذا؟
    قالت مستهزئة وهي تلدغ بحرف الراء:
    ـ ألم أقل لك يا عزيزي بأنك ما زلت عذراء؟
    ثم أطلقت ضحكة مجلجلة ، وخرجت غير عابثة بثورتي وغضبي ، وتركتني فريسة للذهول..
    من أين جاءتني هذه العاهرة؟.. وكيف تجرأت علي في هذه اللحظات الحرجة ، وهي تعلم المناسبة التي جئت من أجلها؟!.. وتلفت حولي في قلق خشية أن يكون أحدهم قد رآني ، وفهم موقفي على غير حقيقته ، ماذا لو أن والد أحلام قد رآني معها ، وأنا الذي جئت لأخطب ابنته؟
    وخطر لي أن أغادر المكان بلا رجعة ، لكني خشيت أن يفسر انسحابي تفسيرا خاطئا ، وأن يشوه صورتي أمام والد أحلام الذي حدد الموعد للقائي ، لم يكن أمامي خيار ، خرجت إلى غرفة الانتظار ، وجلست ، لم تكن السكرتيرة في الخارج كما توقعت!.. شعرت بشيء من الارتياح لأن منظرها كان سيثير غضبي ويوتر أعصابي ، وقد يدفعني إلى تصرف عنيف لا يناسب المكان الذي أنا فيه ، ولا يخدم الغرض الذي جئت من أجله.
    كظمت غيظي ، وأنا أغالب بركانا من الغضب ، وجعل العرق يتحدر من جبهتي بغزارة ، فرحت أجففه بمنديل ورقي.. لا يوجد في الدنيا أكثر حرجا من الموقف الذي وضعتني فيه هذه المرأة الفاسدة!..
    بعد دقائق قليلة فتح باب السيد عبد الغني ، فخرجت منه السكرتيرة بصحبة رجل يعلق على كتفه آلة تصوير ، رمقتني السكرتيرة بطرف عينها اليمنى في مكر ، وكأنها تهزأ بي ، فحدجتها بنظرة متقززة ، وأنا أصر على أسناني من شدة الغيظ ، فأشاحت بوجهها عني بغير اكتراث ، والتقطت حقيبتها الجلدية من فوق مكتبها بحركة خاطفة ، وألقتها خلف ظهرها ، وقد علقت طرف حمالتها بسبابتها ومضت وهي تتمايل في مشيتها..



    وفاجأني صوت ينبعث من باب المدير:
    ـ لا تتأخر عليَّ بالصور..
    التفت إلى مصدر الصوت.. رأيت كهلا أنيقا يقف لدى الباب.. رد عليه الرجل الذي يحمل آلة التصوير:
    ـ اطمئن.. ستكون جاهزة في غضون ساعتين.
    ـ أريد لقطة مقنعة.
    هز الرجل رأسه في ثقة ، ومضى خلف السكرتيرة التي كانت قد توقفت قليلا تتابع الحديث.
    من هذا الرجل الذي يقف عند باب المدير؟ أيكون هو والد أحلام؟..
    ولم يلبث أن أشار إليَّ كالمتسائل:
    ـ أنت الـ....
    وقفت باحترام ، وقاطعته معرفا بنفسي:
    ـ الدكتور صلاح الحكيم..
    ـ أهلا وسهلا.. تفضل..
    تقدمت خلفه ، فوجدت نفسي أدلف إلى مكتب واسع ، يزدان بأثاثه النفيس الذي لا أذكر أني صادفت مثله من قبل!..

    كان المكتب هادئا خاليا من الزوار ، أثبت لي أن السكرتيرة اللعوب كانت تكذب علي ، عندما أخبرتني بأن السيد عبد الغني مشغول مع خبراء أجانب!..
    وأيقنت أن الشخص الذي يتقدم أمامي هو والد أحلام ، لماذا كذبت علي السكرتيرة؟ كان بإمكانها أن تخبرني بأن السيد عبد الغني مشغول مع المصور أو الصحفي الذي خرج قبل قليل!.. أيمكن أن يكون الخبراء الأجانب قد خرجوا من باب آخر؟ جلت بنظراتي في أرجاء المكان لأرى إن كان للمكتب باب آخر ، لم أجد ما يدل على ذلك ، لكني لاحظت شيئا مثيرا.. لاحظت أن جدارا من الستائر المخملية الزرقاء السميكة يفصل بين غرفة المدير ، وغرفة الاجتماعات التي جرت فيها الحادثة السخيفة قبل قليل!..
    خشيت أن تكون هذه الستائر الزرقاء هي الفاصل الوحيد بين الغرفتين ، فقلقل هذا الاحتمال كياني.. إذا كان والد أحلام قد سمع أو رأى ما حدث ، فأنا في موقف لا أحسد عليه!.. توقف السيد عبد الغني أمام مكتبه الأنيق المصنوع من الخشب النبيل ، ثم دعني للجلوس على كرسي جلدي وثير..
    فك السيد عبد الغني زر سترته الأنيقة ، وجلس قبالتي على كرسي مماثل.. ثم ابتسم ابتسامة مرحبة امتصت بعض القلق والتوتر الذي يملأني.. قال السيد عبد الغني بلهجة مرحة:
    ـ أهلا.. أهلا بالدكتور العظيم ، أحلام حدثتني عن شخصيتك الفريدة كثيرا.. أخلاقك بالذات كانت مثار إعجابنا جميعا..
    ثم استدرك وهو يبسط يده موضحا:
    ـ من خلال حديث أحلام طبعا..
    أزاحت هذه المقدمة المشجعة كل القلق الذي يجثم على صدري ، فابتسمت ممتنا لهذا الإطراء ، وهمست:
    ـ أشكركم على هذه الثقة..
    لكن القلق عاودني ، عندما وقعت عيناي على الستائر الزرقاء! هل يعقل أن تكون هذه الستائر قد أخفت ما حدث في الغرفة المجاورة عن انتباه السيد عبد الغني؟ وراودني خاطر مريح ، لعل هذه الستائر تخفي خلفها حائطا من الإسمنت ، أو حاجزا من الزجاج!.. تنهد السيد عبد الغني وقال وهو يضرب فخذه براحته كمن يشكو من أمر:
    ـ أحلام فتاة طيبة القلب ، وتتأثر كثيرا بالآخرين.
    لم أفهم قصده بالضبط!.. قلت مجاملا:
    ـ ربيت يا سيدي ، فأحسنت التربية..
    شردت فجأة ، وأنا أردد هذه العبارة.. تذكرت أن هذا الرجل الذي أجامله وألاطفه ، وهو نفسه الرجل الذي كان سببا في سقوط عمارة كاملة فوق رؤوس ساكنيها!.. من يصدق؟.. من يحزر أن وراء هذه البسمة الوادعة والأناقة المسرفة ، ذئب يخفي مخالبه تحت قفاز من الجلد البشري؟!.. وعزاني أني جئت لأنتزع أحلام الطاهرة البريئة من بين براثنه ، لأنسج معها الحياة الفاضلة التي نهفو إليها معا ، ضحك والد أحلام وقد لحظ صمتي وشرودي ، وقال مداعبا:
    ـ تشجع يا دكتور.. هل نسيت ما جئت من أجله!
    ابتسمت وقلت وأنا أداري ارتباكا:
    ـ أنت تعرف لماذا جئت؟.. أحب أن أسمع رأيك الصريح.
    ـ أنت تحب الصراحة إذن.
    ـ الصراحة أوضح طريق.
    ـ لكن الصراحة تكون أحيانا قاسية!..
    تفاؤلي ضوى قليلا ، ماذا يعني بهذه الملاحظة؟.. لم أنبس.. أردته أن يقول ما عنده بجلاء.. تناول من فوق مكتبه علبة أنيقة ، وفتحها ، فانطلقت منها ألحان لطيفة.. قال وهو يقدم العلبة لي:
    ـ سيكارة؟
    ـ لا أدخن.
    ـ كما توقعت.
    تناول سيكارة ، ثم أعاد العلبة إلى مكانها ، قال وهو يبحث عن الولاعة في جيب سترته:
    ـ لا أذكر أني التقيت برجل لا يدخن!
    ـ لعلك لم تنتبه لهذا الأمر من قبل!
    ـ معك حق.
    أشعل السيد عبد الغني السيكارة بلهب قداحته الذهبية ، ثم امتص نفسا عميقا منها وتابع يقول:
    ـ أنت تلفت نظري الآن إلى شيء مهم.. ثمة أشياء كثيرة لا ألقي له بالا!..
    ـ رجال الإعمال عادة لا يهتمون بالأمور الصغيرة..
    ـ لا أكتمك.. عالم الأعمال عالم غريب!.. يلتهم الوقت كما تلتهم النار الهشيم.. لكنه عالم لذيذ.. عالم ممتع.. فيه النجاح والربح والثراء.. فيه الكفاية والقوة والنفوذ.. بالمال تستطيع أن تشتري كل شيء.. حتى السعادة..
    قاطعته برفق وقلت مع شيء من الابتسام:
    ـ ليس دائما..
    حدجني بنظرة جافة لا تريح ، لكنه سرعان ما انتبه لنفسه ، فابتسم وقال:
    ـ المهم.. ماذا كنا نقول؟ أنا أرب أحلام.. أحلام نبتت في هذا العالم وحدها ، كما تنمو الوردة في البراري الخضراء. وفرت لها كل شيء ، ثم تركتها تترعرع بحري’ ، حتى أمها ـ مدامتي ـ لم تضغط عليها تركتها تنمو وحدها بحرية ، أنا أؤمن بالحرية ، ومدامتي أيضا ، وظفنا لها عدة خادمات يعنين بها ، وتركناها تعتمد على نفسها ، كان واجب مدامتي أن تراقب نموها ، لأني مشغول ـ كما ترى ـ بأعمالي الواسعة ، لكن المدام ـ الله يسامحها ـ لم تراقب تطور شخصيتها كما يجب ، وهذا أكبر خطأ ارتكبته في حياتها..
    ظنتت أنه سيحدثني عن الحنان الذي حرمت منه ابنته المدللة ، والصقيع الذي عاشته في أعماقها ، بعيدا عن دفء الأبوة والأمومة ، لكنه فاجأني بتحليل غريب لم يخطر لي على بال.. قال بلهجة المحلل الخطير:
    ـ هذا الخطأ قتل الطموح في نفس أحلام ، جعلها تتأثر بخادماتها البسيطات.. أصبحت تهوى حياة الفقراء والبسطاء.. لم تتذوق السعادة التي نشأت في أحضانها ، ولم تحفل بها.. صارت تنظر إلى العالم بمنظار أسود.. تبحث عن سعادة رومانسية كاذبة كالتي تقرأ عنها في الروايات ، وتسمع عنها في الأفلام ، يؤسفني أن ابنتي فقدت قدرتها على الطموح ، إنها دائما مشدودة إلى تحت ، لا أدري كيف أنقذها من هذه الأفكار!..
    آه.. لقد بدأت التلميحات المؤذية!.. إلى أين تريد أن تصل أيها الرجل الأنيق؟.. شعرت أن من واجبي أن أدفع عن أحلام ، وأصوب نظرته إليها ، قلت متضاحكا:
    ـ أختلف معك في أن الدكتورة فتاة بلا طموح ، فما أعجبني فيها حقا أنها فتاة طموحة تبحث عن صورة تتكامل فيها لذة المادة مع سعادة الروح ونظافة الوجدان..
    وأردفت:
    ـ يبدو لي أنك تبالغ قليلا في الحكم على أحلام؟
    سدد إلي نظرة غامضة ثم قال:
    ـ أنت تحب أحلام.. أليس كذلك؟
    أحرجني هذا السؤال ، في مجتمعنا ـ فيما أعلم ـ ليس من المألوف أن يستعمل الخاطب مصطلح الحب في حضرة ولي أمر المخطوبة! قلت وأنا أحاول اختبار الكلمات المناسبة:
    ـ لقد وجدت في أحلام فتاة مؤدبة ، ذكية ، حساسة ،طيبة ، يحلم كل شاب بأن يقترن بمثلها ، فضلا عن أنها طبيبة مثلي ، ويمكن لكل واحد منا أن يتفهم ظروف الآخر بسهولة ، باختصار شديد أنا أرتاح إليها جدا ، وأطمح أن تكون لي شريكة في هذه الحياة.
    نهض وقال بنبرة حاسمة:
    ـ يعني تحبها.
    صمت إعلانا للرضى.. هز رأسه كاليائس ، ثم دار حول مكتبه بخطوات متثاقلة ، وجلس خلفه.. وقال وهو ينقر حافة مكتبه برأس سبابته:
    ـ من يحب فتاة يا دكتور يجب أن يسعدها.
    ـ ما في ذلك من شك!.
    ـ هل تملك أسباب السعادة التي تحتاجها فتاة كأحلام؟
    ـ أملك أسباب السعادة التي تحتاجها أية فتاة.
    ـ أحلام ليست أية فتاة.
    أدركت ما يرمي إليه ، قلت:
    ـ لا أنكر أن لأحلام وضعا خاصا لا تتمتع به أية فتاة ، لكننا متفقان ـ أنا وهي ـ على الأساسيات التي تكفل لنا السعادة التي نرجوها.
    سألني بغتة:
    ـ هل تستطيع أن تشتري لها سيارة فخمة ، كالتي تركبها الآن؟
    فاجأني السؤال.. أجبت وأنال محرج:
    ـ في الحقيقة أملك سيارة متواضعة نستطيع أن نستخدمها ريثما تتحسن أوضاعنا.
    قذفني بسؤال آخر:
    ـ هل تستطيع أن تشتري لها "فيلا" كالتي تقيم فيها الآن؟
    لذت بالسكوت.. هذه لا أستطيعها.. لا الآن ولا غدا.. لكنه لم يرحم سكوتي فرماني بسؤال آخر:
    ـ هل تستطيع أن تقيم لها حفل زفاف يليق بها وبأقربائها ومعارف أبيها ، معارفي أنا ، أنا لا أستطيع أن أزف ابنتي الوحيدة إلى بيت الزوجية في عرس صامت كالمأتم.. لابد أن أقيم لها الأفراح وادعوا الوزراء والكبراء ورجال الأعمال.
    بدأت أشعر بالهوة السحيقة التي تفصل بيني وبين أحلام.. هذا ما حذرني منه والدي منذ البداية.. وهذا ما كان يجعلني أتردد في التفاعل مع مبادرات أحلام.. ها هو أبوها يصفعني بهذه الحقائق الجارحة ليجعلني أستسلم ، وأنسحب من حياة ابنته قبل أن يطردني منها ، صمت ثانية ، لكنه لم يرحم صمتي.. قال بلهجة الواعظ المتعالي:
    ـ الدكتورة أحلام يا بني ولدت وفي فمها ملعقة من ذهب ، فإذا ما سحبت هذه الملعقة من فمها تذبل.. تموت.. هل تفهمني يا دكتور؟!..
    أنا الآن متهم بالشروع بالقتل.. مجرد إقدامي على خطبة أحلام يعني تهديدا لها بالقتل ، وأداة الجريمة هي ملعقة الذهب التي يعني سحبها من فم أحلام تفجير سعادتها ، كما تنفجر القنبلة عند سحب صمام الأمان الذي يلجم طاقتها!.. ملعقة الذهب في نظره هي الروح التي تضخ الحياة في عروق أحلام!.. لمت نفسي بقسوة لأني أقدمت على هذه الحماقة ، وطرقت أعتابا لا تنبغي لشاب متواضع مثلي ، كدت أرفع الراية البيضاء ، وأعتذر للسيد عبد الغني عن محاولتي لخطبة كريمته المرفهة الثرية ، لكن طيف أحلام الوادعة الرقيقة ، حضر فجأة ، وشحنني بدفعة جديدة من العزيمة والإصرار ، ووجدتني أقول لوالدها في ثقة:
    ـ عندما اخترت أحلام ، واختارتني.. لم تكن هذه المعاني غائبة عن ذهننا ، لقد شرحت لها ظروفي بصدق ، وهي راضية بما ستقدم عليه.
    استند السيد عبد الغني بكلتي يديه على مكتبه ، واسترخى برأسه فوق كفيه المتشابكين بقوة ، ثم تنهد وقال:
    ـ نعم.. هذا صحيح.. أحلام راضية بما ستقد عليه ، لكنها في أعماقها ساذجة.. طفلة.. لا تقدر عواقب الأمور.. لا تقدر مسؤولية الزواج ، ومتطلبات المستوى المادي والاجتماعي الذي نشأت فيه..
    بدأت أشعر بالإهانه. كل كلمة يقولها هذا الرجل المغرور ترفضني وتجرحني وتتهمني بالوضاعة المادية!.. أي عالم هذا الذي تعيشون فيه؟
    وأي منطق هذا الذي تتحدثون به أيها المترفون المغرورون بما أوتيتم من نعمة زائلة سوف تغادرونها عاجلا أم آجلا ، لتعودوا إلى بطن الأرض التي جئتم منها حفاة عراة تتضورون جوعا وعطشا ، وتلهثون وراء قطرة لبن تمنحكم الحياة؟
    أصبح موقفه أمامي واضحا ، ولم يعد من اللائق بكرامتي أن أبقى جالسا مع إنسان متغطرس ينظر إلي من عل وكأني قزم ضئيل ، وهممت بالنهوض ، لكنه قال وهو يحملق كالذاهل:
    ـ لأول مرة في حياتي تتحدى لي أحلام رأيا ، وتفرض علي رغبتها.. لأول مرة تصرخ أحلام في وجهي ، وتقول بإصرار : "إذا لم أتزوج الدكتور صلاح ، فلن أتزوج رجلا غيره"..
    ثم نهض وأردف ، وهو يجمع نظراته الذاهلة ليركزها نحوي:
    ـ صورتك لي ملاكا يمشي على الأرض!.. فارسا نبيلا يذرع العالم على حصانه الأبيض ، ويمد يد المساعدة للمحرومين والمظلومين والمستضعفين!.. مصلحا اجتماعيا جاء يحمل الخلاص لهذا العالم المنهار!.. لقد أثارت فضولي للتعرف عليك!..
    ثم ابتسم ابتسامة محيرة ، وقال كالمازح:
    ـ ماذا فعلت بلب الفتاة يا رجل؟ يبدو أنك شاب على درجة خارقة من الذكاء!..
    خفق قلبي بحب أحلام ، وأدركت عمق إخلاصها لي ، وطوقتني ثقتها بي بالحياء ، فتراجعت عن قراري بالانسحاب ، ووجدت في ذلك خيانة للإنسانة التي قاومت رغبة أهلها من أجلي ، وقررت أن أمضي مع والدها إلى نهاية الشوط ، لأرى ما عنده ، محتملا هذه الإشارات المؤذية التي تلوح في كلامه.
    قال السيد عبد الغني:
    ـ أنا رجل عملي.. أحب الحلول الواقعية ، ولا أحب التشنج والعناد في الصفقات الخاسرة.
    حسابات الربح والخسارة ، ولغة الصفقات تطغى على حديثة ، حتى وهو يعالج زواج ابنته!!.. أكمل أيها الرجل.. أكمل وقل ما تريد..
    ـ أنت تريد أحلام وهي تريدك ، ومن حق كل منكما أن يختار.
    بداية جميلة لا غبار عليها..
    تابع يقول:
    ـ لكن ما تريده أنت ، وما تريده هي ، لا يلغي دوري في هذا الزواج كأب حريص على مستقبل ابنته.
    سارعت بالتوضيح:
    ـ معاذ الله أن أفكر بإلغاء دورك ، أنت والد أحلام ولرأيك عندي كل احترام..
    ـ عظيم ، أنا يا دكتور صلاح فكرت في الأمر جيدا منذ أن فاتحتني أحلام بالموضوع ، وقد رأيت أن الحل لا يكمن في الوقوف في وجه هذا الزواج.
    لاح لي شعاع جديد من الأمل ، فرقت على شفتي ابتسامة صغيرة ، وتلهفت لسماع بقية كلامه.. قال:
    ـ الحل يكمن في تحقيق عوامل الحياة لهذا الزواج حتى يعيش ويقاوم الظروف الصعبة.
    ثم سألني كمن فطن لأمر:
    ـ كيف أنت والتجارة؟
    ـ التجارة؟!! لم أجربها يوما ، ولم أفكر بها ، أنا طبيب وأحلم بالاختصاص الطبي وتطوير خبراتي الطبية ، ولدي طموحات في المستقبل لإقامة مستوصف متواضع.
    قال في استهانة ساخرة:
    ـ الطب لم يعد تجارة رابحة.
    ـ الطب ليس تجارة ، ولم يكن كذلك في يوم من الأيام.
    وضح رأيه قائلا:
    ـ أقصد أن الطب بات مهنة كاسدة ، كثر الأطباء وزادت أعدادهم ، ولم تعد مهنة الطب تلك المهنة التي تدر المال الوفير ، وتؤمن لصاحبها المستوى المادي المتفوق ، لقد انتهى عصر الشهادات والاختصاصات العلمية ، وبدأ عصر رؤوس الأموال .. بمالك اليوم تستطيع أن توظف عشرات المثقفين والمهندسين والأطباء ، إذا شئت!..
    البسمة الفرحة التي كادت تتسع توقفت عن النمو.. ما زال هذا الرجل يسئ إلي بكلماته ، ترى؟.. هل يتقصد ذلك ، أم أنه يخطئ اختيار الكلمات؟!..
    وأردف قائلا:
    ـ فيما مضى حزنت كثيرا لأني لم أستطع أن أنال شهادة أو أدخل جامعة ، لكني أدركت الآن أن ذلك كان نعمة وتوفيقا ، فلو أني انهمكت في الدارسة والتحصيل ، لما استطعت أن أقيم إمبراطورية الأعمال التي أتربع على عرشها الآن.
    قلت وأنا أرثي لقناعاته:
    ـ المال ليس كل شيء في الحياة.
    قاطعني بحدة ، وقال وهو يلوح بيد قد تشنجت أصابعها حول قبضة من الفراغ:
    ـ خطأ.. خطأ.. المال هو كل شيء.. بلا مال لا تستطيع أن تكون سعي.. لا تستطيع أن تكون قويا.. لا تستطيع أن تعيش..
    ثم بلهجة أقل حدة وعنفا:
    ـ لا تستطيع أن تتزوج..
    أزعجتني هذه اللهجة الصاخبة ، فقلت:
    ـ أنا لا أغفل دور المال في حياتنا ، لكني لا أستطيع أن أحص السعادة فيه..
    أشاح بيده كمن يفتح صفحة جديدة ، وقال:
    ـ ما علينا.. خلنا في المهم.
    ـ تفضل.
    ـ أنت تريد أن تتزوج أحلام..
    ـ هذا يشرفني..
    ـ وزواجك منها حتى يعيش يجب أن يكون مشفوعا بدخل عال لا تحققه لك مهنة الطب.
    ـ لست مضطرا لهذا الدخل العالي!
    ـ أنا أشترطه للموافقة على زواجك من ابنتي.
    شعرت أنه يريد أن يفرض علي إرادته ، فكظمت داخلي غضبة تريد أن تنفلت لتعبر عن رفضي لهذا الأسلوب الذي يعاملني به ، قلت له متظاهرا بالهدوء:
    ـ أستطيع أن أقول بأن دخلي متوسط ، وأطمح لأن أزيده ، لكن نموه يحتاج إلى عنصري الزمن ، والدأب ، هذه ظروفي ، ولا أستطيع أن أخلق غيرها.
    قال واثقا:
    ـ بل تستطيع.
    ـ كيف؟
    ـ بصفقة واحدة.
    ـ صفقة!.
    ـ وتربح مئة ألف دولار.
    ـ مئة ألف دولار!!..
    ـ تربحها بسهولة.
    نظرت إليه في شك ، كان العرض مفاجئا ومثيرا ، قلت محذرا:
    ـ أرجوك أن تلاحظ يا سيدي بأني لا أحب المكاسب السهلة التي تقدم إلي كمساعدة.
    ـ من قال بأني أقدم لك مساعدة؟!.. أنا أعرض عليك صفقة نتبادل فيها المصالح ، تقدم لي خدمة ، وتقبض ثمنها مالا.. مئة ألف دولار تكسبها بجهدك وخبرتك ، ثم تنطلق إلى دنياك الجديدة ، وأنت تملك أسباب السعادة والرفاه.. ومن يدري؟ فقد توظف هذا المبلغ في مشروع تجاري ، فتسكب أضعاف مضاعفة وتصبح من أصحاب الملايين.. اسألني أنا.. أنا بدأت من لا شيء.. بدأت ماسح أحذية ، وانتهيت مليارديرا.. برأسمال صغير كونت إمبراطورية تجارية لا تغيب عنها الشمس ، ألم تسمع بإمبراطورية عبد الغني الذهبي؟
    ابتسمت مجاملا ، وقلت:
    ـ سمعت فقط بالإمبراطور.
    دغدغت كلماتي غروره ، فضحك ضحكة ممزوجة بالفخر ، ثم قال وهو يشير إلى نفسه في زهو بالغ:
    ـ وها هو الإمبراطور أمامك ، يفتح لك أبواب السعادة على مصراعيها ، وافق حتى تفوز بالأميرة.
    ـ أريد أن أعرف دوري في الصفقة!
    ـ لو كنت مكانك لما سألت عن دوري ، بل وافقت على الدور مهما كن ، لأفوز بالإنسانة التي أحبها.
    ثم أردف وهو يسترخي على كرسيه:
    ـ يبدو أنك زاهد بالربح الذي ستكسبه ، أم أنك زاهد بالأميرة؟
    شعرت بأني أجلس أما داهية صعب.. مراوغ من طراز نادر.. لماذا يريد أن يثير لعابي طمعا بدولاراته؟.. لماذا يربط زواجي من أحلام بهذه الصفقة؟.. لا أنكر أن العرض كان مغريا ، وفيه قفزة مادية تساعدني على تحقيق أحلامي ، ولكن.. مئة ألف دولار؟!.. لقاء ماذا؟!!!
    وكررت في إلحاح:
    ـ مازالت مصرا على معرفة دوري!..
    ـ هذا من حقك.. حسنا.. منذ سنوات..
    ثم استدرك فجأة ، وسألني:
    ـ ماذا تشرب؟
    ـ أي شيء.
    ـ قهوة؟
    ـ فليكن..
    رفع والد أحلام سماعة الهاتف وطلب فنجانين قهوة ، ثم أعاد السماعة بهدوء وهو شارد ، وكأنه يحاول أن يرتب أفكاره ، قال بعد صمت قصير:
    ـ منذ فترة شاع استعمال الأغذية المعلبة للأطفال.. فقمت باستيراد كميات هائلة من هذه الأغذية ، بناء عل نصيحة أحد المستشارين في الشركة ، وفعلا.. طرحنا الأغذية المعلبة في السوق ، فلاقت رواجا وإقبالا من الجمهور ، لكن التجار سرعان ما انتبهوا إلى جدوى هذا النوع من التجارة ، فتهافتوا عليه ، وأغرقوا السوق بأغذية الأطفال المعلبة ، واستورد بعضهم أنواعا رخيصة من هذه الأغذية ، فأقبل الناس عليها ، فاضطررت لتخفيض أسعار الأصناف التي استوردتها ، لكن المنافسة كانت قوية ، فلم أستطع تسويق كل الكميات التي أملكها ، وكسد جزء كبير منها في المستودعات.. والآن.. أملك أكثر من نصف مليون علبة تحتاج إلى تسويق قبل نهاية هذا الشهر!..
    لم أفهم معنى التحديد في التاريخ!.. تساءلت مستفسرا:
    ـ لماذا قبل نهاية هذا الشهر؟
    أشعل والد أحلام سيكارة جديدة ، وقال:
    ـ أنت تعرف أن الشركات الصانعة للمواد العذائية المعلبة ، تضع زمنا محددا لاستهلاك هذه الأغذية ، تنتهي بانتهاء صلاحية استعمالها..
    أضفت موضحا:
    ـ هذا صحيح ، فالأغذية المعلبة يمكن أن تتعرض بعد انتهاء هذا الزمن للفساد ، لأن المواد المضافة إليها لتحفظها تفقد فعاليتها ، وقد يطرأ على هذه المواد الحافظة تحول كيميائي ، فتنقلب إلى من مواد حافظة للغذاء إلى مواد سامة..
    أحسست أنه لم يرتح لتوضيحي!.. قلت في نفسي لعي ألقيت كلماتي بلهجة المتعالم ، أو لعله لا يحب أن يقاطعه أحد في الكلام!.. أفسحت له الفرصة ليتابع حديثة.. رمقني هنية ، ثم قال بنبرة حذرة:
    ـ لكن هناك شيء مهم لا أظنك تجهله!
    ـ ما هو؟
    ـ أن الشركات الصانعة تحتاط للأمر ، فتضع تاريخا مبكرا لانتهاء زمن الاستعمال.
    ـ هذا من باب الوقاية..
    ابتسم فيما يشبه الرضا ، ثم قال بلهجة علت فيها نبرة الحماس:
    ـ هذا يعني أن استعمال الأغذية المعلبة بعد انتهاء الاستعمال بأشهر قليلة لا يشكل خطورة على حياة المستهلك..
    أزعجني هذا الاستنتاج المتسرع ، ودفعني للاعتراض.. قلت جازما:
    ـ بل يشكل خطورة كبيرة ، وينطوي على مجازفة لا تحمد عقباها.
    قال في محاولة لإقناعي:
    ـ لكنا اتفقنا أن تاريخ انتهاء الاستعمال المسجل على علب الأغذية تاريخ وقائي للاحتياط فقط!..
    ـ هذا لا يبرر استعمالها بعد هذا التاريخ.
    ـ هذا الكلام يقال كقاعدة عامة ، لكن.. لكل قاعدة استثناء.
    أثارتني هذه السفسطة التي يمعن فيها والد أحلام ، وحرت في النهاية التي يريد أن يصل إليها!.. قلت في إصرار:
    ـ القواعد التي تتعلق بصحة الناس وسلامتهم لا تخضع للاستثناءات.
    امتعض وقال:
    ـ هل تعرف كم سأخسر إذا انتهت مدة استهلاك أغذية الأطفال المعلبة المكدسة عندي في المستودعات؟..
    ثم أردف يجيب عن سؤاله بنفسه:
    ـ سأخسر مليون دولار..
    ـ خسارة فادحة بلا شك!..
    ـ بل كارثة.
    ـ وكيف ستتصرف؟
    ـ ليس أمامي خيار.. يجب أن أسوقها بسعر التكلفة.
    ـ وتستطيع أن تسوقها قبل نهاية الشهر؟!
    ابتسم في دهاء وقال بنبرة مكر:
    ـ إذا ساعدتني أستطيع!.
    ـ أنا؟
    ـ ولك عشرة بالمئة من المليون..
    نظرت إليه في ريبة!.. ماذا يريد مني هذا الرجل؟.. وماذا يمكن أن أقدم له لإنقاذ تجارة كاسدة بقيمة مليون دولار؟..
    قلت مستوضحا:
    ـ أريد أن أعرف دوري بالضبط!..
    ـ هل نتكلم بصراحة؟
    ـ إذا سمحت..
    ودخل الناذل بالقهوة ، فقدمها لنا ثم انصرف ، قال والد أحلام بعد أن تأكد من أن النادل قد أغلق خلفه الباب:
    ـ لا أخفيك يا دكتور بأني عرضت أغذية الأطفال على تجار كثيرين ، وبسعر الكلفة ، لكنهم اعتذروا ، أرادوني أن أبيعهم العلبة بسعر زهيد ، لكني رفضت.. أنا لا أتاجر لأخسر.. قد أبيع بسعر الكلفة عندما أضطر ، لكني أرفض أن أخسر.. ولم أيأس.. تابعت محاولاتي لتسويق الكمية الكاسدة عندي.. وحدث أن تعرفت على تاجر كبير في اليف.. أقنعته بالصفقة ، فوافق ، لكنه عندما علم بأن تاريخ الاستهلاك سينتهي مع نهاية الشهر أحجم.. وضحت له أن هذا التاريخ وقائي للاحتياط ، وأنه لا خطورة من استهلاك الأغذية بعده بأشهر قليلة ، لكنه أصر أن يسمع هذا الكلام من فم طبيب.. أعتقد أنك الآن فهمت دورك جيدا في الصفقة!..
    شعرت بالإهانه تسربلني من رأسي حتى قدمي!.. وقفت غاضبا ، وهدرت في وجهه:
    ـ هذه محاولة دنيئة لشرائي بحفنة من الدولارات!..
    واجه ثورتي بابتسامة ، لم يكن يستبعد ردة فعلي ، فاستعد له بشيء من الحلم والمكر ، وقال محاولا تهدئتي:
    ـ مهلا.. مهلا.. لا داعي لكل هذا الغضب.. ما هكذا يتكلم الشبان عندما يخطبون بنات الناس.. اجلس وتكلم بروية ، فنحن مازلنا في صدد الخطبة!..
    أثارني هدوؤه إلى درجة الانفجار.. قلت في حنق:
    ـ أنت تستعمل موضوع الخطبة من أجل مآرب مريضة.
    ـ دعك من هذا التمثيل ، والتفت لما ينفعك..
    ـ أنا لا أمثل.. ولا أسمح باستخدام هذه الأساليب معي..
    ـ سأرفع مكسبك إلى مئتي ألف دولار.
    ـ إمبراطوريتك كلها لا تغريني.
    تابع بنفس الهدوء:
    ـ ثمة أطباء يرضون القيام بهذا الدور من أجل عشر المبلغ الذي ستربحه من هذه الصفقة.
    ـ لا يوجد إنسان نظيف يرضى أن يخون ضميره ، ويروج لبضاعة فاسدة يمكن أن تؤذي أطفالا أبرياء.
    ـ إنها بضاعة سليمة ، كل ما في الأمر أننا سنستفيد من زمن الوقاية.
    ـ هل تعرف لماذا استعملت الشركات الصانعة زمن الوقاية هذا؟
    كتف يديه، ووقف يسمعني في غيظ.. تابعت غير عابئ به:
    ـ زمن الوقاية هذا وضع بالحسبان خوفا من احتمال فساد واحدة بالمليون من علب الغذاء.. يعني احتمال إيذاء كفل من مليون طفل..
    ـ وإيذائي؟.. ألا يستحق أن يوضع بالحسبان؟
    ـ المال يمكن تعويضه ، أما الحياة فلا تعوض.. لا أدري كيف تجرؤ على المقامرة بأرواح الأطفال!!..
    قال في محاولة أخيرة للضغط علي:
    ـ كنت أظنك تحب أحلام.
    ـ ومازلت..
    ـ لو كنت تحبها لفعلت ما يساعدك على الاقتران بها.
    ـ من يحب لا يشتري سعادته بشقاء الناس.
    قال بحدة وقد بدأ يخرج عن طوره:
    ـ أنت إنسان ضيق الأفق لا تعرف هذه الدنيا؟
    ـ إذا كانت هذه الدنيا ، فأنا أرفضها.. سأدعها لك ولأمثالك لأنها دنيا مسمومة.
    هتفت في ثورة وحنق:
    ـ من تظن نفسك؟.. آه.. ملاكا؟.. نبيا؟.. لقد انتهى عصر الأنبياء.
    ثم أردف يقول بنفس اللهجة المتغطرسة:
    ـ كان بإمكاني أن أرفض لقاءك منذ البداية ، لكني أحببت أن أساعدك ، وها أنت ترفض مساعدتي ، وتستعلي عليها ، كان يجب أن تعرف من أنت ، قبل أن ترفع عينيك إلى فتاة لا تستحق ظفرها.
    قلت وأنا أرمقه بنظرة تنضح بالاحتقار:
    ـ بإمكاني أن أسمعك كلاما غليظا لم تسمع به من قبل ، لكني أترفع أن أنزل إلى المستوى الذي عاملتني به.
    قال متوعدا:
    ـ أنت لا تعرف من تتحدى!
    ـ أنت مغرور بنقودك.
    ـ بإمكاني أن أؤذيك.
    ـ هل أفهم هذا على أنه تهديد؟
    ـ سمه ما شئت.. وسترى....



    0 Not allowed! Not allowed!




    [ame="http://www.youtube.com/watch?v=yxzoplqtmHk&feature=related"]http://www.youtube.com/watch?v=yxzoplqtmHk&feature=related[/ame]

  13. #12
    شعلة متقدة .. وحماس دائم Array الصورة الرمزية صفاء الايمان
    تاريخ التسجيل
    Apr 2009
    الدولة
    ...
    المشاركات
    14,276
    Articles
    0
    Thumbs Up/Down
    Received: 8/0
    Given: 0/0
    معدل تقييم المستوى
    412




    بيانات اخرى

    الجنس :  انثى

    المستوى الأكاديمي :  تعليم ابتدائي

    الجامعة الحالية/التي تخرجت منها ؟ :  الجامعة الأردنية

    الحالة الاجتماعية :  اعزب

    افتراضي رد: البحث عن امرأة مفقودة!..




    الفصل الثاني والعشرون




    خرجت وأنا أنتفض من الغضب ، وعندما أسلمتني قدماي إلى الشارع ، أحسست بعمق الجرح الذي خلفه هذا اللقاء العاصف في نفسي. ارتميت في سيارتي كالخائر ، وألقيت برأسي على المقود ، ورحت أستذكر كل ما كان.. الآن فهمت كل شيء.. لقد وجد والد أحلام أن رفضه لرغبة ابنته في الزواج مني ، سيزيدها إصرارا على موقفها وتمسكا برأيها ، فحاول بدهائه أن يستوعبها ، فأبدى استعداده للقائي وبحث الأمر معي ، وقد أعد في خياله خطة خبيثة لتشويه صورتي أمام أحلام.. ظن أن كل الناس مثله.. يسقطون أمام بريق المال ، ويستسلمون في سبيله بسهوله.. صور له خياله المريض أني شاب سهل المنال ، لن تصمد مثله وأخلاقه أمام عرضه المغري ، فحاول شرائي بمئتي ألف دولار ، أبيع بها ضميري ، وأستغل لقبي الطبي لأفتي له بصلاحية الأغذية الفاسدة ، فيسوق بضاعته الكاسدة ، وأسقط في نظر أحلام.. هذا الذئب الأنيق.. كم أوتي من الخبث والدهاء؟!.. كل حركة عنده مرسومة ومحسوبة بدقة.. يريد دائما أن يربح.. حتى الخسارة يوظفها ، ويستفيد منها في تحقيق ربح أو فوز جديد..


    وعدت أدراجي إلى البيت ، فأغلقت علي باب غرفتي.. واستلقيت فوق سريري منهكا ساخطا كئيبا ، وقد أرهقت نفسي الصدمة التي تلقيتها على يد والد أحلام.. هذا الرجل القاسي الذي ملأه المال غرورا وغطرسة واستهانة بمشاعر الناس ومصائرهم!.. واستغرق تفكيري سؤال كبير: كيف سأتمكن من إنقاذ أحلام البريئة الرقيقة من بين مخالب أبيها الذي يقف حاجزا عنيدا بيني وبينها؟.. واعترض أفكاري طرق على الباب ، فاعتذرت عن فتحه متذرعا بالتعب والإرهاق ، عاد الطرق مشفوعا بصوت أمي وهي تقول:


    ـ جاءتك رسالة ، افتح وخذها..


    رسالة!.. ما هذه الرسالة؟.


    دفعني الفضول لمعرفة مصدر الرسالة وفحواها ، فنهضت متثاقلا ، وفتحت الباب ، قالت أمي وهي تراني أقطر كآبة:


    ـ ماذا بك؟ لا تبدو بخير!..


    ـ متعب قليلا.. هاتِ الرسالة.


    أعطتني الرسالة وهي تشملني بنظرات قلقة ، قالت بنبرة حانية:


    ـ هل أصنع لك شيئا؟ تبدو وكأنك مريض.


    ـ لا.. لست مريضا.. فقط دعوني أرتاح.


    ـ كما تشاء..


    وكادت تمضي ، فاستوقفتها وأنا أقلب الرسالة بين يدي:


    ـ من أحضر الرسالة؟


    ـ رجل غريب.. أعطانيها ثم مضى بسرعة!.


    ـ إنها بلا عنوان!.


    ـ لكن ، مكتوب عليها أن نسلمها لك شخصيا.


    ـ صحيح ، ولكن ، من أرسلها؟


    ـ افتحها وستعلم..


    فضضت الرسالة ، ,أخرجت ما فيها بسرعة ، فصفعتني المفاجأة ، وأذهلتني ، وقرأت أمي في وجهي غضبا وانفعالا فسألتني على الفور:


    ـ ما بك؟ لماذا انقلب لونك هكذا؟


    قلت متلعثما ، وأنا أخفي الرسالة خلف ظهري:


    ـ لا شيء.. لا شيء..


    سددت أمي نظرة ثاقبة ، وقالت:


    ـ لا تخفِ عني ، فأنا أمك ، وأستطيع أن أستشف ما بداخلك ، لقد أثارتك الرسالة إثارة بالغة!.


    ـ قلت لك لا شيء..


    ـ بل هناك شيء.


    ـ رسالة من صديق.. هذا كل ما في الأمر.


    ـ وتثيرك إلى هذا الحد؟!


    ـ أرجوك أن تتركيني لوحدي..


    ـ أنت تخفي عني أمرا خطيرا...


    ـ أرجوك..


    استسلمت أمي لرغبتي ، وغادرتني قلقة متوجسة.. أغلقت الباب خلفها ، وتهالكت على كنبة قريبة ، ورحت أتأمل ما حملته لي الرسالة..


    مفاجآت الذئب الأنيق عبد الغني الذهبي لم تنته بعد كما تصورت ، وخططه الدنيئة كانت أبعد مما أسأت به الظن.. حادثت السكرتيرة اللعوب لم يكن صدفة بحته ، أو تصرفا عابثا من امرأة سطت عليها الرغبة ، وفقدت كوابح الإرادة.. بل كان تصرفا مدبرا مرسوما بإتقان!.. وها هي الصورة التي حملتها لي الرسالة تثبت ذلك..


    لقد استطاع المصور الذي قابلته خارجا من مكتب والد أحلام ، أن يخفي كاميرته خلف الأستار المخملية الزرقاء ، ويلتقط لي صورا عديدة وأنا أحاول مساعدة السكرتيرة ، واختار منها لقطة مقنعة كما أوصاه سيده.. "أريد لقطة مقنعة".. وهل هناك لقطة أكثر إقناعا وتشويها لسمعتي من صورة السكرتيرة اللعوب وهي تطوقني بذراعيها ، وتقبلني؟!.. الأوغاد.. من يرى الصورة لا يصدق أن ما جرى كان خدعة قذرة!ّ.. في أي عالم نعيش؟!..


    وأمعنت التأمل في الصورة وأنا أرتج من شدة الغيظ والغضب.. إنها صورة محرجة تخيرها والد أحلام بخبث للضغط علي وابتزازي ، إنه محتاط لكل أمر ، ومصمم على تشويه صورتي أمام أحلام ، وقد توقع ألا تفلح معي سياسة الترغيب ، فابتكر وسيلة للترهيب.. يا له من طاغية حقير..


    وكدت أنهض من فوري ، وأذهب إليه لأنشب أظافري في رقبته ، وأحطم جمجمته التي يطبخ فيها مؤامراته الدنيئة ، لكن صوت أمي عاد يناديني من خلف الباب ، لأرد على مكالمة هاتفية قد وردت للتو. رجوتها أن تعتذر عني ، لأني كنت في حالة نفسية لا تسمح لي بالحديث مع أحد ، فأخبرتني بأن المتحدث يقول بأنه صاحب الرسالة ، وأنه يريدني لأمر هام.. عبد الغني يطاردني في بيتي! يريد أن يعرف ردة فعلي على مفاجآته ، ويساومني عليها!.. القذر!!..


    نقلت الهاتف إلى غرفتي خشية أن يلحظ انفعالي أحد ، أو يلتقط كلماتي ويفسرها على هواه ، فم أكن أدري بأية لهجة سأخاطب بها هذا الوغد!.. قلت له وأنا أتميز من الغيظ:


    ـ كان بإمكانك أن ترفضني دون اللجوء إلى هذه الأساليب القذرة التي لا تقدم عليها إلا عصابات المافيا وحثالات البشر.


    ضحك ضحكة تفيض بالتشفي ، وقال بصوت هادئ ، وكأنه يمارس لعبة مسلية:


    ـ أنت يا عزيزي لم تترك لي خيارا ، لقد اختطفت قلب البنت وإرادتها ، ولعبت برأسها حتى جعلتها تتحداني ، وتفرض علي رغبتها ، التي هي في الحقيقة رغبتك.


    ـ لماذا تتصور أن أحلام خاضعة لتأثير مني؟ لماذا لا تريد أن تقتنع بأنها تعبر عن رأيها ورغبتها الخالصة؟!.


    قال بلهجة في أميل إلى الجد:


    ـ دعك من هذا الكلام ، واستمع لما سأقوله لك ، أنت في ورطة جديدة وعليك أن تواجهها ، وأنا على استعداد برغم كل ما بدر نحوي منك.


    لم أفهم ما يتحدث عنه ، لكني لم أعد أستغرب منه أية مفاجأة ، فقد وصل هذا الرجل المريض في تصرفاته معي إلى أسفل الدرك.


    قال عبد الغني وهو يتظاهر بالبراءة:


    ـ سوسو تدعي..


    ـ من سوسو؟


    ـ سوسو.. ألا تعرفها؟.. إنها الفتاة التي قبلتها في غرفة الاجتماعات.


    ـ آه.. سوسو.. تلك السكرتيرة الساقطة التي أمرتها أن تمارس معي لعبتها الدنيئة.


    قال متظارهرا بالبراءة والحياد:


    ـ الأمر يا عزيزي لم يعد لعبة.. سوسو تدعي أنك قد اغتصبتها بعد أن وعدتها بالزواج ، وهي تزمع أن تشكو إلى العدالة ، وسوف تقدم صورتك معها دليلا على أيام الغرام والهيام التي قضيتماها معا!.


    لم أعد أتمالك أعصابي ، صرت أرغو وأزبد على الهاتف ، أسب وأشتم وألعن ، وألوح بقبضتي الثائرة ، وألكم بها الهواء.. لم أكن أتوقع أن في هذا العالم بشر منحطون إلى هذه الدرجة.. لأول مرة في حياتي أرتطم بالقاع ، وأغوص في أوحاله القذرة.. لأول مرة أقع فريسة للذئاب البشرية التي تعبث في حياتنا ظلما وفسادا.. وهرعت أمي إلى الغرفة تطرق الباب لتعرف سبب ثورتي وغضبي ، لكني لم أستجب لطرقاتها.. من حسن حظي أنه لا يوجد في بيتنا سوى جهاز هاتف واحد ، وإلا لاستطاعت والدتي أن تفهم طرفا مما جرى ويجري..


    قال الذئب عبد الغني في هدوء مثير ، بعد أن استمع إلى حديثي الغاضب بغير اكتراث:


    ـ إذا وعدتني بأنك ستبتعد عن طريق أحلام ، فسأعدك بأني سأمنع سوسو من تقديم الصورة للعدالة.


    قلت وأنا ألهث من حدة الانفعال:


    ـ يؤسفني أن يتصرف رجل أعمال بارز مثلك بهذا الأسلوب الرخيص.


    ـ الغاية تبرر الوسيلة ، أنا لا أريد أن أخسر ابنتي.


    قلت وأنا أحاول استعادة هدوئي:


    ـ وهل تخسر ابنتك عندما تسمح له بالزواج من الشاب الذي اختارته بكامل إرادتها؟!


    ـ ابنتي مازالت ساذجة ، طيبة أكثر من اللازم ، ومن واجبي أن أحميها.


    ـ ابنتك فتاة ناضجة أكثر مما تظن.. وهي إنسانة ذكية وواعية ، وتحمل مؤهلا ثقافيا عاليا ، وليست صغيرة حتى تعالج زواجها بهذه الطريقة المؤسفة.


    ضحك بنفس الهدوء المثير الذي بدأ حديثه به معي ، وقال كالشامت:


    ـ الثقافة والشهادة ، لا تعني الوعي والإدراك دائما ، ها أنت مثقف مثلها ، ووقعت ضحية فخ بسيط.


    صككت أسناني بعنف ، وزفرت ألما وغيظا ، وقلت:


    ـ في هذه معك حق ، لم يخطر ببالي أن في البشر من يتصرفون مثلك!..


    ـ أكثر الناس يتصرفون مثلي ، لكن ، لكل طريقته.. ألم تسمع عن توظيف نقاط الضعف؟


    ـ تقصد صناعة نقاط الضعف.


    ـ هذه قواعد اللعبة.. إذا لم يكن لخصمك نقطة ضعف تمسكه منها ، فحاول أن تجره إلى موقف ضعف تستعمله لصالحك.. ألم يعلموك يا دكتور أن الدنيا حرب وصراع..


    قلت وقد بلغ بي الغيظ منتهاه:


    ـ حتى الحرب لها أخلاق.. يا سعادة الإمبراطور.


    صمت برهة أوحت لي بأنه يبتسم.. لكلمة إمبراطور وقع خاص في نفسه ، ولم يلبث أن قال:


    ـ إني أحذرك للمرة الأخيرة ، الأفضل لك أن تبتعد عن أحلام ، وإلا سأشوه صورتك أمامها ، وأجعلها تكرهك للأبد.. أنت تدرك كيف تكون ردة فعل أحلام ، عندما تعرف أنك كنت عشيقا لمومس.


    ـ المومس سكرتيرتك ، ويمكن إثبات ذلك بسهولة ، واكتشاف دورك الرخيص في هذه اللعبة.


    ضحك عبد الغني.. ضحك طويلا ، وقال:


    ـ ألم أقل لك بأنك ساذج؟.. هل تتصور أني يمكن أن أستخدم أشخاصا تستطيع أن تصل إليهم؟.. سوسو يا عزيزي ليست سكرتيرتي ، إنها امرأة غريبة تتجر بجسدها ، وتخلص لمن يدفع لها أكثر.. وقد دفعت لها أجرا مجزيا لم تكن تحلم به ، فسلمتني مقابل ذلك قيادها ، لأحركها كيفما أشاء.. المال يا دكتور كجهاز التحكم عن بعد.. يحرك لك الناس كيفما تريد ، وكلما كان المال سخيا كلما كانت دائرة التحكم أوسع.. لأول مرة أمنح خلاصة تجاربي للآخرين.. علك تصحو وتتعظ..


    ثم عاد إلى الضحك ، فوصلت ضحكاته إلى سمعي كقهقهات شيطان..


    قلت وأنا أكابد شعورا بالغثيان:


    ـ لا أصدق!.. أيكون فينا من هم بمثل دناءتك وبشاعتك؟!..


    ـ سأسامحك على كل هذه الإساءات إذا ابتعدت عن أحلام..


    ـ الآن عرفت لماذا نحن أمة مقهورة!.


    قال غير عابئ بما سمع:


    ـ ماذا قلت؟ هل ستبتعد عن أحلام؟


    ـ لأول مرة في حياتي أتمنى لو كنت كاتبا متمرسا حتى أعريك وأعري أمثالك ، ليعرف الناي أية ذئاب تلك التي تتخفى بجلود البشر!..


    ـ كن ما شئت ، وابتعد عن أحلام.


    هدرت في أذنه عبر الأسلاك:


    ـ لكني أحبها.. ألا تعرف معنى الحب؟!..


    ـ أنت لا تحبها.. أنت تحب ثروتها.. أنت طامع في ثروتي التي ستؤول إليها..


    ـ لو كنت طامعا بثروتك الكريهة ، لرضيت بعرضك هذا الصباح.


    ـ من يفكر بثروة كأحلام لا تشبعه مئة ألف..


    ـ لماذا تعتقد بأن كل من يفكر بأحلام طامع في ثروتها؟!..


    ـ عندما يتقدم من أحلام غني شبعان مثلي ، سأقتنع بأنه قد جاء رغبة بالزواج منها ، وليس طمعا بثروتها!.


    ـ أنت تبحث إذن عن صفقة تبيع فيها أحلام.


    قال وقد نفذ صبره:


    ـ لقد أضعت وقتي بما فيه الكفاية.. أنت الآن أمام خيارين.. إما أن تنسحب من حياة أحلام ، أو تركب رأسك ، فتخسر سمعتك أمامها وأمام المجتمع.. أنت تعرف كم هي سمعة الطبيب مهمة أمام الناس الذين يأتمنونه على أسرارهم وأعراضهم!..


    ـ هذا ابتزاز رخيص.


    ـ أريد أن أسمع قرارك قبل أن أغلق السماعة.


    ـ أنت أدنأ إنسان قابلته في حياتي.


    ـ إذا لم تفصح عن قرارك خلال ثلاثين ثانية ، فسأقوم بحماية ابنتي منك بالوسائل المناسبة..


    كدت أغلق السماعة في وجهه إعلانا عن رفضي لهذا الابتزاز الرخيص ، لكني أصبت بالجبن.. إنه طاغية عات يعني ما يقول ، ولن يتوانى عن دفع مومسته المرتزقة لتقدم شكواها ، وتلطخ سمعتي بأكاذيبها الملفقة.. والناس للأسف يحفظون الحكايات السيئة بسرعة ، ولا يتثبتون منها ، والألسنة المريضة تبحث عن قصة تثرثر بها.. سيلتصق اسمي بأذهان الناس كطبيب فاسد ، وسيمسي مستقبلي الطبي على كف عفريت.. حتى لو كافحت وأظهرت براءتي ، فلن أجد من يحفل بهذه البراءة ، أو يذكرها أمام الناس الذين أساؤوا بي الظن.. ووجدتني مضطرا للانحناء أمام العاصفة ، ولو إلى حين ، ريثما أمتلك وسائل الدفاع عن نفسي أمام ابتزاز والد أحلام ، وضغوطه الظالمة..


    ومضت الثواني الثلاثون ، فقال عبد الغني:


    ـ يبدو أنك تبحث عن المتاعب.


    همست في يأس:


    ـ لا.. لا داعي.. لا داعي للمتاعب.


    ـ سأخبرها بأنك لم تأت لمقابلتي في الموعد المحدد.


    ـ لماذا؟


    ـ اخترع لها ما شئت من الأسباب ، المهم أن تبتعد عنها...


    ثم صفق السماعة في لؤم ، فصفع صوتها سمعي ، وزاد من شعوري بالهزيمة.. ولأول مرة في حياتي بكيت بمرارة.. بكيت كما يبكي الأطفال.. أحسست بالذل والهوان.. فقدت احترامي لنفسي.. اهتزت ثقتي بالعالم ، احتضرت داخلي كل الأحلام والآمال ، فتكاثف الشؤم ، وألقى بظله الأسود على كل شيء ، لن تخدعني المظاهر بعد الآن ، لن تخدرني البشاشة التي يلقاني بها الناس ، الأقنعة التي يرتدونها لن تنجح في اصطياد ثقتي..


    وتمددت فوق سريري كالميت ، أحملق بنظراتي الذاهلة في السقف الأبيض الناصع..


    كم تحوي أيها السقف تحت طلائك الجميل من بشاعة!..


    الفصل الثالث والعشرون


    لا أذكر أني قضيت ليلة أطول من تلك الليلة!.. قضيتها مؤرقا مسهدا ، تتناوشني الأفكار والهواجس ، وتعتصرني مرارة العجز والهزيمة... وأعلنت حواسي استنفارا شاملا ، فلم يغمض لي جفن ، أو يهدأ لي فكر.. وجلدتني نفسي بقسوة ، فألهبتني بسياط اللوم والتأنيب.. وبدت لي كل المثاليات التي أحملها كفقاعات متهافتة من الهواء.. تراها جميلة براقة تسبح برشاقة وانسياب ، لكنها تنفجر عند أول صدمة.. تتلاشى ، وتمحى ، وكأنها لم تكن..
    وعاث الشك في أعماقي كمارد أحمق ، يحطم كل الصور الحبيبة إلى نفسي ، ليبحث تحتها عن الزيف والبشاعة التي قد تخفيها ، وامتدت يد هذا المارد إلى أقرب الناي إلي ، فأنشب أظافره في وجوههم ليختبرها ، ويتأكد من أنها وجوه حقيقة أصلية ، وليست أقنعة مزيفة كالقناع الذي يرتديه والد أحلام..
    وشعرت أن العالم داخلي يتداعي وينهار ، فيسحق تحته كل الأمثلة الطيبة التي كنت أرنو إليها باحترام ، بيد أن أحلام وقفت فوق أنقاض هذا العالم المتداعي كالمنارة ، تشع طهرا ونقاء ، فلم يجرؤ مارد الشك أن يمد يده إليها أو أن يخترق هالة الطهر والوضاءة التي تحف بها ، وطفق يدور حولها مبهورا بنبلها ووضاءتها ، يحيره ذلك الجوهر الكريم الذي يتوهج داخلها ، ويسطع بكل هذا الألق الفريد..
    والتفت حول رقبتي ضفيرة غليظة من الأسئلة ، وراحت تضغط عليها بعنف ، حتى كادت تخنقني!.. كيف ستواجه أحلام؟.. ماذا ستقول لها؟.. كيف ستعتذر إليها؟... هل ستعترف لها بحبك وإذعانك للابتزاز؟.. أم ستخفي عنها ما حدث ، وتدعي بأنك لم تذهب لمقابلة أبيها في الموعد المقرر؟.. ستسألك ، لماذا ، فماذا سيكون الجواب؟ وكيف ستبرر لها هذا الادعاء؟... كيف ستصمد أمام عينيها وأنت تقرأ فيهما نعيك كرجل ، وكإنسان؟..
    وانتبهت في هدأة الليل إلى شيء!.. أصخت السمع ، ثم تتبعت مصدر الصوت في قلق ، فقادني الصوت إلى غرفة الجلوس ، كانت أمي تجلس وحيدة في ركن الغرفة تغلب البكاء.. أضأت النور ، فأخفت وجهها المخضل خلف كفيها ، قلت لها ، وقد أثر بي منظرها الباكي ، وزادني ألما على ألم:
    ـ أماه.. لماذا تبكين؟..
    أجابت بصوت متهدج خنقته العبرات:
    ـ وهل تريدني أن أضحك؟.. تأتي إلى البيت واجما حزينا ، ثم تغلق عليك الباب.. أسألك أن تصارحني بما يشغل بالك ، فتأبى.. أدعوك إلى طعام الغداء ، فتعتذر بفظاظة.. آتيك بالطعام إلى غرفتك فتضرب عنه.. تقضي الوقت في الغرفة وأنت تحملق في الجدران كالممسوس.. تريدني أن أرى كل هذا ولا أبكي؟!..
    تناولت راحتها بين يدي ، وطبعت على ظاهر كفها قبلة اعتذار.
    قلت في تأثر:
    ـ أماه.. أنت تبالغين في فهم الأمور.. لا شيء يدعو للقلق.. قومي فاخلدي للنوم.
    ـ لن أنام حتى أعرف ما الذي يشغلك؟
    ـ قلت لك لا شيء..
    ـ أنت تكذب!..
    ـ أماه!..
    ـ أنت تخفي عني أمرا عظيما لا يسر.
    أطرقت في صمت.. تستطيع أن تخفي كل شيء عن الناس ، لكنك لا تستطيع أن تخفي شيئا عن الأم.. سيكتشف العلماء ذات يوم حاسة جديدة تدعى حاسة الأمومة ، وسيجدون عليها ألف برهان.. قلت لها بنبرة مستسلمة:
    ـ لا أنكر أني قد تعرضت اليوم لتجربة مؤلمة ، لكني لا أجد ضرورة للحديث عنها.. الحديث فيها يؤلمني أكثر ، وأنت لا تريدين لي المزيد من الألم.
    هدأت قليلا ، وقالت:
    ـ أتخبرني بما يشغلك فيما بعد؟
    ـ ستعرفين يوما كل شيء.
    ـ مازلت قلقة عليك!.
    ـ ألا تثقين بقدرة ابنك على مواجهة الأزمات؟
    صمتت ولم تجب!.... بدت كأنها ليست واثقة!... عذبني صمتها ، إنها تعرف أن ابنها ضعيف!... أطرقت في حياء ، قالت بعد تفكر:
    ـ أمازلت تفكر في أحلام؟
    مس هذا السؤال فؤادي المجروح كذرات من الملح ، فالتهبت آلامه من جديد ، قلت وأنا أتهرب من نظرتها:
    ـ أحلام كانت فكرة ، والأمر لم ينضج بعد.
    ـ أنت تحبها أليس كذلك؟
    ـ هذا الموضوع يحتاج إلى وقت آخر..
    صمتت ثانية ، وقد أدركت أن صدري مغلق أمام محاولاتها لاكتشاف سري ، ومداواة جرحي.. قالت بعد تأمل حزين:
    ـ إذا كنت مصرا على الزواج من أحلام ، فأنا يمستعدة لبيع الأرض التي ورثتها عن والدي ،لتؤمن لها المستوى المادي الذي يليق بها..
    رنوت إليها في ود وفخر.. كم هو الفارق بين إنسان يضحي بكل ما يملك من أجل سعادة ولده ، وبين إنسان يضحي بسعادة ولده من أجل ما يملك!..
    كم هو الفرق هائل وبعيد!!..



    0 Not allowed! Not allowed!




    [ame="http://www.youtube.com/watch?v=yxzoplqtmHk&feature=related"]http://www.youtube.com/watch?v=yxzoplqtmHk&feature=related[/ame]

  14. #13
    شعلة متقدة .. وحماس دائم Array الصورة الرمزية صفاء الايمان
    تاريخ التسجيل
    Apr 2009
    الدولة
    ...
    المشاركات
    14,276
    Articles
    0
    Thumbs Up/Down
    Received: 8/0
    Given: 0/0
    معدل تقييم المستوى
    412




    بيانات اخرى

    الجنس :  انثى

    المستوى الأكاديمي :  تعليم ابتدائي

    الجامعة الحالية/التي تخرجت منها ؟ :  الجامعة الأردنية

    الحالة الاجتماعية :  اعزب

    افتراضي رد: البحث عن امرأة مفقودة!..




    الفصل الرابع والعشرون

    استقبلت صباح اليوم التالي برهبة ، كنت مشفقا من لقاء أحلام ، وترددت!.. هل أذهب إلى المستشفى أم أبقى؟ هل أقدم على مواجهة الموقف أو أحجم؟ كان السهر والأرق والسهاد قد تراكم على أعصابي فأرهقها. وسرى الوهن في جسدي كالداء ، فوجدت فيه ذريعة للهروب.
    اتصلت بالمستشفى لأطلب إجازة ، فأخبروني بأن الدكتور مأمون يحضر لعملية مهمة وقد طلب من جميع الأطباء أن يكونوا حوله في غرفة العمليات ليطلعوا على الحالة الجديدة ، ويتعرفوا على التقنية الجراحية التي سيستخدمها... لم يكن أمامي مفر من الذهاب ، فالدكتور مأمون يغفر كل شيء في العمل إلا الغياب عن مثل هذه العمليات!.
    وذهبت. دلفت إلى المستشفى متثاقلا أقدم رجلا وأؤخر أخرى ، خفق قلبي وأنا أصافح الوجوه بنظرات حذرة.. ماذا لو ظهرت أحلام أمامي فجأة؟ وبأي وجه سأقابلها؟ ورقيت في الدرج كالخائف ، ثم تسللت إلى غرفة الأطباء المقيمين. كان هاني يهندس شاربه الكث أمام المرآة.. ألقيت عليه تحية الصباح ، فرد علي خياله المنعكس على المرآة ، جلست على حافة السرير كالهدود ، وأخذتني سنة من الشرود.. التفت إلي هاني فجأة ، وقد لحظ وجومي عبر المرآة ، قال باهتمام:
    ـ صلاح.. ما بك؟
    ـ لا شيء..
    ـ أنت حزين!
    تكلفت بابتسامة واهنة وقلت متظاهرا بالإنكار:
    ـ أنا؟
    ـ نعم.. أنت لست على ما يرام..
    ـ متعب قليلا.. لم أنم جيدا هذه الليلة.
    عاد إلى مرآته ، وراح يشد أزرار ردائه الأبيض إلى عراها بإحكام.. قال وهو يتأكد من سلامة هندامه:
    ـ هو الأرق إذن..
    أومأت بالإيجاب ، ونهضت إلى خزانتي لأرتدي ثوب العمل.. أردف هاني وهو يدس جهاز الإنذار في جيب ردائه المكوي بعناية:
    ـ أرق المفلس أم أرق العاشق؟
    ـ بل أرق المفجوع!
    ـ بمن؟
    ـ بهذا العالم..
    ضحك هاني ، وقال:
    ـ يا مسكين.. سيظل هذا العالم جاثما فوق صدرك حتى يسحقك تحته ، كفاك تفكيرا بهذا العالم ، والتفت لنفسك.. روح عنها بعض الشيء ، وانج بها من الأرق والقلق.. روضها على عدم الاكتراث.. افعل مثلي ، فأنا لم يعد يهزني شيء..
    وكان يهم بالخروج ، فتوقف فجأة وهو يراني مازلت غارقا في همومي لا أحفل بتعليقاته الساخرة.. قال ناصحا:
    ـ لا تنسى أن تزين وجهك بابتسامة قبل أن تنزل ، فمنظرك المقطب قد يصيب المرضى بالاكتئاب.
    ثم دس يده في جيبه ، ومضى وهو يصفر في مرح.
    مازالت أعصابي مشدودة إلى لحظات المواجهة.. تمنيت لو أن الأرض تنشق وتبتلعني ، ولا تراني أحلام.. كم سأبدو في نظرها تافها وضعيفا!.... سأبدو أخرقا مترددا لا يملك أن يأتي بقرار ، وسأبدو وغدا كريها لا يحترم مشاعر الآخرين..
    ورن جرس الهاتف ، فرفعت السماعة بيد ثقيلة ، كان هاني على الطرف الآخر..
    ـ صلاح.. نسيت أن أخبرك.
    ـ ماذا؟
    ـ الدكتور مأمون يريدنا في غرفة العمليات.
    ـ أعلم.
    ـ أسرع إذن.. لقد دخل الآن..
    وهرعت إلى جناح العمليات كجندي جبان يحب الحرية ، ويهاب الموت!.. غسلت يدي بالصابون ، وارتديت الملابس المعقمة الخاصة بغرفة العمليات ، ثم أحكمت وضع القناع الطبي فوق أنفي... شعرت بشيء من الارتياح لأن هذا القناع سيخفي تحته تعابير وجهي المقطبة.
    وانضممت إلى زملائي الأطباء الذي التفوا حول الدكتور مأمون في غرفة العمليات.. لم أجرؤ في البداية على رفع نظراتي لأطوف بها على وجوه الزملاء ، خشية أن تلتقي بأحلام! أخذت مكاني في الحلقة التي انفرجت قليلا لتضمني ، وركزت بصري على جسد المريض الممدد أمامي بانتظار مبضع الجراح.. لكن الدكتور مأمون لم يرحمني.. قال مداعبا:
    ـ أراك اليوم في ذيل القافلة يا دكتور صلاح.. عهدي بك دائما الأول!.
    وأردف هاني في محاولة ماكرة لإحراجي:
    ـ لقد أخرتنا يا دكتور صلاح.. منذ متى ونحن ننتظر!..
    ضحك الجميع لدعابة هاني ، بينما قال الدكتور مأمون لهاني مازحا:
    ـ اسكت أنت.. دائما تحب الاصطياد في الماء العكر.
    ـ ظننتك ستمنحني مكافأة!..
    ـ لماذا؟
    ـ لأني أول من حضر اليوم إلى غرف العمليات..
    ـ ستنال مكافأتك في الحال..
    ـ أرجو أن تكون مجزية..
    ـ ستقوم بتجفيف الدماء أثناء إجراء العملية.
    ابتسمت لهذا التكليف الذي لا يخلو من دعابة ، بينما ضحك الآخرون ، المعروف عن هاني أنه يؤثر الراحة ، وكثيرا ما كان يتقصد التأخر عن مثل هذه العلميات ، حتى تكون الأدوار قد وزعت ، فيكتفي بالمشاهدة ، وبدأت المجزرة كما يسميها هاني عادة ، فأغمد الدكتور مأمون حافة مقبضه الحادة في بطن المريض ، وأخذ يفتح به مدخلا إلى أحشائه المصابة.. انتهزت فرصة انشغال الجميع بما يجري ، فاختلست إلى أحلام نظرة متسللة ، لكنها ضبطت نظرتي الجبانة وهي تزحف إلى وجهها الشاحب ، سربلني منظرها الشجي بلهيب الأسى والغم ، وقرأت في عينيها لوما موجعا ، وعتبا مريرا لم أصمد له ، فنكست بصري وتظاهرت بالانشغال..

    وفرغ الدكتور مأمون من جراحته ، فغادرت المكان على عجل ، ولذت بمقصف العم درويش.. جلست مرهقا منهكا كالمحموم ، تطاردني النظرات اللوامة التي سددتها إلي أحلام.
    وجاء العم درويش يسألني عما أشتهي ، فطلبت فنجانا من القهوة ، فخف لإحضاره ، وقد لاحظ ما أنا فيه من ضيق.. ولم يلبث قلبي أن خفق وأنا أصغي لإيقاع خطوات أحلام ، وهي تدق الممر الطويل المفضي إلى الاستراحة.
    وقفت أحلام أمامي في كبرياء وسألتني بنبرة صارمة:
    ـ لماذا لم تحضر لمقابلة والدي بالأمس؟
    انفجر سؤالها داخلي كقنبلة تتشظى بالمرارة ، لقد نفذ أبوها دورة بدقة ، وعلي أن أتم الفصل الثاني من المسرحية.
    رجوتها أن تجلس ، لكنها كررت السؤال بنبرة أشد وطأة وإيلاما..
    قلت لها متجاهلا سؤالها القاسي:
    ـ ماذا تشربين؟
    جلست وقالت:
    ـ كان أولى بك أن تحزم أمرك قبل أن أضرب لك موعدا مع أبي.
    كدت أنفجر أمامها ضاحكا ، وأدلي لها بكل ما كان ، فأعري أبيها الماكر ، لكني تذكرت العواقب المحتملة ، فضعفت ، وتنهدت:
    ـ أحلام... يبدو أننا لم نخلق لبعضنا..
    دمعت عيناها وقالت:
    ـ الآن تقول هذا الكلام؟.. أبعد أن خضت مع أمي وأبي معركة من أجلك؟. هل أنا رخيصة عندك إلى هذا الحد؟.. لماذا هذا التردد؟.. ما الذي غير رأيك بهذه السرعة؟..
    اخترقتني كلماتها كحزمة من الرماح ، تضاءلت أمامها وأحسست بالصغار.. قلت متهربا من نظراتها الثائرة:
    ـ فكرت في أمر هذا الزواج ، فوجدت أنه لا يمكن أن يعيش!
    ـ لماذا؟
    ـ لدي أسبابي.
    رمقتني بنظرات كسيرة ، وهمست:
    ـ أنت تحكم علي بالعنوسة إلى الأبد..
    ـ ستنسيني عما قريب.
    همست بنبرة ترتعش:
    ـ كيف تجرؤ على هذا الكلام؟..
    ـ أنا عاجز عن القرار.. الآن ، على الأقل..
    رفعت هامتها في كبرياء ، وقالت:
    ـ أما أنا فقد اتخذت قراري.. إما أنت ، وإما لا..
    هتفت في ضراعة:
    ـ أحلام.. أحلام.. لا تكوني عنيدة ، لنتصرف بواقعية.. قد يكون ما بيننا أعمق وأروع ما يمكن أن ينشأ بين شاب وفتاة ، لكن العواطف شيء ، والواقع شيء آخر..
    قالت في حدة:
    ـ ما قيمة هذا الواقع إذا لم نعشه كما نريد؟.. إذا لم نصغه وفق قناعاتنا وأفكارنا؟..
    ـ لكن هذه القناعات ستتبدل بعد الزواج.. بعد الزواج ستشعرين بالفرق بين حياتك معي والحياة التي كان يوفرها لك أبوك.. ستشعرين بأن الزواج قد حرمك من أشياء كثيرة ، وستفقدين حياة الرفاهية والنعومة التي تعودت عليها.. ستتراكم في نفسك مشاعر التأفف والملل ، وستشوه التفاصيل الصغيرة العلاقة الرومانسية الحالمة التي تجمعنا.. سنكتشف أنا خدعنا أنفسنا ونغرف في الندم.. لماذا لا نجنب أنفسنا هذه التجربة الفاشلة منذ الآن؟
    حدجتني بنظرة قاسية وقالت:
    ـ أنت تتحدث كوالدي تماما.. أصبحت تربط كل شيء بالمادة!.. ثمة شيء أجهله قد غيرك!!..
    ـ كل ما في الأمر أني لم أصل إلى قرار..
    أطرقت كاسفة حزينة وقالت في يأس:
    ـ أنت لا تريدني.. نعم. لا تريدني.. كان يجب أن أفهم برودك نحوي منذ البداية.. ظننت ترددك خوفا وإشفاقا من أن أخذلك ، فشجعتك ومهدت لك الطريق ، فجاملتني دون أن تملك نحوي نفس الأحاسيس والمشاعر ، أنا الملامة على أية حال.. أستطيع الآن أن أتخذ قراري.. لن تجمعني الحياة بك بعد الآن ، ولن تجمعني برجل من بعدك.. الوداع...
    ثم مضت... مضت غاضبة حزينة بعد أن زرعت نفسي بوجد عارم ، تمنيت أن ألحق بها لأبوح لها بالحب الذي يضطرم بين ضلوعي ، لكني لم أجرؤ.. فالبوح سيزيد موقفي تناقضا وغموضا!..
    هل أدوس على قلبي وأرضخ للابتزاز ، أم أبدأ المعركة مع والد أحلام؟
    ما أقسى أن تجد في طريقك سؤالا بلا جواب!...


    الفصل الخامس والعشرون

    ـ هل سمعت آخر الأخبار؟.
    ـ ماذا؟
    ـ الدكتورة أحلام استقالت.
    هتفت كالملدوغ:
    ـ استقالت؟!..
    قال هاني في هدوء:
    ـ ظننتك تعرف!
    ـ من أين علمت؟
    ـ الدكتور مأمون أخبرني ، التقيت به هذا الصباح ، فقال لي بأن الدكتورة أحلام قد جاءته البارحة في نهاية الدوام ، وطلبت منه أن يقبل استقالتها.
    ـ كان عليه أن يرفض..
    ـ كانت مصرة..
    ـ ألم يسألها عن السبب؟
    قال هاني متخابثا:
    ـ لعلها قد خطبت ، وقررت الاستعداد لبيت الزوجية.
    قلت حانقا:
    ـ هاني.. كف عن هذرك!
    ـ لماذا استقالت إذن؟
    ـ لعلها.. لعلها..
    ـ لعلها ماذا؟
    ـ لا أدري..
    ـ لقد ضايقك قرارها.. أليس كذلك؟..
    ـ أنت تعرف معنى أن ينقص طاقم أطباء الطوارئ واحدا.
    ـ أهذا ما يقلقك؟
    ـ ماذا تقصد؟!
    ـ لقد بات اهتمامك بأحلام ، وتعلقك بها ، واضحا.. لا يمكن للعشاق أن يخفي وجده طويلا..
    أحرجتني ملاحظة هاني ، لابد أنه يشعر الآن بأن أحلام قد رفضته من أجلي.. قلت وأنا أداري ارتباكا:
    ـ هاني.. دعنا من هذا الحديث أرجوك..
    همس هاني وهو يلتفت ذات اليمني وكأنه يخاطب شخصا قادما من بعيد:
    ـ اطمئن.. لقد نسيتها تماما.
    ـ بهذه السرعة؟
    ونادتني إحدى الممرضات:
    ـ دكتور صلاح.. الدكتور مأمون يريدك أن توافيه في مكتبه.
    استأذنت هاني ، ومضيت إلى جناح الإدارة ، قال لي الدكتور مأمون وهو يستقبلني في وجوم:
    ـ عرفت طبعا..
    ـ أخبرني هاني.
    ـ قالت أنها تريد أن تتفرغ للرسم ، هذه أول مرة أعرف أن الدكتورة أحلام رسامة!
    لقد استطاعت أحلام أن تختار حجة مناسبة للاستقالة.
    أطرقت متألما.. أنا الوحيد الذي يعرف السبب الذي يكمن وراء استقالتها.. تابع الدكتور مأمون في حيرة:
    ـ كان يبدو عليها التعب والحزن.. أعتقد أن هناك سببا آخر دفعها للاستقالة.. غير حبها للفن والرسم!...
    قلت في محاولة لتبديد شكوكه ، حتى لا يسترسل في بحثه عن الحقيقة:
    ـ الدكتورة أحلام ليست الطبيبة الأولى التي تهاجر من الطب إلى الفن.. كثيرون هم الأطباء الذين يستهويهم الفن والأدب.
    ـ نعم ، لكنها كانت تستطيع أن تجمع بين الطب والفن.. لا... لا... حجتها ليست مقنعة.
    ثم أردف وهو ينظر إلي كالشارد:
    ـ ألا تستطيع أن تقنعها بالعودة؟
    فاجأني سؤاله ، تهربت من السؤال بسؤال:
    ـ لماذا أنا؟
    ـ فهمت أنها تثق بك وتحترمك!.
    ـ من الذي أوحى لك بذلك؟
    ـ العم درويش.. أنسيت أن العم درويش عيني عليكم؟
    ابتسمت وأنا ألقي برأسي إلى الخلف. العم درويش.. لا بد أنه التقط بحدسه المعنى الذي كان يكمن خلف نجوانا.. مال الدكتور مأمون على مكتبه ، وقال بصوت أقرب للهمس:
    ـ العم درويش يعتقد بأنك وأحلام لائقان ببعضكما البعض ، همس لي بذلك منذ أيام ، وأنا أشاطره الرأي..
    نكأ كلام الدكتور مأمون جرحي.. قفزت ذكرى لقائي بوالد أحلام إلى خيالي فجأة ن فشعرت بوخزة مؤلمة.. بعض الناس يستعذبون عذابات الآخرين!.. لماذا يقف هذا الوغد في طريق سعادتنا؟! قلت متهربا من نظرات الدكتور مأمون التي حاولت سبر أغواري:
    ـ سأحاول إقناع أحلام.
    ـ إني أعتمد عليك.
    ـ وإذا لم توافق؟
    ـ أريد أن تجد بديلا بها.. أريد بديلا يكون بأخلاقها ومهاراتها.. أنت تعرف طريقتي في اختيار الأطباء..
    قلت مرددا عبارة شهيرة كثيرا ما كررها الدكتورٍ مأمون على مسامعنا:
    ـ الأخلاق أولا ، والمهارة ثانيا ، والأخلاق والمهارة معا.
    قال وهو ينهض مودعا:
    ـ حاول أن تقنع أحلام أولا.. لا أريد أن نخسرها.
    كانت المهمة صعبة ، وكان علي أن أنجزها ، يجب أن تعود أحلام ، لن أتركها تفسد مستقبلها من أجلي.. ولكن... كيف أستطيع إقناعها بالعودة؟..
    كيف أكون الخصم والحكم في آن واحد؟!..
    واتصلت بها.. رد علي صوت نسائي رجحت أنه صوت والدتها:
    ـ الدكتورة أحلام موجودة؟
    ـ من يريدها؟
    ـ مستشفى ابن النفيس.
    غاب الصوت قليلا ، ثم جاء صوت أحلام هادئا رزينا في بحة شجية ، قلت كالعاتب:
    ـ لقد تسرعت كثيرا في قرارك.
    عرفت صوتي على الفور.. قالت بعد صمت قصير:
    ـ ألم تطلب مني أن أنساك؟ هذا أفضل طريق.
    ـ أنت تتصرفين تحت وطأة الصدمة!.
    ـ كان لابد أن نفترق.. عاجلا أم آجلا..
    وخزتني كلمة الفراق ، وأوجعتني.. قلت في ألم:
    ـ أرجوك.. لا تتحدثي عن الفراق.
    صمتت قليلا ، ثم قالت بصوت حزين:
    ـ لقد اتفقنا على مواجهة الواقع.
    ـ ليس بهذا الأسلوب.
    ـ لكل أسلوبه.
    ـ أنت غاضبة.
    ـ هل يهمك غضبي إلى هذا الحد؟
    صورتي أمامها تنهار شيئا فشيئا ، أصبحت في نظرها إنسانا مشوها لا يعبأ بأحاسيس الناس ، ولا يقيم لمشاعرهم وزنا ، قلت في محاولة لاستعادة ثقتها بي:
    ـ أحلام... تأكدي أني أحترمك وأحترم مشاعرك ، ولكن...
    قاطعتني بنبرة غاضبة:
    ـ أعتقد أن هذه المواضيع قد انتهت بيننا ، هل أستطيع أن أخدمك بشيء؟!..
    أحسست أن صوتها يتهدج ، ونبراتها ترتعش ،همست مشفقا:
    ـ أحلام.. لا أريد أن أكون سببا في إفساد مستقبلك ، إذا كان تركك للعمل في المستشفى ، بسببي فأنا...
    ـ أنا أتخذ قراراتي بملء إرادتي ، وليس بسبب أحد..
    ـ تصرفك السريع عقب ما جرى بيننا يجعلني أشك في قرارك!.
    ـ كل ما في الأمر أني أحضر للمعرض الذي سأقيمه بعد أسابيع ،وقد رأيت أن أتفرغ للإعداد له ، حتى تكون لوحاتي جديرة بأن يدعى إليها الناس.
    قلت في توسل:
    ـ أحلام.. أرجوك أن تعودي.
    هتفت في ضيق:
    ـ أرجوك ألا تعود إلى هذا الموضوع.
    ـ ولكن..
    ـ هل تسمح لي بإغلاق السماعة؟
    صفعتني بطلبها اللبق الذي يخفي خلفه حزنا وغضبا ومرارة.. اجتاحتني خيبة خانقة.. قلت بنبرة عاتبة:
    ـ لم أتوقع أن حديثي معك سيكون ثقيلا إلى هذه الدرجة!
    قالت بصوت متهدج:
    ـ آسفة إذا كان طلبي هذا فظا ، لكني في حالة نفسية لا تسمح لي بالحديث مع أحد.
    ثم انفجرت باكية وهي تغلق السماعة برفق ، فمزقني صوتها الباكي ، وغاص في قلبي كمدية من الجمر..



    0 Not allowed! Not allowed!




    [ame="http://www.youtube.com/watch?v=yxzoplqtmHk&feature=related"]http://www.youtube.com/watch?v=yxzoplqtmHk&feature=related[/ame]

  15. #14
    شعلة متقدة .. وحماس دائم Array الصورة الرمزية صفاء الايمان
    تاريخ التسجيل
    Apr 2009
    الدولة
    ...
    المشاركات
    14,276
    Articles
    0
    Thumbs Up/Down
    Received: 8/0
    Given: 0/0
    معدل تقييم المستوى
    412




    بيانات اخرى

    الجنس :  انثى

    المستوى الأكاديمي :  تعليم ابتدائي

    الجامعة الحالية/التي تخرجت منها ؟ :  الجامعة الأردنية

    الحالة الاجتماعية :  اعزب

    افتراضي رد: البحث عن امرأة مفقودة!..



    القصل السادس والعشرون

    غربت أحلام من حياتي كما يغرب القمر ، وتركتني وحيدا في بيداء مظلمة كل ما فيها أسود شاحب وكئيب.. ومرت علي الأيام التالية بلا طعم أو روح ، فأغلقت صدري على ما حدث ، وانكفأت إلى داخلي أتابع حركة الهزات والزلازل التي ضربتني بعنف ، فزعزعت أركاني ، ودمرت أحلامي ، وأحاطت برؤيتي المسالمة للحياة..
    وأدمنت الصمت ، فلا أرى إلا واجما ساهما غارقا في شرود عميق ، وحببت إلي الوحدة ، فوجدت راحتي في العزلة والابتعاد عن الناس..
    قال لي هاني ذات مرة : أنت لم تعد أنت.. إنسان لا أعرفه ، أراك ولا أجدك ، لا أرى فيك سوى بقايا رجل!.. ما الذي حدث لك بحق الإله؟..
    لم يستفزني كلامه ، ولم أجد رغبة في الرد، ابتسمت كالأبله ، ورنوت إليه بنظرة باردة لا معنى لها ، قال وهو يحدجني في تفكر:
    ـ أنت تعاني من صدمة نفسية قوية!..
    لم أعلق.. كأن حديثة لا يعنيني.. تابع قائلا:
    ـ لا شك أنك قد مررت بتجرة مثيرة!.. نعم.. تجربة غير مألوفة أفقدتك توازنك!!..
    ثم أردف في دعابة كالذي يحزر:
    ـ لعلك قابلت كائنات غريبة قادمة من الفضاء!.. شاهدت فيلما عن حالة مشابهه.. كان البطل يتنزه في الحقول ، فحط قربه طبق طائة ، وخرج منه ثلاثة رجال كالقرود ، فاختطفوه وطاروا به بعيدا إلى أعماق الكون البعيد.. وعندما عادوا به إلى الأرض كان قد صار هكذا مثلك.. يحملق في الهواء ، ويغرق في التأمل ، ويخشى الناس..
    وضحك هاني ليبعث الحياة في دعابته ، لكن ضحكته جاءت نشازا ، شعر بالإخفاق والخذلان لأني لم أتجاوب مع ضحكاته ، غير أنه لم ييأس ، قال كمن وضع يده على أمر خطير:
    ـ لا.. لا.. أنت مدمن مخدرات ، بعض المخدرات تفعل هكذا!.. تصيب الإنسان بالصمت والشرود ، وتنقله إلى عوالم مبهمة.. تراه معك وهو ليس معك.. هائم في عالمه الغريب.. نظراته بليدة ، وحركاته واهنه ، وعقله مسافر.. إلى أين؟.. لا تدري!.. يؤسفني أنك تحولت من مصلح إلى حشاش!..
    ابتسمت رغما عني.. قلت وأنا أشيح بوجهي عنه:
    ـ هاني دعني وشأني..
    ـ لن أدعك حتى تبوح لي بما غيرك!..
    ـ لم يغيرني شيء..
    ـ صمتك يغيظني..
    ـ الصمت خير من الكلام..
    ـ لم تكن هذه حكمتك من قبل!..

    وعشت في البيت كالغريب.. أضحك للضحكات ، وأبسم مع الباسمين ، أراقب ما يجري حولي كطفل لم يمتلك لغة التخاطب مع البشر بعد.. ولاحظ الجميع ما آلت إليه حالي ، ويئسوا من اختراق صدري ليعرفوا ما الذي يدور فيه؟ وأدركت أمي أني أمر بأزمة من نوع غريب لم تعهده من قبل ، فانضمت إلى قائمة اليائسين ، وهي تكابد حيرة وعجزا..
    وافتقدت أحلام.. افتقدت حديثها الحلو الذي ينساب كلحن عذب.. افتقدت ابتسامتها الرقيقة التي كانت تملأ الكون قرحا وبهجة.. افتقدت نظراتها الوادعة الحالمة التي تطل من عينيها على استحياء ، فتدعوك لتنطوي ككرة صغيرة ، تنام في محجريها الدافئين ، وافتقدت روح أحلام تلك الروح الرقيقة التي تشف عن جوهرها النفي ومعدنها النبيل ، من يستطيع أن يسكت ندائات الروح المشتاقة إلى توأمها الغائب الحزين؟ من يستطيع أن يقمع آلام الروح عندما يضنيها الفراق ويوجعها الحنين؟..
    وصارت الأحلام السوداء تغزوني في الليل ، تنقض علي كالكوابيس ، وتقض مضجعي بمشاهدها القاسية العنيفة ، رأيت أحلام ذات مرة تزف إلى آخر ، فأفقت كالمجنون ، وقد روعني هذا الحلم الفظيع الذي حرمني من فتاتي..
    ووجدتني ذات منام أصارع ثعبانا مخيفا له جسد أفعى ورأس إنسان.. وسرعان ما تبينت أن الرأس رأس عبد الغني الذهبي ، فدهشت!.. وكاد الثعبان العجيب يقضي على لولا أن ظهر الأستاذ سعيد الناشف فجأة ، وهو يحمل فأسا غريبة.. في أحد رأسيها شفرة فأس ، وفي الطرف الآخر رأس قلم!.. ولم يلبث الأستاذ سعيد أن أغمد رأس القلم المدبب في جسد الثعبان ، فانشغل الثعبان عني ليواجهه الخطر الجديد ، فتناولت الفأس من الأستاذ سعيد وهويت بها على الثعبان ، ففصلت شفرة الفأس بين رأسه وجسده ، لكن رأس عبد العني الذبيح ظل حيا ، وراح يضحك ويقهقه ساخرا مني ، هازئا بمحاولاتي للقضاء عليه ، وسرعان ما نبت له جسم ثعبان جديد ، فمد ذيله نحوي ، ولفه حول عنقي وراح يضغط عليه بقوة ، فأفقت وأنا أتخبط كالرغيق!..
    وأفاق أهل الدار ذات ليله على صوتي ، وأنا أهتف وأصيح : فليسقط الظلم.. الموت للظالمين.. وعندما أيقظوني من حلمي ، تذكرت أني كنت أقود الجموع في المنام ، وأحاصر بها برج عبد الغني الأزرق ، وأحرضها على تدمير هذا الصرح الذي قام على جماجم الأبرياء..
    وخطر لي مرة أن الذئب الأنيق عبد الغني الذهبي قد يكون نفذ خطته في تسويق أغذية الأطفال الكاسدة التي انتهى عمرها المفيد ، وبدأ فعلها السام!.. نزلت إلى الأسواق كالمجنون ، وطفقت أطوف على محلات بيع الأغذية والصيدليات التي أعرفها لأتفقد ما لديها من أغذية أطفال ، واضطرابات لشراء بعض العينات حتى لا أنبه الباعة إلى غرضي ، لم أعثر على أية عينية مخالفة ، جميعها صالحة للاستهلاك ، لا يمكن أن يسلم عبد الغني بخسارة مليون دولار بهذه السهولة ، لابد أنه قد سوق الأغذية الكاسدة في الريف ، هناك مازال الوعي بهذه القضايا ضعيفا ، والذين يهتمون بتاريخ الاستهلاك قليلون ، توقفت عند أحد أصدقائي من الصيادلة ، استغرب صديقي وهو يراني أحمل أصنافا من علب أغذية الأطفال ، قال مداعبا وهو يستقبلني في صيدليته:
    ـ أضاقت فرص العمل بالأطباء حتى صرت تعمل مروجا تجاريا لأغذية الأطقال؟..
    أرسلت تنهيدة وابتسامة وقلت:
    ـ من يدري؟ قد تلجؤنا البطالة التي تتسع في صفوفنا إلى أكثر من ذلك!.
    ضحك وقال:
    ـ لعلك تزوجت وأنجبت! كيف تفعلها ، ولا تدعوني؟
    قلت ساخرا:
    ـ لا تتفاءل كثيرا ، الأمر غير هذا تماما..
    ـ لماذا تحمل كل هذه الأصناف إذن؟
    قلت موريا تفاصيل الحقيقة:
    ـ سمعت أن أحد التجار الجشعين قد طرح في الأسواق كمية كبيرة من أغذية الأطفال التي انتهى زمن استهلاكها ، فأحببت أن أتأكد من ذلك.
    قال صديقي بنبرة تعجب:
    ـ أما زلت تحمل الدنيا فوق ظهرك؟.. ظننت أن السنين قد غيرتك!..
    قلت في قلق:
    ـ أتقوم وزارة الصحة بمراقبة دقيقة للسوق؟
    فتح صديقي ثلاجة صغيرة قرب المكتب ، فأخرج منها علبتي عصير.
    قال وهو يقدم لي إحداها:
    ـ وزارة الصحة تستطيع أن تراقب السوق ، لكنها لا تستطيع أن تراقب الضمائر.
    ثم أردف وقد أحاطت بشفتيه ابتسامة ذات معنى:
    ـ إنهم يزورون تاريخ الاستهلاك يا صديقي.. وأحيانا يتواطئون مع الشركات الصانعة من أجل ذلك!
    ـ الشركات الصانعة!.
    تناول صديقي الصيدلي كتابا أنيقا ، ودفعه إلي..
    ـ اقرأ هذا العنوان..
    تأملت غلاف الكتاب:
    ـ (الجرائم المنظمة في الصناعات الدوائية) تأليف "جون بريثويت" قال صديقي موضحا:
    ـ هذا الكتاب صدر في انكلترا قبل سنوات وأحدث صدوره ضجة كبيرة ، ولا سيما في العالم الثالث..
    ـ العالم الثالث!..
    ـ أجل.. مازالوا ينظرون ـ إلينا ـ بعين المستعمر الذي لا يرى في بلادنا إلا منجما للثروات أو سوقا لتصريف البضائع ، نحن بالنسبة إليهم مخلوقات من الدرجة الثانية لذلك يستهينون بشعوبنا ويصدرون إليها أغذية وأدوية غير صالحة للاستهلاك الآدمي.. ستجد في هذا الكتاب حقائق مذهلة عن شركات تصدر إلينا أدوية خالية نم أي تأثير ضار.. ستقرأ عن أدورية تباع إلينا على أنها علاج لأمراض لم تصمم هذه الأدوية لها أصلا.ستقرأ عن تزوير في الجرعات اللازمة لمقاومة المرض.. يزيدون الجرعات أضعافا مضاعفة ، حتى تستهلك كميات أكبر من الدواء ، فيربحون هم ، ونصاب نحن بالمناعة ضد مفعول الدواء ، فلا يعود يؤثر فينا ، بعض الشركات جربت أدويتها الجديدة في بلادنا ، وزعت أدويتها الخطيرة على البسطاء والفقراء كهبات وعطايا ، لتختبر مفعولها فيهم ، عاملتهم كما تعامل فئران التجربة ، ولم تحترم إنسانيتهم أو حقهم في الحياة.. بعضهم مات ، وبعضهم أصيب بأمراض خطيرة ، ولم يرتفع لهؤلاء صوت لأنهم لم يدركوا أن ما تم جريمة!..
    هالني ما سمعت.. أيصل استخفاف الدنيا بنا إلى هذا الحد؟.. قلت في حماس:
    ـ يجب أن تقوم الصحافة بفضح هذه الأساليب البشعة.. يجب أن يطلع الجمهور على هذه الحقائق..\
    قاطعني صديقي بنبرة ثقة وقال:
    ـ هذا الموضوع لا ينفع معه ألف مقال ، ولا ألف كتاب.. الحل الوحيد هو أن نتحرر من التبعية الاقتصادية المذلة.. أن نصنع دواءنا بأيدينا.. أن نصنع غذائنا بأيدينا.. حتى السلاح يجب أن نصنعه هنا ، لأن الأمة التي لا تصنع غذائها وسلاحها لا تستطيع أن تحمي استقلالها أو تصنع مستقبلها..
    قلت وأنا أهم بالنهوض:
    ـ هذا الحديث ذو شجون.. سنلتقي في فرصة أخرى ونتحدث...
    وودعته مثقلا بالهموم ، نحن أمة كتب عليها التحدي ، وأمه كهذه يجب ألا تنام ، ولكن... كيف تواجه التحدي وعبد الغني الذهبي وأمثاله ينهشونها من الداخل؟.. أيكون عبد الغني قد زور تاريخ الاستهلاك؟ يجب أن أتصرف قبل أن تصل الأغذية الفاسدة إلى أفواه الأطفال!.. وومضت لي فكرة فلذت بها.. رفعت السماعة وطلبت وزارة الصحة..
    ـ وزارة الصحة معك.. نعم..
    ـ أريد قسم المراقبة الغذائية ، المدير لو سمحت..
    ـ لحظة من فضلك..
    وجاءني صوت المدير هادئا وعميقا:
    ـ نعم..
    ـ ثمة بلاغ هام أريد أن أدلي به.
    ـ من المتكلم؟..
    ـ لا داعي لذكر الاسم..
    ـ تفضل..
    ـ هناك تاجر جشع يستعد لطرح كمية هائلة من أغذية الأطفال التي انتهت مدة استهلاكها في السوق.. هذا إن لم يكن قد طرحها فعلا..
    ـ من هو؟..
    ـ أعتقد أنه يخطط لبيعها في الريف مستفيدا من تخلف الوعي الصحي هناك ، هو الذي حدثني بذلك ن وطلب مني أن أساعده..
    ـ قل لنا من هو ونحن سنتحقق من الأمر..
    ـ قد لا يكون تاجرا واحدا!..
    صمت المدير برهة ثم قال:
    ـ أخشى أنك من هواة العبث على الهاتف!..
    قلت في إصرار:
    ـ سيدي أنا لا أعبث ، أنا أستند على حقائق..
    ـ اذكر لنا اسم التاجر إذن..
    ـ لماذا لا تقومون بحملة شاملة للتحقق من صلاحية الأغذية الموجودة في السوق؟ إنه أمر يستحق الاهتمام..
    ـ يبدو أنك تعبث.. إما أن تعطيني معلومات محدده تساعدني على سرعة التصرف ، أو تغلق السماعة وتنصرف..
    حط علي الصمت فجأة ، وأنا أتخيل ما ينتظرني على يد والد أحلام ، سيدرك أني وراء البلاغ وسينفذ تهديده.. سيلوث سمعتي ويهز مستقبلي.. وسيقلب الموازين.. سيجعل البريء مجرما والمجرم حملا ، ويرضي شهوته للانتقام..
    وألمت بي لحظة من ضعف ، فكدت أهوي بالسماعة ، لأكتم أنفاس هذه المكالمة التي ستفجر في حياتي المتاعب ، لكن صوت المدير عاد يحثني على الكلام:
    ـ من هو؟
    قاومت ترددي وجبني بشدة:
    ـ إنه عبد الغني الذهبي.. التاجر المعروف..
    ـ يبدو لي إنك إنسان مغرض.
    وصلتني كلماته كالصفعة.. قلت غاضبا:
    ـ أهكذا تقولون لمن يحذركم من كارثة قد تودي بأرواح المئات من الأطفال؟.ز
    قال بنبرة الساخر:
    ـ لا ، لا نقول هكذا لكل الناس ، لكني أقولها لك أنت بالذات ، لأنك إما مغرض فعلا ، أو عابث..
    ـ لماذا تتحدث بهذه الثقة والإصرار؟.. ما الذي أوحى لك بأني مغرض أو عابث؟..
    ـ لأن عبد الغني الذهبي إنسان نظيف.. رجل من ألمع رجالات البر والإحسان في هذه المدينة ، ولا يمكن أن يقدم على عمل دنيء كالذي تتهمه فيه..
    ضحكت.. وشر البلية ما يضحك!.. تذكرت رسما كريكاتيريا لأنثى الشمبانزي وهي تتربع على عرش ملكة جمال العالم.. يا زمن الزيف.. أطرف كذبة سمعتها في حياتي!... عبد الغني الذهبي رجل بر وإحسان..
    قال المدير وقد أحس بالسخرية التي وشت بها ضحكاتي:
    ـ أنا لا أمزح... عبد الغني الذهبي الذي تتهمه بالغش تبرع في الشهر الماضي فقط بخمسين ألف علبة من أغذية الأطفال ، وقد وزعت على الأحياء الفقيرة بإشراف إحدى الجمعيات الخيرية..
    يا له من ماكر!.. إنه يتلون كالحرباء ، ويتقن فن التمويه ، يعطي القليل ويأخذ الكثير..يرتكب الموبقات في السر ، ويجهر بالحسنات.. يخدر الناس بسخاء كاذب ، ويمتص دماءهم بجشع فظيع ، وقلت في سخرية مريرة:
    ـ لا تخدعك هذه الأريحية الطارئة يا سيدي ، فأنا أعرف منك بهذا الذئب.. معلوماتي تؤكد..
    لم يمهلني حتى أكمل ، أغلق في وجهي السماعة ، صوت النفاق بات أعلى!.. استطاع عبد الغني الذهبي أن يخدر الرأي العام بخمسين ألف علبة غذاء لم يبق من عمرها الحقيقي سوى أيام ، والكمية الباقية؟.. الله أعلم كيف سوق ما بقي من الأغذية الفاسدة.. لعله زور تاريخ استهلاكها ، ولعله باعها كما هي مستفيدا من جهل الجمهور.. هذا الماكر.. إنه يوظف كل شيء لصالحه.. يستفيد من كل نقطة ضعف في هذا المجتمع المريض... العشرة بالمئه التي كان ينوي أن يرشيني بها رشى بها مجتمعا بأكمله!..
    وألفيت نفسي أمام مبنى جريدة الأيام.. لا.. لا.. هذه ليست جريدة الأيام! وعدت أتأمل اليافطة الأنيقة المعلقة على صدر البناء.. "مجلة الدين للأطفال"!.. ولكنها كانت هنا.. هذا مبنى جريدة الأيام فمن أين أتت مجلة الأطفال؟!.. لا بد أن الأستاذ سعيد قد فعلها أخيرا ، وطلق الصحافة طلاقا بائنا لا رجعة فيه.. كنت أتمنى أن أجدك يا أستاذ سعيد.. عندي أشياء كثيرة كنت أريد أن أحدثك بها..
    وخرجت من مبنى المجلة مجموعة من الأطفال.. كانوا ثلاثة ، وكان كل واحد منهم يحمل مجلة.. يتصفحها وهو يسير على مهل ، وكأن لهفته للقراءة لم تمهله حتى يصل إلى البيت فيقرأ مجلته بهدوء.. استيقظت في أعماقي طفولتي القديمة..
    "أروني هذه المجلة يا أطفال"..
    تقدم أحدهم ، ومد لي يده بالمجلة بينما وقف صديقاه على بعد خطوات منا ، يرقباني بدهشة..
    قلبت المجلة بسرور.. كم تحركت هذه الصور الملونة في خيالنا ونحن صغار!.. كانت أحلام الطفولة المجنحة الطليقة تبعث الحياة في هذه الرسوم الجميلة ، وتحلق بنا في عالم مسحور!.. كم طرت في طفولتي على بساط الريح ، وكم تجولت مع السندباد في أسفاره الممتعة المثيرة ، وكم تقت لمصاحبة سمير..
    ـ "عمو ، عمو.." هل تعرف حل المسابقة؟
    حضنت الطفل بنظرة ودودة وابتسمت:
    ـ أين هي المسابقة؟..
    خطف الطفل المجلة من يدي ، وراح يقلب صفحاتها ، حتى عثر على صفحة المسابقة..
    ـ اقرأ هنا.. هذه هي المسابقة..
    قرأت بصوت مسموع:
    ـ "مدينة عربية يبدأ اسمها بحرف القاف ، فتحها عمر وحررها صلاح الدين ، ثم احتلها اليهود عام 1967 ، وحرقوا مسجدها الشهير ، هل تعرفون ما هي؟".
    تفكر الطفل قليلا ، ثم هتف في حماس:
    ـ القدس..
    انحنيت نحو الطفل فيما يشبه الركوع ، فتقابلنا وجها لوجه ، قلت مداعبا:
    ـ ها أنت تعرف الحل ، فلماذا تريدني أن أساعدك؟
    ابتسم الطفل وقال في حياء:
    ـ ظنتها صعبة!..
    ـ يجب أن تكون واثقا بنفسك.
    ـ ما معنى "واثقا بنفسك"؟..
    ضحكت ، تذكرت أن للأطفال لغتهم وقاموسهم الخاص ، حاولت أن أقرب له المعنى:
    ـ أن تكون واثقا بنفسك يعني شأن تعتقد بأنك قادر على الإجابة عن أسئلة المسابقات والدروس دون أن تستعين بأحد ، حاول دائما أن تعتمد على نفسك يا صديقي فأنت ذكي كما أرى!..
    لم يمهلني حتى أتم موعظتي.. بدا غير متحمس لسماع المزيد!.. انطلق نحو صديقيه بخفة ومرح ، وقال لهما بنبرة تشي بالفخر:
    ـ لقد عرفت حل المسابقة ، إنه مدينة القدس..
    نظر إليه أحدهما في شك ، وقال له وهو يشير إلي:
    ـ هو الذي حلها لك!..
    ضرب الطفل الأرض بقدمه الصغيرة ، وقال وقد أثاره هذا الاستخفاف بقدراته:
    ـ بل أنا الذي حللتها بنفسي.. أسأله إذا أردت!..
    أسرع الطفل المرتاب إلي مستجيبا للتحدي ، ثم سألني وهو يشير إلى صديقه في شك:
    ـ "عمو ، عمو".. أصحيح أنه عرف حل المسابقة وحده..
    أسعدني هذا الحوار الطفولي الطريف ، ولأول مرة منذ مدة طويلة شعرت بأني أبتسم من الداخل.. ابتسم ابتسامة لها جذور عميقة من الفرح.. الأطفال هم الفرح الباقي في هذا العالم.. قلت للطفل مطمئنا:
    ـ نعم.. هو الذي حل المسابقة.. حلها وحده ودون أن أساعده.
    ثم أردفت مشجعا:
    ـ إنها مسابقة سهلة ، تستطيعون حلها جميعا والفوز بجائزتها..
    هنا تدخل الطفل الثالث.. قال لصاحبيه فجأة ، وقد اكتفى بمراقبة ما حدث:
    ـ دعونا نعود إلى الأستاذ سعيد ، ونخبره بأنا قد عرفنا الحل..
    الأستاذ سعيد؟
    عدت بنظراتي إلى اليافطة المعلقة على صدر البناء ، هل حول الأستاذ سعيد جريدته إلى مجلة أطفال؟..
    وأسرعت إلى الداخل..
    كان الأستاذ سعيد جالسا بين مجموعة من الأطفال ، يحادثهم ويحادثونه ، يحاول الاقتراب من عالمهم ، وفهم أفكارهم وأحلامهم..
    وحانت منه التفاته إلي فألفاني لدى الباب ، أرقبه بإكبار!..
    ـ أهلا.. أهلا بالدكتور صلاح..
    وهب لاستقبالي ببشاشة وحرارة ، وقد أطلت من عينيه نظرة متفائلة ، لم أكن أراها فيما مضى..
    قال وهو يشد علي يدي:
    ـ منذ متى لم أرك!.. ما أخبارك هذه الأيام؟
    همست كالحائر ، وأنا أجول بنظراتي الداهشة المستطلعة في وجوه الأطفال الذين ملؤوا الغرفة:
    ـ أريد أن أفهم ما يجري!..
    ـ ما كان يجب أن يجري منذ زمن بعيد!..
    ـ ما زلت لا أفهم!..
    ـ تعال ، تعال..
    وقادني من يدي إلى مكتبه ، قال وهو يأخذ مكانه مقابلي:
    ـ لأول مرة في حياتي أشعر بأني أمضي في الطريق الصحيح!..
    ثم بعد إطراقة قصيرة:
    ـ كان علي أن أفهم هذا منذ البداية.. المشكلة عند المنبع.. هناك يبدأ التلوث ومن هناك يجب أن يبدأ العلاج.. من العبث أن نحشد جهودنا عند المصب ونترك المنبع مكشوفا معرضا لجراثيم الجهل والتخلف والفساد.. فهمت ذلك متأخرا للأسف ، لكني لم أضيع الوقت.. تركت للكبار عالمهم الموبوء ، وهرعت إلى عالم الأطفال لأحميه من التلوث..
    وغلبه الابتسام فأطرق كالحالم ، ثم تابع يقول:
    ـ للعمل مع الأطفال متعة خاصة لا تدانيها متعة.. في عالمهم تجد الإنسان بفطرته الأولى.. تجده بخصاله البكر التي لم تلوثها بعد أمراض الكبار.. عندما بدأت مشروع مجلة الأطفال ، كنت أنوي أن أعلم الأطفال أشياء كثيرة ، لكني ما إن بدأت معهم حتى شعرت بـأني أتعلم منهم.. تعلمت منهم الصدق.. الصراحة.. البراءة.. التفاؤ.. العدل.. اكتشفت أن الإنسان يعشق العدل بفطرته.. ويكره الظلم.. حاول أن تراقب الأطفال.. لا يرضى طفل أن تدلل أخاه أو صديقه أكثر منه!.. ينفر منك إن أنت ابتسمت لزميله ولم تبتسم له.. يكرهك إن أنت اعتديت على حقوقه ، أو خدشت شخصيته ، إنه إنسان كامل له كيانه الخاص ، ولا يقبل منك إلا أن تعامله باحترام.
    ثم ضحك الأستاذ سعيد.. ضحك وقال:
    ـ لم يخطر لي يوما أني سأتجه إلى صحافة الأطفال!.. كنت أظن أن الكبار هم ميدان التغيير.. تصوت أني يمكن أن أغير بخطبة أو مقال.. تخيلت كلماتي الصادقة عصا سحرية يمكن أن تصلح الأوضاع الفاسدة بلمسة واحدة.. وبعد سنوات طويلة اكتشفت أني كنت أعبث.. ألعب.. أنفخ في قربة مثقوبة.. أثارت تفكيري مقولة خطيرة لعالم نفس مشهور:"شخصية الإنسان تتشكل في السنوات الأولى من عمره".. وأخيرا اهتديت إلى الطريق.. عندما تثقف الأطفال وتربيهم ، فإنك تصنع أمه.. تصنع المستقبل المشرق الذي تحلم فيه..
    واستدرك الأستاذ سعيد فجأة ، فقال:
    ـ ما رأيك أن تعمل معي؟
    ابتسمت كالحائر ، هذه المرة الثانية التي يدعوني فيها الأستاذ سعيد للعمل معه!..
    ـ أستاذ سعيد.. لماذا تريدني أن أعمل معك؟
    ـ لأنك تملك ما تقوله للناس..
    ـ لا يكفي أن يجد الإنسان ما يقوله.. يجب أن يعرف كيف يقوله؟
    ـ سأعلمك فن الكتابة.
    ـ أنا يا سيدي طبيب ، ولا أريد أن أكون غير ذلك..
    ـ الدكتورة أحلام أيضا طبيبة!..
    أثارتني هذه الملاحظة.. لم أفهم ما يقصده!.. ما دخل الدكتورة أحلام في حديثنا؟.. قوست حاجبي في دهشة ، وجال في عيني سؤال!.. أردف الأستاذ سعيد وقد لمح الدهشة في نظراتي:
    ـ طبيبة ورسامة..
    ـ كيف عرفت؟..
    ـ عرفت ماذا؟..
    ـ أنها رسامة..
    ـ من الصحف طبعا..
    ـ الصحف؟!!..
    ـ ألا تقرأ الصحف؟..
    ماذا جاء في الصحف عن أحلام حتى عرف الأستاذ سعيد عنها أنها رسامة ؟.. تناول الأستاذ سعيد إحدى الصحف من فوق مكتبه ، وفتحها على الصفحة الثقافية ، ثم دفع الصحيفة إلي قال:
    ـ اقرأ هنا.. العمود الأيمن في الأسفل..
    تناولت الجريدة بلهفة ، ورحت ألتهم السطور باهتمام.. "تدعو الطبيبة الفنانة الدكتورة أحلام عبد الغني الذهبي الجمهور الكريم إلى حضور معرضها الأول الذي ستقيمه في قاعة المعارض في المركز الثقافي.. وسيتم افتتاح المعرض في الساعة السادسة من مساء اليوم ويستمر ثلاثة أيام"..
    خفق قلبي للنبأ.. شعرت بشوق عارم إلى أحلام ، ها هي تخرج أخيرا من قوقعتها الحزينة..
    قال الأستاذ سعيد في حيرة:
    ـ كيف تكون زميلها في المستشفى ، ولا تعلم؟ ألم تدعك إلى معرضها؟..
    هسمت بنبرة أسف:
    ـ لقد استقالت منذ أسابيع..
    ـ استقالت؟.. أو تفرغت للفن؟..
    نكأ الحديث جروحي.. نهضت فجأة ، قلت:
    ـ أستاذي.. أرجو أن تسمح لي بالانصراف.
    نهض الأستاذ سعيد ، قد أثار دهشته هذا التغير الذي اعتراني!.. سدد إلي نظرة متفحصة وقال مستوضحا:
    ـ أأنت على ما يرام؟..
    ـ على ما يرام..
    ـ لا تبدو كذلك!..
    ـ سأزورك في وقت آخر..
    ـ أنت تعاني من أزمة!..
    لم أرد أن يتشعب بنا الحديث.. مددت له يدي مودعا.. قال وهو يحتفظ بيدي بين راحتيه:
    ـ أتحبها؟
    أطرقت كمن يعترف.. همست وأنا أسحب يدي برفق:
    ـ سيأتي يوم نتحدث..
    ـ ستجد بابي مفتوحا في كل وقت..


    الفصل السابع والعشرون

    ـ صلاح؟.
    ـ أيزعجكِ حضوري؟..
    ـ أبدا.. تفضل..
    ـ أهنئك على المعرض.
    ـ تعال لأريك لوحاتي..
    ـ أنت لوحتي الأحلى والأغلى..
    ـ اتفقنا على أن نبقى أصدقاء!..
    ـ اكتشفت أن الصداقة بين الرجل والمرأة كذبة..
    ـ كذبة!..
    ـ كذبة نسلي بها قلوبنا المحرومة..
    ـ لم يكن هذا رأيك!..
    ـ لم أكن أعرف أني أحبك كل هذا الحب!..
    ـ للحب نهاية معروفة..
    ـ الزواج؟
    ـ وقد رفضته!..
    ـ أنا لم أرفضه.. أنا...
    ـ أنت ماذا؟..
    ـ أحلام أرجوك لا تكوني قاسية..
    ـ كنت أقسى..
    ـ بل هو أبوك.. إنه جلاد بلا رحمة.. ظالم بلا رأفة.. إنسان بلا قلب.. لو تعلمين ما فعله بي أبوك!..
    وشعرت بهزة مباغتة ، ارتجت لها السيارة رجة عنيفة ، وأفقت من شرودي على صوت غاضب ينهال علي من الخلف..
    ـ ألا تنتبه يا أستاذ؟ لقد أضيئت الإشارة الخضراء.. وأنت سارح شارد غائب عن الدنيا.. إن كنتم لا تستطيعون أن تسيطروا على أفكاركم ، فلا تقودوا السيارات ، وتهددوا بها الشوارع الآمنة...
    ركبني ارتباك وخجل ، فترجلت بسرعة ، واعتذرت للرجل ، ثم تفقدت سيارته ، فوجدتها سليمة ، أما سيارتي فقد أصيبت ببعض الأضرار ، قلت للرجل مسلما بالنتيجة:
    ـ لا يهم.
    ـ أضاءت الإشارة الخضراء فانطلقت.. ظننتك ستنطلق أمامي.. لكنك لم تتحرك!..
    ـ آسف.. لم أكن قاصدا...
    ـ بسيطة..
    وانفجرت أبواق السيارات التي تقف خلفنا ثائرة مزمجرة ، تدعونا للانطلاق بسرعة ، وتسوية الأمر في مكان آخر ، بعيدا عن فوهة الشارع الذي اكتظ بقافلة طويلة من السيارات الغاضبة ، كررت اعتذاري للسائق الذي يتلوني ، وانطلقت بسيارتي متوتر الأعصاب معكر المزاج ، بقي على افتتاح المعرض قرابة ساعة.. لقد بكرت كثيرا!.. ولكن.. حقا ، كيف ستواجه أحلام؟.. واندلعت الأسئلة في خاطري ، فقاومتها بشدة ، حتى لا يدهمني الشرود ثانية ، وأرتكب خطأ جديدا ، قد لا يقتصر ضرره علي وحدي هذه المرة ، لكن الأسئلة العنيدة عادت تساورني.. كيف ستستقبلك أحلام؟ أما زالت عاتبة؟ أم أنها نسيت؟ نسيت؟!.. أحلام لا يمكن أن تنسى.. إنها تحبني بصدق وإخلاص.. إذا كانت تحبك فلن تخذلك!.. ستتلقاك بعيون فرحة تشعشع باللهفة والشوق ، وسيشرق وجهها الجميل ، بتلك الابتسامة العذبة الوادعة التي كانت دائما بلسما لروحك.. لكنك جرحتها أو على الأقل لم أقابل مبادراتها بموقف واضح.. الذنب ليس ذنبك.. لقد قمت بكل ما يتوجب عليك.. أبوها هو السبب.. ذلك العاتي الذي حجز بينكما بقسوة.. لكنها لا تعرف الحقيقة.. لا تعرف أني قابلت مبادرتها بإخلاص ، فوقعت في الفخ الذي نصبه لي أبوها بمكر.. أنا الملام في نظرها الآن. كم تبدو الحقائق مقلوبة في هذا العالم. لكأن الأضداد قد تبادلت المقاعد في الأذهان ، فأصبح البرئ مدانا ، والمخلص جاحدا ، والأبيض أسود!.. لم يكن جحا غبيا عندما كان يفعل دائما عكس ما يطلب منه. لعله عاش مثلنا في عصر مقلوب ، فأراد أن يقابل عصره بحكمته الجحوية العميقة!..
    ووصلت إلى المركز الثقافي بسلام ، فركنت السيارة في مكان قريب ، وجلست أنتظر.. أخذت أعد الثواني واحدة واحدة. أصحبها في رحلتها الأزلية عبر دائرة الزمن.. تك.. تك.. تك.. ما أصعب الانتظار وأقساه!.. لكأنه رجل متوحش بلا قلب يجمع الأعصاب داخل قبضته الحديدية ويسحقها بقسوة وهدوء مثير.. تك.. تك.. تك.. كانت الثواني تتجمع ببطء لتنظم في دقائق ، وكانت الدقائق تتكاسل في مشيتها ، فتثير حنقي وغيظي ، لكانها قد تآمرت على أعصابي العارية ، وقررت أن تشويها بجحيم القلق والضجر واللهفة والضيق!.. حتى الدقائق والثواني باتت ضدي ، تريد أن تحرمني من أحلام!..
    وجعلت أتلفت يمنة ويسره ، وأذرع المكان بخطى قلقه ، أردت أن أكون أول من يقول لها مبروك ، أحببت أن أن تعانق ابتسامتي ابتسامتها ، فتمحو بسمات الشوق والرضا ، ما تسرب إلى قلبها نحوي من الشكوك والظنون, ولكن.. انظروا من هناك!.. هذا وجه أعرفه إنها نورا!! تلك المرأة الغامضة التي هربت مني ، وحملت معها سر الطفلة اللقيطة التي شعلتني لغزها زمنا وما زال.. ماذا تفعل نورا في هذا المكان؟..
    ومضيت نحوها مدفونا برغبة جامحة للاستطلاع.. يجب أن أحطم قشرة الغموض التي تغلف تصرفات هذه المرأة اللغز!... وألفتني أمامها ، فندت عنها شهقة ذعر.. همست كمن بوغت بشبح:
    ـ أنت؟
    ـ هل فاجأتك؟
    دمعت عيناها ، وقالت بنبرة متهدجة تشي بالضيق.
    ـ أنت تلاحقني في كل مكان!
    ـ أنا أبحث عن الحقيقة..
    ـ أية حقيقة؟
    ـ حقيقة الطفلة..
    ـ اضطربت وقالت في تلعثم:
    ـ لا أفهم عم تتحدث!..
    تنفست بعمق ، وقلت بلهجة رفيقة:
    ـ آنسة نوار.. عندي إحساس عميق بأنك مظلومة.. تصرفاتك تشي بأنك إنسانة مغلوبة على أمرها ، أو على الأقل امرأة ندمت على خطاياها ، وتريد أن تتوب..
    هتفت في وجهي بنبرة احتجاج هدجها الانفعال:
    ـ أنا لست خاطئة.
    ـ أدركت أن كلامي قد جرحها ، وخدش مشاعرها ، قلت مواسيا:
    ـ آنسة نوار ، أنا لا أريد أن أحاسبك أو أتهمك ، كل ما يعنيني هو بارعة ،يجب أن نجنب هذه الطفلة ما ينتظرها من شقاء..
    انثالت دموع الآنسة نورا بصمت ، وأطرقت لتخفي دموعها عن عيون العابرين ، فحاولت التخفيف عنها علها تهدأ ، فلا تلفت إلينا الأنظار:
    ـ آنسة نورا اعتبريني صديقا ، كفكفي دموعك ودعينا نتحدث بهدوء ، هل يمكن لنا أن نتحدث؟
    هزت رأسها بالموافقة ، ومضت معي إلى مقصف المركز ، اخترت مكانا هادئا يطل على قاعة المعارض حيث سيفتتح معرض أحلام ، وانتظرت نورا ريثما هدأت وكان النادل قد جاءنا بعصير الليمون ، فرشفت عصيرها في صمت ، وهي تبحر بأفكارها في المجهول ، وعادت من رحلة الشرود فجأة لتقول:
    ـ يبدو أنك شاب طيب القلب!.. اهتمامك ببارعة جعلني أؤمن بك بعد أن كفرت بالرجال.. تبدو لي رجلا أمينا.. رجلا من العالم الغابر.. عالم المعتصم الذي كان يهتز ويثور من أجل إنقاذ امرأة مهددة ، لا عالم الوحوش الذي يستضعف المرأة ، ويفترسها بصمت..
    أدهشني حديثها ، علقت في إعجاب:
    ـ كلماتك فصيحة ورقيقة!..
    ـ هو الألم يا سيدي يصهر كلماتنا ويصقلها ، ثم يرسلها بهذه الرقة والبيان..
    ـ لكن حديثك يعكس ثقافة واسعة ، هل أنت جامعية؟
    ـ كنت..
    ـ وراءك قصة كبيرة!..
    ـ لكل منا قصة..
    ـ قصتك حيرتني.. ليست قصة عادية فيما أظن!..
    ندت عنها آهة عميقة ، وقالت:
    ـ نعم.. لم تكن قصتي كسائر القصص..
    ـ أريد أن أعرفها..
    ـ أخشى أن لا تصدقها..
    ـ سأصدقها.. كوني واثقة..
    أطرقت في حزن ، وراحت في غيبوبة من الصمت ، وكأنها تغوص إلى أعماقها السحيقة ، لترتب ذكرياتها الأليمة ، ثم ما لبثت أن قالت بصوت دامع:
    ـ أسمه يا سيدي قصتي من أولها ، صدقها أو لا تصدقها ، انشرها أو اكتمها.. تصرف بها كما تشاء.. فلم يعد في هذه الحياة شيء يهم..
    كانت يائسة حتى أعماق اليأس ، وكانت كئيبة كئيبة حتى الثمالة ن وكانت شاحبة كالخريف.. أردفت وهي تغالب الدموع:
    ـ قصتي يا سيدي قصة حزينة.. قصة الضعيف عندما يتوه في عالم الأقوياء.. قصة البريء الذي يظن أن كل الناس من حوله أبرياء.. قصة جذورها في القرية ، وفروعها في هذه المدينة الواسعة التي تعج بالمتناقضات..
    هناك.. في قريتي الحبيبة ـ ولن تحتاج لمعرفة اسمها ـ هناك ولدت وترعرعت.. تشبعت بهواء الريف النقي وعشقت خضرته الفاتنة ، وأدمنت على مائه الزلال ، فتحت عيني على الدنيا ، لأجد أمي الأرملة بقربي ، تحضنني وترعاني ، وسألت عن أبي فأخبروني بأنه قد سافر ، كبرت ، وكبر في فمي السؤال ، وعرفت الحقيقة.. لقد مات أبي وأنا ما زلت جنينا في بطن أمي.. أصابته رصاصة طائشة ، وهو يشارك في أحد أعراس القرية ، فأردته قتيلا ، وكنت أنا وأمي ضحايا هذه الرصاصة الغبية..
    وكانت أمي وفية لزوجها ، أو لنقل مصدومة.. فلم تصدق أن حلمها في الزواج والحياة الهادئة الرغيدة قد هوى مع زوجها القتيل.. عزفت عن الزواج ، ووأدت جمالها في أعماق الحزن ، فرفضت كل من خطبوها ، وهم كثر ـ وانكبت على رعايتي وتربيتي ، ومنحتني حنانا سابغا عوضني بعض حنان الأب الفقيد الذي غادر الدنيا قبل أن أصل إليها..
    وكانت أمي تهوى الخياطة وتتقنها ، فوجدت في هوايتها تسلية مفيدة ، ودواء للفراغ الذي تعانيه ، ومصدر دخل يكفينا حاجة الناس من الأقارب والأباعد.. وملأت شهرة أمي القرية ، درت عليها الخياطة دخلا معقولا ، فعشنا سنوات جميلة ، لا يعكر صفوها سوى ذكرى الأب الفقيد..
    ودارت الأيام ، فكبرت ونضجت ، انبثقت في أعماقي أحلام المراهقة وأشواقها ، فرحت أرسم في خيالي لوحة المستقبل الباسم الذي كنت أحلم فيه..
    وذات يوم ، جلست أمي بقربي وقالت:
    ـ لا يمكن للمرأة أن تحيا دون رجل ، هذه سنة الحياة..
    فاجأتني بكلماتها ، فأوحت لي أوهام المراهقة بأن نضجي وجمالي قد لفت إلي الأنظار ، وأن أحدهم قد تقدم لخطبتي ، ابتسمت في حياء ، وتشاغلت بكتاب كنت أقرؤه ، وأنا أتلهف لسماع بقية الحديث ، تابعت أمي وهي تسرح بخيالها فيما لا أدري:
    ـ بعد أن مات أبوك ـ رحمه الله ـ قررت ألا أتزوج ثانية ، خشية عليك من قسوة زوج الأم وشح حنانه على فتاة لم ينجبها ، لكنك اليوم صرت صبية جميلة ، يتمنى ودها كل شباب القرية ، ولم تعودي بحاجة إلى أحد..
    دغدغت كلمات أمي مشاعري ، فانتشيت بها ، وحدثتني نفسي بأني على أعتاب فرحة وشيكة ، فابتسمت رغما عني. ورفعت الكتاب إلى وجهي ، لأخفي ابتسامتي الفرحة ، بانتظار المفاجأة التي تمهد لها أمي بمقدمتها ، سألتني أمي وهي تترقب ردة فعلي باهتمام:
    ـ هل تعرفين جارنا أبا سلامة بائع الألبان؟..
    كان وقع الاسم على مفاجئا ومثيرا ، فدق قلبي بعنف ، وقلت وأنا أنتفض من الذعر:
    ـ لكنه كبير السن يا أماه!!..
    رمشت أمي ، وقالت في دلال:
    ـ لكنه ليس كبيرا على أمك..
    دارت أفكاري وانتقلت من أقصى الحلم إلى أقصى المفاجأة..
    فهمت ما أرادته أمي من كل هذه المقدمات..
    وأعلنت رفضي لهذا الزواج متذرعة بما سمعته عن قسزة الرجل وشحه المعروف ، وحذرتها من الصدام الذي ينتظرها مع زوجته الفظة ، وأولادها اليافعين الذين سيتعاطفون مع والدتهم ، لكن ذرائعي تهاوت أمام إصرارها الملطف بالمبررات..
    أدركت أن الأمر قد نضج على نار هادئة ، وأن صبر أمي على حياتها الباردة ، المقفرة من دفء الشريك قد نفد ، فاستجابت لنداء الأنثى المكبوته داخلها ، فدبرت ، وقررت ، ثم جاءت تفصح عن قرارها ، لا لتستشيرني فيه ، بل لتلزمني به ، وكانت تعرف أني لا أرفض لها طلبا ، فرضخت لرغبتها وتهيأت لحياتي الجديدة معها في ظل زوج الأم...
    وانتقلت مع أمي إلى بيت زوجها الواسع ، فظننت أن جدران البيت الجديدة ستشع بالسعادة احتفالا بقدومنا ، وقدرت أن أبا سلامة مهما كان شحيحا ، فلن يكون شحيحا على زوجته الثانية التي استمات في الوصول إليها ـ كما علمت فيما بعد ـ مبهورا بجمالها الذي كانت ما تزال تحتفظ به حتى ذلك الوقت..
    لكن تقديري ـ للأسف ـ كان مسرفا في التفاؤل ، وسرعان ما بدأ حسن ظني به يتعكر.. فلم يمض على زواج أمي يومان حتى اندلعت الخلافات بين أمي وضرتها ، ونشب بينهما صراع مرير.. ثم بدأت معاناة أمي مع زوجها الذي تبين أنه لم يتزوجها لجمالها فحسب ، بل لأنها كانت خياطة ماهرة يمكن أن تدر عليه المال الوفير ، وما أن انتهى الأسبوع الأول من زواجهما ، حتى بدأ أبو سلامة يطالب أمي بأن تلتفت إلى مهنتها وزبائنها ، وصار يحاسبها على ما يأتيها من دخل ، وكأنها خياطة أجيرة تعمل لحسابه ، وعندما كان يكتشف أن أمي قد ادخرت بعض النقود ، وأخفتها عنه ، كان يقيم الدنيا ولا يقعدها ، ويتذمر من مصاريف البيت العالية التي زادت بسبب قدومنا ـ أنا وأمي ـ إلى البيت..
    وعرضت والدتي بيتنا القديم للإيجار ، فاستولى أبو سلامة على أجرته الشهرية ، وقد ظن أن زواجه من أمي يعني أنها صارت ملكا خاصا له ، وكأنها إحدى بقراته الحلوب التي كان يربيها من أجل أن تمده بالحليب اللازم لصناعة الألبان ، وصبرت أمي على حياتها الجديدة ، فتمسكت بها برغم كل ما فيها من ضنك وشقاء ، وآثرتها على حياة الوحدة الموحشة التي كانت تحياها أرملة بلا زوج..
    كنت آنذاك في الصف الثالث الثانوي العلمي ، وكنت مجتهدة في دروسي ، تملأ رأسي طموحات كبيرة بدخول الجامعة والتخرج منها طبيبة أو مهندسة أو صيدلانية ، لكن جحيم المشاكل الذي كان يتفجر من حولي بالهموم والمنغضات ، أثر على دراستي تأثيرا سيئا ، وأروثني شقاء أمي هما وحزنا مقيما لا يفارقني.. وليت الأمر وقف عند هذا الحد!.. فلم تلبث قسوة زوج أمي أن طالتني على يد ابنه سلامة ، فقد كان سلامة شابا جاهلا أحمق ، جعلت منه قسوة أبيه إنسانا مشوها قاسيا لا يرحم ، كان عدائيا إلى درجة مخيفة ، وكان فظا بذيئا لا يتوانى عن استعمال الألفاظ الفاحشة مع أقرب الناس إليه..
    ومنذ الأيام الأولى لوجودي في بيت زوج أمي نصب سلامة نفسه وصيا علي ، فراح يراقب حركاتي وسكناتي ، ويلاحقني في ذهابي إلى المدرسة وإيابي منها ، ويحاسبني على تصرفاتي ، مدعيا بأنه يغار علي ، ثم قام بتحريض والده على منعي من إتمام دراستي ، بحجة أني فتاة جميلة ، ألفت انتباه الشبان في القرية ، وقد أجلب لهم العار إذا ما أقدمت على فعل طائش..
    وذات يوم نشب بيني وبين سلامة شجار عنيف ، فوجه لي كلاما قاسيا بذيئا ، واتهمني اتهامات ظالمة جرحتني وآلمتني ، فثرت لكرامتي وانهلت عليه بالشتائم ، وانفرجت بالبكاء..
    وانتظرت أن يقف زوج أمي إلى جانبي أو يقف على الحياد ، لكنه انحاز إلى جانب ابنه ، وأعلن ارتيابه في سلوكي لمجرد أني منتظمة في المدرسة ، وهنا انبرت أمي للدفاع عني وعن تربيتي العفيفة ، فما كان من زوج أمي إلا أن هوى بيده على وجه أمي المسكينة وصفعها صفعة قوية ، وهددها بالطلاق إن هي حاولت التدخل ثانية ، فهو ـ كما ادعى ـ يربيني ويحافظ علي بهذه الطريقة..
    وأمعن زوج أمي في الظلم والتعسف والطغيان ، فقرر أن يمنعني من إكمال تعليمي ، وكان قراره حازما صارما لا عودة فيه..
    ونظرت إلى أمي بعيون غائمة بالدموع ، فعضت طرفها الحزين ولم تأت بكلمة ، وقد بدا القهر والخضوع في وجهها المشوه ببصمات أصابع زوجها الآثمة ، وعينيها الكسيرتين..
    وتركت المدرسة مرغمة ، لكني لم أترك الدراسة ، فالعلم كان يجري في عروقي مجرى الدماء ، وقررت أن أستعيض عن الفرع العلمي بالفرع الأدبي الذي يسمح لي بالدراسة الحرة دون الاضطرار للدوام في المدرسة ، وصارحت أمي بنيتي ، فتنهدت في حيرة ، ولم تبد رأيا!..
    وكانت لي خالة متزوجة في المدينة ، فراسلتها بالسر ، وشكوت لها الجحيم الذي أحياه أنا وأمي ، ورجوتها أن تتوسط لدى زوج أمي ليسمح لي بتأدية امتحان الشهادة الثانوية الأدبية ، فخفت خالتي لنجدتي محملة بالهدايا ، واستطاعت بدهائها وكياستها أن تنتزع الموافقة منه..
    وأديت الامتحان بقرح ، واجتزته بنجاح ، وحزت على معدل مرتفع يسمح لي بدخول الجامعة ، لكن زوج أمي رفض فكرة التحاقي بالجامعة ، وكان صارما هذه المرة إلى حد لا ينفع معه التوسل ، ولا تجدي فيه الوساطة!..
    وعشت قلقا نفسيا فظيعا ، وأن أرى موعد انتهاء تقديم الطلبات للجامعة تقترب ، وقطار التحصيل العالي يكاد يفوت ، ولم ألبث أن حزمت أمري ، وقررت الهرب إلى المدينة ، للالتحاق بالجامعة ، وليكن بعد ذلك ما يكون!..
    بكت أمي عندما أخبرتها بقراري ، وحاولت إثنائي ، ولكنها استجابت لرغبتي في النهاية ، وهي ترى إلحاحي ودموعي ، وأعطتني مبلغا نم المال كانت قد ادخرته بالسر ن وأوصتني باللجوء إلى خالتي لترعى شؤوني ، وودعتني بالقبلات والدموع...
    وصمتت نوار فجأة ، وقد تعلقت نظراتها بشيء!.. التفت إلى حيث كانت تنظر ، فرأيت أحلام وهي تتقدم لافتتاح معرضها بصحبة أبيها وأمها التي كنت أراها لأول مرة..
    وخفق قلبي لرؤية أحلام ، وهي ترفل في هدوءها الجليل ، وقد ازدانت شفتاها بابتسامة رقيقة ، لم تكن كافية لستر القلق والحزن الذي كان يطل من عينيها الخضراوين الغارفتين في كآبة مفرطة ، وبدت ذاهلة بفكرها عما حولها ، تقابل الناس بابتسامتها الرزينة ، وكأنها تريد أن تبكي ، لتريق ينابيع الحزن والأسى التي تتفجر داخلها ، وأحسست بأني أتحمل جزءا من المسؤولية عن هذا الحزن والعذاب الذي تحمله داخلها في لحظة من أروع لحظات حياتها ، فركبني شعور مؤلم بالذنب..
    وتأملت أباها القاسي الذي يمضي إلى جانبها ، وهو في غاية التأنق واللطف ، فشعرت بالغيظ يأكلني ، ورمقت ابتسامته الكاذبة التي يقابل الناس بها باحتقار..
    وأذكر أني سمعت نورا تهمهم بكلام غامض أحسست فيه احتجاجا على شيء ، التفت إليها ، فوجدتها ترقب موكب أحلام بنظرات غامضة لا تريح!..
    سألتها مستطلعا:
    ـ هل كنت تقولين شيئا؟
    غمغمت بلهجة بان فيها الارتباك:
    ـ لا.. لا.. لم أقل شيئا..
    ـ كأني سمعتك تتحدثين!..
    ـ المهم.. إلى أين وصلنا؟
    ـ إلى أن هربت إلى المدينة..
    ـ نعم.. هربت إلى المدينة ، ولذت بها من ظلم القرية ، فوجدت أن ظلم القرية أخف وأرحم..
    علقت مشفقا ، وأنا أرقب طلائع الدمع وهي تغزو عينيها:
    ـ يبدو أنك عانيت في هذه المدينة كثيرا!..
    نشجت ، وقالت بنبرات تختلج:
    ـ هذه المدينة لا ترحم ، تبتلع الطيبين ، وتركع للأقوياء ، ويل للضعيف إذا تاه في مجاهلها..
    وداهمتها دفقة جديدة من الانفعال ، فصمتت ريثما استوعبتها ، ثم تابعت تقول:
    ـ بدأت معاناتي في هذه المدينة ، منذ أن وضعت قدمي فيها أول مرة..
    بدأت مع سائق تكسي كان أول من قابلته في هذه المدينة ، فطلبت منه أن يقلني إلى بيت خالتي حسب العنوان الذي وصفته له ، انطلق بي إلى حيث أردت ، وفي الطريق ، لاحظ السائق أني أرمق المدينة بنظرات حالمة ، وأرنو إلى معالمها الحديثة بإعجاب ، فأدرك أني فتاة غريبة أزور المدينة للمرة الأولى.. ولمح في وجهي جمالا أسال لعابه ، فأغرته غربتي وجمالي بالاقتحام.. بدأ يقتحمني بنظراته الوقحة ، فقطبت غاضبة ، وتجنبته ، لم ييأس ، أدار مسجل السيارة ، فأرسل أغنيات فاحشة من النوع الرخيص ، وعاد يقتحمني بنظراته من خلال المرآة ويعريني بعينية ، ظن أني فتاة ساذجة سهلة المنال ، فاستضعفني واندفع وراء أحلامه المريضة ، لم أسكت ، وبخته وطلبت منه أن يخرس الشريط ، ففعل مغتاظا ، وقال:
    "من حقي أن أضع الشريط الذي أريد" قلت له بلهجة حادة : "تفعل ذلك عندما تكون وحدك ، أما عندما يشاركك السيارة راكب ، فمن واجبك أن تحترم مشاعره" ضحك وقال: "أنت قوية الشخصية على ما يبدو ، من يرى جمالك وأنوثتك يظن بك رقة ولطفا يغريه بالتقرب إليك"..
    لم أحتمل سماجته ووقاحته المفرطة ، قلت له: "توقف" فماطل ، هددته إن لم يتوقف بأني سأمد رأسي من النافذة ، وأصرخ في العابرين طالبة النجدة..
    هنا توقف وهو يرمقني بعيني وحش أفلتت منه الفريسة ، نقدته أجرته ، وغادرت السيارة , وأنا ألعنه..
    ووقفت على الرصيف بانتظار سيارة أخرى ، فما لبثت أن تهادت قربي سيارة حديثة يقودها شاب ، فظننتها لأول وهلة سيارة أجرة ، لم أكن أعرف أن لسيارات التكسي لونا خاصا يميزها ، ولوحة ضوئية تعلوها!..
    اقتربت من السيارة ، وكدت أصعد إليها ، لكن السائق الشاب مال نحوي ، وقال وهو يحرك حاجبيه في حركة راقصة :"منذ متى وأنا أبحث عن فتاة بهذا الجمال!."
    أدركت أني أمام قناص آخر يبحث عن فريسة ، فأحجمت وتراجعت..
    وداخلني خوف ، شعرت بأن المدينة مليئة بأسماك القرش!... ووقفت في مكاني متوجسة حائرة ، ورحت أتفرس في وجوه السائقين الذين يمرون بي ، أبحث عن وجه لا يثير المخاوف..
    واستوقفت كهلا توسمت فيه النبل والطيبة ، فحملني إلى العنوان المطلوب بسلام ، ولم يضايقني بشيء ، فهدأ روعي ، واستبشرت خيرا ، وفكرت أن ما واجهته من متاعب لم يكن سوى صدفة مزعجة وسوء طالع..
    واستقبلتني خالتي بالأحضان ، وقد ظنت أني جئتها زائرة لأقضي عندها بضعة أيام ، لكنها عندما علمت بقصة هروبي ، وجمت ، وتعكرت ملامحها ، ولم تبد حماسا للفكرة!..
    واخترت دراسة اللغة الإنكليزية ، فسجلت نفسي في الجامعة ، وبدأت الدوام فيها ، وأنا فرحة بتحقيق حلمي في التحصيل العالي.. لكن فرحتي كانت مشوبة بالقلق على أمي المسكينة التي تتمزق بين ابنتها الوحيدة ، وزوجها القاسي ، وحمل إلينا أحد القادمين من القرية خبرا مفاده أن زوج أمي قد غضب من تصرفي غضبا شديدا ، وقرر أن يطردني إن أنا عدت إلى بيته ، وهدد أمي بالطلاق إن هي مدتني بقرش واحد..
    ثم ما لبث زوج خالتي أن ضاق ذرعا بوجودي في بيته ، فبدأت ألمس فظاظة وجفافا في معاملته لي ، وأفقت ذات ليلة على شجار عنيف بينه وبين خالتي ، وسمعته يتذمر من قلة ذات اليد ، وضيق المكان ، ويعتبرني سببا في الضائقة المالية التي يمر به ، أحسست بأني ضيفة ثقيلة ، وبدأت أتهيأ للرحيل ، ولكن.. إلى أين أمضي؟.. إلى قرية جاهلة أوصدت في وجهي الأبواب؟.. أم إلى مدينة ظالمة لا أعرف فيها أحدا سولا خالة مغلوبة على أمرها ، وزوج خالة لا يطيق احتمال عبء جديد؟
    وصارحت خالتي بعد أيام بأني قدمت طلبا للحصول على غرفة في بيت الطالبات ، ورجوتها أن تحتمل وجودي معها ريثما أحصل على السكن الجامعي ، فأنشأت تبكي وتعتذر ، وتشرح لي ظروف زوجها المادية الصعبة ، فأبديت تفهمي لوضعها ووضع زوجها ، ورحت أنتظر حصولي على السكن الجامعي بفارغ الصبر..\
    وحصلت أخيرا على نصف غرفة في سكن الطالبات ، وكانت شريكتي في السكن فتاة مرحة طيبة القلب ، خففت عني بعض آلام الغربة ، وهمومها ، وأقبلت على الدراسة بحماس وتصميم ، وحظيت بإعجاب أساتذتي منذ الشهور الأولى ، فتنبؤا لي بمستقبل عظيم..
    بيد أن الآمال الكبيرة التي نمت وازدهرت داخلي ، أخذت تتضاءل يوما بعد يوم ، وأنا أرى المبلغ الذي أصرف منه يتناقص بسرعة ، فلم أكن أتوقع أن حياة الجامعة ومتطلباتها ستأتي على كل ما معي في وقت قصير!..
    وطاردني القلق بلا هوادة ، فجثم الهم على صدري ، واسودت الدنيا في عيني.. ولاحظت شريكتي في الغرفة ما آلت إليه أحوالي ، فاستطاعت بأسلوبها اللطيف أن تعرف سبب تعاستي ، فرثت لحالي ونصحتني بالعمل ، ولكن ماذا أعمل؟ ومتى سأعمل؟.. وكيف سأوفق بين الدراسة والعمل؟ ولم يكن أمامي خيار.. المال أولا ، ثم الدراسة..
    عملت سكرتيرة في إحدى الشركات الصغيرة بأجر زهيد ، وكان صاحب الشركة طيبا ، فتساهل معي في أوقات الدوام ، مقدرا وضعي كطالبة في الجامعة ، واستطعت الجمع بين العمل والدراسة بمزيد من الدأب والصبر ، واجتزت امتحانات السنة الأولى بنجاح ، وعادت الآمال الباسمة تداعبني..
    كانت عطلة الصيف فرصة ثمينة لي حتى أجمع مصروف السنة التالية ، وكان لابد من البحث عن عمل جديد يدر علي دخلا أفضل ، فتابعت إعلانات الجرائد ترقبا لفرصة مناسبة ، واستجبت لأول إعلان صادفته..
    "شركة أدوية بحاجة إلى سكرتيرة ذات خبرة براتب جيد ، العنوان : كذا"
    مضيت إلى الشركة ، فوجدت طابورا من المتقدمات وعرفت منهن أن أكثرهن من خريجات معهد السكرتارية ، ويحملن شهادات خبرة طويلة في هذا المجال تصل إلى عدة سنوات ، سخرت من حظي ، ويئست من الفوز ، لكني تقدمت مع المتقدمات خجلا من الانسحاب ، وكانت المفاجأة أني فزت بالفرصة ، وخسرنها جميعا ، لماذا نستغرب؟!.. نعم.. فزت لأني أملك مؤهلا مهما لا تتمتع به الأخريات.. مؤهل الجمال.. كنت أجملهن على الإطلاق ، قال لي صاحب الشركة الشاب يومها: "أنا بحاجة إلى سكرتيرة جميلة ، فشركتي ناشئة ، وهي بحاجة إلى وجه لطيف يشد الزبائن والزوار".. هكذا بكل بساطة!.. كان الرجل يبحث عن دمية جميلة تزين مكتبه ، وتصطاد بفتنتها عملاءه.. واعتذرت.. اعتذرت لأني شعرت بالإهانة.. رفضت أن أكون مجرد ديكور في مكتبه الأنيق.. مجرد قطعة لحم لذيذة تجذب الفرائس للصياد.. لا أدري كيف واتتني الشجاعة على الاعتذار رغم أني كنت بحاجة إلى فرصة كهذه!!!..
    وحانت فرصة ثانية ، فعملت قرابة شهر في شركة مقاولات ، لكن زوجة المدير خافت على زوجها من فتنتي ، فأمرته بطردي ، ففعل.. هكذا دائما.. جمالي لعنة لا تفارقني.. يسبب لي المشاكل أنّى ذهبت!.. الويل للجميلة في هذا المجتمع إن أرادت أن تحيا حياتها الكاملة بشرف وسلام!..
    وحانت فرصة ثالثة في شركة لمستحضرات التجميل ، وكان الراتب مغريا ، فعملت فيها بدأب وإخلاص ، ونلت رضا مديري ، فتمسك بي إلى ما بعد العطلة الصيفية ، ورتب لي برنامجا للتوفيق بين عملي عنده ودارستي في الجامعة ، استبشرت خيرا ، وتوهمت أني قد وصلت إلى شاطئ الأمان ، ولكن.. التاجر كالسياسي.. لا يكشف أوراقه مرة واحدة.. إنه يماطل ويداهن ويناور ، ثم ينقض عليك بالضربة القاضية..
    وهكذا فعل مدير الشركة معي.. عاملني في البداية باحترام ، ثم حل لي مشكلة التوفيق بين الدراسة والعمل ، ثم انهال علي بالمكافآت ، ثم!.. ثم آن وقت سداد الدين... فكل شيء ثمن!..
    ناداني المدير ذات يوم ، وفاجأني بطلب غريب ، قال لي وهو في غاية الثقة:"لقد دعوت اليوم بعض الخبراء الأجانب إلى حفلة عشاء ، وأريدك أن تكوني معي"..
    توجست ، وسألته في حيرة:"ما حاجتك لي في حفلة عشاء؟!".
    نظر إلي وقد أغضبه سؤالي ، ثم قال:"إنه عشاء عمل".
    قلت له متعلله:"لقد بدأ العام الدراسي منذ أشهر واقترب موعد الامتحانات ، وأنا بحاجة لكل ثانية لتعويض ما يفوتني من الوقت بسبب العمل ، أرجو أن تعذرني".
    ضحك وقال:"دراستك يا عزيزتي لن تنفعك!... إذا تعاونت معي الليلة ، فستنالين أجرا عظيما لا يطاله أساتذتك في الجامعة".
    اعتذرت ثانية ، فاعتبر اعتذاري تمردا ، اتهمني بعدم الحرص على مصلحة الشركة ، وخاطبني بلهجة فظة أزعجتني ، وكأنه ولي أمري ، المالك لقيادي ، ولم أرضخ لرغبته ، فكررت رفضي لطلبه ، قلت غاضبة: "اعتبرني مستقيله ، فلا حاجة لك بموظفة فاشلة".
    هنا غير من لهجته الجافة ، ولجأ إلى اللين.. ابتسم ابتسامة ناعمة وقال مداعبا:"يا مجنونة.. أنا أريد مصلحتك.. لقد هيأت لك فرصة ثمينة لا تتكرر!".
    ثم أردف كمن يلوح بورقة رابحة:"أنا أعرف أن ظروفك المادية ليست على ما يرام!"
    ارتبكت وقلت:"مستورة والحمد لله.. لا أطمح للكثير".
    هز رأسه يائسا ، وقال:"ماذا أفعل بك؟!.. مازلت صغيرة!.. فهمك بطيء ، وطموحك ضامر.. رأسك الجميل لم يستوعب حقائق الحياة بعد!"
    أثارت كلماته حيرتي.. لم أفهم أي معنى يقف وراء هذه المحاورة الغامضة العنيدة لجري إلى سهرة أرفضها.. تنهد المدير وقال في محاولة أخيرة لإقناعي:"هل تذكرين رجل الأعمال الإيطالي الذي زارني هذا الصباح! تذكرينه بلا شك ، بصراحة هو معجب بك ، وقال لي بالحرف الواحد : أنت تملك في مكتبك ملكة جمال، أنثى كالشهد ، مارلين مونرو عربية ، أهنئك على هذا الاختيار"..
    نظرت إلى المدير غاضبة ، وكدت أحتج على جرأته ، لكنه سارع إلى إتمام حديثه قبل أن أرد عليه وقاحته ، قال متصنعا البراءة:"هكذا قال ، ولا دخل لي فيما قاله ، على فكرة.. هو إيطالي ، لكنه ينحدر من أصل عربي.. أجداده من عرب صقلية هل سمعت بصقلية.؟ كانت جزيرة عربية أيام كان للعرب صولة وجولة ، المهم.. السيد جيوفاني هو صاحب الدعوة.. رجاني أن أدعوك معي إلى العشاء ، وقد حجز لنا طاولة في فندق من أرقى فنادق المدينة".
    نظرت إليه في غيظ ، وقلت حانقة:"أنا أرفض دعوته وأسلوبه ، وأرفض طريقتك في الكلام معي ، إن للعمل حدودا يا سيدي ، فأرجو ألا نتخطاها".
    ابتسم المدير ابتسامة ماكرة ، ثم تناول سيكارا ، وقال وهو يتشاغل بإشعاله:"أنت ترفضين بهذا مكافأة مقدارها ألف دولار".
    تساءلت مرتابة:"ألف دولار؟ مقابل ماذا؟!.."
    أجاب المدير وهو يقترب مني ويتفحصني بعينين وقحتين:"من أجل ليلة واحدة".
    أذهلتني وقاحته وأثارتني ، فاستحلت كتلة من الغضب ، وفقدت سيطرتي على نفسي فلم أشعر إلا وكفي تهوي على وجهه القبيح ، فرنت الصفعة في المكتب كأزيز الرصاص ، ليت الصفعة كانت رصاصة حقيقية ، لأراحت العالم من رجل وغد تحول فجأة من رجل أعمال إلي قواد وضيع يبيع إحدى موظفاته إلى طلاب الهوى والمتعة ، يحاول اصطيادها بمخالب غيره ، حتى إذا ما سقطت أول مرة أصبح طريق الانحدار أمامها مفتوحا حتى نهاية الدرك ، وأصبحت فرصة استغلالها والاتجار بها سانحة له ولأمثاله من تجار الرقيق الأبيض ومروجي الدعارة..
    ومضيت لا أكاد أتبين طريقي ، والدموع تنهمر من عيني كالمطر في تلك اللحظة التهبت كل جروحي.. تذكرت يتم الطفولة ، ومعاناة الشباب.. تذكرت زوج أمي القاسي وابنه الجاهل.. تذكرت أمي المقهورة ، وخالتي المغلوبة على أمرها.. وارتسمت أيامي المرة التي قضيتها بالمدينة على شريط من الخيال ، فألبت صورة مواجعي ، وأججت أحزاني..
    وغادرت الشركة غير آسفة.. زاهدة بأجرة ثلاثة أسابيع من العمل والدأب.. وترسبت في أعماقي قناعة راسخة بأن عمل المرأة في مجتمع لا يحترم المرأة ، ولا يراعي مشاعرها عبث وانتحار..
    وعادت الآنسة نورا إلى دموعها ، وقد فاض بها التأثر ، فخففت عنها ورجوتها أن تهدأ ، ثم تابعت الإصغاء إلى قصتها باهتمام ، قالت بعد فترة من الصمت المفعم بالانفعال:
    ـ قررت ألا أعمل سكرتيرة مرة أخرى ، بل عزفت عن العمل ، وعكفت على دراستي فنذرت لها جل وقتي ، وصممت أن أفوز بالمرتبة الأولى على الكلية ، طمعا بالمكافأة المالية العالية التي تمنحها الكلية للثلاثة الأوائل كل عام ، واقتصدت في مصروفي إلى حد التقتير ، حتى لا تلجئني الحاجة على العمل ، لكني أخفقت في مسعاي ، ولم أنل سوى المرتبة السابعة..
    وكان لابد أن أعيد النظر في قراري بالعزوف عن العمل.. فرحت أبحث عن عمل لا يضطرني للاحتكاك الزائد بالرجال..
    ووجدت ضالتي أخيرا في شركة كبيرة بحاجة إلى طابعة آلة كاتبة باللغة الإنجليزية ، فتحمست لهذه الفرصة ، وتقدمت لها ، ففزت بالوظيفة ، ويا ليتني ما فزت.. جرت الأمور في البداية على ما يرام ، فمهمتي كانت واضحة ومحددة ، وغرفتي مستقلة ، والعمل لا يشكل عبئا مرهقا ، فما كان علي سوى طباعة الرسائل غير المستعجلة الموجهة للشركات الأجنبية في الخارج ، أما الرسائل المستعجلة فكانت ترسل عن طريق التلكس..
    ولعبت الصدفة دورها ، فكانت عاملة التلكس تدعى نورا أيضا على اسمي ، وكانت مقربة جدا من مدير الشركة ، وذات يوم مشؤوم حمل إلي أحد المستخدمين في الشركة رسالة من المدير وقال لي:"المدير يريدك أن ترسلي هذه الرسالة بسرعة ، وتنتظري رد الشركة الأجنبية عليها".
    نظرت إليه في دهشة ، وخمنت بأن هناك خطأ ما!.. فأنا أقوم بطبع الرسائل وعنونتها ، لكن لا شأن لي بإرسالها ، فكيف يطلب مني المدير أن أرسلها ، ثم أنتظر الرد عليها؟!..
    تناولت الرسالة ، وقلت للمستخدم الذي حملها إلي وأنا أتصفحها:
    "أمتأكد من أن المدير قد أرسلك إلي؟".
    وما كدت أكمل ، حتى لفت انتباهي أمر خطير!.. كانت الرسالة تثبت بأن الشركة تمارس أعمالا غير مشروعة ، وتتجر بالبضائع الفاسدة!..
    وطار صوابي..
    هل تعلم ماذا جاء في الرسالة؟..
    من أين لي أن أعرف!.. نظرت إليها مترقبا ، فلم تلبث أن أجابت عن سؤالها بنفسها..
    ـ كانت الرسالة تتضمن رد المدير على عرض قدمته له شركة أجنبية تقوم بتصنيع المحاقن الطبية البلاستيكية التي تستعمل لمرة واحدة ، وفيه تعرض الشركة الأجنبية على المدير شراء خمسة ملايين محقنة انتهى تاريخ استعمالها بأسعار زهيدة ، شريطة أن تمددوا تاريخ الاستعمال إلى سنتين إضافيتين حتى نتمكن من تسويقها!...
    تململت في مكاني وأنا أصغي لنورا ، رائحة الذئب الأنيق تفوح في حديثها!.. وقفز إلى ذاكرتي دفاع عبد الغني عن الأغذية التي انتهت مدة استهلاكها ، وعزمه على تسويقها ، نفس الأسلوب التجاري الرخيص!...
    أيكون عبد الغني الذهبي وراء هذه الجريمة أيضا؟!..
    قلت لها كمن يتحزر:
    ـ كنت تعملين في شركة عبد الغني الذهبي..
    تقلصت ملام نورا فجأة ، وبان الهلع في عينيها وكأنها قد أصيبت بصعقة كهربائية عنيفة!.. همست وقد غار لون الحياة من وجهها:
    ـ كيف عرفت؟
    كيف عرفت!.. هو إذن.. ولكن.. ما معنى هذا التغير الذي اعتراها؟.. وأردت أن أوضح لها السبب الذي دعاني لاكتشاف اسم الشركة التي تعمل فيها نورا ، لكنها لم تمهلني!.. وقفت مذعورة وقالت:
    ـ أنت منهم!
    تساءلت في حيرة:
    ـ مهم!.. ممن؟
    غمغمت وهي تلم حقيبتها بارتباك:
    ـ لا أدري..
    ـ لحظة أرجوك..
    ـ كلكم ذئاب..
    وانطلقت هاربة لا تلوي على شيء!..
    حدث كل شيء بسرعة ، فأعاقتني المفاجأة عن التصرف ، ولم ألبث أن تحررت من ذهولي ، فانطلقت خلفها لأستوقفها وأهدئ من روعها ، لكنها إذا السير أمامي ، وأمعنت في الهرب..
    لكأنها تهرب أمام وحش!...



    0 Not allowed! Not allowed!

  16. #15
    شعلة متقدة .. وحماس دائم Array الصورة الرمزية صفاء الايمان
    تاريخ التسجيل
    Apr 2009
    الدولة
    ...
    المشاركات
    14,276
    Articles
    0
    Thumbs Up/Down
    Received: 8/0
    Given: 0/0
    معدل تقييم المستوى
    412




    بيانات اخرى

    الجنس :  انثى

    المستوى الأكاديمي :  تعليم ابتدائي

    الجامعة الحالية/التي تخرجت منها ؟ :  الجامعة الأردنية

    الحالة الاجتماعية :  اعزب

    افتراضي رد: البحث عن امرأة مفقودة!..



    الفصل الثامن والعشرون..


    اندفعت خلف نورا بقوة ، لاحقتها من شارع إلى شارع ، ومن حارة إلى حارة ، لكنها أفلتت مني ، ضاعت خلف جدران المدينة ، ابتلعتها الأزقة الضيقة وغيبتها في جوفها المتخم بالأسرار ، ووقفت عند مدخل أحد الأزقة حائرا يائسا مثقلا بالخيبة!.. كان الزقاق مقفرا وممتدا ، تدل نهايته المضيئة التي تلوح خلف أعشاش العتمة على أنه يفضي إلى شارع مزدحم ، وترامى إلى سمعي صوت مذيع أجش يتلو نشرة أخبار ، وقد اختلطت أخباره بجلبة أطفال يمرحون قبل أن يأووا إلى الفراش ، أين ذهبت أيتها الظبية الشاردة التي امتزج الخوف والشك بدمها ، فأصبحت تنفر من رائحة البشر ، وتخشى أطياف الرجال!...
    وهويت على أحد الجدران بقبضة مشحونة بالغيظ.. أنت ثانية أيها الذئب الأنيق!.. أيها العاتي الذي يستوطن في حياتنا كالداء.. متى ترحل؟ متى يسقط عن وجهك القناع؟ واستبدت بي الحسرة ، لأني لم أستطع أن أعرف بقية المأساة التي عاشتها نوار وهي تحارب في المدينة وحيدة ، تقاوم الذئاب والوحوش ، وتدافع عن نفسها بشجاعة المحارب الذي تكالب عليه الأعداء ، ليكشروا مقاومته ، ويطفئوا عنفوانه ، ماذا كان علي لو اعتصمت بالصمت؟ لكن ما أدراني بأن ذكر عبد الغني الذهبي سيفزعها؟ أنت منهم! كلكم ذئاب!.. لكأنها تتحدث عن عصابة!!.. عن جيش من الوحوش!.. ترى؟.. ما علاقة عبد الغني الذهبي بكل هذا؟ أيمكن أن يكون هو الـ؟!.. عبد العني الذهبي للمرة الثالثة بعد ما لا أدري من المرات ، يقف أمامي بطلا من أبطال الشر والقسوة على مسرح الواقع المريض..
    وانفجر عبد الغني الذهبي داخلي كالسرطان الذي لا يزول إلا بالجراحة ، استقر في أعماقي وجعا نابضا بالألم ، كالناسور الحاد ، وسولت لي نفسي باللجوء إلى العنف لأول مرة!. إنه رجل يستحق القتل في كل الشرائع ، وما اكتشفته فيه من المساوئ يؤهله للموت خنقا أو ورميا بالرصاص!... فكيف لو استطعت أن أحصي ما خفي من جرائمه ومكائده وآثامه؟.. إذن ، لاستحق القتل ألف مرة ومرة... إذا كانت ابنته قد أدانته ، واكتشفت ظلمه وإجرامه وبشاعته ، فماذا بقي بعد؟.. إنه مجرم محترف ، وطاغية مستبد ، يستخف بأرواح الناس ومشاعرهم ، ويستغل نفوذه وماله لتركيع البشر ، وإرغامهم على التنحي من طريقة ، إنه يمضي في الحياة كالديناصورات المتوحشة ، كالبلدوزر الغبي الذي يدمر كل ما يقف في طريقه فيحوله إلى حطام!...
    وركبتني فكرة مجنونة بقتل عبد الغني الذهبي!.. نعم ، قتله ، وإراحة الناس من آثامه وشروره.. لا يفل الحديد إلا الحديد ، والجزاء من جنس العمل ، لابد من الردع في معالجة هذا الثعبان ، إنه عضو فاسد ، ولابد له من البتر ، قبل أن يسري سمه الزعاف إلى أعضاء جديدة فيقتلها ، الحق والعدل يقولان بأن القاتل يقتل ، وعبد الغني قاتل ، قتل الرجال والنساء والأطفال ، وتربع فوق جماجمهم...
    وأفقت من أفكاري على هدير العقل وهو ينبثق في أغواري المدلهمة ، فيزجرني ويثنيني..
    ـ تقتله؟!.. تقتله أيها المجنون؟!.. هذا ليس تصرفا حضاريا يليق بطبيب!...
    ـ نعم إني أعترف.. العنف أسلوب همجي أرعن لا يليق بمثقف مثلي ، لكني إنسان قبل كل شيء!.. إنسان له عواطف ومشاعره ، لا يستطيع أن يقف ساكتا يشارك المجرم في جريمته بصمته وسكوته..
    ـ الجأ إلى القانون..
    ـ القانون!.. القانون حباله طويلة ، وعبد الغني مجرم ذكي لا يترك خلفه أثرا يدل عليه ، سيمر وقت طويل قبل أن تكتمل حلقة الاتهام حول رقبته الناعمة ، الدليل الصارخ الوحيد بيد أحلام ، وأحلام ابنته ، مهما كان فهي ابنته ، وليس من السهل أن تقف في وجه أبيها ، إنها إنسانة من لحم ودم ، والإنسان لا يضحي بأبيه عادة مهما كان السبب قاهرا وقويا..
    ـ إذا قتلته إذن ، فستخسر أحلام.. هل تريد أن تخسر أحلام؟..
    ـ أحلام؟!.. سأخسرها على كل حال ، إنه يقف بيني وبينها بقسوة ، ويلوح لي بالفضيحة التي لفقها وحبكها حولي.. حتى لو تحديته وبحت لأحلام بكل ما كان ، فلن يزداد إلا إصرارا وعنادا ، وقد يلجأ إلى أساليب جديدة أكثر دناءة وغدرا من الأسلوب الذي اتبعه لإبعادي عن ابنته.. إنه يقف بيننا كسور الصين ، وسيقف بيننا حيا وميتا ، فلأقتله وأريح العالم من شره..
    ـ ستساق إلى السجن ، وتحاكم كقاتل ، وتنتهي مدانا ، ألم تفكر في هذه النهاية يا دكتور؟ يجب أن تعترف بأنك تمضي باتجاه خاطئ..
    ـ لن أعترف ، ولن أرجع ، سأقضي عليه دون أن أترك خلفي أثرا يد علي تماما.. بنفس الحرص والذكاء الذي يقضي بهما عبد الغني على ضحاياه.. رصاصة في الظلام.. رصاصة واحدة كفيلة بتفجير رأسه المحتقن بقيح المكر والخبث والخداع.. رصاصة واحدة تكفي لإيقاف كل هذه الجرائم والمآسي.. رصاصة واحدة وينتهي الظالم ، فينتصف المظلوم وتهدأ أرواح الضحايا..
    ـ لكنه ليس ظالما واحدا!.. إنهم ظلام كثيرون ، فهل تكفي رصاصتك لهم جميعا؟..
    ـ آه.. غلبتني أيها العقل.. رصاصة واحدة لا تكفي.. ولا ألف رصاصة.. إذا مات عبد الغني.. فلن يموت معه الباقون.. بل سيمكثون كالوباء.. يعيثون ويفسدون ويظلمون ويقتلون.. وسيحتاطون للرصاصة العادلة.. سيغطون وجوههم بأقنعة جديدة أكثر غموضا وجمالا من قناع الذهبي ، قد تجدهم في ثياب المصلحين ، وقد تراهم في محاريب الصالحين ، قد يرتدون أسمال الفقراء الزاهدين ، وقد يستشهدون بآيات من الذكر الحكيم.. نعم.. الظالمون الذين أخشاهم ليسوا جميعا واضحين ظاهرين!.. والأخطر من الظالمين.. المهندس الذي تواطأ مع عبد الغني على الغش في كميات المواد اللازمة لبناء العمارة ، والمحاسب الذي زور شهادته من أجل تحقيق طموحاته في الشهرة والثراء.. والخائن الذي اشتراه عبد الغني ليسرق شهادة المحاسب من ملفات التحقيق ، والمصور الذي استخدمه عبد الغني ليلتقط لي تلك الصورة المخجلة.. مقابل مبلغ من المال ، والغانية الداعرة التي مثلت علي دورها بإتقان ، وقبضت ثمنه خاتما من الذهب أو عقدا من اللؤلؤ.. نعم.. الظالمون كثيرون ، والأرض بحاجة إلى طوفان جديد كطوفان نوح ، يطهرها من الظلم والفساد ويعقم العالم من لوثة المادة ، التي أحالت القلوب إلى حجارة ، صدقت أيها العقل.. عبد الغني ليس هو المشكلة.. المشكلة في الضمير الغائب ، والتربية الفاسدة ، والحب المفقود.. المشكلة في الوثنية الجديدة التي تجتاحنا كالوباء.. في العبودية للدرهم والدينار.. المال هو الذي منح عبد الغني قوته وسطوته وقدرته على الظلم ، وعبدة المال من أصحاب النفوس الخائرة الضعيفة هم الأيادي التي يبطش بها عبد الغني وأمثاله.. لقد كثر في حياتنا المرتزقة والانتهازيون ، وارتفع صوت الذهب فأعمى بريقه العيون..
    وعدت أدراجي إلى المركز الثقافي يحدوني الحنين إلى أحلام.. كنت في حاجة إليها لتغسلني من أحزاني ، وتمنحني فرحا جيدا يبدد بعض الشجن الذي زرعته في نفسي مأساة نورا المسكينة ، ومضيت إلى قاعة المعارض بخطوات لهفى ، وما إن دلفت إليها حتى التقت عيناي بعيني الذئب الأنيق عبد الغني.. هذا الرجل البغيض يطاردني في الحلم واليقظة!.. يقف في طريقي أنى ذهبت!.. متى تسقط أوراقك أيها الخريف؟!..


    الفصل التاسع والعشرون


    ـ أنت الدكتور صلاح الحكيم؟..
    ـ نعم ، هل من خدمة؟..
    ـ تفضل معنا..
    ـ أنا؟..
    ـ ألست الدكتور صلاح الحكيم؟..
    ـ نعم ، ولكن.....
    ـ أرجو أن تمضي معنا بهدوء ، معنا أمر بالقبض عليك..

    مادت بي الأرض ، وسحقتني المفاجأة تحت وقعها الثقيل.. يا لهذا الصباح الأسود!.. أأساق إلى السجن كالمجرمين؟... ونظرت حولي في جنون ، رجال الأمن ينتشرون في باحة المستشفى وحديقته حسب خطة مدروسة ، وها هي حلقتهم تضيق حولي ، لتحبط أمامي كل محاولة للهرب! لكأنهم يحاصرون قاتلا محترفا من رجال العصابات المنظمة!.. وأطلت الوجوه من النوافذ والأبواب ذاهلة مستغربة.. الأطباء والممرضات والموظفون.. ينظرون إلي في حيرة وكأن على رؤوسهم الطير.. لم يخطر ببالهم يوما أني يمكن أن آتي بفعل شائن يستحق تدخل رجال الشرطة! أتكون هذه هي النهاية؟.. هزني هذا السؤال بعنف ، فاعتراني شعور هائل بالظلم ، ونفرت من عيني دمعة ساخنة تتلظى بلهب الأسى الذي انبثق في فؤادي كالطلقة!..
    واندفع العم درويش نحوي كالملتاع ، فحركت لهفته كوامن نفسي ، قال للضابط بلهجة متهدجة وشفتاه تختلجان :
    ـ هناك خطأ يا حضرة الضابط.. هذا الدكتور صلاح.. أخبرني من تريد بالضبط.. وأنا أدلك عليه..
    ابتسم الضابط ساخرا وقال:
    ـ نريد الدكتور صلاح الحكيم..
    نظر العم درويش إلي بعنين مغرورقتين ، وهو لا يكاد يصدق ، قلت مدافعا عن نفسي:
    ـ إنهم يلوثون الأبرياء يا عم درويش..
    حدجني الضابط بنظرة مؤنبة وأشار إلى أحد رجاله فاقترب مني وهو يحمل القيد الحديدي المهين ، فأقفل إحدى حلقتيه حول معصمي ، وأقفل الأخرى حول معصمه ، ودعاني للمسير..
    ومضيت معهم مطأطأ الرأس ، مكلوم الوجدان ، تطاردني العيون بأسئلة كالسهام ، تريد لو تنكت لحمي لتعرف ما الذي يخفيه هذا الإرهاب تحته من أسرار!..
    وألفيت هاني لدى الباب وهو يدلف بسيارته إلى باحة المستشفى ، فكبح فرامل سيارته فجأة ، وقد تسمرت يداه على المقود ، وحطت نظراته علي في ذهول ، واستمر ينظر إلي برهة كمن أصابه مس ، لكنه سرعان ما أفاق من ذهلته ، فترجل وأقبل نحوي مندهشا يتساءل:
    ـ صلاح ، ماذا يجري؟
    ـ كما ترى..
    ـ لا أصدق..
    ـ يجب أن تصدق كل شيء بعد الآن..
    وسأل هاني الضابط بانفعال :
    ـ ماذا فعل حتى تعتقلوه بهذه الصورة؟..
    ـ هذا ليس من شأنك..
    ـ أنا صديقه وأعرفه أكثر منكم..
    ـ عندما سنحتاج إلى شهادتك سنستدعيك..
    ـ كان بإمكانكم أن تعتقلوه بطريقة أفضل!..
    ـ أرجو أن لا تعيقنا أكثر..
    ـ أنتم لا تعرفون ماذا تفعلون؟ أنتم تشوهون صورة أنبل إنسان عرفته في حياتي..
    نظر إليه الضابط مقطبا ، وقال بحده :
    ـ اهتم بنفسك ، وتنح عن الطريق..
    هتف هاني غاضبا :
    ـ إهانة الدكتور صلاح إهانة لكل الأطباء..
    رمقه الضابط في غيظ ، وقال في هدوء عاصف :
    ـ إما أن تسكت ، أو تمضي معه..
    أردف هاني غير عابئ بالتهديد :
    ـ المتهم برئ حتى يدان ، والدستور لا يسمح بإهانة الأبرياء بهذه الصورة..
    ـ أثر بي إنفعال هاني ، لأول مرة أراه يتحدث بهذه الجرأة والحماس ، ورجوته أن يكف فقال لي بنبرة مشجعة :
    ـ صلاح.. اطمئن.. سنثير القضية في نقابة الأطباء.. سنقيم الدنيا من أجلك..
    أومأت له شاكرا ، ونظرت إلى الضابط مستسلما ، فمضى بنا موكب الاعتقال في هدوء ، وأردف هاني وهو يشيعني بنظرات تفيض بالتعاطف والمواساة :
    ـ صلاح.. لا تهتم.. كلنا معك..



    الفصل الثلاثون

    ـ انتظر هنا..
    وغاب الضابط ساعة ثم عاد..
    ـ تعال معي..
    مضى أمامي بخطوات رشيقة ، فتبعته حانقا متأججا كمرجل وتحسست مكان القيد كمن ابتلي بالوسواس ، مازلت أشعر به يلتف حول معصمي كالأفعى ، رغم أن الجندي الطيب الذي أمر بإحكامه قد فكه منذ أن وصلنا إلى دائرة التحقيقات الجنائية ، سيبقى أثرك القذر أيها القيد الظالم عالقا في يدي إلى الأبد.. يذكرني بالظلم الذي نال مني وأثخن نفسي بالجراح ، وصعد الضابط أمامي درجا بعد درج ، وظل يرقى حتى وصل إلى الطابق الرابع ، فانعطف ذات اليمين وقادني إلى أقصى الممر ، ثم دخل قاعة واسعة يقف ببابها حارسان..
    ـ اجلس هنا..
    جلست ، وأنا ألوك القلق المر ، والهواجس السوداء ، طرق الضابط بابا في صدر القاعة ، ثم دلف بهدوء ، وأغلق خلفه ، شيء غامض لا أدري كنهه انبثق في صدري فجأة ، ومد ذراعه القوية كالأخطبوط ، وراح يضغط بها على أنفاسي حتى كاد أن يزهقها ، وشعرت بعجلة الحياة داخلي وهي تتباطأ حتى كادت تتوقف عن الدوران ، وكأنها آلة انحسر عنها التيار الذي يمدها بالطاقة ، ونهضت كغريق ينتشل نفسه من الماء بحثا عن دفقة هواء تمنحه الحياة ، ورآني أحد الحارسين أنهض في حركة مفاجئة ، فتحفز للأمر ويده على قبضة مسدسه المتدلي فوق وركه الأيمن ، وانضم إليه صاحبه في استنفاره الطارئ ، وجعلا يحدقان بنظرات متوجسة ترصد ما قد سآتي به من فعل ، لكن نظراتهما الصارمة المتجهمة سرعان ما تراخت وهما يراياني أتنفس بعمق وأخفي وجهي خلف كفين متشنجتين ، شدت الآلام أعصابها حتى كادت تمزقهما ، وتبادلا نظرة قال بعدها الأول :
    ـ هل تشكو من شيء؟!..
    نظرت إليه بعينين مغرورقتين تفيضان ألما واستعلاء على أدنى مساعدة ، ثم تهالكت في مكاني مرهقا كئيبا أقاوم الظلمة التي شاعت داخلي كالعمى..
    ولبثت كذلك دقائق قليلة خرج بعدها الضابط وهو يحمل رزمة من الأوراق ، ثم أقبل نحوي قائلا:
    ـ سيستدعيك المحقق بعد قليل..
    ـ أريد أن أعرف لماذا أنا هنا؟!..
    ـ لا تستعجل.. ليس هناك ما يسر!
    ـ أتعذبون الناس بالقلق؟..
    رماني بنظرة ساخرة ، ثم مضى غير مكترث ، وتركني أغوص في قلقي حتى القاع..
    ومر وقت ليس بالقصير ، استحضرت خلاله ذكريات الماضي والحاضر ، وخنقت فيه كل الآمال دفعة واحدة ثم ألقيتها في وهدة عميقة من اليأس ، وحدقت في الباب الموصد بنظرات متوقدة كالنار ، تريد لو تحرقه بلهيبها ، لتعرف من هو المحقق الذي سيمسي مصير في يده!..
    وخرج المحقق.. أطل كالشمس المحرقة في ظهيرة آب.. نظراته صارمة ، ووجهه غارق في الجد ، أشار إلي بسبابته ، ثم استدار متجها نحو مكتبه ، تقدمت خلفه بخطى وئيدة ، وكأني أخوض في حقل ألغام..
    ـ تفضل..
    جلس وجلست.. تفحصني بنظراته برهة ، ثم تناول سيكارة ، فأشعلها ، وراح ينفث دخانها وهو صامت جامد يعيث بنظراته المرتابة في وجهي المربد.. أهلا وسهلا.. ماذا تريد مني أيها المحقق الأريب؟ خرج عن صمته أخيرا.. قال بنبرة مباغته:
    ـ أنت قلق!..
    ابتسمت ساخرا ، وتساءلت:
    ـ كيف لا أقلق؟
    ـ البريء لا يقلق؟
    ـ في مجتمع يحترم الفرد ، لا يمكن للبريء أن يقلق..
    ـ أأساء إليك أحد؟
    ـ وهل تريد إساءة أكبر من أن أساق أمام الناس مكبلا وكأني قاتل أو قاطع طريق؟!
    ـ من يدري؟ قد تكون قاتلا؟
    أطاحت كلماته بتماسكي وهدوئي.. انفجرت من شدة الغيظ ، وهتفت في وجهه:
    ـ لا أسمح لك بإهانتي كائنا من كنت! أنا مواطن شريف ، وأعرف حقوقي جيدا..
    ابتسم كالهازئ ، وقال دون أن يهتز:
    ـ كل الذين يجلسون مكانك يقولون كلامك.. الفرق الوحيد هو أني أحقق الآن مع متهم مثقف.. مع طبيب!
    قلت ، وقد نفذ صبري:
    ـ أريد أن أعرف لماذا أنا هنا؟
    ـ لا نعرفك من قبل حتى نمزح معك..
    ـ ألا تريد أن تبدأ التحقيق؟
    ـ ليس قبل أن تهدأ.
    ـ سيدي الكريم أنا هادئ ، هادئ أكثر مما تتصور..
    ـ ملامحك تقول غير هذا..
    ـ لا أعتقد أني في نزهة..
    ـ هل تعرف امرأة تدعى نوار؟..
    خفق قلبي بشدة!.. نورا؟.. لم يخطر ببالي أن اعتقالي بسبب نورا!.. أيمكن أن تكون نورا قد اتهمتني بشيء؟!..
    وأجبت في قلق:
    ـ نعم.. أعرفها..
    ـ ما علاقتك بها؟
    ـ علاقتي؟ لا علاقة لي بها!..
    ـ كيف تعرفها إذن؟
    ـ أعرف شكلها ، واسمها.. أعرف جزءا من قصتها لكن ، لا علاقة لي بها!..
    ـ كيف عرفت قصتها..
    ـ روتها لي..
    ـ هل تصدق أن امرأة في الدنيا تروي قصة حياتها لإنسان لا تعرفه؟
    ـ لا طبعا.. لكن..
    ـ لكن ماذا؟..
    لذت بالصمت هل أبوح للمحقق بقصة الطفلة اللقيطة؟ أم أحتفظ بسرها حتى أعرف نوع التهمة الموجهة إلي؟ ولم يترك لي المحقق فرصة للتفكير ، داهمني قائلا:
    ـ صمتك لن يفيدك ، نحن نعرف كل شيء..
    ـ كل شيء؟! مثل ماذا؟.
    ـ نعرف أنك على علاقة مع نوار!
    ـ علاقة!.. علامة من أي نوع!!..
    ـ علاقة جنسية طبعا..
    ـ هذا غير صحيح..
    ـ لا تنكر.. ثمة أدلة..؟
    ـ أنت لا تملك أي دليل..
    زفر سحابة جديدة من سيكارته ، ثم قال وهو يكتم لهيبها في قعر صحن السجائر:
    ـ حسنا..
    ثم أردف وهو يلقي إلي بصورة ملونة استلها من درجه على حين غرة :
    ـ أليست هذه صورتك؟
    بهت وأنا أرى الصورة ، إنها صورتي أنا ونورا ، عندما كنت جالسا أصغي إلى قصتها في المركز الثقافي!.. من هو الذي التقط هذه الصورة؟.. أيقف عبد الغني الذهبي خلف هذه الجريمة أيضا؟.. إني أشم رائحته النتنة من خلال الصورة!.. هذا أسلوبه في العمل.. التلفيق والتزوير والابتزاز!
    ودفع إلي المحقق ورقة مطوية من أوراق الرسائل الملونة ، نظرت إليه في دهشة ، ثم فتحت الرسالة فوجدت فيها كلمات مطبوعة على الآلة الكاتبة ، وأذهلني ما جاء فيها..
    "عزيزتي نوار ، سنلتقي الليلة في منتزه الغابة ، أرجو ألا تتأخري لأني أنتظرك على أحر من الجمر ، حبيبك إلى الأبد الدكتور صلاح الحكيم.."
    ولم أكد أنتهي من قراءة الرسالة الكاذبة ، حتى داهمني المحقق باتهام جديد ، قال بنبرة صاعقة ، وكأنه يهوي على بالضربة القاضية:
    ـ دكتور صلاح.. أنت متهم باغتصاب وقتل المغدورة نورا..
    وقفت فجأة كمن قذفه بركان.. ثم هويت على الكرسي ككرة ملتهبة تدحرجت من شاهق ، همست بصوت واهن كالموت:
    ـ أنا؟!!!....
    هتف المحقق وهو يتابع هجومه دون رحمة:
    ـ نعم اغتصبتها وضحكت عليها ، وعندما طالبتك بالزواج رفضت ، ثم عمدت إلى قتلها حتى لا تفضح غلطتك وتهدد سمعتك البراقة التي تخدع بها الناس.. إياك أن تنكر..
    همست وأنا أصارع مشاعر الصدمة بأعصاب عارية:
    ـ هذا ليس صحيحا ، ولكن..
    ـ كل الأدلة ضدك.. الصورة صورتك.. والرسالة تفضح طبيعة العلاقة التي كانت تجمعك بالقتيلة..
    ـ ولكن متى قتلت؟..
    ـ أجب ولا تراوغ..
    ـ الصورة صورتي ، لكن الرسالة ملفقة!
    ـ ما دليك؟.
    ـ أنا لا أملك آلة كاتبة ، ولا أستعملها في تدوين رسائلي..
    ـ لكنك تستطيع أن تحصل على آلة كاتبة بألف طريقة..
    ـ ولماذا أطبع رسالة كهذه على الآلة الكاتبة؟..
    ـ لتنفي نسبة الرسالة إليك.. فيما لو وقعت في يدنا.. وتدعي أنها ملفقة.. لذلك تجنبت أن تكتب الرسالة بخط يدك ، ولم تترك على ورقة الرسالة أية بصمات تدل عليك..
    ـ أنت تبالغ في الاستنتاج..
    ـ أنصحك بالاعتراف..
    ـ الآن عرفت كم جلس مكاني من المظلومين!..
    ـ إذا كنت بريئا ، فدافع عن نفسك..
    ـ إليك دفاعي إذن ، وستعلم أني بريء مما تقول..
    ورويت له قصة نورا من أولها إلى آخرها.. منذ أن جاءت خلف طفلتها إلى المستشفى لتطمئن عنها ، إلى أن ضاعت مني في أزقة المدينة..
    وسألني المحقق عن السبب الذي جعلني أحزر اسم الشركة التي كانت تعمل فيها نورا دون أن تذكره لي ، فحدثته عن تجربتي المريرة مع عبد الغني الذهبي ، وكيف عرض علي التواطؤ معه لتسويق أغذية فاسدة للأطفال ، مما جعلني أشك في أنه هو نفسه الذي يقف وراء صفقة المحاقن الفاسدة التي حدثتني عنها نورا..
    واستغرقت طويلا في تحليل شخصية الذئب الأنيق عبد الغني وأساليبه الملتوية ، واتهمته بأنه وراء الصورة التي التقطت لي سرا ، وأنا أجلس مع نورا في المركز الثقافي ، وأبديت شكوكي في أن عبد الغني الذهبي يقف وراء حادثة مقتل نورا بشكل أو بآخر ، لكني لم أجرؤ على إبلاغ المحقق بما حدثتني به أحلام عن ضلوع أبيها في حادثة العمارة المنهارة ، احتراما لمشاعرها ، وصونا للسر الذي باحت لي به دون سائر الناس..
    وكان المحقق قد استدعى كاتبا ليسجل اعترافاتي ، فدون أقوالي حرفا حرفا ، وعندما انتهيت من الحديث رفع الرجل رأسه في إعياء ، وبسط يده فوق الأوراق ليريحها من عناء الكتابة المتلاحقة ، فقد كان حديثي مسهبا وطويلا..
    ورانت فترة من الصمت كان المحقق خلالها غارقا في خواطره..
    بدت لي ملامحه وكأنها تبعث على الارتياح ، وقد يكون ذلك لأني تخففت من بعض الأسرار التي كانت تؤرق صدري ، أو لعل المحقق قد عاد إلى طبيعته بعد أن مثل دور الهجوم ليفتت صمتي ، ويدفعني للانهيار أمام اتهامه السافر ، فأعترف بالحقيقة ، لكنه الآن ، بعد أن سمع مني كل هذه التفاصيل ، لابد أنه يحاول فرز الخيوط المتشابكة ، ليصل إلى الخيط الذي يوصله إلى الحقيقة..
    نهض المحقق فجأة ودار حول كرسيه ، ثم قال يملي على الكاتب وهو يستند بكلتا يديه على الكرسي:
    ـ هذا ، وقد تقرر إجراء تحقيق عاجل مع مديرة ملجأ الحنان للأيتام ، حيث نظن بأنها تملك معلومات هامة حول المجني عليها ـ نورا سنديان ـ التي اكتشفت جثتها فجر هذا اليوم المدون تاريخه أعلاه..
    ثم رفع المحقق سماعة الهاتف واستدعى أحد معاونيه ، وطلب منه أن يرافقه في زيارة إلى ملجأ الأيتام..
    هتفت وأنا أرى المحقق ينطلق بحماس:
    ـ وأنا؟
    نظر إلي متفكرا ، ثم قال بنبرة حاسمة:
    ـ تعال معي..



    0 Not allowed! Not allowed!




    [ame="http://www.youtube.com/watch?v=yxzoplqtmHk&feature=related"]http://www.youtube.com/watch?v=yxzoplqtmHk&feature=related[/ame]

  17. #16
    شعلة متقدة .. وحماس دائم Array الصورة الرمزية صفاء الايمان
    تاريخ التسجيل
    Apr 2009
    الدولة
    ...
    المشاركات
    14,276
    Articles
    0
    Thumbs Up/Down
    Received: 8/0
    Given: 0/0
    معدل تقييم المستوى
    412




    بيانات اخرى

    الجنس :  انثى

    المستوى الأكاديمي :  تعليم ابتدائي

    الجامعة الحالية/التي تخرجت منها ؟ :  الجامعة الأردنية

    الحالة الاجتماعية :  اعزب

    افتراضي رد: البحث عن امرأة مفقودة!..



    الفصل الحادي والثلاثون


    سجلوا في أوراقكم.. نورا ماتت شهيدة. نعم.. إنها الآن هناك.. في الجنة.. ترفرف بأجنحة من الطهر ، وترفل في ثياب من النور.. إنها الآن هناك.. في السماء.. تروي لخالقها قصة مآساتها الدامية الأليمة ، وتشكر إليه الذين ظلموها وافترسوها.. تريدون أن تعرفوا من هي نورا!..
    سأقول لكم.. إنها شاهدة على جهل القرية وظلم المدينة.. شاهدة على القسوة التي استشرت فينا.. شاهدة على هذا الفساد الذي حول مجتمعنا إلى غابة .. غابة من الوحوش التي لا ترأف أو ترحم..
    وتهدج صوت المديرة ، فانفجرت باكية ، وغرق صوتها في خضم الانفعال.. رجاها المحقق أن تهدأ ، وأن تروي له كل ما تعرفه عن نورا ، فتماسكت وبدأت تدلي بشهادتها ، قالت من بين الدموع :
    ـ بدأت علاقتي بنورا منذ أشهر.. عندما حضرت إلي وطلبت مني أن أسمح لها بالعمل في الملجأ ، اعتذرت.. لم يكن من الممكن أن أوافق ، فميزانية الدار محدودة ، ونحن لا نكاد نوازن بين ما يأتينا من منح وتبرعات ، وبين ما نقدمه للأطفال الأيتام من خدمات ، لم يقنعها اعتذاري ، كانت المسكينة حزينة ، وكانت نظراتها كسيرة ، وملامحها تدعو للرثاء ،قالت بأنها تحب ممارسة الأعمال القريبة من الأطفال ورجتني أن أحقق لها رغبتها ، لم أستطع ، فكررت اعتذاري وشرحت لها ظروف الدار ، لكنها ألحت في الطلب ، ورجتني متوسلة أن أساعدها ، رق لها قلبي.. في نفسي لعلها في ضائقة مادية تدفعها للبحث عن عمل ، ووجدت من واجبي أن أساعدها.. سألتها عن مؤهلاتها ، فأخبرتني بأنها طالبة لغة إنكليزية ، لكنها تركت الجامعة قبل التخرج لأسباب لم تفصح عنها!.. تذكرت صديقة قديمة تملك روضة أطفال ، فعرضت على نورا أن تذهب لتعمل لديها مدرسة ، ووعدتها بأني سأزورها بكتاب توصية يمهد لها الأمور.. قدرت أنها ستفرح لهذه المبادرة ، لكنها وجمت ، وبدت الخيبة في عينيها ، كانت مصرة على العمل في الدار!.. هنا ساورتني الشكوك!! ما معنى هذا الإصرار؟
    من المهم أن أذكر هنا أن نورا جاءتني بعد يومين فقط من تحويل الطفلة اللقيطة إلينا ، وكانت جريدة الأيام قد اهتمت بقصة الطفلة اللقيطة ، وتابعت أخبارها ، فذكرت أنه قد تم نقل الطفلة من المستشفى ابن النفيس إلى دار الحنان للأيتام..
    في الحقيقة.. لم تكن نورا أول أم تلح عليها أمومتها ، فتأتي إلى الدار لتحوم حول طفلها أو طفلتها التي تخلت عنها لسبب أو لآخر ، وأردت أن أختبر نوار.. قلت لها إذا كنت مصرة على تقديم المساعدة لأطفال الملجأ ، فليس أمامك سوى فرصة العمل التطوعي في الدار ، هل تعملين متطوعة بلا أجر؟ انفرجت أساريرها فجأة ، ودمعت عيناها من شدة الفرح وأبدت حماسا بالغا للفكرة!!
    ازدادت شكوكي لكني أخفيتها!.. أظهرت إعجابي بحماسها وأريحيتها ، واهتمامها بالأطفال اليتامى ، وطلبت من المسؤولة عن المشرفات أن ترتب معها الزمان والمكان الذي ستتبرع فيه بجهودها ، وأوصيت المسؤولة بأن تترك لنورا حرية الاختيار..
    ومر أسبوع.. كنت أراقب خلاله تصرفات نورا وأحللها بهدوء وروية..
    لاحظت أنها اختارت العمل في جناح الأطفال الرضع ، وأنها كانت تقضي في الدار أوقاتا طويلة تزيد أحيانا عن دوام المشرفات المنتظمات لدينا ، ولاحظت أيضا أنها كانت تسبغ عطفا واهتماما خاصا على الطفلة بارعة ، على درجة جعلت طبيب الملجأ يشكو من استدعاء نورا له ثلاث مرات خلال الأسبوع ليتفقد الطفلة بدون سبب واضح!
    ومر أسبوع آخر.. علمت خلاله أن نورا قد استدانت من إحدى الموظفات مبلغا من المال!.. إذا كانت بحاجة إلى المال ، فلماذا تتطوع بالخدمة في الدار ، وترفض فرصة العمل المأجور في مكان آخر؟..
    وأصبحت الصورة لدي واضحة جلية..
    استدعيت نورا ذات صباح ، وأثنيت على بذلها وتفانيها ، قلت لها بعد أن شاع بيننا جو من الألفة والمودة : "اعلمي يا ابنتي بأن الصداقة التي توطدت بيننا صارت تسمح لي بالإطلاع على سرك الذي تخفينه عني ، فأرجو أن تبحي لي بقصتك الحقيقية فقد أستطيع مساعدتك"..
    بوغتت بكلامي ، ارتبكت وتلعثمت ، تجاهلت وأنكرت ، ثم انخرطت في بكاء مرير..
    وأجج الحديث مشاعر المديرة ، فبكت وهي تتذكر بكاء نورا بين يديها ، فتركها المحقق تفرغ انفعالاتها ، وتشاغل بمراجعة آخر ما دونه كاتبه من أقوال ، قال المحقق لكاتبه:
    ـ إياك أن تغفل عن حرف ، هذه القضية على ما يبدو معقدة ومتشعبة الخيوط!
    أومأ الكاتب برأسه مستجيبا لملاحظة سيده ، وانكب على أوراقه استعدادا لالتقاط كل كلمة تصدر عن المديرة..
    وتابعت المديرة سرد أقوالها ، فوجدت تطابقا كبيرا بين ما روته لي نورا عن حياتها ، وبين ما روته مديرة الملجأ ، والتفت المحقق إلي في نظرة عابرة ـ كمن يعترف بصدق أقوالي ، فلم أحفل بنظرته ، لأن اهتمامي كان مركزا على رواية المديرة ، باحثا عن الحلقة المفقودة التي ضاعت نورا قبل أن أعرفها..
    ووصلت المديرة إلى الفصل الضائع من الرواية ، فقالت :
    ـ ... ثم عملت نورا في شركة عبد الغني الذهبي ، وهناك بدأت مأساتها الحقيقية..
    لم أستطع صبرا ، أفلتت مني غضبة كظيمة ، وهتفت بنبرة المتألم المظلوم الذي وجد دليلا على براءته :
    ـ ألم أقل لكم.. إنه عبد الغني الذهبي.. رمز المصائب والبلايا!.. إنه يقف خلف كل جريمة ببصماته الملوثة.. رائحته الكريهة تفوح منه على الرغم من كل العطور التي يغتسل بها ليزور حقيقته..
    حدجني المحقق بطرف عينيه احتجاجا على تسرعي في الكلام ، بينما قالت المديرة في محاولة للتوضيح :
    ـ عفوا.. يبدو أن هناك التباسا في الأمر.. صحيح أن صاحب الشركة التي عملت فيها نورا هو السيد عبد الغني الذهبي ، لكن الذي اغتصب نورا وكان وراء مأساتها هو الدكتور شريف مدير الشركة!
    ـ الدكتور شريف!!..
    أفلت مني هذا التساؤل رغما عني.. هذه أول مرة أعرف فيها أن لشركة عبد الغني الذهبي مديرا يدعى الدكتور شريف!
    والتفت إلي المحقق غاضبا ، وقال بنبرة وشت بنفاذ الصبر :
    ـ دكتور صلاح.. لقد اصطحبتك معي على مسؤوليتي الشخصية ، إيمانا مني ببراءتك ، واحتراما لمشاعرك التي جرحناها باعتقالك هذا الصباح ، لكني لا أسمح لك أبد أن تتدخل في التحقيق ، أو تفسد مجراه..
    انسكبت كلمات المحقق علي كشلال من الماء البارد ، وبعثت في نفسي ارتياحا عميقا رغم اللهجة الجافة التي حملتها ، المحقق مقتنع ببراءتي شخصيا على الأقل ، ونظرت إليه بامتنان وإذعان.. وصمت.. لم يكن أمامي سوى الصمت إن أنا أردت أن أعرف بقية هذه القصة التي حشرتني بين خيوطها المتشابكة..
    وعاد المحقق باهتمامه إلى المديرة..
    ـ قُلتِ : إن الذي اغتصبها يدعى الدكتور شريف؟..
    ـ نعم.. الدكتور شريف الطيب ، المدير التنفيذي لشركة الذهبي..
    ـ أجل..
    ـ وحملت منه؟
    ـ نعم.. وقد طالبته بأن يتزوجها ليجنبها الفضيحة ، لكنه رفض ، واختلق حولها الأقاويل , ثم فصلها من العمل..
    ـ وعبد الغني الذهبي.. هل علم بالأمر؟
    ـ علم عندما شكت له نورا الدكتور شريف..
    ـ ماذا كانت ردة فعله؟.
    ـ لم يصدقها.. طردها من مكتبه ، وهددها بأنه سيبحث عن أهلها ، ويحدثهم عن سوء أخلاقها ، إن هي كررت شكواها أو ذكرت شركته وموظفيها بسوء..
    ـ لماذا يظن عبد الغني الذهبي أن نورا فتاة سيئة الأخلاق؟..
    ـ لعل الدكتور شريف وسوس له بهذه الفكرة..
    ـ لماذا لم تتقدم نورا بشكواها إلى العدالة؟..
    ـ خافت من الفضيحة..
    ـ الحمل أمر لا يمكن إخفاءه ، والفضيحة كانت وشيكة على كل حال..
    ـ لقد احتاطت للأمر..
    ـ كيف؟..
    ـ استطاعت نورا أن تجد غرفة عند سيدة عجوز تقيم في أحد الأحياء الفقيرة.. كانت العجوز طيبة وحكيمة ، فعطفت عليها ، وتفهمت ظروفها.. وهكذا عاشت نورا في كنفها آمنة مستورة ، حتى وضعت وأنجبت طفلتها..
    تفكرالمحقق هنية ، ثم قال :
    ـ إذا كانت نورا قد وجدت المكان الآمن الذي تربي فيه طفلتها ، فلماذا تخلت عنها؟
    أجابت المديرة :
    ـ بعد أن وضعت نورا طفلتها ببضعة أشهر اختار الله العجوز الطيبة إلى جواره ، وجاء الورثة يطالبون بمنزل فقيدتهم ، فاضطرت نورا للرحيل ، وخرجت من مأمنها هائمة تائهة لا تعرف إنسانا تلوذ به ، أو مكانا تأوي إليه ، واستبد بها اليأس ، فقررت أن تتخلص من الحياة ، وكان عليها قبل ذلك أن تحد لطفلتها من يرعاها ، فهداها فكرها إلى وضع الطفلة أمام أحد المساجد ، ليلتقطها أحد الصالحين ، فيتولى أمرها ، واختارت مسجدا تعرفه ، فتسللت إليه أثناء صلاة الفجر ، ووضعت طفلتها في حديقته ، ثم توارت بعيدا ، وجعلت تنتظر..
    وخرج المصلون من مسجدهم ، فترامى إلى سمعهم بكاء طفل ، فهرعوا إلى مصدر الصوت دهشين ، فوجدوا الطفلة ملفوفة بدثارها ، وهي تمزق بصراخها هدأة الفجر ، وبادر أحدهم ، فحمل الطفلة ومضى بها إلى شرطة الحي ليضع القضية بين أيديهم ، فقام هؤلاء بدورهم باتخاذ الإجراءات المعتادة ، وكانت الخطوة الأولى تحويل الطفلة إلى المستشفى للاطمئنان على صحتها ، وتقدير وزنها وعمرها ، ومعرفة زمرتها الدموية..
    وكانت نورا تتابع طفلتها وهي تنتقل من يد إلى يد ، وعندما رأت الشرطي يتجه بها إلى المستشفى طر صوابها ، وقلب الخوف والقلق كيانها ، وأخذت تحوم حول المستشفى كالحمامة الكسيرة التي سرق العابثون صغارها ، ولم تصبر ، فصممت أن تطمئن على ابنتها ، لكنها كانت بحاجة إلى عذر تدخل به المستشفى في تلك الساعة المبكرة ، ولم تلبث أن تناولت أحد دبابيس الشعر التي تشكل بها شعرها ، وأحدثت بطرفه الحاد جرحا في يدها ، لتتذرع به ، وقد كان قدرها أن يستقبلها الدكتور صلاح ، ويعالجها..
    وهكذا حفظ الدكتور صورتها ، واستطاع أن يربط بين تصرفاتها عندما صادفها هنا في الملجأ..
    قال المحقق بلهجة المتسائل :
    ـ هذا يعني أن نورا لم تقدم على الانتحار!
    ـ هذا ما حصل.. كانت مشاعر الأمومة عندها أقوى من اليأس ، فقررت أن تبقى من أجل طفلتها البريئة ، وتكابد في سبيلها كل المصاعب والآلام..
    ـ لكن الذي التقطوا الطفلة وجدوا معها مبلغا من المال!.. من أين حصلت نورا على المال؟
    ـ من الدكتور شريف..
    ـ الدكتور شريف؟!..
    ـ نعم.. فعندما ذهبت نورا إلى الدكتور شريف ترجوه أن يتزوجها ويجنبها الفصيحة ، رفض كما ذكرت لكم في البداية ، فأخبرته بأنها حامل ، وطلبت منه أن يتحمل مسؤوليته نحو الجنين الذي أثمرته جريمته.. لكنه أمعن في الرفض ، وطلب منها أن تسقط جنينها ، وعرض عليها مبلغا كبيرا من المال يغطي تكاليف عملية الإجهاض.. ظنت نورا في البداية أن الإجهاض قد يكون مخرجا معقولا من الفضيحة التي تنتظرها ، فأخذت المبلغ ووافقت واحتفظت بالمبلغ ، وقررت أن توفره للطوارئ ، وعندما تخلت عن طفلتها ، وضعت المبلغ معها حتى يستعين به من يجدها على رعايتها..
    قطب المحقق متفكرا ، واستغرقته برهة من التأمل ، ثم ما لبث أن قال للمديرة :
    ـ بقيت نقطة غامضة بحاجة إلى توضيح..
    ـ ما هي؟..
    ـ أقوالك تفيد بأن نورا كانت فتاة ذات ضمير يقظ ، وسلوك مستقيم..
    ـ هذا ما أشهد به ، وأصر عليه..
    ـ كيف تكون فتاة بهذا السلوك ، ثم تسمح لشاب مستهتر كالدكتور شريف باغتصابها؟
    ـ اغتصبها عنوة!
    ـ عنوة؟
    ـ أفقدها وعيها ، ثم اغتصبها..
    ـ أريد القصة بالتفصيل..
    وشرعت المديرة تروي قصة اغتصاب نوار بالتفصيل.. كنت أصغي إليها بألم ، وأنا أغالب مشاعر الغضب والثورة التي اجتاحتني كالإعصار.. لم أتوقع أن في العالم نفوسا قذرة بهذا الخبث وهذه الدناءة! تذكرت فلما وثائقيا شاهدته عن التكاثر عند الحيوانات.. في تلك اللحظة ، لم أجد فرقا كبيرا بين حياة الغابة وحياة المدينة!...
    كم يبدو الإنسان تافها وحقيرا عندما يتخفف من إنسانيته ويتحرك من الحياة كحيوان البراري.. يأكل حتى التخمة ، ويمارس الجنس مع أي عابر ، ثم يسترخي ، ويغط في نوم غليظ ، لا توقظه منه إلا الرغبة والجوع..
    ثمة معلومات مهمة أقلقتني.. ورد في كلام المدية أن الدكتور شريف كان قد تقدم لخطبة أحلام قبل أسبوع من مقتل نورا ، وهذا ما دفع نورا للذهاب إلى المركز الثقافي يوم افتتاح معرض أحلام ، فقد كانت تريد أن تفضحه أمام الفتاة التي يفكر بالزواج منها ، وبذلك تنتقم من الدكتور شريف ، وتزلزل أحلامه ، ما أقلقني وأقض مضجعي ، أن المديرة قد ذكرت في حديثها أن والد أحلام قد وافق على الخطبة ، ووزع الحلوى في شركته بهذه المناسبة ، أيكون قد بنى موافقته على موافقة أحلام؟!..
    وأحسست بشيء غامض يعتصر قلبي داخل قبضته ، لا أستطيع أن أرى أحلام زوجة لغيري كائنا من كان!.. فكيف وأنا أراها تزف إلى وغد؟!!!...


    الفصل الثاني والثلاثون

    ـ دكتور شريف أنت متهم باغتصاب وقتل المغدوره سنديان!..
    بهذه الكلمات الصاعقة داهم المحقق الكتور شريف الطيب مدير شركة الذهبي للتجارة العامة..
    دكت كلمات المحقق هدوء الدكتور شريف ، وأطاخت بابتسامته الواثقة التي استقبلنا بها ، حملق في ذهول ، وتلفت حوله كمن تلقى صفعة هائلة!..
    ـ عفوا ، ماذا قلت؟
    ـ كما سمعت ، أنت متهم بالاغتصاب والقتل ، قتل الآنسة نورا التي كانت تعمل هنا موظفة طباعة باللغة الإنكليزية..
    انهار الدكتور شريف على كرسيه كجدار يتداعى ، ثم قال بنبرة وانية وهو يتظاهر بالدهشة والبراءة :
    ـ حضرتك فاجأتني.. لا أعرف عم تتحدث!..
    ابتسم المحقق وقال وهو يخترق الدكتور شريف بنظراته :
    ـ كلامي واضح..
    ـ عفوا!.. يبدو أنك لا تعرفني!!..
    ـ زدني تعريفا..
    ـ أنا الدكتور شريف الطيب ، دكتوراه في الاقتصاد من الولايات المتحدة ، ومدير شركة الذهبي التجارية أكبر شركة في البلد ، أنا موطن صالح ، منهمك في عملي ، ولست متسكعا أو بلطجيا حتى توجه لي هذه الاتهامات!..
    تضاحك المحقق ساخرا ، وجعل يدور حول مكتب الدكتور شريف في محاولة للعبث بأعصابه المتوترة ، ثم توقف خلفه برهة ، وقال وهو يربت على كتفه بلطف :
    ـ دكتور شريف.. المتسكعون والبلطجية وقطاع الطرق ، نعرفهم وحدا واحدا ، لكل واحد منهم عندنا ملف وصورة وعنوان..
    ثم أردف المحقق وهو يميل على أذن الدكتور شريف هامسا :
    ـ المجرمون الذين نواجههم هذه الأيام ـ للأسف ـ أنيقون ومهذبون وأذكياء ، وهو أحيانا مثقفون ورجال أعمال!..
    ثم اختار المحقق كرسيا مقابل الدكتور شريف فاسترخى عليه وهو يقول :
    ـ في مجتمعنا ـ يا عزيزي ـ كل شيء يتطور ، حتى الجريمة..
    فقد الدكتور شريف سيطرته على أعصابه ، فهب واقفا وصاح باهتياج محموم :
    ـ أنا لست قاتلا..
    استقبل المحقق ثورة الدكتور شريف ، ببرود شديد ، وسدد إليه نظرة ساخرة يسطع منها بريق ثاقب ، ولم يصمد الدكتور شريف لنظرة المحقق الصارخة بالتكذيب والاتهام ، فخر جالسا كمن صرعه شعاع من الليزر ، وردد بصوت واهن مثقل بالرعب :
    ـ أنا لم أقتل نورا.. أقسم لكم بأني لم أقتلها..
    وشعر المحقق بأن الدكتور شريف قد بدأ يتصدع من الداخل ، وأن مقاومته بدأت تتراخى ، فانهال عليه بالأسئلة :
    ـ اسمك وعملك وعنوانك؟
    ـ اسمي شريف عبد الجبار الطيب.. أعمل مديارا لشركة الذهبي من ثلاث سنوات.. أقيم في الضاحية الغربية ـ شارع السفارات ـ فيلا رقم (11)..
    ـ مؤهلاتك العلمية؟
    ـ دكتوراه في الاقتصاد وإدارة الأعمال من الولايات المتحدة..
    ـ متى تخرجت..
    ـ منذ خمس سنوات..
    ـ كيف كنت تؤمن مصاريف دراستك؟
    ـ عن طريق الوالد..
    ـ ما هو عمله ؟
    ـ مدرس رياضيات..
    ـ يعني ليس ثريا كما توقعت!..
    ـ هل لهذا علاقة بالتحقيق؟..
    ـ كل شيء مفيد في التحقيق..
    ـ الوالد رجل متوسط الحال.. وقد كان يقوم بإعطاء الدروس الخصوصية بعد الدوام ، ليوفر لي مصاريف الدراسة في أمريكا..
    ـ وتقييم في فيلا؟!
    ـ أعتقد أن هذه ليست جريمة..
    ـ ملك أم إيجار؟
    ـ ملك..
    ـ كيف تسنى لك امتلاك فيلا في الضاحية الغربية ، ولم يمض على تخرجك سوى خمس سنوات؟
    ـ الفضل يعود للسيد عبد الغني صاحب الشركة هو الذي ساعدني في شرائها..
    ـ مقابل؟
    ـ مقابل خدماتي..
    ـ خدمات من أي نوع؟
    ـ خدماتي كمدير للشركة..
    ـ ألا تلاحظ معي بأن السيد عبد الغني سخي أكثر مما يجب؟
    ـ لا يبدو لي الأمر كذلك!
    ـ وضح..
    ـ كل ما في الأمر أن السيد عبد الغني إنسان عملي.. إنسان ذكي يحاول دائما أن يكسب إخلاص موظفيه.. يحاول أن يحرض عندهم الطموح ليعملوا بدأب ونشاط وحماس.. لذلك يقدم لنا حوافز عالية.. الطموح ليعملوا بدأب ونشاط وحماس.. لذلك يقدم لنا حوافز عالية..
    شمل المحقق الدكتور شريف بنظرة تصرخ بالشك ، ثم قال :
    ـ الحافز يمكن أن يكون مكافأة في السنة.. مكافأة كل ستة أشهر ، لكن فيلا؟.. هذا غير مقنع.. أليس كذلك؟
    ـ عفوا.. الأمور ليست بهذه الصورة.. القصة وما فيها أنني عندما بدأت العمل مع السيد عبد الغني أبديت تفانيا وإخلاصا وكفاءة ، فأراد السيد عبد الغني أن يشجعني ، ويعتمد علي في أعماله أكثر ، فجلس معي ذات يوم سألني عن أحلامي وطموحاتي ، فأخبرته بأني أحلم بفيلا ، وسيارة ، وراتب كبير..
    ـ وماذا بعد؟..
    ـ قال بأنه يبحث عن موظف يملك كفاءتي وإخلاصي ، ووعدني بأنه سيحقق لي كل طموحاتي وأحلامي ، إن أنا عاهدته على الاستمرار بنفس النشاط والتفاني ، وحققت للشركة المزيد من المكاسب والإنجازات..
    ـ هل وفى بوعده؟
    ـ أجل.. رفع راتبي إلى المستوى الذي طلبته ، وأهداني سيارة ، وكان يملك فيلا في الضاحية الغربية فسجلها باسمي..
    قاطع المحقق الدكتور شريف قائلا :
    ـ دكتور شريف.. لا تحاول إقناعي بأن السيد عبد الغني أعطاك الفيلا دون ضمانات تكفل له حقه فيما لو..
    ـ طبعا.. طبعا.. كانت هناك ضمانات..
    ـ ما هي؟
    ـ وقعت على مئة وصل أمانة بثمن الفيلا ، واتفقنا على أن يسقط عني وصلا منها ، كلما حققت للشركة إنجازا مهما أو صفقة رابحة..
    ـ كم وصل أمانة سقط عنك حتى الآن؟
    ـ خمسة عشر..
    ـ خلال؟
    ـ خلال عامين ونصف العام تقريبا..
    ـ مباراة طريفة..
    ـ كلانا مستفيد..
    ـ لكنها مباراة مرهقة في ذات الوقت..
    ـ لماذا؟
    ـ لأن إيصالات الأمانة أو ما يدعى بالكماليات ستظل عبئا مزعجا على كاهلك حتى تتخلص منها ، ومن المسؤولية القانونية الجسيمة المترتبة عليها ، فيما لو دب خلاف بينك وبين السيد عبد الغني ، أو أخفقت في تحقيق المزيد من الإنجازات..
    ـ هذا صحيح.. لكنها حافز آخر على كل حال.. شعوري بضرورة التخلص من هذه الايصالات سيشحذ همتي دائما لتحقيق المزيد من الصفقات والنجاحات..
    قال المحقق بنبرة ذات مغزى :
    ـ وقد تضطر للقيام بصفقات غير مشروعة من أجل تحقيق نجاحات سريعة!
    نظر الدكتور شريف إلى المحقق في قلقل وقال :
    ـ هل أفهم أنك تتهمني بالقيام بصفقات غير مشروعة؟
    تجاهل المحقق سؤاله ، وقال :
    ـ ماذا تعرف عن نورا سنديان؟
    ـ كانت موظفة بسيطة تعمل هنا.
    ـ يقولون بأنها كانت جميلة!
    ـ احتكاكي بها كان قليلا..
    ـ كيف كان سلوكها في العمل؟
    ـ لا أحب الإساءة للأموات..
    ـ أريد إجابة محددة..
    ـ الكل يجمع على أنها كانت فتاة فاسدة..
    ـ ما هو دليلهم؟
    ـ أنت تعرف كيف تنتشر مثل هذه الأخبار..
    ـ أريد رأيك أنت؟..
    ـ لولا تصرفاتها معي لما صدقت..
    ـ كيف تصرفت معك؟
    ـ راودتني عن نفسها أكثر من مرة!
    ـ لكنك قلت بأن احتكاكك بها كان قليلا..
    ـ قليلا ، وليس معدوما..
    ـ كيف تجرأت على ذلك والفرق الوظيفي بينكما بعيد؟
    ـ هذا ما حصل.. كانت وقحة.. ظنت أنها بذلك تتقرب مني ، وتطور وضعها الوظيفي.. فقد كانت حالتها المادية سيئة وكانت بحاجة إلى مال..
    ـ ماذا فعلت عندما راودتك عن نفسها؟
    ـ طردتها طبعا.. فصلتها من العمل..
    ـ يقولون بأنها شكتك للسيد عبد الغني ، واتهمتك باغتصابها..
    ـ كان طبيعيا أن تتصرف كذلك ، لكن السيد عبد الغني لم يصغ لاتهاماتها ، وطردها من مكتبه..
    ـ يقولون أيضا : إن نورا قد وضعت يدها على أوراق خطيرة تثبت أن الشركة تمارس أعمالا غير مشروعة..
    ـ هذا كلام مختلق ، أوراق الشركة تحت تصرفك وتستطيع أن تتحقق من كل شيء بنفسك..
    ـ هل تتجر الشركة بالأدوات الطبية؟
    ـ الشركة تتجر بكل شيء.. لها مستشارون في معظم حقول التجارة ، وهي تقدم دائما على الاتجار بالأصناف الرائجة والمطلوبة في السوق..
    ـ كالمحاقن الطبية مثلا؟
    ـ المحاقن الطبية لم تعد تجارة رابحة ، لقد تنبه التجار إلى رواجها وأغرقوا بها السوق..
    ـ تستطيع أن تنافسهم!
    ـ كيف؟
    ـ تنزل السعر..
    ـ سعر المحقنة البلاستيكية زهيد ، والمنافسة فيه غير مجدية..
    ـ عندما تستورد كميات هائلة من المحاقن التي انتهى زمن استعمالها ، ستكون كلفة المحقنة الفاسدة أقل بكثير من كلفة المحقنة الصالحة للاستعمال ، وسيصبح من الممكن طرحها في السوق بسعر منافس ، مع المحافظة على أعلى ربح!..
    قال الدكتور شريف بلهجة تكلف فيها الورع :
    ـ لا.. لا.. هذا غش لا يجوز..
    لم يكترث المحقق بورعه الكاذب ، فأردف يقول :
    ـ وعندما يكون طموحك أن تحقق المزيد من الصفقات السريعة وتتخلص من إيصالات الأمانة التي تعيق امتلاكك الكامل للفيلا..
    عندئذ ، يمكن أن تكون صفقة المحاقن الفاسدة خطوة على طريق أحلامك المريضة..
    ـ سيدي.. أنا رجل عندي ضمير ، و...
    ـ وعندما تكتشف فتاة كنورا سر جريمتك البشعة صدفة ، تصبح هذه الفتاة البريئة عقبة مزعجة في طريق طموحك تجب إزالتها بأية وسيلة..
    هتف الدكتور شريف منكرا :
    ـ أنا لم أقتل نورا..
    ـ اغتصبتها ثم قتلتها ، ثمة أدلة كافية لإدانتك..
    ـ أقسم لك بأني لم أقتلها..
    ـ أين كنت مساء السبت بين السادسة والواحدة ليلا..
    ـ كنت.. كنت..
    ـ أين؟..
    ـ سهرت مع أحد الأصدقاء..
    ـ أين؟..
    ـ هل هذا مهم؟
    ـ يجب أن تثبت مكان وجودك ساعة وقوع الجريمة..
    ـ كنت في سهرة مع صديقة..
    ـ أين؟
    ـ في بيتها..
    ـ من هي؟
    ـ لا أستطيع ذكر اسمها..
    ـ لماذا؟
    ـ لأنها.. لأنها سيدة متزوجة..
    ـ أتخشى من زوجها على نفسك؟
    ـ لو كان رجلا عاديا لهان الأمر!..
    ـ أنت في موقف صعب لا تحسد عليه..
    ـ صدقوني أنا لم أقتل نورا..
    نهض المحقق في حزم وقال بنبرة حاسمة :
    ـ يبدو أنك لا تريد أن تعترف.. أنا مضطر للقبض عليك..
    رفع الدكتور شريف إلى المحقق نظرات زائغة فيها توسل وضراعة ، ثم همس في ذهول :
    ـ لست قاتلا..
    ـ لم تقدم دليلا على براءتك..
    ـ يا لها من نهاية!..
    ـ تفضل معنا بهدوء..
    ـ هل تصدقني إذا قلت الحقيقة؟
    قال المحقق وهو يهز سبابته كالمتوعد :
    ـ إذا قلت الحقيقة..
    ـ وهل سيخفف ذلك عني..
    ـ كثيرا..
    أطرق الدكتور شريف إطراقة الذليل ، وداوم الإطراق برهة ، فبدا كالمتردد ، وطال صمته حتى ضاق المحقق به ذرعا ، فقال له بنبرة غيظ :
    ـ هل ستعترف ؟ أم...
    رفع الدكتور شريف وجها شاحبا مخضلا بالدموع ، وشخص بنظراته الكسيرة نحو شيء ما ، وكأنه ينظر إلى حطام أحلامه وقد تكومت أمامه كأنقاض بنيان منهار ، ثم أنشأ يروي اعترافاته كمن يخاطب نفسه..
    قال بلهجة تشي بالحسرة والندم :
    ـ كان هذا اليوم دائما ماثلا أمامي.. إنه النهاية الرهيبة التي كنت أخشاها ، لكن أحلامي الكبيرة ، وطموحاتي الجشعة كانت تشدني بقوة..
    تجذبني إليها ببريقها الأخاذ ، وسرابها الخادع ، ثمة سؤال كان يؤرقني ولا أجد له جوابا ، لماذا لا يحق لي أن أتمتع بالحياة كما يتمتع بها المترفون؟ ألأني ولدت من أب لم يتسطع أن يكون أكثر من مدرس؟!..
    وذهبت إلى أمريكا للدراسة.. تمكنت من الحصول على الدكتوراه في فترة قياسية ، وعدت إلى وطني مشحونا بنشوة الفوز ، وبدأت أطرق أبواب العمل.. بحثت عن وظيفة كبيرة تليق بمؤهلي العالي ، وتؤمن لي الحياة الناعمة الرغيدة التي أحلم بها.. فوجئت بأن الشهادات العالية لم تعد جواز سفر يؤهل أصحابها للعبور إلى المجد الذي يحلمون به.. ثمة شهادات كثيرة ، وعلى صاحب الشهادة أن ينتظر دوره في سلم الصاعدين..
    والتفت حولي فوجدت بعض أقراني ممن فشلوا في دراستهم ، وتركوا المدرسة في مراحلها الأولى.. وجدتهم قد أصبحوا رجالا مرموقين في المجتمع دون أن تقف الشهادة عائقا في طريقهم إلى الثروة والعز والجاه!..
    قابلت أحدهم ذات يوم.. كان تلميذا خائبا بليدا ، اضطر إلى ترك المدرسة بعد أن رسب في الصف الرابع الابتدائي لمدة عامين متوالين ، فاشتغل أجيرا في محل لبيع الفلافل.. صادفته بعد عودتي من أمريكا.. كان يقود سيارة مرسيدس من النوع الذي حلمت به كثيرا ، لم أصدق ، قال : "اصعد" ركبت معه ، وسألته عن هذا العز الذي ينعم فيه ، ضحك وقال : "الفلافل!.. هذه بركا الفلافل!.. أليست خيرا من السهر والدراسة ووجع الدماغ؟.."..
    وسألني عن آخر أخباري ، فأجبته بأني عدت من أمريكا بشهادة الدكتوراه ، ولا أجد عملا ، نظر إلي متعجبا وقال : "أنا أعرف أن الأطباء يحققون دخلا ممتازا ، كيف لا تجد عملا وأنت دكتور من أمريكا؟!..".
    ضحكت وتحسرت.. صديقي بائع الفلافل يظنني طبيبا!..
    وضحت له طبيعة اختصاصي ، فابتسم وقال : "لماذا لا تأتي وتستلم إدارة مطعمي الجديد؟ عندي مطعم حديث ، وابحث عن عمن يدير شؤونه ، وأنت أولى من الغريب..".
    هزئت بكل شهاداتي.. ما ضرني لو أني تركت الدراسة مثل صاحبي وانخرطت في سلك الفلافل؟!..
    واستبسلت في البحث عن فرصة كبيرة حتى وصلت إلى هذه الشركة ، ووجدت فيها مستقبلي الذي كنت أنشده..
    امتحن السيد عبد الغني قدراتي في البداية ، وعندما وثق بكفاءتي وإخلاصي أغرقني بالحوافز والمكافآت ، جعلني أتذوق طعم النجاح ، ثم أمسك بأحلامي بقبضة واثقة تعرف متى تمنح ، ومتى تمنع؟.. كالمروض في السيرك.. يحمل السوط بيد ، وقطعة اللحم بيد ، ثم يحرك أسوده كيفما يريد..
    وعشت في سباق مع الزمن.. كانت أمنيتي أن تنطوي الشهور بلمح البصر ، حتى ينمو رصيدي في البنك ، وتصبح الفيلا ملكي ، وأدخل عالم الأثرياء..
    ووجدت في السوق فرصا لتحقيق نجاحات سهلة ، فيها بعض التجاوزات المأمونة ، فأردت الاستفادة منها ، لكني أحببت استشارة السيد عبد الغني قبل أن أقدم عليها..
    قال لي السيد عبد الغني : "أنا لم أدخل الجامعة مثلك ، لكني أعرف كيف أرسم الخطوط البيانية ، وأحب أن أرى الخط البياني لأرباح الشركة في صعود مستمر ، عندما أرى الخط البياني للأرباح ماض في الصعود ، أطمئن إلى أن من أعتمد عليهم أهل للثقة ، وعندما يتوقف خط الربح أو يهوي أعرف أن من أعتمد عليهم قد فشلوا واستنفذوا أغراضهم ، انطلق إلى عملك ، ولا تشاورني بعد اليوم في شيء..".
    كانت هذه الكلمات هي الضوء الأخضر الذي سمح لي بالانطلاق بأقصى سرعة.. بدأت أحصد الفرص السهلة ، واجتهدت في هندسة الإطار القانوني لكل تجاوز ، وبدا لي الطريق إلى الثروة ممهدا محفوفا بالزهور ، لكن القدر لم يرحمني ، فأرسل إلي نورا لتقف في طريقي ، وتعيق اندفاعاتي المجنونة..
    وسكت الدكتور شريف ، وغاب برهة في أحضان الصمت.. كانت ملامحه غارقة في الندم.. بدا وكأنه يلم شتات نفسه من تحت أثقال الخزي والعار ، ليبوح بالجزء الأبشع من جريمته ، واستأذن المحقق في تدخين سيجارة.. لعله أراد أن يخدر بدخانها المسموم شعوره بالذنب!.. ونظرت إلى ساعتي في قلق.. كانت الساعة تسعى نحو الثامنة ، وقد شارف دوم الشركة على الانتهاء ، لابد أن أحدهم قد أخبر عبد الغني بأن مديره المدلل يتعرض للتحقيق ، لكنه لم يكترث!.. لم يظهر حتى الآن!.. لعله قد تخلى عن خطيب ابنته بعد أن كشفته جرائمه!.. آه. لا أصدق أن أحلام توافق على وغد كهذا!.. أيلجئها ما حدث بيننا إلى التفريط بحبها ، والرضاء بأي رجل؟..
    وأي رجل؟.. رجل ممن كرهتهم دائما أحلام! أغلب الظن أنها قد تعرضت لضغوط عنيفة من أبيها ، لعله قد أرغمها على هذا الزواج.. مستحيل!.. أحلام لا يمكن أن توافق.. في الأمر غموض محير أتمنى لو اكتشفه!.. ورحت أسترجع أحداث هذا اليوم العاصف في ألم.. ترى؟ كيف تلقى الأهل والأصدقاء نبأ اعتقالي؟.. نظرت إلى المحقق في شرود.. كان يقتحم الدكتور شريف بنظرات ثاقية متوثبة ، تريد لو تنفذ إلى صدره لتعرف ما يخفيه من حقائق ، أما الدكتور شريف ، فقد كان يتهرب من نظرات المحقق العنيده المتفحصة ، متشاغلا بسيجارته التي كان يتأملها وهي تتآكل سريعا بسبب شراهته البشعة في التدخين ، أعجبتني طريقة المحقق في العمل إنه يتحرك بسرعة حتى لا تضيع منه الخيوط.. يفاجئ المشبوهين باتهاماته الصاعقة ، قيل أن يرتبوا دفاعهم.. يفرز خيوط الحقيقة بعناية ثم يصل بينها بذكاء.. أينجح في الوصول إلى القاتل في يوم واحد؟!.. أيكون الدكتور شريف حقا هو القاتل؟ّ!.. ما الذي حشرني في كل هذه الأحداث؟!..
    وخرج الدكتور شريف عن صمته ، قال : وهو يزفر النفس الأخير من سيجارته :
    ـ لم يخطر لي يوما أن أؤذي نورا ، ولم أكن لأهتم بها لولا صدفة.. صدفة يمكن أن تحدث في أي مكان.. فقد اجتمعت في الشركة موظفتان تدعيان نورا.. نورا سنديان المرحومه ، وكانت تعمل طابعة باللغة الإنكليزية ، ونورا كامل المسؤولية عن رسائل التلكس ، وهي موظفة قديمة يأتمنها السيد عبد الغني على أسرار كثيرة ، وهي أيضا مسؤولة عن حفظ الوثائق والعقود والرسائل الخاصة بالشركة..
    وحدث أن ورد إلينا تلكس من شركة أمريكية للصناعات الطبية ، تعرض فيه علينا شراء كمية هائلة من المحاقن البلاستيكية التي انتهى زمن استعمالها بأسعار زهيدة ، فكرت في العرض ، فوجدت فيه فرصة للمكسب السهل.. قفزة جديدة تقربني من أحلامي.. كانت المحاقن من النوع المطلوب في السوق ، وكان بإمكاني تسويقها بسرعة ، ولم أتردد.. تناولت ورقة وكتبت الرد.. لا مانع لدينا من استيراد الكمية المذكورة شريطة تمديد تاريخ الاستعمال.. وكان أحد المستخدمين قد جاءني بالشاي ، فسلمته الرد المكتوب وطلبت منه أن يعطيه لنورا.. حمل المستخدم الرد ومضى به ، وما كاد يغيب حتى تذكرت شيئا مهما.. تذكرت أني لم أحدد للمستخدم أية نورا قصدت ، وأن الأمر قد يلتبس عليه ، ولا سيما أنه مكتوب باللغة الإنكليزية.. أسرعت خلفه إلى غرفة المرحومه نورا ، وكانت قريبة من مكتبي ، فوجدت المستخدم خارجا منها.. أدركت أن ما خشيت منه قد وقع ، وكان علي أن أتصرف بسرعة..
    دخلت على نورا ، فطالعت في عينيها نظرة اتهام ، قالت بجرأة لم أتوقعها :
    ـ لم يخطر لي أني أعمل في شركة تتاجر بالبضائع الفاسدة!ّ
    ماذا أفعل؟..
    قلت لها متجاهلا :
    ـ بضائع فاسدة!!.. آنسة نورا ثم تتحدثين؟..
    قالت محتدة :
    ـ أتحدث عن المحاقن البلاستيكية التي انتهى تاريخ استعمالها ، وتنوي استيرادها..
    ضحكت وأغلقت الباب..
    قلت لها مهونا من جسامة الأمر :
    ـ آنسة نوار أنت منفعلة أكثر مما يجب ، ماذا تتوقعين أن يحدث للمحاقن بعد انتهاء المدة المحددة للاستعمال؟.. إنها مواد بلاستيكية لا تؤكل ولا تشرب ، ولا ضرر من استعمالها بعد نهاية تاريخ الاستعمال..
    لم تقنعها كلماتي..
    قالت بمنطق بسيط ، لم أدر كيف أواجهه :
    ـ إذا كان استعمال المحاقن البلاستيكية بعد انتهاء التاريخ المحدد لها غير ضار ، فلماذا تسجله الشركات الصانعة على غلاف كل محقنة ، وتهتم به إلى هذا الحد؟..
    احترت كيف أستوعبها؟!.. إنها عنيدة وذكية ، من النوع الصلب الذي لا يلين.. الحق أني احترمت جرأتها وشجاعتها ، لكن الموقف بالنسبة لي كان خطيرا وعصيبا..
    أحسست أن هذه الفتاة الجميلة البريئة يمكن أن تزلزل بلسانها مستقبلي ، وتحيل أحلامي إلى سراب ، في تلك اللحظة تذكرت فيلما كنت قد شاهدته في أمريكا ، فأوحى لي الفيلم فكرة مجنونة.. تظاهرت بالندم..
    قلت لها بلهجة استكانة وضعف : آنسة نورا ، هل تصدقيني إذا بحت لك بسر؟..
    نظرت إلي حائرة ولم تجب!..
    تابعت قائلا :
    ـ قد أبدو لكم أني مدير الشركة ذو الصلاحيات الواسعة ، لكن الحقيقة غير ذلك تماما..
    حدقت بي أكثر وتابعت الإصغاء..
    أردفت متنهدا :
    ـ إنما أنا منفذ أوامر.. أنفذ كل ما يطلبه مني السيد عبد الغني صاحب الشركة.. السيد عبد الغني هو الذي وافق على صفقة المحاقن الفاسدة ، وهو الذي أمرني بكتابة الرد الذي في يدك..
    ألقت نورا نظرة على الورقة التي في يدها ، وكأنها تراجع ما جاء فيها ثم قالت :
    ـ لا يعنيني من هو الذي أمر بالرد أو نفذه.. كل ما يعنيني أني أمام جريمة لا يجوز السكوت عنها ، وواجبي أن أبلغ عنها السلطات..
    ارتج قلبي خوفا ، لكني تماسكت وتظاهرت بالندم..
    قلت في هدوء :
    ـ هذا ما كان علي أن أفعله منذ زمن!..
    لا أدري لماذا ظلت تنظر إلي في شك وحذر!.. وكدت أيأس من خداعها لولا أن قالت :
    ـ كلامك يوحي بأن هناك جرائم أخرى من هذا النوع!..
    أيقنت أن حليلتي بدأت تنطلي عليها ، فقلت :
    ـ للأسف ، هذا صحيح وقد راودتني نفسي أكثر من مرة على إبلاغ الشرطة بما يجري في الشركة من مخالفات خطيرة ، لكني جبنت ، خشيت أن يشملني القضاء بالعقاب ، فأخسر سمعتي ومستقبلي..
    هنا قالت نورا في حماس :
    ـ يجب ألا تتستر على ما يجري والقضاء ـ فيما أعلم ـ يسامح من يبادر إلى كشف المجرمين وفضح جرائمهم..
    أدركت أن نورا قد ابتلعت الطعم..
    فقلت متظاهرا بالتوبة :
    ـ الحمد لله الذي أرسلك إلي في الوقت المناسب ، كنت بحاجة إلى إنسان يشجعني على هذه الخطوة..
    قالت وكأنها تختبر صدقي :
    ـ ماذا تنتظر إذن ، هيا بنا لنقوم بواجبنا ، ونبلغ السلطات ، هذا أمر لا يحتمل التأجيل..
    قلت لها مستجيبا لفكرتها :
    ـ أنت على حق ، هذا أمر لا يجوز تأجيله ، لكن..
    سألت في شك :
    ـ لكن ماذا؟..
    أجبت على الفور :
    ـ لكن القضاء لا يصغي لأي إدعاء ما لم يكن مؤيدا بالأدلة والإثباتات..
    نظرت إلي قلقة ، وقالت:
    ـ ألا تملك أدلة على ما تعرف؟..
    ابتسمت وقلت :
    ـ اطمئني ، لقد احتطت للأمر منذ البداية ، فاحتفظت بصور عن كل الصفقات المخالفة التي تورطت فيها الشركة ، احتفظ بها عندي في البيت ، سنعرج على البيت لإحضارها في طريقنا إلى قسم الشرطة..
    وافقت ولكن ، بحذر ، لم تكن سهلة كما تصورت ، ومضيت بها إلى المنزل ، وطلبت منها أن تدخل ، لكنها رفضت ، ماذا أفعل؟1..
    كان يجب أن تدخل إلى البيت بأية وسيلة ، لآخذ ما أردته منها !.. لم أيأس ، أسرعت إلى الداخل ، فحضرت كأس عصير ، ووضعت فيه المخدر ، ثم طلبت من الخادمة التي تعمل لدي في الفيلا أن تذهب بالعصير إلى الآنسة نورا ، ورحت أرقبها من نافذة مطلة على المدخل.. قدمت الخادمة العصير لنورا ، فأخذته بامتنان.. راقبتها وهي تتناوله رشفة رشفة.. أصبحت مهمتي الآن أسهل.. أحضرت كاميرتي ، ونزلت.. كانت نورا قد بدأت تفقد وعيها رويدا رويدا.. ويبدو أنها وهي تغادر وعيها ، قد فطنت لما بيته لها ، فحاولت أن تفتح الباب وتهرب ، لكني منعتها دون أن أحتاج إلى قوة تذكر ، ولم تلبث أن غابت عن الوعي ، فانطلقت بها إلى غابة بعيدة تقع في ظاهر البلد وهناك.....
    وأطرق الدكتور شريف في خزي ، لم يجرؤ أن يصف نفسه وهو يتصرف كالوحوش المسعورة ، نظرت إليه في تقزز ، وأنا أقاوم شعورا بالغثيان..
    وقال المحقق وهو يحدجه :
    ـ وهناك عريتها ، واغتصبتها ، والتقطت لها مجموعة من الصور وهي في أوضاع فاضحة ، لتضغط بها عليها ، وتهددها بإيصال الصور إلى أهلها وذويها إن هي باحت للسلطات بما عرفته عنك من غش واحتيال..
    أجهش الدكتور شريف وانفجر باكيا ، وقد بان الذل والندم في تعابيره الشاحبة ، وأردف المحقق دون أن يرحمه :
    ـ ولما أخذت نورا تطالبك بإصلاح غلطتك فصلتها من العمل ، وعندما علمت أنها أنجبت منك ، هددتها بالقتل ، وعندما تمردت على تهديداتك الحقيرة ، وشكتك للسيد عبد الغني ، خططت لقتلها ، وعندما شاهدتها مع الدكتور صلاح في المركز الثقافي خشيت أن تبوح بحقيقتك البشعة للدكتورة أحلام ، التي كنت قد تقدمت لخطبتها من أبيها قبل أسبوع من افتتاح المعرض ، فصورتها مع الدكتور صلاح ، واستدرجتها في اليوم التالي إلى مكان بعيد ، وهناك أقدمت على طعنها بسكين ، وألقيت الصورة بجانب الجثة لتضلل العدالة..
    هتف الدكتور شريف :
    ـ أقسم لك بأني لم أقتلها حتى أني لم أكن أنوي اغتصابها لولا..
    شمله المحقق بنظرة ساخرة ، وقال بهدوء :
    ـ لولا ماذا؟
    قال الدكتور شريف بنبرة كسيرة :
    ـ كنت أنوي فقط أن ألتقط لها بعض الصور ، ولكني عندما رأيتها عارية أمامي!... الله يلعن الشيطان...
    قال المحقق هازئا وهو ينهض :
    ـ حتى الشيطان يترفع عن ارتكاب ما أقدمت عليه ، دكتور شريف أنت متهم بالاغتصاب والقتل ، تفضل معي بهدوء..



    0 Not allowed! Not allowed!




    [ame="http://www.youtube.com/watch?v=yxzoplqtmHk&feature=related"]http://www.youtube.com/watch?v=yxzoplqtmHk&feature=related[/ame]

  18. #17
    شعلة متقدة .. وحماس دائم Array الصورة الرمزية صفاء الايمان
    تاريخ التسجيل
    Apr 2009
    الدولة
    ...
    المشاركات
    14,276
    Articles
    0
    Thumbs Up/Down
    Received: 8/0
    Given: 0/0
    معدل تقييم المستوى
    412




    بيانات اخرى

    الجنس :  انثى

    المستوى الأكاديمي :  تعليم ابتدائي

    الجامعة الحالية/التي تخرجت منها ؟ :  الجامعة الأردنية

    الحالة الاجتماعية :  اعزب

    افتراضي رد: البحث عن امرأة مفقودة!..



    الفصل الثالث والثلاثون

    ـ "حكمت المحكمة حضوريا على المتهم الدكتور شريف عبد الجبار الطيب بالإعدام شنقا حتى الموت بتهمة الاغتصاب والقتل العمد مع سبق الإصرار والترصد ، وقد تمت إحالة أوراقه إلى سماحة المفتي..".
    لم يكد القاضي أن ينتهي من الإدلاء بحكمه الأخير ، حتى انبثق من بين الحضور صوت قاصف كالرعد..
    ـ هذا ظلم.. ظلم.. ظلم كبير لا يجوز!..
    والتفتت الرؤوس المستطلعة نحو مصدر الصوت في فضول وحيرة ، وقد انفلتت من شفاهها عاصفة التساؤلات!..
    ـ من هو صاحب الصوت؟..
    ـ وماذا يريد؟
    ـ وما علاقته بالقضية؟..
    ـ وماذا يعرف؟..
    وجمدت النظرات الحائرة على فتاة تقف في الصفوف الخلفية من الحضور ، وهي تنتفض غضبا وحزنا وثورة ، وقد تشنجت أصابعها فوق رأسها كمن يشكو من صداع مدمر ، وتقلصت ملامحها في كآبة مؤثرة..
    وسرت في القاعة همهمة تتعالى ، فهرع القاضي إلى مطرقته الخشبية ، وأرسل طرقات التحذير لتلجم الجلبة التي سادت المكان ، فصمتت الألسنة مرغمة ، لكن العيون ظلت تصرخ بالسؤال..
    وأدركت أن قنبلة موقوتة ستنفجر.. قنبلة من نوع فريد ، لم يتعرف عليها العالم إلا في أزمنة نادرة من التاريخ.. قنبلة آدمية من النوع الرهف الذي يثير الظلم طاقته الكامنة ، فيتفجر بالعدل ، وينبش الحقائق من الجذور..
    وهتفت الفتاة بصوت لاهث يتسارع إيقافه وهو يسعى نحو لحظة الانفجار :
    اسمي أحلام.. الدكتورة أحلام الذهبي.. ابنة عبد الغني الذهبي ، رجل الأعمال المشهور الذي ورد اسمه في هذه القضية ، وبرأت المحكمة ساحته..
    ثم أردفت أحلام بنبرة متهدجة مزقها الانفعال :
    ـ أرجو أن تسمعني أيها القاضي حتى النهاية ، فأنا أملك معلومات مثيرة ، سوف تحول مجرى القضية ، أرجو أن تسمعوني جميعا ، فما سأقوله مهم وخطير..
    ولم تستطع أحلام أن تسيطرعلى انفعالاتها ، فانفجرت باكية وسط دهشة الجمهور وذهوله ، فأثار بكاؤها النفوس ، وحرك المدامع..
    واقترب والد أحلام من ابنته كالذاهل ، وحاول أن يهدئ من روعها ، لكنها دفعته عنها بعنف ، وأخفت وجهها المخضل خلف كفيها ، وكأنها لا تريد أن تراه!..
    تبادل أعضاء المحكمة نظرة يعيث فيها التساؤل والوجوم ، وفغر القاضي فاه دهشة وحيرة ، وقد تسمرت نظراته التائهة فوق هذه الفتاة اللغز التي تتصرف بغموض مثير!..
    وران على المحكمة صمت ثقيل ، فحبس الحاضرون أنفاسهم ، وقد غاصوا بخواطرهم في دوامة من التساؤلات الملحة التي تريد أن تفهم ما يجري ، وأرهفت الأسماع بانتظار ما ستدلي به أحلام من مفاجآت..
    وسرعان ما كبحت أحلام مشاعرها ، فكفكفت دموعها ، وتماسكت ، ثم تقدمت من منصة الشهادة لتدلي بأقوالها ، فرفعت يدها فوق المصحف وألقت اليمين..
    ـ أقسم بالله العظيم أن أقول الحق مهما كان مرا ، ولو اتهمني الناس بالجحود أو الخيانة أو الجنون!..
    لم يعلق القاضي على صيغة اليمين!.. بل لعله لم ينتبه إليها ، فقد كان غارقا في أفكاره وتوقعاته.. ماذا تريد هذه الفتاة أن تقول؟ وما المعلومات التي تدعي أنها ستغير مجرى القضية؟ أيكون كل هذا الجهد الذي بذله ليفتي في هذه القضية الشائكة ، قد أهدر في اتجاه خاطئ.. أيكون القاتل الحقيقي غير الدكتور شريف الذي ما فتئ ينفي عنه تهمة القتل منذ بداية القضية؟.. واستند القاضي بمرفقه فوق منضدته ، ثم ألقى برأسه المثقل بالأسئلة فوق راحته ، وراح يصغي إلى أحلام ، وهو يحدق فيها بنظرات يفيض منها الترقب والقلق..
    أرسلت أحلام تنهيدة مرة ، ثم قالت وهي تنتصب بقامتها كخطيب مفوه يقف فوق بركان من الكلمات الملتهبة :
    ـ سيدي القاضي.. الآن حصحص الحق ، وآن للحقيقة أن تعلو فوق كل اعتبار ، وآن للضمير الغافي أن يستيقظ من سباته ليمزق الصمت الذليل ، ويصدع بكلمة الحق رغم كل الأنوف..
    عذرا أيها القاضي ، فأنا لم آت إلى هنا لأقف فيكم خطيبة ، أو محاضرة.. لكني جئت لأطلق صرخة مدوية سيزلزل صداها أولئك الذين قدسوا المادة ، واستهانوا بالقيم.. أولئك الذين يعيشون بيننا كالبشر ، ويتصرفون كالذئاب.. الذين يتكئون على القانون ليعيشوا فوق القانون.. أولئك الذين يظلمون الناس بضمير مرتاح ، ويسحقونهم بأعصاب باردة ، ويشربون دمائهم بكؤوس من الفضة..
    قد تتساءل أيها القاضي الوقور لماذا انتظرت حتى نهاية المحكمة ، ثم تقدمت لأبوح بما سيغير اتجاه التحقيق ، ويكشف الجاني الحقيقي في هذه القضية؟
    سؤال وجيه يستحق الإجابة..
    لقد كنتُ يا سيدي ـ أمتحن عدالتكم!.. اختبر قوانينكم!.. أرقب عجزكم في الوصول إلى المجرم ، وهو يخطر أمامكم كالطاووس!..
    عذرا أيها القاضي ، فأنا لا أسخر منكم أو أطعن في نزاهتكم ، لكني أريد أن أبين لكم أمرا على غاية من الخطورة..
    لا قيمة يا سيدي لقانونكم في غياب الضمير.. لأن الإنسان عندما يلغي ضميره يستطيع أن يحتال على القانون ، وأن يقفز فوقه ، وقد يتدرع به ، فيحوله من سلاح في وجه الشر إلى سلاح في خدمة الشر.. نعم.. قانونكم لا يكفي لتحقيق الأمن والأمان.. لابد معه من التربية.. من الأخلاق.. من الضمير.. لأن الضمير عندما يثور يحاكم النفس قبل أن تحاكموها.. يؤنبها بقسوة.. يجلدها.. يطهرها.. يدفعها إلى مواجهة الحقائق مهما كانت مرة وأليمة..
    تريدون دليلا على ثورة الضمير؟..
    أنا هو الدليل.. فأنا ما كنت لأبوح لكم بما ستذهلون له ، لولا أن كابدت داخلي سياط الضمير وهي تجلدني صباح مساء ، وتعذبني عذابا أليما يفوق كل احتمال.. نعم.. لقد أرقتني الحقيقة المرة حتى عجزت عن كتمانها ، وأنا أرى العدالة البشرية تائهة ضائعة مخدوعة تدين البريء ، وتبرئ المدان..
    وعذاب الضمير أيها القاضي لم يداهمني وأنا أتابع هذه القضية على صفحات الجرائد وفي أروقة المحاكم.. بل داهمني منذ عهد بعيد.. عندما اكتشفت بين أوراق والدي شهادة خطيرة تثبت تورطه في جريمة بشعة تذكرونها جيدا.. تلكم هي حادثة العمارة التي انهارت فوق رؤوس ساكنيها ، وسحقت تحتها عددا من الأبرياء.. يومها قالوا : عبد الغني الذهبي لا ذنب له ، المسؤولية كلها تقع على المهندس الذي تلاعب بالمواصفات ، واقتصد في المواد الأولية ، ليختلس ثمن ما وفره منها ، وكان المحاسب المسؤول عن حسابات العمارة قد اعترف أثناء التحقيق بأن والدي هو الذي كان يأمر المهندس المنفذ بالتوفير والاقتصاد في المواد اللازمة لتسليح البناء ، لكن هذا المحاسب غير أقواله أمام المحكمة ، وأنكرها.. وعندما عادت المحكمة إلى ملفات التحقيق لم تجد الاعترافات الأولى التي أدلى بها المحاسب الحقيقية اختفت من ملفات التحقيق بفعل خائن ، وشاءت الأقدار أن أكتشفها ، وهاك صورة عنها..
    ودفعت أحلام برزمة من الأوراق إلى القاضي ، فراح يقرؤها بإمعان ، ثم نحاها جانبا ، وعاد بنظراته إلى أحلام ، وكأنه يرجوها أن تكمل ، ولم تلبث أحلام أن قالت بنبرة حزينة :
    ـ عندما اكتشفت هذه الأوراق صدمت.. ذهلت.. فقدت احترامي لوالدي ، وفقدت احترامي لنفسي ، ولازمني شعور فظيع بأني ابنة مجرم.. مجرم جشع يستهين بأرواح الأبرياء ، ولا يتورع عن ارتكاب أفظع الجرائم من أجل مصالحه وأطماعه.. ورحت أرقب تصرفات والدي بعيون ملؤها الشك والريبة ، فحيرتني شخصيته المزدوجة التي يحيا بها بين الناس.. يفترسهم في الليل ، ويضحك لهم في النهار..
    لا تنظروا إلي هكذا أرجوكم ، فأنا لست جاحدة ، أو شاذة!.. لا تظنوا أني أستعذب البوح لكم بهذه الاعترافات.. فأنا أعترف لكم كمن يلفظ من جوفه جمرا ونارا ، لكني يجب أن أعترف.. لم أعد أحتمل وجوه الضحايا وهي تحاصرني في الصحو والمنام!.. لم أعد أطيق أن أصغي إلى أرواحها وفي تشكو لي ظلم أبي ، وتشكو مني صمتي وجبني.. لن أرضى بعد اليوم أن أكون شريكة أبي في جرائمه ، فالسكوت عن الظلم جريمة..
    لن أطيل.. فأنا ما جئتكم لأحدثكم عن نفسي!.. بل جئتكم لأكشف تفاصيل جريمة حبكها أبي.. الدكتور شريف اغتصب نورا صحيح لكنه لم يقتلها.. القاتل رجل آخر أعرفه!.. رجل غريب كان يتردد على والدي في فترات متباعدة.. رجل غامض.. وجهه دائما مقطب ، وملامحه قاسية كالجليد.. وفي عينيه بريق وحشي يتطاير كالشرر ، ويشع بالرهبة والرعب!.. هذا الرجل كان قريبا جدا من والدي ، لكنه لم يكن يظهر في السهرات أو الحفلات التي كان يقيمها أبي لمعارفه وأصدقائه.. كان دائما يأتي في أعماق الليل ، ويتستر بالظلام.. لا يتكلم إلا همسا.. لا يعرف ما هو الابتسام.. دائما متجهم صامت كأبي الهول.. يأتي بحركات ثابتة لا يغيرها.. يتحرك كالآلة.. لكأنه رج آلي يتحرك وفق برنامج مرسوم..
    كنت أتشاءم منه كثيرا!! فما رأيته مرة إلى وحدثت مصيبة!.. لحظة من فضلكم!.. إني أتذكر الآن.. لقد زارنا هذا الرجل ليلة الهزيمة.. هزيمة الخامس من حزيران.. سألني يومها عن أبي بلهجة جافة وصوت غليظ.. فأخبرته بأنه قد سافر.. رمقني بنظرة جامدة ، ولم ينبس ، ثم مضى ، وتوارى في الظلام..
    هذا الرجل زار والدي قبل مقتل نورا بليلة واحدة.. كان الوقت متأخرا ، وكنت منهمكة في رسم لوحة جديدة ألحت علي فكرتها ، شاهدت والدي يستقبله بالترحاب ، فاستبد بي الفضول.. من هذا الرجل؟ ما الذي يجمعه بوالدي كل هذه السنين؟!.. اقتربت من مكتب والدي واستمعت لما يدور..
    قال والدي : "طلبتك لأمر هام..".
    تساءل الرجل : "مهمة جديدة؟".
    أجاب والدي : "الفتاة التي طلبت منك أن تصورها مع الدكتور صلاح ليلة افتتاح معرض أحلام..".
    سأل الرجل : "ما شأنها؟".
    أجاب والدي : "إنها تثرثر كثيرا..".
    قال الرجل : "يجب أن ترفع السعر..".
    همس والدي : "تبدو فقيرا هذه الأيام..".
    قال الرجل : "ثمن المخدر يرتفع..".
    ضحك والدي : "كن مطمئنا.. أنا لا أبخل عليك بشيء..".
    سأل الرجل : "هل تريد شيئا آخر؟..".
    أجاب والدي : "ضع هذه الصورة في حقيبتها وهذه الرسالة!..".
    قال الرجل : "تريد اصطياد عصفورين في آن واحد!..".
    ضحك والدي طويلا وقال : "بل ثلاثة عصافير.. ثلاثة عصافير من النوع المزعج..".
    لم أفهم من هذا الحوار ، ولم أسمع كلاما بعد ذلك ! سمعت حركة وجلبة في الداخل.. صوت خزنة والدي تفتح ثم تغلق ، وصوت سعال شديد كالذي يصاب به المدمنون على التدخين ، ثم اقتربت الأقدام من الباب ، فتواريت ، ورحت أرقب ما يحدث من بعيد.. خرج الرجل ، وخرج والدي خلفه..
    قال له والدي : "لن أوصيك.."
    هز الرجل رأسه في ثقة ، ثم مضى..
    وأطرقت أحلام برهة ثم تابعت بصوت مختلج :
    وعندما علمت بمقتل نورا ، وقرأت تفاصيل الجريمة ، فهمت معنى هذا الحوار ، وعرفت لأول مرة أن أبي يستعمل رجلا للمهمات القذرة!..
    وفاض بها التأثر ، فاندفعت الدموع من عينيها في صمت ، فكانت دموعها الصامتة الكئيبة أبلغ من كل ما قالته من كلمات..


    الفصل الرابع والثلاثون
    ألجم الموقف المثير لسان القاضي ، فتجمدت نظراته فوق أحلام.. هذه الفتاة العظيمة التي قلبت قوانين الأرض ، وسجلت باعترافاتها المتفجرة ، قصة نادرة لم يسبق أن شهدت مثلها أروقة المحاكم!..
    واهتزت القلوب اعجابا بهذه الفتاة الطاهرة النبيلة ، التي ارتفعت فوق روابط الدم والنسب ، وتوهجت بالحقيقة الساطعة كنجم ملتهب يضيء ظلمة الكون العميقة..
    واحتضنتُ أحلام بنظرات ولهى ، يشعشع منها الوجد.. كانت تقف مطرقة كالخجلى ، وقد أمالت رأسها الجميل في حياء دامع ، وكأنها ممثلة متواضعة أدت دور البطولة في مسرحية صفق لها العالم من أقصاه إلى أقصاه!!..
    أيتها الفتاة الوادعة النقية.. متى يأذن القدر ، فتنهار بيننا الحواجز والسدود ، وتلأم الفرحة قلبينا العاثرين ، لا أستطيع أن أتصور العالم دون أحلام!.. لكأنها روحه التي تخلع عليه الحياة.. لكأنها ماؤها وهواؤه وأزهاره.. لكأنها الحق والخير والجمال قد اتحدوا واستحالوا امرأة!.. لكأنها نساء العالم قد جمعن أجمل ما فيهن في باقة واحدة ، وسمينها أحلام..
    وجعلت أنوس بنظراتي بين الابنة وأبيها ، فحرت في هذه الزهرة البرية الرقيقة ، كيف نبتت على غصن من الشوك السام؟!..
    كان عبد الغني الذهبي يقف ساهما ذاهلا غارقا في لجة من السكون ، وكأنه تمثال من الشمع ألقاه صانعه وسط هذا الجمهور ليعرف رأيه فيما نحت ، وتشابكت الأنظار حوله ناظقة بالإدانه ، صارخة بالإنكار ، فياضة بالاحتقار.. ورمقه القاضي كالمفجوع ، ثم انتظره ريثما أفاق من ذهلته العميقة. وبدأت الحياة تعود إلى أوصاله المتجمدة ، فأسبل جفنيه كمن يحاول هضم ما حدث ، ثم تنفس بعمق ، فانتزع نفسه من إسار الصدمة ، وجعل يجر قدميه باتجاه ابنته!..
    وحبس الحاضرون أنفاسهم ، وهم يرون عبد الغني يترنح في مشيته ، وقد أطلت من عينيه نظرة وحشية مجنونة أخذت تتقد وتتقد ، كلما اقترب خطوة من ابنته ، وتسارعت خطواته فاندفع نحو أحلام كثور ذبيح قد احتدم حبه للحياة في القطرات الأخيرة من دمه ، وسرى في القاعة صمت وترقب ، وتحفز أكثر من واحد لإيقافه ، وداهم الحاضرين قلق عاصف ، وهم يرون يد عبد الغني ترتفع عاليا في الهواء ، وتهوي على وجه ابنته ، لكن القلوب الواجفة لم تلبث أن هدأت عندما تسللت قوة مجهولة إلى يد الأب العاتي ، وأوقفتها قبل أن تمس أحلام بسوء!..
    طوى عبد الغني أصابعه المرتعشة الآثمة ، ثم ضمها على صدره في ندم ، وهو يرنو إلى ابنته بطرف دامع ، ولم يلبث أن هوى على الأرض ، وخر عند قدميها ، وهو يبكي وينتحب ، وانحت أحلام نحو أبيها المنهار ، لتنتشله من الأرض ، فتناول يدها الممدوة إليه ، وأغرقها بالقبلات والدموع ، وكأنه يستجدي منها العفو والرضا ، لكن أحلام سحبت يدها في حياء ، وانهارت فوق أبيها وهي تنشج بمرارة..
    واستدر الموقف المؤثر دموع الحاضرين ، فأجهشت امرأة بصوت مرتفع ، وحوقل رجل يقف في أقصى الصفوف ، وخرج القاضي عن وجومه وصمته ، فنزل من منصته العالية ، وتقدم من أحلام فأنهضها في حنو واحترام ، ثم أجلسها على كرسي قريب ، وطلب لها كأس ماء..
    لبث عبد الغني راكعا برهة ، وهو ينتحب ، وبعد أن أفرغ شحنات الندم التي احتقن بها صدره ، حاول أن ينتشل نفسه من الأرض لكن قواه الخائرة خانته ، فسقط.. فتقدم منه أحدهم ، ومد له يد العون ، فرفضها ، ثم استجمع قواه الخائرة ونهض ، ووقف أمام القاضي مخضل الوجه ، كسير النظرات ، مائل البنية ، وكأنه جبل شاهق مادت به الأرض ، وهشم الزلزال هامته..
    قال عبد الغني بنبرة غابت منها تلك الجعجعة الفارغة التي كانت تملؤها :
    ـ سيدي القاضي.. أعترف سلفا بكل ما أوردته ابنتي أحلام من حقائق.. أعترف بأني غششت وسرقت وقتلت.. أعترف بأني تلاعبت بالقانون ، وخدعت القضاء ، وضللته في كل مرة ، أعترف بأني تصرفت في هذا العالم كالوحوش الشاردة في أعماق الغابات ، وتسلقت على أشلاء الآخرين حتى وصلت إلى ما أنا فيه من شهرة وجاه وثراء.. وها هي النتيجة.. ملكت كل ما يحلم الإنسان بامتلاكه ، وخسرت ابنتي الوحيدة ، التي لم أحب في هذا الوجود إنسانا غيرها.. خسرت احترامها لي ، وخسرت اعترافها بي كأب وإنسان ، فخسرت بذلك كل شيء لكن ، اسمح لي أيها القاضي أن أروي لك القصة من أولها ، فلكل قصة بداية ، ولبدايتي قصة يجب أن تروى ، ويجب أن يصغي إليها الناس.. أنا يا سيدي لست شيطانا ، ولست كتلة خالصة من الشر ، كما أبدو لكم الآن.. الإنسان يا سيدي لا يولد شريرا ، والشر ليس أصيلا فينا.. نحن الذين نزرع الشر ، ونحن الذين نحصده.. وقد علمتني الحياة أن الظلم هو التربة العفنة التي يضرب الشر فيها جذوره ، ويطرح ثماره المسمومة.. أعرف أن أسماعكم تأنف أن تصغي لحكمة يلقيها عليكم رجل فاسد ، لكنها الحقيقة.. الحقيقة المرة التي تجرعتها قطرة ، قطرة.. وأنا أشعر بأقدام الظلم والشقاء تدوسني وتسحقني بقسوة..
    عبد الغني الذي تعرفونه الآن ـ أيها السادة ـ بدأ حياته ماسح أحذية.. ينحني فوق الأقدام فينظفها ، ويلمعها.. يأكل الخبز ممزوجا بالأصبغة والأوساخ ، ثم يأوي إلى غرفة حقيرة ، فيقضي الليل فوق حصيرة مهترئة ، وهو يحلم.. يحلم بحياة أخرى خالية من الذل والشقاء.. يحلم بالثروة الواسعة والقصر المنيف.. يحلم بالعز والجاه والرفاء.. وعندما كان يشرق عليه فجر اليوم التالي ، كان هذا الفتى الكادح الطموح ، يحمل صندوقه الخشبي ، ويمضي به إلى الشوارع والساحات ، ليعرض خدماته على الناس مقابل قروش قليلة..
    عبد الغني الذهبي ـ أيها السادة ـ نشأ يتيما ، وعاش محروما.. عاش حياة باردة لا دفء فيها ، أو حنان.. تنكر له الأقرباء ، وبتروه من حياتهم كما يبتر الإنسان قلامة أظفاره ، وقذفوه في العراء ، ليلتقط رزقه كما تلتقط القطط والفئران.. من أكوام القمامة ، ومخلفات المطاعم ، وصدقات المحسنين.. نعم.. عشت طفولة مرة كالعلقم ، وفتوة بائسة كالجحيم ، وشبابا ضائعا ذليلا لا أطيق ذكراه..
    وركبني هاجس مجنون بأن الحياة لا معنى لها بلا ثروة ، فبدأت رحلة كفاح مضنية ، حرمت نفسي خلالها من أشياء كثيرة ، ورحت استثمر كل دقيقة وثانية ، وأجمع القرش فوق القرش ، حتى كونت مبلغا متواضعا يصلح كبداية..
    واستأجرت بالمبلغ دكانا في الجزء الجنوبي من السوق الكبير ، فاتخذت منه صالونا متواضعا لمسح الأحذية.. كانت الفكرة جديدة ، لم يسبقني إليها أحد ، فنجحت ، ودرت علي ربحا وفيرا مكنني من شراء المحل ، وتطوير الصالون..
    وشعرت بأن الدنيا قد بدأت تبتسم لي ، فاستبشرت ، وتفاءلت ، واندفعت نحو أسوار الجنة التي رسمتها في خيالي ، بيد أن فرحتي لم تكتمل!.. فقد قررت الحكومة فجأة أن تزيل الطرف الجنوبي من السوق لإقامة مبنى البلدية فيه..
    طار صوابي وأنا أرى الجرافات تزيل الصالون ، وتسد بأنقاضه بوابة أحلامي.. وكانت صدمتي أكبر عندما علمت بأن التعويض الذي صرفته الحكومة للمتضررين ظالم زهيد.. جن جنوني وأنا أرى الحلم يتسرب من بين أصابعي ، ووجدت نفسي أعود إلى نقطة البداية ، بعد كل ما حققته من نجاح ، فانتابني إحساس عميق بالظلم والجور ، ففقدت شعوري بالأمان ، وامتلأت نفسي بالحقد على كل شيء!..
    ولم أرضخ للواقع ، فقررت أن أعوض خسارتي بأسرع وسيلة ، وأقصر طريق.. قامرت.. ربحت وخسرت.. لم أحتمل الخسارة الجديدة.. استدنت مبلغا وقامرت به.. خسرت في المرة التالية ، فجننت ، وخضت شجارا عنيفا مع الذي غلبني ، وانتهى الأمر بنا إلى السجن ، هناك ، تعلمت فنون الجريمة ، وخرجت مسلحا بالخبرات المحرمة ، وانزلقت خطوة بعد أخرى.. سرقت وغششت وضربت وقتلت.. تاجرت بالتهريب والمخدرات ، وعشت في هذا العالم كقرصان ألقى عواطفه في المحيط ، واستل سيفه المسموم ليحكم به البحار..
    وتدفقت الأموال بين يدي ، فبدأت أصنع لي اسما وسمعة ، أسست شركة استيراد وتصدير ، ثم قفزت قفزة أخرى ، فتزوجت أرملة ثرية ، وأنجبت منها أحلام.. وكان للمكانة المرموقة التي وصلت إليها مظهرها الرفيع ، فلم يعد بإمكاني أن أتابع أسلوبي القديم في الغش والنصب والاحتيال ، وصار لابد لي من أشخاص موثوقين ، يقفون في الواجهة دائما ، ويتحركون وفق إرادتي ، كالدمى في مسرح الأطفال ، فإذا ما سقطوا أفلت الخيط الرفيع الذي يربطهم بي من يدي ، وتركتهم يسقطون وحدهم دون أن أصاب بأذى..
    ووجدت ضالتي في شريحة من الشباب المندفع الطموح ، الذي يستعجل الوصول إلى الثروة ، فأغريتهم بالرواتب العالية ، وقربت لهم طموحاتهم الحالمة إلى الثروة ، فأغريتهم من أجل قفزة واسعة تحقق لهم أحلامهم الكبيرة وتريحهم من عناء الكدح والكفاح..
    ومضيت في اللعبة بحذر شديد ، اصطاد الفرص عن بعد ، ثم أوحي إلى أعواني ممن اخترتهم بعناية ليلتقطوا الفرائس ويعودوا بها غانمين.. أما رجل المهمات القذرة ، فهو صديق قديم عرفته أيام الضياع ، وكان مدمنا على نوع غال من المخدرات القوية ، فكنت أوفر له ثمن المخدر وألجأ إليه في الأزمات لأستعين به في حسم الأمور المعقدة..
    وقد كانت نورا بالنسبة لي مشكلة تحتاج إلى حسم ، فقد أخفق الدكتور شريف في الضغط عليها ، فأخذت تثرثر بقصتها في كل مكان ، مما جعلني أقلق على سمعة الشركة ، وعندما شاهدتها مع الدكتور صلاح في مقصف المركز الثقافي ليلة افتتاح معرض أحلام ، أوحت لي أفكاري بأن الفرصة قد حانت للتخلص من ثلاثة مزعجين في وقت واحد..
    نورا التي تهدد سمعتي ومستقبل أعمالي.. والدكتورصلاح الذي استولى على قلب ابنتي أحلام ، فشغفت به ، ورفضت أن ترتبط برجل غيره ، وأخيرا الدكتور شريف الذي تمادت به أطماعه فأقدم على خطبة ابنتي أحلام وهو يلوح لي بما يعرفه عن الشركة من أسرار ، ظنا منه أني قد أرهبه وأرضخ لرغبته ، فأزوجه ابنتي ، وأورثه ثروتي ، فوافقت مجاملا ، ورحت أتحين الفرص للإيقاع به..
    هذه قصتي أيها القاضي.. قصة إنسان ظلم فظلم ، وانتقم لنفسه من العالم الذي ضن عليه بالرحمة والعدل والاحترام..
    ما إن انتهى عبد الغني الذهبي من الإدلاء باعترافاته ، حتى نهض الأستاذ سعيد الناشف ، واستأذن القاضي في إيراد معلومة مهمة ، قال الأستاذ سعيد :
    ـ سيدي القاضي.. أنا أذكر الواقعة التي أوردها عبد الغني الذهبي حول إزالة الحكومة في ذلك الوقت للطرف الجنوبي من السوق الكبير ، الحكومة آنذاك لم تعوضهم التعويض العادل.. لكني أحب أن أضيف هنا أن الحكومة التي جاءت بعدها مباشرة ، أعادت النظر في ظلامة هؤلاء التجار ، ومنحتهم حقوقهم كاملة ، ولهذا فأنا أعتقد أن مبرر الظلم الذي اتكأ عليه المتهم عبد الغني مبرر زائف قصده تضليل القضاء..
    هتف عبد الغني في حنق ، وقد أخرجه تدخل الأستاذ سعيد عن طوره :
    ـ أجل.. لقد عوضتني الحكومة التالية عن الظلم الذي أنزلته بي الحكومة التي سبقتها ، لكن ، متى؟.. بعد أن انزلقت قدماي إلى عالم الشر ، وتوغلت في دنيا الجريمة.. بعد أن لوث الحقد دمائي ، وشوه الظلم نفسي ، وفقد إيماني بكل شيء..
    وأردف عبد الغني الذب\هبي ، وهو يشير إلى الأستاذ سعيد ، وقد انتفخت أوداجه ، وازدادت نبرته حدة وعنفا :
    ـ وأنت أيها الصحفي البارع.. أين كان قلمك الناري عندما وقع الظلم علي وعلى أصحابي؟.. أتذكر؟.. أتذكر يومها كيف جئناك شاكين متظلمين ، ورجوناك أن تثير قضيتنا في صحيفتك؟.. فماذا قلت؟.. قلت لنا يومها بأن هذه القضية حساسة ، وأنك لا تستطيع أن تخوض فيها ، لأن جريدتك جريدة ناشئة ، وتريد أن تشق طريقك بها دون عقبات!... كيف تنسى هذه أيها الصحفي النزيه ، وتذكر تلك؟.. أم أنك نسيتها لأن عبد الغني الذهبي لم يكن آنذاك رجلا مشهورا يدر عليك التشهير به الربح الوفير ، ويشد القراء إلى جريدتك ليقرؤوا فضائحه؟!..
    أنتم يا عزيزي لا تتذكرون الناس إلا عندما يكبرون ويشتهرون ، لأن الحديث عنهم آنذاك ، والاقتراب من خصوصياتهم ، يثير فرقعة عالية تلفت الانتباه إلى أقلامكم.. أنا الصغار!.. أما البسطاء!.. فلا يهمكم منهم سوى قروشهم التي يشترون بها منشوراتكم وصحفكم!..
    وتابع عبد الغني قائلا ، بلهجة لاح فيها التهكم :
    ـ صحيح أيها الصحفي المحترف أني بدأت مجرما ، لكني انتهيت تاجرا ، أفهم كل ألوان التجارة.. حتى التجارة بالكلمة!..
    صمت الأستاذ سعيد ، ولم يعلق ، وعاد إلى مكانه مطرقا ، وكأن ثورة عبد الغني قد نالت منه!..
    أما عبد الغني الذهبي ، فقد التفت إلى ابنته بعيني دامعتين ، وغمرها بنظرة ودودة ، ثم قال القاضي دون أن يرفع عنها عينيه :
    ـ سيدي القاضي.. أرجو أن تفتحوا ملف التحقيق من جديد ، لأعترف لكم بكل ذنب اقترفته ، وكل سر أخفيته من أجل هذه الإنسانة الطاهرة فقط.. وأشار إلى أحلام..



    0 Not allowed! Not allowed!




    [ame="http://www.youtube.com/watch?v=yxzoplqtmHk&feature=related"]http://www.youtube.com/watch?v=yxzoplqtmHk&feature=related[/ame]

  19. #18
    شعلة متقدة .. وحماس دائم Array الصورة الرمزية صفاء الايمان
    تاريخ التسجيل
    Apr 2009
    الدولة
    ...
    المشاركات
    14,276
    Articles
    0
    Thumbs Up/Down
    Received: 8/0
    Given: 0/0
    معدل تقييم المستوى
    412




    بيانات اخرى

    الجنس :  انثى

    المستوى الأكاديمي :  تعليم ابتدائي

    الجامعة الحالية/التي تخرجت منها ؟ :  الجامعة الأردنية

    الحالة الاجتماعية :  اعزب

    افتراضي رد: البحث عن امرأة مفقودة!..



    الفصل الخامس والثلاثون

    ـ أين ذهبت أحلام؟
    صمتوا ، نشجوا ، قالوا رحلت!..
    ـ رحلت؟!..
    حملت حقائبها ورحلت ، لم تترك خبرا!.. لم تترك أثرا!.. لم تفصح عن وجهتها.. حتى كلمة الوداع.. ضنت بها علينا!...
    ـ أحلام رحلت!..
    كانت حزينة.. ترمق الأفق بعينين حالمتين ، وتغذ الخطى نحو كتائه لاحت له واحة في الصحراء!.. لم نستطع أن نوقفها ، غادرتنا على حين غرة ، وكأنها قد بيتت الأمر وأعدت له عدته!..
    ـ لا أصدق!..
    كلنا لم نصدق.. توقعنا منها كل شيء ، إلا أن ترحل.. لقد ملتنا!.. عافتنا!.. كرهتنا ، وكرهت الحياة بيننا!..
    ونشجت أمها بحرقة ، فغلبتها الدموع وارتمت على كنبة قريبة ، وجعلت تبكي وتنتحب..
    دنوت من الأم الحزينة مشفقا ، وقلت أواسيها :
    ـ اهدئي يا خالة.. اهدئي واطمئني.. لابد أن تعود.. لعل الصدمة قد أرهقت أعصابها ، فأرادت أن تستريح بعيدا عنا ، لكني واثق من أنها ستعود..
    شهقت الأم ، وقالت :
    ـ لقد قلبنا عليها الدنيا.. سألنا عنها الأصدقاء والأقرباء والمعارف.. عممنا صورتها على الفنادق والمطاعم والمستشفيات.. جندنا جيشا من المتفرغين للبحث عنها ، لكنهم لم يعثروا عليها.. لم يجدوا لها أثرا.. راجعنا قوائم المغادرين في المطارات ، فلم نجد لها اسما ، وأخيرا لجأنا إليك.. هل تعرف يا ولدي أين يمكن أن تكون؟..
    أطرقت في حزن.. ليتني أعرف أين تكون.. لمشيت إليها حافي القدمين.. لقطعت خلفها الأرض من أقصاها إلى أقصاها.. لخضت البحار من أجلها بحرا بعد بحر.. آه.. أنتم لا تعرفون من هي أحلام بالنسبة إلي.. إنها الماء والهواء.. العقل والروح.. الماضي والحاضر والمستقبل.. إنها الأمل.. الأمل الوحيد الذي يربطني بهذه الحياة.. وقلت في ثقة :
    ـ قد لا أعرف أين هي أحلام ، لكني واثق من أنها ستعود.. قد يطول غيابها أو يقصر لكنها ستعود ، لا يمكن لأحلام أن تغيب عنا طويلا!..
    أجهشت الأم ، وقالت بالتياع :
    ـ يجب أن نجدها بأية وسيلة..
    ورحت أبحث عن أحلام.. بحثت عنها في كل مكان.. استعنت بالصحافة والإعلام.. وانتظرت عودتها صباحا بعد صباح ، وكابدت في انتظارها آلام الشوق ، والحرمان..
    وطال غياب أحلام ، فيئس الباحثون عنها لكنّي لم أيأس.. أقسمت أن أجدها ولو قضيت العمر أسعى خلفها..
    وأقسمت أن تجمعني الحياة بامرأة سواها..

    **************

    وقالت لي أمي ذات يوم : أنت تعشق امرأة مفقودة.. لو كانت في المريخ لعادت.. لهزها الحنين إلى أمها المسكينة.. إلى الرجل الذي صحى من أجلها وعانى.. لعادت إلى المدينة التي أنجبتها..
    وأردفت أمي في حذر :
    - أغلب الظن أنها ...
    همست في قلق :
    ـ ماذا ؟
    تشجعت وقالت :
    ـ لعلها قد انتحرت أو ماتت !
    شعرت بكلماتها تغوص في أعماقي كسكين..
    ـ لا.. لا تقولي هذا يا أماه.. أحلام لا يمكن أن تموت!..
    تساءلت أمي في دهشة :
    ـ لماذا أليست بشرا مثلنا ؟!!..
    همست وأنا أرمق طيفها بعينين حالمتين :
    ـ نعم.. بشر مثلنا ، لكنها ليست كالبشر.. روحها أقوى من أرواح البشر.. أنبل من أرواح البشر.. لكأنها من الملائكة .. ألم يتحدثوا عن ملائكة زاروا الأرض في هيئة البشر.. لكأنها منهم .. جاءت الأرض على هيئة امرأة.. جاءت تحمل إلينا حكمة السماء.. وبعد أن أدت الأمانة اختفت.. تحولت إلى طيف.. طيفها لا يفارقني يا أماه..

    **************

    وقالت لي أختي ، وقد تجاوزت الرابعة والثلاثين :
    ـ يجب أن تتزوج ، لقد بدأ العد التنازلي في حياتك ، وآن لك أن تستقر وترتاح..
    قلت في ثقة :
    ـ لن أتزوج إلا أحلام..
    ـ أمازلت تنتظرها؟!..
    ـ سأموت وأنا أنتظرها..
    تضاحكت أختي وقالت :
    ـ إني أفهمكم أيها الرجال ، إذا عشقتم جمال أنثى ، لم يقنعكم جمال غيره!..
    ثم دنت مني ، وهمست باهتمام :
    ـ ما رأيك بالدكتورة هدى ، هدى طبيبة الأسنان ، ألم تلاحظ؟.. إنها شديدة الشبه بأحلام!..
    ابتسمت كالساخر ، شردت بنظراتي بعيدا ، وقلت :
    ـ قد تتشابه الوجوه والأجساد.. لكن الأرواح لا يمكن أن تتشابه.. إنها كالبصمات!.. لكل واحدة منها ملامح تتفرد بها وصفات..

    **************

    وقالوا ذات مرة : ثمة طبيبة في الريف.. نذرت نفسها لمعالجة الناس في القرى البعيدة ، وبث الوعي بينهم وقالوا : إنها طبيبة فريدة ، تعالج المرضى في النهار ، وعندما يأتي المساء ، تجمع الأميين في مدارس خاصة ، وتعلمهم القراءة والكتابة!.. همست في فرح.. هذه أحلام.. لا يقدم على هذه التضحية إلا هي!.. ألم تضحي بأبيها ومستقبلها من أجل كلمة حق؟!..
    وسافرت إليها.. جبت الأرياف باحثا عنها.. وأخيرا وجدتها.. وجدتها تكافح الكوليرا في قرية نائية.. لكنها لم تكن هي!.. لم تكن أحلام!..
    قالت الطبيبة بعدما سمعت قصتي :
    ـ أتحبها إلى هذا الحد؟د
    بكيت كطفل صغير ، حبي لها لا يقف عند حد!..

    **************

    وأعلنت الدولة عن جائزة تقديرية لطبيبة موهوبة تركت مهنة الطب ، وعملت رسامة في مجلة أطفال ، وابتكرت لهم شخصيات خالدة ، وفاقت في سحرها ، وجاذبيتها شخصيات والت ديزني الشهيرة!..
    قلت هي.. طبيبة ورسامة.. ظني هذه المرة لن يخيب.. وبحثت عنها حتى التقيتها ، فوجدتها امرأة أخرى.. لم تكن أحلام..

    **************

    وقال هاني ذات صباح :
    ـ اسمع هذا الخبر.. طبيبة عربية في المهجر تنجح في اكتشاف فيروس خطير..
    سألته في لهفة :
    ـ ألم يذكروا اسمها؟
    أطل هاني من خلف الجريدة ، وفي عينية نظرة متفهمة ، ثم عاد إلى جريدته ، وقد أدرك مرادي ، وأخذ يقرأ تفاصيل الخبر..
    ـ أعلن معهد الأبحاث الفدرالي للأمراض الفيروسية في نيويورك عن اكتشاف فيروس جديد يعتقد بأنه العامل المسبب لمرض غامض بد أ ينتشر في أوساط الأمريكيين منذ مدة!. ومن الجدير بالذكر أن الذي اكتشف الفيروس طبيبة عربية أغفل المعهد ذكر اسمها لأسباب غير مفهومة!..
    هتفت بنبرة فرح :
    ـ إنها في.. إنها أحلام..
    ـ كيف سنتأكد؟
    ـ نسافر إليها.
    ـ إلى أمريكا؟
    ـ سأحجز على أول طائرة..
    قال هاني بلا تردد :
    ـ احجز لي معك..
    وسافرنا معا إلى أمريكا.. اتصلنا ببعض الأصدقاء هناك ورجوناهم أن يساعدونا في العثور على الطبيبة.. وصلنا إليها.. كانت تجلس خلف مجهرها ، وقد اكبت فوق عينيه بشغف ، وغاصت بنظراتها خلف عدساته المكبرة ، باحثة عن سر جديد..
    ابنثق الأمل في أعماقي كإشراقة شمس ، وهتف داخلي ألف صوت يناديها باسمها الجميل ، وأفلت النداء مني ، فتلقفه لساني..
    ـ أحلام..
    لكزني هاني بكتفه منبها :
    ـ انتظر..
    انتزعتها نبرتنا العربية من أعماق القطرة التي كانت غارقة في بحر أسرارها الغامضة.. رفعت إلينا نظرات مرهقة أضناها البحث والتنقيب..
    وتأملتنا بنظرة استطلاع.. انطفأ الأمل في أعماقي فجأة.. واجتاحتني خيبة مريرة.. لم تكن أحلام!..
    سألتنا الطبيبة العالمة :
    ـ أنتما عربيان؟
    أجاب هاني :
    ـ نعم ، طبيبان عربيان,,
    ـ أهلا بكما هل من خدمة؟
    قال هاني متلعثما وهو يشد على يدي مواسيا :
    في الحقيقة.. كل ما في الأمر أن نبأ اكتشافك العظيم قد هزنا من الأعماق ، فجئنا.. جئنا..
    قلت في محاولة لإسعافه :
    ـ جئنا لنقول لك مبروك..
    علت الدهشة محياها.. ابتسمت في وقار وقالت :
    ـ ألهذا الحد يهزكما نبأ تفوق عربي؟
    قال هاني :
    ـ يحق لنا أن نهتز.. فنحن لم نتفوق في شيء ، منذ زمن بعيد..

    **************

    وزارنا العم درويش في المستشفى ذات يوم.. جاء يتكئ على عصاه ، وهو يحمل صرة في يده.. قال وهو يبش لنا باسما :
    ـ لقد جئتكم بتمر الحجاز ، وماء زمزم..
    استقبلناه بالأحضان ، وأجلسناه في مقصفه القديم ، الذي تخلى عنه بعدما زحفت إليه الشيخوخة ، ودب في أوصاله المرض.. وطلبنا له فنجانا من القهوة ، فجعل يحتسي القهوة رشفة رشفة ، ويتذوقها مختبرا طعمها ونكهتها ، ثم أخذ يدلي بملاحظاته على قهوة النادل الجديد نسبة إلى البن إلى الهيل ، ونسبة الهيل ، ونسبة القهوة إلى السكر ، ونسبة المسحوق إلى الماء ، ومدة الغليان.. باختصار أراد أن يذكرنا بقهوته التي امتزجت بدمائنا ، وعشعش طعمها في أفواهنا.. قال هاني للعم درويش مداعبا ومجاملا :
    ـ الله يرحم أيامك يا عم درويش ، كانت القهوة على زمانك قهوة!.. ليتك تعود إلينا ، لتمتعنا بقهوتك الفريدة..
    ـ اسكت يا دكتور هاني.. لولا لطف الله بي ، لكان عمك درويش الآن في عداد الأموات..
    همست مشفقا :
    ـ خير يا عم درويش ، ماذا حدث؟
    أطرق العم درويش برهة كالساهم ، ثم أنشأ يقول :
    ـ بينما كنت أنا وزوجتي نطوف في البيت العتيق ، نشب شجار بين بعض الحجاج ، ولم يلبث الشجار أن اتسع!.. لا تدري كيف امتد واتسع؟!.. وساد هرج شديد ، فاندفعت كتل البشر في كل اتجاه ، وكادت الأقدام المذعورة تسحقنا ، لولا امرأة.. امرأة هرعت إلى مكبرات الصوت ، وصاحت بالمتشاجرين أن يرعوا ويكفوا..
    قاطعت العم درويش متسائلا :
    ـ امرأة؟!..
    قال العم درويش مؤكدا :
    ـ أجل امرأة.. امرأة عاقلة وحكيمة.. وقفت بنا خطيبة ، وخاطبتنا بكلمات قوية مؤثرة لا أنساها ، قالت بصوت هادر مجلجل :
    ـ ألجموا قبضاتكم المكورة أيها الناس ، ووفروها لعدوكم الذي يتربص بكم الدوائر ، هذا البيت عنوان وحدتكم ، فلا تدنسوه بأحقادكم ، لقد آن لكم أن تفهموا أن الجهل والتخلف والأنانية الكريهة هي سر ذلكم وهوانكم.. أفيقوا من ضياعكم ، وعودوا إلى الملايين النائمة في بلادكم فأيقظوها ووحدوها ، ولا تقربوا البيت بعد اليوم إلا قلبا واحدا وقبضة واحدة.. قبضة شريفة تنتزع المجد من براثن الليل ، لتتوج به هامة لوثناها ومزقناها بأيدينا..
    لم أنتظر.. قاطعت العم درويش ثانية رغما عني.. همست بنبرة تترواح بين اليأس والرجاء :
    ـ لعلها أحلام!..
    التفت العم درويش ، وقد حرك ذكر الغائبة الغالية مدامعه ، قال في عتاب رقيق :
    ـ سامحك الله يا دكتور.. وهل أنسى صوت أحلام؟!..

    **************

    ووجدت من واجبي أن أطمئن عن والدة أحلام ، طرقت الباب ففتحت لي خادمة عجوز ، سألتها عن سيدتها ، قالت إنها في الداخل تؤدي الصلاة!..
    سبحان مقلب الأحوال!.. أمن سيدة صالونات صاخبة إلى ناسكة في المحراب؟!..
    وشدني عبق المكان.. هنا عاشت أحلام.. رائحتها الطيبة مزروعة في كل ذرة من ذرات هذا القصر ، وطيفها الوادع يتراءى لي أني التفت..
    ليتني شاعر حتى أبكي هذه الأطلال..
    وجاءت أم أحلام ترفل في ثيابها البيضاء.. ولسانها يلهج بالذكر والتسبيح.. قالت مرحبة :
    ـ أهلا بك يا والدي.. لقد اشتقنا إليك.. لماذا لا تزورنا؟..
    أطرقت في حياء.. كان يجب أن أتفقدها بين الحين والحين.. وقلت معتذرا :
    ـ أنتم في البال دائما يا خالة..
    ثم أردفت مستدركا :
    ـ تقبل الله..
    اعترتها كآبة ظاهرة ، واحتقنت ملامحها بالحسرة والندم ، قالت وهي ساهمة تضع كفا على كف :
    ـ ليته يقبل.. لقد جحدناه كثيرا..
    وصمتت برهة وهي مطرقة ، ثم رفعت إلي وجها مخضلا بالدموع ، وسألت بنبرة تتوهج بالأسى واليأس :
    ـ ألا توجد أخبار؟
    وخزني سؤالها ماذا أقول لك أيتها الأم الملوعة؟.. كلانا في الهم سيان..

    **************

    واتصلت بي أم أحلام منذ أيام.. رجتني أن أمر بها وأنا عائد من المستشفى.. سألتها إن كان هناك ما يدعو للقلق ، لكنها طمأنتني إلى أن الأمر ليس بعاجل ، ولا بأس من التريث في القدوم ، لم أصبر.. هرعت إليها على جناح السرعة..
    ـ أماه.. ماذا هناك؟..
    قادتني إلى غرفة في أعماق القصر ، قالت وهي تفتح الباب :
    ـ هذه غرفة أحلام..
    أحسست بروحها ترفرف في المكان.. فتحرك في أعماقي شوق يتلظى.. وتدحرجت فوق وجهي دمعتان ، طاف الحزن والتأثر في عينيها ، وهي ترى دموعي ، قالت وهي تصارع أمواج البكاء المتلاطمة تحت ملامحها الهادئة الكئيبة :
    ـ إني أزور غرفتها كل صباح.. أناجي صورتها الجميلة ، وأعانق أشياءها.. أبحث عن رائحتها الطيبة في الأثاث والجدران ، وأتأمل تلك اللوحة العزيزة عليها..
    التفت إلى الخلف حيث أشارت والدة أحلام ، فطالعتني لوحة رائعة فجرت ينابيع الحزن والحسرة في نفسي.. هذا هو قاضي الأطفال ، وهو يقف على غيمة العدالة ، ويشير بإصبع الاتهام إلى الكبار الذي شوهوا أرواح الصغار ولوثوها ، لقد وعدتني أن ترسم هذا المشهد عندما حدثتها عن الحلم الغريب الذي رأيته ليلة مجزرة باص الأطفال!.. ما أصدق هذه اللوحة وأقربها إلى ما رأيته في الحلم ، لكأن روحينا كانتا معا في حلم واحد!..
    قالت والدة أحلام ، وهي تمسح إطار اللوحة بأناملها في رفق بالغ :
    ـ لقد نالت هذه اللوحة إعجابا منقطع النظير ، فتهافت الجمهور على شرائها ، وقد دفع بها أحد الزوار الأجانب مبلغا طائلا يفوق ثمن كل ما باعته أحلام من لوحات ، لكنها اعتذرت له ، وقالت : هذه اللوحة ذكرى ، وأنا لا أبيع ذكرياتي..
    خفق قلبي وأنا أصغي لوالدة أحلام.. أحلام أيتها الحبيبة الغائبة.. كم أنت وفية وعظيمة!.. وأردفت والدة أحلام :
    ـ كنت اليوم قد أنزلت اللوحة لأول مرة لأرفع عنها ما لحق بها من غبار ، فقرأت خلف اللوحة عبارة غريبة أردت أن أطلعك عليها..
    أثارتني هذه الملاحظة.. ماذا تركت أحلام من آثار؟!..
    تناولت اللوحة في لهفة وقلبتها ، فقرأت عليها هذه الكلمات..
    "هذه اللوحة ذكرى عزيزة للرجل الوحيد الذي أحببته في حياتي ، فإذا مت أو فارقت هذا العالم ، فادفعوا بها إلى الدكتور صلاح الحكيم ، لأنه هو الرسام الحقيقي لهذه اللوحة ، وهو مبدعها الأول... أحلام.."..
    تأملت كلماتها بعينين دامعتين ، وقلب مكلوم.. متى تعودي أيتها الغالية ، وتملأي حياتنا بالأفراح؟
    قالت الأم في قلق ووجوم :
    ـ ألا يوحي لك هذا الكلام بشيء..
    فهمت ما أرادته الأم.. لا يمكن أن تقدم أحلام على الانتحار.. امرأة تملك كل هذا النبل لا يمكن أن تعتدي على الحياة ، ولو كانت هذه الحياة حياتها التي تمور بين جنبيها ، وقلت بنبرة مطمئنة :
    ـ أبعدي عن بالك هذه الأفكار يا خالة.. أحلام إنسانة تحب الحياة ، لكنها ترفض الأسلوب الذي نحياها به.. لهذا غادرتنا.. عندما نغير الطريقة التي نمارس بها حياتنا ستعود إلينا أحلام.. كوني واثقة من أنها ستعود..
    ................................................

    الفصل الأخير

    أفقت من ذكرياتي كمن يستيقظ من سبات عميق!..
    أين أنا؟
    كان البحر ممتدا أمامي بلا نهاية ، وكان قرص الشمس يتوارى خلف الأفق مؤذنا بالمغيب..
    كيف وصلت إلى هنا؟
    وشعرت بالتعب والإعياء يدب في أوصالي.. لقد مضى علي ساعات طويلة وأنا أمشي غارقا في الذكرى غافلا عما حولي!.. لأول مرة أصدق بأن هناك أشخاصا يمشون أثناء النوم!.. جلست على صخرة قرب الشط ، وأرسلت نظراتي إلى الأفق الأزرق المتوهج بألوان الغروب الحزينة ، ما الذي نكأ ذاكرتي حتى تداعت فيها كل هذه الخواطر؟.. آه.. تلك الفتاة التي ظننتها أحلام.. لشد ما تأتيني هذه الحالة!.. صرت أراها في كل عين حالمة ، وفي كل وجه جميل..
    وانتبهت إلى كرة تتدحرج قربي على الرمال.. ولم تلبث أن أتت خلفها طفلة صغيرة ، ألفتني الطفلة أبكي في صمت ، فاقتربت مني وسألتني بصوت ناعم كزقزقات عصفور :
    ـ "عمو".. لماذا تبكي؟
    واساني سؤالها الرقيق ، حضنتها بنظرة حانية ، وأجبت :
    ـ أضناني الشوق يا صغيرتي.. الشوق إلى صديقة قديمة..
    اقتربت الطفلة أكثر ، وأخرجت من جيبها منديلا صغيرا ، وجففت به دموعي!..
    أمسكت بيدها الغضة ، واحتضنتها داخل راحتي ، ثم سألتها وأنا أرمقها في دهشة وإعجاب :
    ـ لماذا فعلت ذلك؟
    أجابت وهي تميل برأسها في حياء :
    ـ لا أحب البكاء..
    مسحت برأسها بود ، وقلت :
    ـ أنت طفلة ذكية ولطيفة..
    قالت بنبرة طفولية عذبة :
    ـ أنت مثل "بابا".. كلما جلس وحده يبكي!..
    آه يا صغيرتي.. الكون كله يبكي.. كيف نصنع عالما بلا أحزان؟ وسألتها باهتمام وأنا أتأمل ملامحها البريئة :
    ـ ماذا تفعلين عندما تشاهدينه يبكي؟
    ابتسمت وقالت وهي ترنو إلي في حياء :
    ـ أمسح له دموعه ، أحضر له كأس ماء..
    طبعت على جبينها قبلة ، وقلت :
    ـ أحسنت أيتها الطفلة الطيبة.. ما اسمك؟
    التقطت كرتها بعيون فرحة ، ثم قالت وهي تنطلق في مرح :
    ـ اسمي أحلام..


    * * *
    * *
    *


    تمت..



    0 Not allowed! Not allowed!




    [ame="http://www.youtube.com/watch?v=yxzoplqtmHk&feature=related"]http://www.youtube.com/watch?v=yxzoplqtmHk&feature=related[/ame]

  20. #19
    شعلة متقدة .. وحماس دائم Array الصورة الرمزية صفاء الايمان
    تاريخ التسجيل
    Apr 2009
    الدولة
    ...
    المشاركات
    14,276
    Articles
    0
    Thumbs Up/Down
    Received: 8/0
    Given: 0/0
    معدل تقييم المستوى
    412




    بيانات اخرى

    الجنس :  انثى

    المستوى الأكاديمي :  تعليم ابتدائي

    الجامعة الحالية/التي تخرجت منها ؟ :  الجامعة الأردنية

    الحالة الاجتماعية :  اعزب

    افتراضي رد: البحث عن امرأة مفقودة!..


    هسا هسا انهيت قرائتها
    بحق راااااااائعة
    بكيت من كتر ما احداثها راقية
    تحياتي للكاتب بحق مبدع


    0 Not allowed! Not allowed!




    [ame="http://www.youtube.com/watch?v=yxzoplqtmHk&feature=related"]http://www.youtube.com/watch?v=yxzoplqtmHk&feature=related[/ame]

  21. #20
    المهم ان اكسب القضيه Array الصورة الرمزية Essa Amawi
    تاريخ التسجيل
    Nov 2008
    الدولة
    Amman
    المشاركات
    32,471
    Articles
    0
    Thumbs Up/Down
    Received: 637/6
    Given: 660/2
    معدل تقييم المستوى
    250




    بيانات اخرى

    الجنس :  ذكر

    المستوى الأكاديمي :  تعليم جامعي (ماجستير)

    الجامعة الحالية/التي تخرجت منها ؟ :  الجامعة الأردنية

    الحالة الاجتماعية :  اعزب

    الاتجاه الفكري  :  البراغماتية

    رابط السيرة الذاتية  :  قم بزيارة سيرتي الذاتية

    افتراضي رد: البحث عن امرأة مفقودة!..


    بيصير اقراها ؟؟


    0 Not allowed! Not allowed!
    Know Your Right | إِعــرفْ حـقّـك

    N . Y . R


    من حقك ان تعرف اكثر ...
    انضم الينا من هنا




    ===++==++===


    شَـبـكـَة قـَـــانـُـونـِـي الأردن

    الشبكة القانونية الأولى في الاردن

    http://www.LawJO.net

    ===++======++===
    المحامي: عيسى العماوي
    أُسعَد دوماً بالتواصل معكم: 0786000977
    ===++======++===


  22. #21
    شعلة متقدة .. وحماس دائم Array الصورة الرمزية صفاء الايمان
    تاريخ التسجيل
    Apr 2009
    الدولة
    ...
    المشاركات
    14,276
    Articles
    0
    Thumbs Up/Down
    Received: 8/0
    Given: 0/0
    معدل تقييم المستوى
    412




    بيانات اخرى

    الجنس :  انثى

    المستوى الأكاديمي :  تعليم ابتدائي

    الجامعة الحالية/التي تخرجت منها ؟ :  الجامعة الأردنية

    الحالة الاجتماعية :  اعزب

    افتراضي رد: البحث عن امرأة مفقودة!..


    لا ممنوع هاي بس للي عمرهم فوق المليون سنة ونص
    =========
    لالا جد الكل يقراها
    انا شخصيا اندمجت معها وعيطت بالاخر


    0 Not allowed! Not allowed!




    [ame="http://www.youtube.com/watch?v=yxzoplqtmHk&feature=related"]http://www.youtube.com/watch?v=yxzoplqtmHk&feature=related[/ame]

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

     

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •