تزايدت أهمية اللجوء إلى التحكيم كبديل للقضاء العادى منذ منتصف القرن العشرين وحتى نهايته بصورة ملحوظة ويرجع ذلك إلى الوفاء بحاجة التجارة الدولية نتيجة تشابك معاملات هذه التجارة وتضخمها بصورة كبيرة وما تثيره من منازعات ذات طبيعة خاصة تحتاج فى حلها إلى وسائل غير تقليدية ،فضلا عن دعم مسيرة القضاء و تخفيفاً للعبء المثقل الملقى على كاهله،فكان من الضرورى أن يضطلع التحكيم بدوره فى إكمال دور القضاء بحل المنازعات ذات الطبيعة الخاصة ومن هنا إكتسب التحكيم صفته كوسيلة مستقلة لحل المنازعات بغير طريق القضاء .
ماهية التحكيم وطبيعته
التحكيم هو نظام أو طريق خاص للفصل فى المنازعات بين الأفراد والجماعات سواء كانت مدنية أو تجارية عقدية كانت أو غير عقدية ،فالتحكيم قوامه الخروج على طرق التقاضى العادية فيعتمد أساساً على أن أطراف النزاع هم أنفسهم من يختارون قضاتهم بدلاً من الإعتماد على التنظيم القضائى للبلد التى يقيمون بها وتسمى "هيئة التحكيم" وتتكون من محكم واحد أو أكثر حسبما يتفق الأطراف بمشارطة التحكيم أو فى الوثيقة المنظمة للعلاقة التى يتناولها التحكيم.وقد إختلف الفقهاء حول طبيعته فأضفى عليه البعض الطبيعة القضائية إنطلاقاً من طبيعة عمل المحكم التى تتماثل مع عمل القاضى ،بينما ذهب البعض إلى تبنى الطبيعة العقدية للتحكيم إستناداً إلى أن أساس التحكيم هو إتفاق الأطراف ،بينما ذهب الرأى الراجح إلى إعتبار التحكيم ليس إتفقاً محض ولا قضاءً محض فهو فى أوله إتفاق وفى وسطه إجراء وفى أخره حكم .
أهمية و مزايا التحكيم
يتميز التحكيم بمرونته فهو يسمح للمتنازعين بتشكيله على النحو المناسب لهم ويمكن الأطراف من إختيار المحكمين الذين يتولوا عملية التحكيم بأنفسهم ،كما أن المحكم لديه قدر كبير من المرونة ومساحة معقولة من الحرية فى الوصول للحكم العادل دون التقيد بنظام رسمى شكلى أو نظام قانونى يكبله .
كما يتميز التحكيم من ناحية أخرى بسرعته فلا يخفى أن أشد العيوب التى عانى منها القضاء هو البطء الناتج عن تراكم القضايا المعروضة على القاضى فأصبح من غير الميسور على القضاء أن يفصل فى المنازعات بين الأفراد فى وقت قصير بعد أن تعقدت شئون الحياة وكثرت مشاكلها وأصبح لا يفصل فى الدعاوى القضائية إلا بعد مدد تصل إلى عدة سنوات مما يؤدى إلى بطء الفصل فى النزاع عن طريق اللجوء إلى القضاء الذى لا يفصل فيه إلا إذا جاء دوره وبعد أن ينال من التأجيلات مالا يتفق مع مصلحة الاطراف ،وحتى لو حقق القضاء العدالة فهى عدالة بطيئة قد لا يصل إليها صاحب الحق إلا بعد مدة طويلة ،فالعدل البطىء هو نوع من الظلم لذلك فان السرعة التى يتميز بها التحكيم تعتبر من أهم ايجابياته فقوانين التحكيم ولوائحه ومواثيقه عادة ما تحدد مدة يجب ألا يتجاوزها المحكم عند إصدار قراره .
فضلا عن أن نظام التحكيم يتميز بالبساطة والسهولة والتخلص من الشكليات القضائية حيث يتفادى الطرفين من خلاله تعدد درجات التقاضى فالدعوى أمام القضاء تمر بمراحل متتالية بين المحكمة الابتدائية ثم الاستئنافية ثم محكمة النقض وربما أُستخدمت إشكالات التنفيذ كوسيلة لتعطيل تنفيذ أحكام القضاء والتى قد تستغرق هى الأخرى بضع سنين .
كما أن التحكيم هو أنسب الطرق لحل المنازعات التى تثيرها العلاقات ذات الطابع الدولى فوجود العنصر الأجنبى فى العلاقة يؤدى إلى إحتياج أطرافها إلى جهة محايدة لحل ما تثيره من منازعات ويكون التوصل إلى محكم محايد أو على الأقل ينتمى إلى دولة أخرى غير الدول التى ينتمى إليها الأطراف بمثابة طوق النجاة الذى يحظى بقبول الطرفين .
مساوىء التحكيم
َفإذا كانت هذه هى بعض مزايا التحكيم فلا يمكن إنكار ماله من مثالب أو إخفائها فالتحكيم يوصف عادة بأنه طريق مكلف مادياً و يرجع ذلك إلى تصاعد رسوم التحكيم ومكافأت المحكمين فى بعض مراكز التحكيم ،إلا أنه يراعى أن هذا العيب يجب ألا يقدر بمعزل عن العامل الزمنى إذا تم إنهاء النزاع خلال مدة قصيرة أو حتى مدة محددة قد يكون له قيمة كبيرة فى ذاته ،كما أن حصول صاحب الحق على حقه عن طريق القضاء بعد مضى سنوات من إثارة النزاع المصحوب بنزيف مادى قد تكون حصيلته أكثر كلفة من نفقات التحكيم المرتفعة والتى تنهى النزاع سريعاً .
كما يعتبر من مساوىء التحكيم أيضا فى نظر البعض عدم موضوعية بعض المحكمين وهو ما يمكن تلافيه بحسن إختيار المحكم وهى مسألة تقع أساساً على عاتق الأطراف ويمكن أن تعاونهم فى هذا بعض مؤسسات ومراكز التحكيم غير المنحازة كما يمكن علاج هذه المسألة بإتخاذ إجراءات الرد التى تقررها مختلف قوانين التحكيم .
إتفاق التحكيم وشروط صحته
التحكيم هو طريق الزامى بالنسبة لمن اختاره وتكون البداية هى إتفاق التحكيم والذى يعد حجر الزاوية فى عملية التحكيم، فإتفاق التحكيم كغيره من سائر العقود التى لا تنعقد إلا بالرضاء وبتوافر الأهلية ، فضلا عن ضرورة صياغتة كتابياً وإلا كان باطلاً.ولا يلزم فى هذا الشأن إبرام عقد تحكيم منفصلاً بل يمكن أن يأخذ الإتفاق صورة شرط تحكيم يتضمنه أى عقد من العقود ،فإتفاق التحكيم قد يرد كبند من بنود العقد المبرم بين الأطراف أو فى ورقة ملحقة به تنص على إلتجائهم إلى التحكيم دون القضاء بشأن ما قد ينشب مستقبلاً حول العقد المبرم بينهم من منازعات ويسمى هذا الاتفاق "شرط التحكيم" وقد يتم الإتفاق على الإلتجاء إلى التحكيم بعد أن يثور النزاع فعلاً ويسمى هذا الإتفاق فى هذه الحالة"مشارطة التحكيم"، وفى جميع الأحوال يجب أن يصاغ إتفاق التحكيم بشكل لا لبس فيه حتى لا يؤدى هذا إلى إستحالة إعمال إتفاق التحكيم ، و لا فرق بين الصورتين من حيث إلزام من إرتبط وفقا لأيهما بالمضى فى طريق التحكيم عند إثارة النزاع .ولم يشترط قانون التحكيم المصرى بيانات معينة يتعين أن يتضمنها إتفاق التحكيم فيما عدا ما نص عليه من ضرورة أن تشمل مشارطة التحكيم على المسائل التى يشملها التحكيم وإلا كان الإتفاق باطلا إذ يأتى تحريرها بعد قيام النزاع فعلاً ومن ثم ينبغى تعين موضوع النزاع حتى تتحدد ولاية المحكمين ويتسنى فيما بعد مراقبة مدى إلتزامهم حدود ولايتهم، أما شرط التحكيم فإنه لا يتصور بطبيعة الحال أن يتضمن هذا البيان لأن النزاع لم يكن قد بدأ بعد.
وبهذه الصفة الإلزامية يختلف التحكيم عن غيره من الصور كالصلح أو التوفيق حيث أن الإتفاق على مبدأ التحكيم يقيد الأطراف فلا يملك أيهما أن يعدل عنه ،فمن أقدم عليه لا يملك التراجع عنه فيُلزم بالسير فيه حتى نهايته ،أما الإتفاق على مبدأ الصلح أو التوفيق فلا يلزمهما إذ يملك أيهما الإلتجاء إلى القضاء لحل النزاع رغم الإتفاق دون تثريب عليه وذلك عكس مبدأ التحكيم إذ يمتنع على الأطراف الذين إتفقوا عليه اللجؤ إلى القضاء فقد نصت المادة 13 من قانون التحكيم المصرى على أنه "يجب على المحكمة التى يرفع إليها نزاع يوجد بشأنه إتفاق تحكيم أن تحكم بعدم قبول الدعوى إذا دفع المدعى عليه بذلك قبل إبدائه أى طلب أو دفاع فى الدعوى" ولكن لا يعنى هذا إقصاء القضاء تماماً عن الفصل فى النزاع فلا يحول إتفاق التحكيم من إحتفاظ القضاء بإصدار قراراته فيما يطلب منه من تدابير وقتية أو تحفظية تتعلق به سواء قبل البدء فى إجراءات التحكيم أو أثناء السير فيها .
هيئة التحكيم وكيفية إختيارها
ومتى إتفق الأطراف على حل نزاعهم بالتحكيم فإن قيام النزاع يؤدى بالضرورة إلى قيام خصومة التحكيم وتبدأ بتشكيل هيئة التحكيم وهى مسألة دقيقة إذا يتوقف عليها نجاح التحكيم أو فشله ،فهيئة المحكمين تتشكل بإتفاق الطرفين من محكم واحد أو أكثر فإذا لم يوجد إتفاق على عددهم كان العدد ثلاثة وفى حالة تعددهم فيجب أن يكون عددهم وتراً حتى يمكن الترجيح عند الإختلاف فى الرأى وإلا كان التحكيم باطلاً ،ولا يشترط أن يكون المحكم من جنسية معينة إلا إذا إتفقا طرفى التحكيم على ذلك .ويتم إختيار المحكمين بإتفاق الأطراف فإذا إتفقوا على أن هيئة التحكيم تتشكل من محكم واحد فيتم إختياره بالإتفاق فيما بينهما فإذا لم يتفقوا تولت المحكمة المختصة أصلاً بنظر النزاع بإختياره بناء على طلب أحد الطرفين ،أما إذا اتفقوا على أن تكون هيئة التحكيم مشكلة من ثلاثة محكمين إختار كل طرف محكما ثم يتفق المحكمان على إختيار المحكم الثالث فإذا لم يعين أحد الطرفين محكمه خلال ثلاثين يوما التالية لتسلمه طلباً بذلك من الطرف الأخر او إذا لم يتفق المحكمان المعينان على إختيار المحكم الثالث خلال الثلاثين يوماً التالية لتاريخ تعين أخرهما تولت المحكمة سالفة الذكر بإختياره بناء على طلب أحد الطرفين ويكون قرارها هذا نهائى لا يقبل الطعن عليه بأى طريق من طرق الطعن ، ويتولى هذا المحكم الثالث رئاسة هيئة التحكيم باعتباره أكثر المحكمين حياداً .
إجراءات التحكيم
فالأصل فى التحكيم كما ذكرنا هو إعفاء هيئة التحكيم من التقيد بالقواعد الإجرائية التى يتقيد بها القاضى فالأساس فى التحكيم هو إتفاق الأطراف الذى يحدد قدر المرونة التى يتمتع بها المحكم فقد يقيدونه بنظام إجرائى معين وقد يكتفوا بالإتفاق على مبدأ التحكيم دون أن يحددوا النظام الإجرائى ،و لطرفى التحكيم الإتفاق على إخضاع التحكيم لما يرونه من إجراءات سواء طبقا للقانون أو طبقا للإجراءات التى تتبعها أى منظمة أو هيئة تحكيم سواء فى الداخل أو الخارج إلا أنه يجب دائما مراعاة عدم مخالفة هذه الإجراءات النظام العام للقانون الذى يجرى التحكيم على ضوئه او للبلد المطلوب التنفيذ فيها ،ولطرفى التحكيم تحديد مكان التحكيم وكذلك لغة التحكيم ،وتبدأ إجراءات التحكيم من اليوم الذى يتسلم فيه المدعى عليه طلب التحكيم من المدعى الذى يعلن فيه رغبته فى الإلتجاء الى التحكيم مالم يتفق الطرفان على موعد اخر .
حكم التحكيم وإنهاء الاجراءات
يجب على هيئة التحكيم إصدار الحكم المنهى للخصومة كلها خلال الميعاد الذى إتفق عليه الطرفان ومتى تحدد هذا الميعاد فلا يجوز تعديله إلا بإتفاق الطرفين ،فاذا لم يوجد إتفاق بين الخصمين على تحديد مدة يجب أن يصدر خلالها الحكم وجب على هيئة التحكيم أن تصدر حكمها خلال إثنى عشر شهراً من تاريخ بدأ إجراءات التحكيم إلا أنه يجوز لهيئة المحكمين سواء وجد إتفاق على المدة أم لا ان تمد مدة التحكيم بحيث لا تزيد فترة المد عن ستة أشهر فقط ، فتقوم هيئة المحكمين بإصدار حكمها المنهى للخصومة محل التحكيم بعد إنتهاء المرافعة وإبداء الخصوم لطلباتهم الختامية و بعد دخول الخصومة مرحلة المداولة والتشاور بين المحكمين إذا تعددوا أو مرحلة تكوين الرأى اذا كان المحكم فرداً وفى حالة تعددهم يصدر الحكم بأغلبية الاراء بعد إشتراكهم جميعاً فى المداولة السرية ويصدر حكم التحكيم كتابةً وموقعاً من المحكم ،أما إذا تعددوا فيكتفى بتوقيع إغلبية المحكمين بشرط أن يثبت فى الحكم أسباب عدم توقيع الأقلية . كما يجب أن يكون حكم مسبباً مالم يتفق طرفى التحكيم على غير ذلك أو كان القانون واجب التطبيق على إجراءات التحكيم لا يشترط ذكر أسباب الحكم .

المواضيع المتشابهه: